الست الطاهرة
يونس في بطن الحوت
واحد من أهل الكهف
قيصر
مولانا السلطان
القلم
التابوت
البيت
ابن السلطان
الشمس
تذكر يا مولاي
البئر
الشيخ سيد طار
بابا وماما
أسوار المدينة
لا ...
نقل دم
الزلزال1
القبلة الأخيرة
إيكاروس1
الصبي الذي كان يحمل اسمي1
قرطبتي وحيدة وبعيدة1
الست الطاهرة
يونس في بطن الحوت
واحد من أهل الكهف
قيصر
مولانا السلطان
القلم
التابوت
البيت
ابن السلطان
الشمس
تذكر يا مولاي
البئر
الشيخ سيد طار
بابا وماما
أسوار المدينة
لا ...
نقل دم
الزلزال1
القبلة الأخيرة
إيكاروس1
الصبي الذي كان يحمل اسمي1
قرطبتي وحيدة وبعيدة1
القبلة الأخيرة
القبلة الأخيرة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الست الطاهرة
نحن في عز المولد، صياح الميكروفونات والناس والعربات وحلقات الذكر يصم الآذان، القزم عتريس يدخل من باب الجامع في طريقه إلى المقام، الشحاذون يبتسمون، الزوار يتلفتون إليه ويبتسمون، السقاءون الواقفون في الممر الطويل كتماثيل من الخشب ينظرون إليه بعيونهم الحزينة الجامدة ويبتسمون، عتريس يدخل المقام وينحشر وسط الزحام، وسط الأجسام والأيدي المتشابكة، تتلمس يداه الصغيرتان موضعا على الشباك، يريح وجهه المكرمش العجوز عليه، تتمتم شفاه، يعلو صوته، لكن أصوات الدعاء والتكبير والتلاوة أعلى منه، الزوار يلمحونه ويعجبون، كم يكون عجبهم لو عرفوا أن الست أيضا تكلمه، وحده دون غيره. - من ينادي؟! - يا ست! نظرة يا ست!
عتريس يا ست، القزم عتريس. - أنت جيت يا عتريس؟ - جيت يا ست، أبوس الأيادي، أركع عند رجليك.
أشم رائحتك الطاهرة، دخت يا ست، تهت في بلاد الله، وشرقت وغربت. لا شغلة ولا مشغلة. - والسيرك يا عتريس؟
قفلوه في وجهي، قالوا عجزت ولا بقى فيك حيل، من يوم ما وقعت يا ست، وقعت من على ظهر الخيل، كنت أنادي على عادتي بعزم ما في، وأقول نفسك معي يا ست، قلت أعمل حركة من حركاتي المشهورة وأضحك الناس، وقعت على الأرض رأسي تحت ورجلي فوق، الناس ضحكت لغاية ما شبعت، لكن رجلي انكسرت، ظهري انشرخ. - وبعدها يا عتريس! - أخذوني إلى المستشفى، وضعوا رجلي وظهري في الجبس سبعين يوما وحياتك يا ست، سبعين يوما وحق مقامك الطاهر، وبعد ما خرجت من المستشفى سألت عليهم، قالوا لي في مولد الست، يا ناس أرجع لشغلي. - لأ يا عتريس، يهديكم يرضيكم، أنت عجزت يا عتريس، طيب جربوني، عمرنا ما شفنا البهلوان على عكاز، نفسي أضحك الناس، ستضحك الناس علينا يا عتريس، يا ناس ترموني رمي الكلاب؟ رزقك على الله يا عتريس، صرخت بعزم ما في: يا طاهرة! سقت عليك النبي يا حبيبة! - وسمعتك يا عتريس. - عارف يا ست، لكن العمل؟ - العمل عمل الله يا عتريس. - كلمة منك تفتح الأبواب، دعوة منك تحنن القلوب، لأجل الحبيب الشفيع تشفعي لي يا حبيبة. - عند من يا عتريس. - عند أصحاب الأكشاك يا ست، ألعابهم كثيرة، صحيح انكسرت وما عاد في حيل، لكن أقدر أضحك الناس، أحكي لهم حكايتي، أحلف لهم أني يا ما أضحكت ناس وأبكيت ناس. - رح يا عتريس، ربنا يفتح لك الأبواب.
