ولك الساعة التي أنت فيها
اتله ثلاث مرات قبل غيار الريق!
فقال صادق بفتور: ولكني سأظل أفكر في الفك المفترس!
ولعل حمادة الحلواني أيضا لم يبرأ خياله من الفك المفترس، ما زال يحتفظ بشقة خان الخليلي والعوامة والسيارة، ولكنه كان يتساءل كثيرا: ترى ماذا تخبئ لنا أيها الغد؟ وكلما ناوشته أفكار السوء لف سيجارة حتى أصبح يتعاطاه على طول اليوم، مستمدا من سحره استهانة ولا مبالاة، ويقول ساخرا: من فضل الثورة أنها تمدنا بعجائب لا يعيش معها الملل.
أو يقول: المسألة واضحة كالشمس، مجموعة من الفقراء ثارت على الأغنياء لتنهب أموالهم وترمي إلى الشعب ببعض الفتات.
وتلقى أول إصابة مباشرة حين التأميم، فقد أمم مصنعهم وانقطع دخله الثابت، ولم يهز ذلك ثراءه الواسع، ولكنه ضاعف من مخاوفه كما أكد إدمانه، وقال معلقا وساخرا: الله يرحمك يا بابا، شد ما أنبتني لكسلي .. وأشدت بأخي لعلو همته .. فانظر أينا كان الحكيم.
وقد مرض بكبده وعولج منه، ولكنه امتنع نهائيا عن تعاطي الخمر ولم يكن من عشاقها. وحين التأميم بلغ الخمسين من عمره فأخبرنا بأنه لم يعد ينسجم مع أي امرأة جميلة، وأنه يدقق في الاختيار ليحقق لمزاجه ما يريد. ولأول مرة باتت ذاكرته تخونه أحيانا فجزع لذلك وقال: الموت يبدأ بالذاكرة، وموت الذاكرة أقسى أنواع الموت، ففي قبضته تعيش موتك وأنت حي، وترد وأنت لا تدري إلى الأمية!
ولا شك أن سحابة من الأسى نشرت جناحيها فوقه لما حل بأخيه وزوج أخته أفكار الذي كان من كبار الملاك الزراعيين، ولما جرى على الوفد حزب أبيه، والبطولات التي أطلت على الدهر في شموخ والتي تتحول من خلال أبواق الدعاية إلى تلال من الخرائب، وقال: ضايقني يوما أنني آخذ دون أن أعطي، اليوم أندم على الندم، وخير ما يفعله الإنسان في هذه الأيام أن يوطن نفسه على استقبال الموت، فإذا وقعت شدة وجدنا فيه الفرج.
أما إسماعيل قدري فقد عجب لسعي الدهر بينه وبين آماله، كلما ابتسم له المستقبل وثبت الحوادث فطمست ابتسامته. ذهب المجد وتولى، لكن حظه أفضل من كثيرين من الوفديين الكبار الذين تمزقوا بين الإهانة والسجن، ونشاطه في المحاماة يدر عليه دخلا لا بأس به، وأسهمه ما تزال في صعود بالإضافة إلى دخل زوجته، ولم يغب عن عقله الموضوعي ما أنجزته الثورة للوطن والشعب حتى يخيل إليه أحيانا أنه مواطن في دولة عظمى. أما قلبه فلم ينفتح للثورة أو رجالها، وتابع في كل حين سلبياتها حتى قال لنا يوما: إنها ثورة ذات أهداف جليلة ولكن القدر عهد بها إلى شلة من قطاع الطرق .. ولم يعد يجد عزاء في تفيدة التي بلغت الستين حين بلغ الخمسين. ولم تكن تسلم بالواقع أو تستسلم للهزيمة فأنفقت عن سعة على طعامها المختار ورياضتها اليومية، والموضة التي تتنافر مع سنها، وتبالغ في التبرج لدرجة تثير الابتسام. واعترف لنا يوما قائلا: هيهات أن أنسى فضلها ولكن رغبتي فيها تموت ساعة بعد أخرى.
فسأله حمادة الحلواني مازحا: لعلك تحن من جديد إلى غابة التين الشوكي؟!
Unknown page