وبات صادق أقلنا مرحا، وجاءته إحسان بابنه الثاني «صبري»، وازدادت الحال سوءا كما توقع حتى قال لنا: إنها سيدة مثالية، وأم مثالية، أما أنا فزوج بائس.
وصمد قشتمر وكأنه وطن ثان لنا، وتوفي صاحبه الكهل وحل محله ابنه، وترددت فيه أصواتنا تحتفل بسقوط صدقي، وبشائر سياسية جديدة، وأنباء عن نجاح النازي في ألمانيا بزعامة هتلر، ومعاهدة 1936. في أثناء تلك الفترة الطويلة نسبيا لاحظنا أن حمادة يسري الحلواني يهتم اهتماما خاصا بالعمارة القائمة في الجانب الآخر من الطريق، هناك في الدور الرابع تلوح فتاة في النافذة حينا وفي الشرفة حينا آخر، بنت تستحق الاهتمام، ظهرت حديثا في أسرة سكنت في العمارة منذ وقت قصير، ومن موقعها القريب نسبيا يتبدى وجهها الأسمر المستدير غاية في اللطف، بعينيها الواسعتين وشعرها الغزير، في هالة محترمة تدل على أنها بنت ناس، ثم تتابعت الأخبار مسجلة أن أباها طبيب منقول من الأرياف ليشغل وظيفة هامة في وزارة الصحة. وقع حمادة - فيما بدا - في شباك الحسن المطل، فواظب على الحضور إلى قشتمر مبكرا لينعم برؤيتها في ضوء النهار. كان الوقت ربيعا، ونحن في الربيع والصيف ننقل مجلسنا إلى الحديقة الصغيرة فلا يقوم حاجز بيننا وبين الجانب الآخر من الطريق المفضي إلى شارع فاروق، وكان قد بلغ الخامسة والعشرين أو ما يزيد، وليس في حياته من قصص الحب إلا تلك القصة الخاطفة التي أجهضت في معركة. وبعد أن أقام لمزاجه ركنين في خان الخليلي والجبلاية زود حياته بالعلاقات النسائية الطائرة، فتجيء المرأة مرة أو مرتين ثم تذهب لحالها، وهو يجد مسرته في التنقل دون ارتباط أو التزام كحاله في الآراء والمذاهب. فلأول مرة تعتوره أمارات العاشقين، فيرسل النظر، ويتورد خداه، ويتخلى عن الاستهانة، ويقلقه الشوق والوجد، وقال صادق متناسيا شجونه: لا يدهشني ذلك على أي حال.
ولم ينف حمادة التهمة مستسلما لسحر الواقع، وقال طاهر عبيد: على بركة الله! .. اشتقنا للأفراح والليالي الملاح.
ولم تضع رسائله في الهواء فتلقى رسائل من العينين الواسعتين ونحن شهود، حتى قال إسماعيل قدري: آن لك أن تتحرك.
نحن نحب الحب، ونرحب بنسائمه، علها تخفف من توتر جونا المشحون بنبوءات الحرب، ونذر السياسة، وعواصف الثقافة المفعمة بالمتعة الضارية والشكوك العاتية، ولكن صاحبنا يتمتع ويحلم ولا تند عنه حركة. وقال إسماعيل مفسرا: اعذروه؛ ليس من اليسير أن يبيع حريته الطاغية ويسلم قلبه وروحه للقيود الأبدية.
ولكن الحركة دبت في الجانب الآخر بشجاعة فائقة ونية صافية، ظهرت في الشرفة ذات أصيل في ثوب أنيق وهيئة دالة على الخروج إلى الطريق، وألقت عليه نظرة ناطقة لا تحتمل التردد بعد ذلك، هتف طاهر: دخلنا في الجد ؟
وتساءل صادق: هل تخرج وحدها؟
ورجع طاهر يقول له: إنها دعوة صريحة فعليك أن تستجيب بطريقة ما، جس النبض بإشارة ... وزرر جاكتته كمن يتأهب للقيام، فابتسمت ابتسامة واضحة، وقال له إسماعيل: توكل على الله.
من شدة توتره لم يبتسم، غابت الفتاة من الشرفة وقام هو في شيء من الحدة وغادر الحديقة. أتبعناه أنظارنا حتى اختفى، وقال صادق: إنها تدعوه إلى لقاء فاصل، وسوف يتزوج حمادة قبل نهاية العام.
جاء في اليوم التالي متأخرا، وطالعنا بوجهه القديم الهادئ الخالي من ذبذبات العواطف وتوهج الأمل. وجمنا بعض الشيء وتساءل طاهر في إشفاق: هل نهنئ؟
Unknown page