في اليوم التالي عاد القزم عتريس إلى المقام، الشحاذون على باب الجامع رأوه وابتسموا، الزوار لمحوه يتدحرج في الممر الطويل، ولولا قداسة المكان لضحكوا، السقاءون الواقفون كتماثيل من خشب، نظروا إليه بعيونهم الجامدة الحزينة وابتسموا، تزاحم عتريس وانحشر بين الناس، تحسس الشباك الطاهر وشم العطر وراح في الجلالة، وقال: يا ست! - قل يا عتريس! - رحت لهم يا ست، فت عليهم واحدا واحدا. - من يا عتريس؟ - كلهم يا ست، الساحر الأسود، شيطان الموت، الغول العظيم، الحاوي العجيب، حتى الأراجوز فت عليه. - ومن هو الأراجوز يا عتريس؟ - رجل صغير يعلقونه من شعره بسلك، ويحركون رجليه ويديه بسلوك، طول النهار يشتم ويلعن ويسب. - ابعد عنه يا عتريس. - هو الذي أبعدني يا ست. - والباقون؟ - قلت لهم: أشتغل معكم، قالوا: راحت عليك يا عتريس، يا ناس ولو نمرة واحدة، ما عاد فيك حيل يا عتريس، يا عالم ولو تقعدوني على المسرح والناس مصيرها تضحك، الناس غير أيام زمان يا عتريس، طيب أقف على رأسي، مرة واحدة يا عالم، تقع تموت يا عتريس، ونروح في داهية معك. - معهم حق يا عتريس. - تقولين معهم حق يا ست؟ - شعرك أبيض، قلبك تعب يا عتريس. - القلب لا يتعب من ذكرك يا ست، طيب تصدقي بالحبيب! - عليه أفضل الصلاة والسلام. - لو تسمحين لي يا ست؟ - ماذا تريد يا عتريس؟ - أقف على رأسي مرة واحدة قدامك، أثبت لك أن عتريس هو عتريس، بهلوان زمانه ووحيد عصره وأوانه. - هنا في المقام؟ يا للعيب يا عتريس! - من نفسي يا ست، مرة واحدة يا حبيبة، مرة واحدة لأجل الحبيب. - عيب يا عتريس.
دمدم الصوت المنبعث عن المقام، زام في أذنه كالريح، غامت الدنيا في عينيه، امتدت يد فرفعت يده عن الشباك الطاهر في عنف، زعق صاحبها الذي بدت رأسه كأنها القبة: اسع وصل على النبي! انتبه يا عتريس إلى العملاق الواقف إلى جانبه، وخاف أن يدوسه، يخنقه، يرميه من الباب، صرخ: والعمل يا ست؟
جاءه الصوت العميق الهادئ كأن حمامة توشوشه: اسع وصل على النبي يا عتريس. - الأبواب كلها اتقفلت في وجهي يا ست. - إلا بابي يا عتريس، إلا بابي. - يرضيك عتريس يصبح شحاذا يا ست؟ - الأرزاق على الله يا عتريس.
يوما وقف القزم عتريس على باب الست، طول النهار وقف على باب الحبيبة بنت الحبيب، «يصعب» على واحد ويضحك عليه عشرون، الستات تشير عليه، وتقول: شوفوا خلقة ربنا! والأطفال تصرخ وتقول: شوفوا الرجل المسخوط، والمشايخ يستعيذون بالله ويقولون: امش من هنا ورزقك على الله، والشحاذون يطردونه ويقولون: ما بقي غير البهلوان يقف قدام صاحبة المقام، عتريس صعبت عليه نفسه، غضب ودخل المقام ورفع يديه وقال: نفسك معي يا ست، نفسي ضاق يا بنت بنت الحبيب. - رجعت يا عترس؟ - الشحاذة للشحاذين يا ست، وأنا طول عمري فنان. - ما معنى فنان يا عتريس؟ - أمثل، أضحك الناس، أدهن وجهي بودرة، أقف على رأسي، انظري.
وأحس عتريس أن الشباب عاد إليه، وبحركة مفاجئة كان يقف في وسط المقام كالبصلة، رأسه تحت ورجلاه في السماء، وبحركة مفاجئة أيضا هاج الناس، رفع المشايخ وجوههم عن المصاحف، وهجم عليه حارس المقام فأمسكه من رقبته وزعق: يا نجس! يا ملعون، وحق مقام الست الطاهرة لأشدك على القسم!
في الزنزانة المعتمة، على البرش الخشن، نام عتريس وهو يفكر فيما جرى له، ويتذكر حياته القصيرة قصر جسمه، وبالليل طلعت له الست الطاهرة، وجهها مضيء كالبدر، جبهتها صافية كاللبن الحليب، ثوبها أبيض في أبيض كالملاك. - عملتها يا عتريس؟ - أمر الله يا ست. - وفي المقام! - معذور وحياتك. - الدنيا واسعة يا عتريس. - الدنيا ضاقت في وجهي يا ست. - وتتشقلب في المقام يا عتريس؟ - كان نفسي ألعب مرة قدامك، مرة واحدة قبل ما أموت. - هجموا عليك كلهم. - كلهم يا ست، المشايخ والعساكر، الشحاذون والسقاءون، الأفندية والفلاحون. - ورموك في الزنزانة. - على البرش الخشن، في العتمة والرطوبة، وسط الفيران والبراغيث. - تعبان يا عتريس؟ - كل واحد ونصيبه يا ست. - زعلان يا عتريس؟ - كلك نظر يا أم العواجز. - ألا تريد أن تسامحني؟!
فتح القزم عتريس عينيه قبل أن يغلقهما إلى الأبد.
تنهد بصعوبة وقال: لا يا ست، أبدا أبدا.
