سأل الدكتور مستغربا: عندك؟
أسعفه حامد: أصل يعني سي سليمان بنى له بيت، عقبال عندك، إن شاء الله تبني لك فيلا في مصر ونحضر لزيارتك. قال الدكتور: أخفيت عني هذا أيضا، قال سليمان محاولا الابتسام: قلت أعملها مفاجأة. قطب الدكتور وجهه وقال: لا، نفسي أروح بيتنا الأول، الصبح أزورك وأتغدى مع الأولاد. تردد سليمان، أشاح حامد بوجهه بعيدا، ضحك الدكتور وقال: الله؟ يلا بنا على البيت. سار الدكتور في المقدمة، لم يجد سليمان وحامد بدا من متابعته، تهامسا قليلا، ولكن لم يجرؤ أحد منهما على مصارحته، كان هو أيضا مشغولا عنهما بذكرياته عن أبيه وأمه وإخوته الذين ماتوا في طفولتهم، والحجرة الصغيرة الدافئة التي ولد فيها، والحمام الضيق والطست الذي كان دائما ينزلق فيه.
وكان سيره الحثيث واستغراقه في الذكريات لا يمنعانه من تحية المارة، والتطلع إلى البيوت التي لم يغير شكلها الزمان، والابتسام لكل ما يراه من مبان وأشجار وبهائم ومخلوقات، لم يكن البيت بعيدا عن المزلقان، فلا يكاد الإنسان يخطو عشرين أو ثلاثين مترا في الطريق المنحدر منه، ثم ينعطف في طريق آخر ضيق معروف بالطاحونة التي أقيمت في نهايته، ويخرج منه إلى ساحة صغيرة تطل على سوق القرية من ناحية، وأحد المقاهي المشهورة بشاعر الربابة من ناحية أخرى، حتى يرى البيت بعدهما بقليل.
كان سليمان وحامد يسيران وراءه صامتين، حاول سليمان أكثر من مرة أن يقول شيئا، لكنه لم يعرف كيف يبدأ؟ ولا ماذا يقول؟ ألح عليه حامد وقرص ذراعه وخبطه على ظهره، لكنه كان يهمس له : خبر أبيه أهون، قل له أنت يا عم. لذلك آثرا السكوت إلى أن نبهتهما صيحة خرجت من الدكتور: سليمان، حامد، ماذا حدث؟ اقتربا منه ووضعا الحقائب على الأرض، نفخ سليمان في يده وطقطق حامد أصابعه، لم تخطئ عين الدكتور ولا أخطأت ذاكرته، لم يحتج أن يطيل البحث عن البيت، كانت هناك عروق من الخشب قائمة، وأكوام من التراب مكدسة، ورجل أو اثنان يجمعان الأخشاب على عربة كارو، وثالث خلع جلبابه وبقي عاري الصدر بسرواله الطويل يرفع التراب في مقطف، ويكومه على جانب الطريق.
هتف الدكتور: بيتنا يا سليمان؟
تقدم منه سليمان ووضع ذراعه على كتفه.
قال مطرقا برأسه: كان لا بد عنها يا دكتور، البيت وقع وجاءته الإزالة.
سأل الدكتور: الإزالة؟ من الكلب الذي أمر بها؟
قال سليمان: أنا عملت الصالح يا حبيبي، أختك أخذت حقها وحقك محفوظ إن شاء الله. قال الدكتور وقد أحس بجرحه: حقي؟ من الذي يتكلم عن حقوق؟ لماذا لم تأخذ رأيي؟
أراد أن يصرخ في وجهه، أن يلعنه ويصفه بالقسوة والتوحش والجشع، أن يستحلفه بذكريات طفولته وشبابه، بالدفء الذي راح، بالحب الذي ضاع، بالأيام الحلوة والمرة التي عاشها فيه، لم يستطع أن يفتح فمه، بدا له الاحتجاج سذاجة لا تليق به، والصراخ اتهاما لا داعي له.
Unknown page