ولكن إسماعيل قدري هو من يستحق الرثاء حقا، ولو حسنت أحواله لتقدم الجميع في طريق الزواج لما عرف عنه من الانضباط وحب الاستقرار. ومما يحسب له أن أوار وطنيته لم يخب رغم إحباطه الشديد، وأنه كان أشدنا غضبا وسخطا على الملك فاروق في خلافه مع الوفد، ولم يغفر له إقالته الوقحة للنحاس أبدا، وقال بعنف: قديما كان ماهر والنقراشي يصدران حكم الإعدام على الخونة، أما اليوم فهما يستحقان الإعدام.
وفي تلك الأيام توفي صفوان أفندي النادي والد صادق، إنه ألصق الآباء بوجداننا بسبب شاربه الأشهر، ودفن يوم إقالة النحاس من الوزارة. ويحكي صادق خبر والده فيقول: كنت منهمكا في عملي بالدكان عندما جاء أبي لزيارتي على غير عادة، قال لي إنه أحب أن يجالسني قليلا قبل أن يذهب إلى مقهى عبده بميدان فاروق، فرحبت به بكل حبي واحترامي، وأحمد الله أنني لم أتخلف عن زيارة بيتنا في «بين الجناين» كل يوم جمعة، وأنني لم أقصر في معاونته بعد إحالته على المعاش. ورأيته نحيفا أكثر من المألوف فرق قلبي له جدا، وراح يسألني عن إبراهيم وصبري وإحسان، رجوته أن يعنى بصحته، فقال لي باسما: إن جدي كان أنحف منه لكنه عاش بعد الثمانين، ثم ودعني وانصرف داعيا لي ولأسرتي بطول العمر، وقبلت يده وصحبته في سيره حتى ناصية أبو خودة، وأنتم تعرفون ما حدث بعد ذلك.
أجل فقد مات بالسكتة القلبية وهو يلعب الطاولة في مقهى عبده. وجاءنا الخبر في قشتمر فقمنا مع صادق جميعا ولم نفارقه حتى ووري الرجل في التراب، وقد حزن صادق لوفاة أبيه حزنا شديدا، وصلى على جثمانه داخل قبره. وفي السرادق ليلا استمعنا لتلاوة الشيخ الشعشاعي، ورأينا رأفت باشا الزين بين المعزين. ولم يخل ركننا من حديث عن السياسة والإقالة.
وشهدنا مقهى قشتمر ونحن نودع الشباب ونخطو أول خطوة في الرجولة، ومارسنا الحياة بين العمل والثقافة والسمر، وكابدنا حياتنا السياسية بين الأمل والنكد، وكأنما قضي علينا بمواجهة تحديات غليظة راسخة نرسف في أغلالها ونعاني من قهرها. وبعيدا عن ذلك، منا من يستمتع بكل متعة متاحة كحمادة، أو من يثبت أقدامه في دنيا المال كصادق، أو من يحقق ذاته في عالم الفن والشهرة كطاهر، ومنا من ينتظر. وتخضب سمرنا أحيانا بلون من الحديث جديد عن جيل جديد؛ عن إبراهيم وصبري ابني صادق، ودرية ابنة طاهر. إبراهيم اليوم ابن تسع وهو في المرحلة الابتدائية بمدرسة الحسينية للبنين، ودرية تشارف الثامنة وهي في المرحلة الابتدائية بمدرسة العباسية للبنات، وصبري في السابعة يتأهب للالتحاق بالابتدائي، ونسأل أحيانا: كيف يتعاملون مع أبنائهم؟ ويقول صادق: رعاية في غير شدة، والاستثناء وارد أيضا، أحيانا تهولني جرأتهم علي وعدم خوفهم مني، ولكن، أليس ذلك أفضل؟
أما طاهر فيقول: أنا مغرم بدرية؛ بجمالها وفطنتها، لا أمد يدي إليها بأذى، وأحول بينها وبين مامتها أحيانا، رئيفة تعتبر شديدة بالقياس إلي، ولا بأس من ذلك.
وقد عرفنا الأولاد وعرفونا في عطلات الأعياد عندما صحبوا آباءهم إلى قشتمر في ملابسهم الجديدة.
وتلبد جو الأرض بالغيوم، ومضت الدراما الإنسانية في نموها نحو التأزم والتوتر، حتى اجتاحت الجيوش الألمانية بولندا، وما لبثت إنجلترا وفرنسا أن أعلنتا الحرب على ألمانيا، وقال إسماعيل قدري: ها هي الحرب العظمى الثانية.
فقال حمادة متسولا من الهواء طمأنينة: ولكن إيطاليا لم تعلن الحرب!
على أي حال لم يشك أحد في أنها ستعلنها اليوم أو غدا، ومن ثم تصير مصر ميدان حرب بين الحلفاء والمحور. ونشطت الحكومة إلى التأهب حيال المجهول، فأذاعت المعلومات المفيدة عن الغارات ولفتت الأنظار إلى الإرشادات الواجبة، ومضت تطلي مصابيح الشوارع باللون الأزرق، وتضفي على ليالينا سوادا لا عهد لنا به، بل وبدأت تخطط لحفر المخابئ في شتى الأحياء.
ولم تتوقف عجلة حياتنا عن الدوران، وشحنتها الأخبار بالإثارة واليقظة.
Unknown page