يونس في بطن الحوت
لم أكن أعلم أنها ستكون ليلة سوداء، ولا كنت أتصور أنني سأحمل في آخرها إلى المستشفى، كما يحمل النعش على الأعناق، فبعد أن أعطيتهم المعلومات اللازمة عني، وقيدوا اسمي ورقم بطاقتي على استمارة في حجم الكف، قادوني إلى حجرة في الدور العلوي، في نهاية ممر مظلم، قالوا لي: ليس عندنا غيرها، وسيشاركك فيها محمود بك، عندما يأتي متأخرا كعادته بعد سهرة طويلة في الكازينو، لم يكن يهمني أن أعرف شيئا عن محمود بك، فلم أسألهم عنه، بل دخلت إلى الغرفة وأقفلت بابها ورائي، كنت متعبا من السفر في أتوبيس البراري، محملا برائحة العرق والتراب والزحام، وكان كل همي أن أستسلم للنوم في أسرع وقت، وألقيت نظرة سريعة على الحجرة، لم يكن بها أكثر من دولاب خشبي صغير وسرير مستطيل بدا لي لكآبته كأنه تابوت، فوقه ملاءة بيضاء عليها بقع غامقة، ولحاف حال لونه وبدت آثار العرق على أطرافه المتسخة، وألقيت بنفسي على الكرسي الوحيد الموضوع إلى جانب السرير ، فخلعت ملابسي وألقيتها كيفما اتفق، وأخرجت بيجامتي وأسرعت أرتديها قبل أن يكبس علي النوم.
كانت متاعب اليوم قد ازدحمت علي، فلم تبق في قدرة على التفكير فيها، لقد طردني أبي من البيت في أول النهار، صرخ في وجهي بأعلى صوته: رح في ستين داهية وإياك أن تعتب الباب وإلا قطعت رجلك. وحين حاولت أن أرد عليه بصق في وجهي وصفعني. كان لا بد أن أغادر البيت وأن أغور من وجهه كما قال، ولم يكن هناك فائدة من محاولة الصلح معه أو استعطافه، بعد أن أهانني أمام الناس أكثر من مرة، وبكت أمي وهي تراني أعد حقيبتي وقالت: أبوك يا ابني على كل حال، رح بس يده ومصيره يرضى عنك. صرخت فيها وقلت إن العيشة معه أصبحت تكفر، وإن بلاد الله واسعة، وقلت: إنني سأعرفه شغله وآخذ حقي منه، وإن شاء الله سأحجر عليه وأدخله المورستان، وأعطتني أمي جنيها وضعته في جيبي مع الجنيهين اللذين كانا معي، ورزعت الباب خلفي وأنا أسمعها تدعو لي بأن يصلح الله حالي ويخزي الشيطان عني.
كان لا بد من وضع حد لتصرفات أبي التي زادت عن كل حد، لقد نسينا أنا وأمي وإخوتي الصغار، وكلهم في المدارس ويستحقون التربية، ولم يعد يسأل عنا بقرش واحد، وليته تركنا في حالنا ندبر معايشنا بأيدينا، فدكان البقالة الذي نعيش منه يكفينا ويستر علينا، ولكنه لطخ اسمنا بالوحل، حتى صار الناس كلهم في بلدنا يرددون فضائحه ويأكلون وجوهنا بتظاهرهم بالعطف علينا، لم يكتف بأن يهجر البيت ليعيش مع هانم الغازية - وبعض الألسنة تقول إنها كانت خادمة في بيت العمدة الذي لا يغيب عن مجلسه - بعد أن شاخ وزاد على الستين، بل كان يأتي غاضبا إلى الدكان كل يوم والثاني ويفرغ الدرج بما فيه، ويحاسبني أيضا ويتهمني بالسرقة والإهمال وتطفيش الزبائن. صبرت وشلت الحمل حتى تعبت وصعبت علي نفسي من الذل والنكد والإهانة والشتائم بسبب وبغير سبب، وكان لا بد من أن أفكر في حل يضمن لنا لقمة العيش، ويريحنا من غارات أبي علينا ويسترنا من فضائحه، فقررت أن أسافر إلى المركز وأسأل عن رجل أصله من بلدنا اسمه «حسان»، يشتغل وكيل محام هناك، وأعرف منه إن كان من الممكن أن أرفع دعوى الحجر على أبي، وهكذا سافرت في ذلك اليوم، ووصلت متعبا في المساء إلى الفندق الرخيص، الذي دلوني على تلك الحجرة فيه.
وفتحت عيني فجأة على أثر الإحساس بأنفاس حارة تصدم وجهي، وكان أول ما وقعت عليه وجها أحمر منتفخا، لم أتبين من ملامحه في أول الأمر شيئا، واعتدلت في الفراش محاولا أن أعتذر عن وجودي في الحجرة، وأن أشرح للرجل الذي كان منهمكا في خلع ملابسه أنه لم يكن لي يد في مشاركته في الحجرة في تلك الليلة، وجاءني صوت عميق خشن يقول: مساء الخير. فرددت السلام مرتبكا ورفعت يدي إلى رأسي، فأصلحت شعري واعتدلت في جلستي على الفراش. - كنت تشخر شخيرا عاليا، يظهر أنك تعبان.
نظرت إليه ولاحظت وجهه الضخم ورأسه الأصلع والشعر الكثيف على صدره، وقلت: من السفر فقط، أرجو ألا أقلقك الليلة. - أبدا ... أبدا، أنا دائما نومي ثقيل.
ثم بعد لحظة وهو يرتدي جاكتة البيجامة: غريب؟ - نعم، جئت أستشير وكيل محام من بلدنا في مسألة، وربما أرفع دعوى في المحكمة. - في المحكمة؟ إذن فسوف تنظر أمامي.
اعتدلت أكثر في الفراش وسألت: حضرتك ...
فقاطعني قائلا: نعم، قاض في المحكمة الجزئية، أحضر إلى هنا يومين في الأسبوع، وأرجع لمصر بعد الظهر.
