فاللهم يا من أذكى في الصدور حب الأبناء إلى هذا القدر، ووكد الرقة لهم في الكبود كل هذا التركيب، ارحم بفضلك الوالدين فإنك أنت الرحمن الرحيم.
مأساة
قال لي صاحبي وهو في بعض حديثه: ... ولم يكن سيد عشيرته فحسب، بل لقد كان زعيم الإقليم كله وكان - رحمه الله - ألمعيا شديد الفطنة، بعيد النظر، صادق الحكم، يظل القوم في مجلسه يتحاورون ويتناقشون ويتنازعون، حتى إذا فرغوا من شأنهم جلى موضع النزاع في يسر، وحكم فيه أعدل حكم.
على أنه كان عصبيا شديد العصبية إلا أنه كان قادرا على أن يأخذ نفسه بالحلم فلا يستفزه شيء، بل لقد كان يضحك أو يتضاحك مما يغيظ أحكم الحكماء، ولعل ذهنه كان يزخر بالمعاني، فإذا أراد الحديث تزاحمت على لسانه فجعل يضطرب بينها ويتردد حتى ما يكاد يبين!
وداره واسعة متعددة الأبنية وهي تقع في حديقة واسعة جدا، وهذه الدار لا تخلو مطلقا من عشرات الناس في ليل أو نهار، فمن طالب رفد، ومن صاحب حاجة تدعو إلى قوة المسعى، ومن متنازعين على مال أو على منصب يختصمان إليه، وجميعهم يأكل أحسن الطعام إذا جاء وقت الطعام، ومن طلب منهم المنام فله ذلك، فالدار كما قلت واسعة والفرش فيها كثيرة، وهي على الجملة كرحبة مالك بن طوق ظلت مضرب الأمثال من قديم الزمان، وما طالعت هذه الدار إلا حضرني قول مسلم بن الوليد في ممدوحيه:
لا يرحل الناس إلا نحو حجرته
كالبيت يفضي إليه ملتقى السبل
وأما حكمه بين الخصوم فهو أمضى من أي حكم نهائي تصدره أية محكمة؛ لأن الخصوم في ذلك قد يعوقون التنفيذ بشتى الحيل، أما حكمه هو فلا تعويق فيه ولا احتيال؛ لأن أحدا في الإقليم لا يجرؤ على أن يسر لهذا الرجل عداوة، فضلا عن أن يصارح بها، بل إن أحدا لا يرضى لنفسه أن يسوء رأي هذا الرجل العظيم فيه.
وكان يؤثرني ويحبني ويعطف علي عطفا عزاني عن فقد الأب أحسن العزاء، ولا يرضى فراقي له إلا مكرها، ولولا أنني رجل موظف في الحكومة يؤذيني في رزقي انقطاعي عن عملي لأمسكني على الدهر ولم يرسلني أبدا، فإذا طال إبطائي عنه في القاهرة بعث من يستدرجني إليه بشتى الوسائل.
وقد بدا لي أنه لا بد كان يلاحظني وأنا على طعامه؛ لأنني رأيت أنه كلما استطبت ألوانا من ألوان الطعام فأكثرت الإصابة منه، قرب إلى في اليوم الثاني هذا اللون نفسه فإذا هو أطيب وأجود، وهكذا حتى يلاحظ إعراضي عنه وإقبالي على غيره.
Unknown page