وازداد انتباهي فأردت أن أنتهز الفرصة وأستشيره في حكايتي، رحت أشرح له قصتي مع أبي وهو يستمع في هدوء.
وحين انتهيت من سردها عليه سألني وهو يبتسم: ما اسمك؟
ومع أن السؤال بدا لي خارجا عن الموضوع، فقد أجبت: يونس، يونس عبد العظيم.
أطرق برأسه حتى كادت تلامس الشعر الأسود الكثيف في صدره، وقال: يونس هيه، ماذا تريد؟!
أفلت مني الرد الطائش كأنني أصرخ في حلم، فهتفت: أريد العدل!
زاد من تقطيب وجهه ومسح ذقنه بكفه قبل أن يقول: يونس، ويبحث عن العدالة، نفس الحكاية القديمة!
لم أفهم شيئا، فقلت: هل ترى سعادتك فائدة من الدعوى؟
نهض على قدميه وأخذ يتمشى في الحجرة، التي بدت ضيقة وهو يذرعها بخطواته الواسعة المتأنية، ثم وقف فجأة وأشار إلي بيده الضخمة: هل تعرف ماذا جرى له؟
سألت: لمن يا سعادة البيه؟
فقال في عصبية: ليونس طبعا، قلت لك ليونس!
قلت وقد ازدادت حيرتي: وأين جرى له هذا؟
قال كأنه لم يسمعني: في جوف الحوت طبعا!
ولم أفهم عن أي شيء يتكلم، فرأيت من الخير أن أسكت، وزادت مخاوفي وأنا أراه يقترب من السرير، ويشخط في كأنه يوقظ ميتا: عار عليك ألا تعرف!
بلعت ريقي وأخذت أفتش في رأسي عن كلمة أهدئه بها، وأعتذر له بأنني رجل غريب، ولا أعرف عن الموضوع شيئا، لكنني اطمأننت قليلا حين رأيته يدور على نفسه، ويسير خطوات في الحجرة ثم يقف في وسطها تماما، ويشبك ذراعيه حول صدره ويحك ذقنه بيده، ثم يخطب قائلا: الحقيقة أن الآراء مختلفة في هذه المسألة، مختلفة كل الاختلاف حتى إنني أعذرك إذا اكتشفت أنها متعارضة مع بعضها، هناك من يقولون مثلا: إن يونس بعد أن يئس من أهل نينوى سار إلى شاطئ البحر، وهناك من يقولون أيضا: إن الله هو الذي طرده بنفسه من المدينة العظيمة، وعلى كل حال، فقد كان من رأيه أنه فشل في مهمته، وأنه لم يعد هناك مبرر لحياته على الإطلاق، تستطيع أيضا أن تقول إنه كان خجلا من أن يراه الله على هذه الحالة، ولم يعرف أين يداري وجهه من الخجل، وبينما كان يرسل بصره على البحر، رأى جسما أبيض هائلا يطفو على سطح الماء من بعيد.
كان يمكن أن يظنه سفينة لولا أنه رآه يغطس بعد قليل، فأدرك بخبرته الطويلة بالحياة في شواطئ البحار أنه حوت عظيم، وتمنى من قلبه لو اقترب الحوت منه وفتح فمه وابتلعه، وانتهز فرصة وجود سفينة على الشاطئ، كان ملاحوها يستعدون لرحلة صيد، فركب معهم، وعندما توسطت بهم السفينة البحر، ورأوا الحوت مقبلا عليهم، والسفينة تهتز كالريشة على سطح الماء وجد يونس الفرصة سانحة لتحقيق أمنيته، فقفز من السفينة إلى الماء، وكان الحوت ساعتها فاتحا فمه الرهيب، فأسرع يونس فقذف بنفسه فيه.
قلت لأؤكد أنني أتابع الكلام وأمنع شرا يمكن أن يلحق بي في كل لحظة: هل تقول سعادتك إنه قذف بنفسه داخل الحوت؟
فقال في حماس الأطفال: عليك نور، تماما كما تقول.
والآراء تختلف هنا أيضا فيما فعله في جوف الحوت.
ماذا تظن أنه فعل هناك؟
قلت وأنا أكتم الضحك: وماذا يستطيع أن يفعل يا سيدي؟
إلا إذا كانت اللقمة في المعدة تفعل شيئا!
فهز رأسه في أسف، وعاد يقول: أنت مخطئ، لقد ظل حيا كما يعلم الجميع ثلاثة أيام وثلاث ليال، ولكن ماذا فعل في هذه المدة؟ هذا هو موضع الخلاف.
خلص ذراعيه من على صدره وشبكهما خلف ظهره، وأخذ يسير في الغرفة محني الظهر، وهو يقول: البعض يقول: إنه بمجرد أن دخل جوف الحوت، أخذ يفتش عن ركن منعزل يلجأ إليه، وقد تعب بالطبع ساعات طويلة قبل أن يجد هذا الركن البعيد، خصوصا إذا عرفت أنه كان يسير في الظلام ويصدم بأنواع مختلفة من الأسماك وطيور البحر وصخور اللؤلؤ والمرجان.
وفي ركنه البعيد استطاع أخيرا أن يخلو إلى نفسه، ويحاسبها ويراها واضحة كأنه يضعها على كفه، بكى كثيرا ودعا الله أن يريحه ويغفر له، بل ربما توسل إليه أن يعفيه من عمله، ويمكنك أن تتخيل أنه برغم بكائه وتوسلاته كان في غاية السعادة؛ لأنه وجد أخيرا المكان الذي يستريح فيه راحة مطلقة من العالم والبشر والتاريخ، بل إذا شئت أيضا من السماء ومن الله نفسه، ولكن ربما لا يعجبك هذا الرأي، فأقول لك: إن هناك فريقا آخر يرى رأيا مختلفا، ماذا تظن أنت؟
فقلت وأنا أدعو الله أن ينجيني من هذه الليلة، وأتلفت حولي لأبحث عن باب أو شباك يمكن أن أفلت منه إذا اضطرم الأمر: لا أدري يا سيدي، ولكن ربما كان متعبا مثلا فنام ولم يشعر بشيء.
ولم تفد هذه الإشارة ، بل زادته حماسا في بيان وجهة النظر التي لم أعرفها بعد: غلط! هذا خطأ يقع فيه مثلك أغلب الناس، فيونس لم يكن في موقف يسمح له بأن يغمض عينيه لحظة، على الرغم من أنه لو فتحهما فلن يرى شيئا في الظلام، لقد مضى في رأي بعض الشراح يختبر المكان ويفحصه بكل حواسه، وكان اعتماده بالطبع على يديه قبل كل شيء آخر، كان أول همه في البداية أن يعثر على جدران الحوت أو سطحه، حتى يعرف طبيعة المكان الذي سيقيم فيه، ولما يئس من العثور على حدوده صرف نظره عن ذلك، وبدأ يبذل جهوده للتعرف على الوسط الجديد؛ لكي يستطيع أن يألفه ويتكيف معه، بالطبع كانت هناك عقبات كثيرة، وكان لا بد له أن يواجهها ويتغلب عليها، أو على الأقل يعترف بها ويستسلم لها، فالأسماك المتوحشة - وبخاصة سمك القرش - التي كانت تسبح في جوف الحوت، لم تكن تخلو من الخطر عليه، وكان لا بد له أن يبحث عن شيء حاد يتسلح به، وكان من السهل عليه أن يعثر عليه أيضا في هذا العالم المعتم المزدحم بكل شيء (طبيعي أنك لن تسألني عن طعامه وشرابه، فالسؤال هنا سطحي جدا؛ إذ لم تكن المشكلة عنده أن يجد الطعام، بل كانت المشكلة الحقيقية أن يختار بين أصناف الطعام الحي والميت التي لا آخر لها، والتي كان يكفي أن يمد يده ليقبض عليها، وطبيعي أيضا أن السؤال عن المكان الذي كان يبيت فيه سؤال تافه أيضا؛ إذ كيف يتعب في البحث عن فراش وثير يمكنه أن يصنعه من الأعشاب أو من أخشاب السفن الغارقة التي كان يبتلعها الحوت). هذان هما الرأيان المتصلان بحياة يونس في جوف الحوت، أما إذا كنت تريد أن تسأل سؤالا يستحق الاستماع إليه، فيمكنك أن تسأل عن صلته بالعالم الخارجي، وكيف كانت تتم، هنا أعترف لك بأن المسألة تزداد صعوبة، ولكن الراجح على كل حال أنه لكي يعرف الزمن مثلا، أو ليتنفس هواء نقيا منعشا، أو ليطمئن على أن النور ما يزال يسطع في الخارج كلما طلعت الشمس - كان ينتظر حتى يفتح الحوت فمه من حين إلى حين - وقد تمتد المسافة بين كل فتحة وأخرى أياما أو شهورا، بل قد تمتد في رأي البعض سنين طويلة، فيلقي نظرة على العالم الخارجي أو يفكر جديا في الخروج من جوف الحوت، وإن كان تفكيره كما تعلم يظل تفكيرا فحسب. أما عن الحوت نفسه فالآراء مختلفة جدا في شأنه، حتى لتستطيع أن تقول: إن هناك مدارس عديدة تقف لبعضها البعض بالمرصاد، وتتحمس إلى حد قد يصل إلى إراقة الدماء من أجل هذا الرأي أو ذاك، فالبعض يقول: إنه كان حوتا عاديا مثل الحيتان في بحار الدنيا ومحيطاتها، والبعض الآخر يقول: إن الحوت هنا مجرد رمز، وإنه في الحقيقة كان يعيش في أعماق العالم نفسه حين كان يعيش في جوف الحوت، لا بل يذهب البعض إلى حد القول بأن الحوت هو الله نفسه، ابتلع يونس لا لكي ينتقم منه أو يمتحن صبره أو يعذبه؛ بل لأن ذلك كان أمرا طبيعيا لا بد أن يحدث ذات يوم، وأنه لم يبتلعه ويدخله في جوف حوت؛ إلا لكي يؤكد له بصورة ملموسة أنه مثل غيره من الناس، يعيش دائما داخل حوت هائل لا يمكنهم أن يهربوا منه.
تلك يا صديقي هي بعض الآراء في هذه المسألة، وهناك بالطبع آراء أخرى كثيرة مفصلة ومدعمة بالحجج والأسانيد.
لا أريد أن أشرحها لك حتى لا أطيل عليك، فالظاهر أنك تريد أن تنام وأنك، ويظهر أنني كنت بالرغم من مقاومتي الطويلة قد نمت بالفعل، فأحسست بيد تهز ضلوع صدري كأنها تريد أن تخترقه: يونس ... يونس!
فتحت عيني المحمرتين، وفركتهما طويلا قبل أن أميز القاضي الذي كان محنيا علي، كأنه يستمع إلى دقات قلبي ويصيح: يونس! قلت لك: أنت يونس نفسه! يونس في بطن الحوت!
لا أدري إلى الآن ماذا فعلت، كل ما أذكره أنني صرخت صرخة حادة، مفاجئة، مفزوعة كصرخة المقتول وهو يحس بالسكين القاضية تخترق صدره، قبل أن تصل إلى القلب ، وقبل أن أغيب عن الوعي خيل إلي أن الأبواب المجاورة لنا تفتح عنوة، وصوت أقدام مسرعة تصعد السلم، وأناسا كثيرين تزدحم بهم الحجرة، ويتعالى صياحهم وضجيجهم كأن كل واحد يزعق في بوق، بل لا أخفي عليكم أنني - وأنا ما زلت راقدا في المستشفى أعالج من أثر الصدمة - لا أعرف الآن إن كان ذلك كله قد حدث لي في حجرة الفندق، أم أن ذلك الشخص الذي ظننته القاضي محمود كان مجنونا اقتحم غرفتي، أو كان مجرد كابوس ثقيل جثم على صدري لحظة وأنا في عز النوم، إنني على كل حال ما زلت أعالج من الصدمة.
وما زلت أفكر في البحث عن وكيل المحامي حسان، وفي إمكانه رفع دعوى الحجر على أبي، الذي نسينا أنا وأمي وإخوتي الثلاثة، وطردني من بيته كما قال إلى الأبد.
واحد من أهل الكهف
كان ينحدر من شارع الموسكي في طريقه إلى ميدان العتبة، وكان اليوم من أيام يوليو القائظة، الحر يكتم الأنفاس، والجو ملبد بالغبار، ورائحة العرق واللهب والزحام تثقل الصدور، وضجيج العربات والناس والباعة تحث الأرجل على الفرار من هذا الجحيم. وكان يسرع إلى الرصيف بحثا عن الظل حين سمع صوتا ينادي: صابر، لم يلتفت في أول الأمر، فلم يكن يدور في وهمه أن يعرف أحد اسمه في مثل هذه المنطقة المزدحمة من المدينة، وحتى لو عرفه أحد فلم يكن يتصور أن ينتبه إلى وجوده، بينما الناس جميعا مشغولون بالفرار إلى بيوتهم، ومسرعون كالوحوش الضالة إلى مكان يحتمون فيه من الغضب الجهنمي، الذي أعلنته السماء على الأرض، ولكن الصوت عاد ينادي في إلحاح: صابر، صابر محمد مرزوق!
ورأى عربة فخمة سوداء تميل إلى جانب الشارع حتى تحاذيه، وذراعا بضة تخرج من نافذتها وتشير إليه. توقف كالمأخوذ وفتح فمه، يريد أن يعتذر عن هذا الخطأ غير المقصود، ولكن دهشته زادت حين رأى وجها نسائيا يفتح له الباب، ويصيح به في نبرة قاطعة: اركب! ولم يتمالك نفسه من إطلاق صيحة جعلت بعض المارة يتوقفون ويلتفتون نحوه في اشمئزاز وحب استطلاع: بريسكا! وجذبته اليد البضة إلى داخل العربة، قبل أن يتمكن من الإفاقة من دهشته، فألقى بجسده على المقعد الأمامي والصوت الحاسم ذو البحة التي يعرفها يقول كأنه يصدر أمرا عسكريا: «أغلق الباب، ليس عندنا وقت، على الله لا نكون أخذنا مخالفة.»
وأسرعت العربة تنهب الأرض التي بدت كأنها لوح من الفحم، تمده الشمس في كل لحظة بمزيد من النار، فيئن ويتلوى ويزفر ويدخن، ولم يكد ينتبه إلى نفسه وهو ما يزال بين مصدق ومكذب لوجوده في داخل العربة، حتى تذكر أنه لم يسلم عليها، على بريسكا القديمة العزيزة، التي تجلس الآن إلى جانبه، ويداها على عجلة القيادة. أراح ظهره المتعب إلى المسند المريح، والتقط نفسا عميقا ثم مد يده في خجل: نسيت أن أصافحك، فأحس بيد تفتش عن يده، ولا تكاد تلمسها حتى تفلت بسرعة إلى عجلة القيادة، وصوت رقيق يقول معاتبا في شبه سخرية: هل نسيت أن الكلام مع السائق ممنوع؟
ابتسم، رفع عينيه يتملى من الوجه الذي لم يكن قد وجد الفرصة حتى الآن ليشبع منه، كان هو نفس الوجه الأبيض المستدير، الذي طالما تفرس في تقاطيعه السمحة المنسقة، وأنفه الدقيق الطويل كأنف نفرتيتي، وشفتيه الضيقتين المزمومتين اللتين طالما بذل من المحاولات؛ ليستخرج منهما كنوزهما الشحيحة، والعينين الواسعتين الشديدتي السواد المندهشتين دائما لسبب وبغير سبب، يظلهما حاجبان ثقيلان طالما قال عنهما إنهما حارسان عنيدان، كل واحد منهما عبد أسود ممدد فوقهما يذود المتطفلين العطاش عن البئر العميقة. وابتسم لذكرياته التي بدت له طائشة وطفلية وسخيفة، واختلس نظرة أخرى إلى الوجه المحبوب؛ ليرى إن كان قد تغير فيه شيء، كان الشعر الفاحم قد صفف بطريقة لم يسترح إليها جعلته يحن إلى الخصلة الطويلة، التي كانت تتدلى منه ذات يوم، وتهتز مع هزة الرأس في حرية وبراءة وطيش، وكانت هناك صرامة لم يألفها تكاد تحفر تجعيدة على الجبهة العريضة المتكبرة، وتكسو الوجه كله بمسحة من الجد والتسرع والعزيمة التي لم يألفها فيها. وضحك فالتفتت إليه التفاتة سريعة ، لا عن اهتمام حقيقي، بل ربما لتثبت له أنها لم تنس وجوده إلى جوارها، أو لتخفف قليلا من جو المقابلة الذي خلا حتى الآن من المجاملة. وضحك مرة أخرى وهو يقول لنفسه: وماذا يهمني؟ أليست هي بريسكا العزيزة نفسها؟ قبل أن يتجه نحوها بصوت يحاول ألا ينفض عنه ضباب الحلم: من كان يتصور أننا سنتلاقى؟
قالت بغير أن تبتسم أو تلتفت إليه: وفي هذا الحر!
فاستطرد كأنه يحاول أن ينتزع نفسه من الضباب فلا يستطيع: وبعد اثني عشر عاما.
فقالت في فتور لم يلاحظه: ألم تخطئ في العدد؟!
فأجاب مؤكدا دون أن يفطن إلى الاشمئزاز الذي بدا في حركة شفتيها الممتعضتين: بالعكس، أستطيع أن أعدها باليوم. بل بالساعة إذا أردت. إنها اثنا عشر عاما وشهران و... قالت مقاطعة وعيناها لا تزالان تتابعان الطريق الذي أصبح يسير الآن لدهشته محاذيا للنيل: تقصد أننا عجزنا إلى هذا الحد؟ فأجاب في خجل من اكتشف غلطته بعد فوات الأوان، وفي صوت متحمس يكاد يسترضيها: بالعكس، أنت صغرت عن سنك (أراد أن يطري جمالها الرائع، ولكنه خاف أن يتحول إلى خطيب).
أما أنا فقد زدت عن سني الذي تعرفينه.
سالته كأنها تسامحه: أعرفه؟
فود لو يستطيع أن يهزها من كتفها ليذكرها، وهو يقول في ضحكة أزعجه رنينها الأجوف: هل نسيت أن عمري ثلاثمائة عام؟! والآن زدت عليها اثني عشر!
ضحكت ضحكة خيل إليه أنها صادرة من أعماق قلبها، وأسعده أنه استطاع أن ينتزع منها هذه الضحكة الصافية بعد هذه السنين الطويلة، وهو على حاله المتواضع الذي كاد في غمرة حماسه أن ينساه، وساعده على أن يعود إلى ذكرياته انهماكهما في قيادة العربة، كان ذلك حين تعرف عليها لأول مرة في المدرسة الثانوية في طنطا، كان يجلس في الفناء كعادته بعد الظهيرة يذاكر دوره في مسرحية «أهل الكهف»، ويجرب الإلقاء بصوته الجهوري حين سمع صوت الأستاذ حامد ينادي عليه في لهفة وفرح: ميشلينيا، يا ولد يا ميشلينيا!
وأسرع يجري نحو مصدر الصوت، وهو يكاد يكذب عينيه . كان الأستاذ حامد يقف هناك بقامته النحيلة، ونظارته السميكة تعكس أشعة الشمس الغاربة، وشعره المنفوش يكاد يغطي أذنيه، وذراعه الطويلة الضامرة العروق تشير إليه، وكانت هي تقف معه، صغيرة وعبيطة في سن التلاميذ، تلبس بلوزة حريرية بيضاء وجونلة رمادية مخططة، وإلى جانبها رجل ضخم في ملابس عسكرية أدرك لأول نظرة أنه أبوها، قدمه الأستاذ حامد مدرس التاريخ والمشرف على فريق التمثيل إليهما، وهو يربت على رأسه ويقول: حضرته الأستاذ ميشلينيا! ثم وهو يسلم عليهما في خجل وبغير أن يرفع عينيه إلى وجهها: خلاص العقدة انحلت يا سيدي، ووجدنا بريسكا، سعادة البيك الحكمدار من مشجعي فن التمثيل، كان يعارض في أول الأمر، ولكنني استطعت أن أقنعه، إن شاء الله تكون حفلة ناجحة ونكسب الكأس، لكن المهم كل واحد يحفظ دوره عن ظهر قلب، اللجلجة والتهتهة ممنوعة أمامي على المسرح! لم يستطع يومها أن يراها عن قرب، فقد تصبب عرقا وكاد يغرق في هدومه، واستأذن منصرفا وصوت الحكمدار يدوي في أذنيه: شدوا حيلكم، بس إياكم أن تأخذوا الحكاية جد!
وتتابعت المقابلات من ذلك اليوم، في كل يوم بعد الظهر يبدءون البروفة، ولا ينتهون منها قبل غروب الشمس.
هل يستطيع أن يذكر في حياته أسعد من تلك الأيام؟ ألم يكن يجري إلى المدرسة كالعصفور، بغير غذاء في معظم الأحيان، وبسندوتش تدسه أمه في جيبه على الرغم منه حتى لا يموت من الجوع؛ ليكون أول من يرى سامية وهي تنزل من العربة البوكس، التي كانت توصلها إلى باب المدرسة؟ ألم يكن ينتظرها على الباب ويذهب إلى لقائها وكأنه رآها صدفة، ويتحاشى عيني الشاويش مجاهد الغاضبتين وهو يصافحها، ويصحبها إلى الردهة الواسعة التي أقاما فيها المسرح؟ ألم يكثر من أكل سكر البنات لكي يجلو صوته فيرن على المسرح كأنه يوسف وهبي أو جورج أبيض، ليقول في صوت يتعمد أن يكون مؤثرا ليصل إلى قلبها برغم أنف الشاويش مجاهد، الذي يجلس في الصالة على كرسي يحضره له، ويكشر في وجهه كلما سمعه بمد رقبته، ويلوح بذراعيه ويجري نحو سامية في لهفة لا تخفى على الأصم: ها أنت أخيرا يا بريسكا! وتقف هي - كما يقتضي الدور وتعليمات الأستاذ حامد الصارمة - مذعورة في بهو الأعمدة، تتلفت وراءها خائفة صامتة كالتمثال وهو يسألها هي دون غيرها: عجبا! أهذا استقبالك لي؟! أما كنت ولا ريب تتوقعين رؤيتي الساعة؟ بل ربما كنت لا تحبينها.
ويزداد ذهولها وشحوب وجهها الحلو الصغير، كما تزداد تكشيرتها ودهشتها من جرأته، وهو ينطلق كالراديو: لا بأس، بالرغم من هذا لا أكتمك أن مرآك في هذه اللحظة قد صيرني سعيدا، سعيدا يا بريسكا إلى أقصى حد.
وهل ينسى أنها كانت تتلجلج وتنسى دورها الطويل خلال الفصلين الطويلين، وأنه كان يحفظه بدلا منها ويلقنه لها كلمة كلمة؛ لكي يحميها من تشنجات الأستاذ حامد العصبية، ومن شد شعره وصراخه الذي لا ينقطع: يا ناس! احفظوا دوركم! حرام عليكم! الفن تعب، تضحية، استشهاد، هل تريدون أن يأكل الناس وجهي في المديرية كلها؟ هل ينسى أن عبد العزيز سيد أحمد ومحمود الحلواني كانا ينافسانه على دوره ولا يكتمان غيظهما منه؟ ألم يقل له عبد العزيز يوما بعد انتهاء البروفة: ولد يا صابر! والنبي تأخذ أنت يمليخا، يا شيخ أنا زهقت منه ومن بؤسه، رجل غلبان لا له في الحب ولا في الستات، يعني مهما يكن، راع لا طلع ولا نزل، بس شاطر يصرخ ويقطع قلبي: إلى الكهف! إلى الكهف! إنا أشقياء، أشقياء، هذا العالم ليس عالمنا. خذه أنت يا صابر، ومعه قطمير فوق البيعة! ألم يحسده محمود الحلواني أيضا وإن لم يصارحه بكلمة واحدة؟!
لقد كان يتابعهما بعينيه الصامتتين في كآبة لا تخفى عليه، وإن حاول أن يداريها بصمته وعدم اكتراثه، كان يقول له وهو يركز عينيه على وجهه الصغير وقدميها النحيلتين: حلال عليك يا عم بريسكا المفعوصة، الحمد لله أنا «مرنوش»، فإذا نظر إليه نظرته التي تقول: اطلع منهم! قال له في استخفاف: ومتزوج وعندي عيال، الواحد منهم عمره ثلاثمائة سنة، المهم ربك يختمها على خير!
كانوا جميعا يغارون منه ويتمنون أن يقفوا وقفته أمامها، وأن يكلموها بكلام لم يقولوه هم، ولكنه يصدر عن قلوبهم الوحيدة الخاوية، وأن يصرخ الواحد منهم فيها أمام المدرسة وأمام المتفرجين وأبيها الحكمدار والحكومة كلها: بريسكا! لا تتركيني! لا تتركيني وإلا سقطت في الجحيم! صحيح أنهم لم يروه ينفرد معها، فالشاويش مجاهد رابض في الصالة ووجهه أسود من الليل، وعيناه تطلقان شرارا، ولم يشكوا لحظة في أنه يمكن أن يتجرأ ويلمس شعرة منها، كما أنهم كانوا يلاحظون كيف تعامله كما تعاملهم جميعا في أدب وبرود وتعال، وكأنها فعلا الأميرة بنت الملك دقيانوس، وهم مجرد مشعوذين مساكين معفرين بتراب الزمن والكهف والنسيان، ولكنها الغيرة التي كانت تأكل قلوبهم وتسعد قلبه، وتجعله يبدو أمام نفسه منتصرا من غير أن يدخل في معركة!
ما كان أجمل هذه الأيام! إنه لا ينسى ذلك اليوم الذي تأخرت فيه عربة البوكس عن الظهور بعد البروفة، انصرف زملاؤه وتركوه يقف إلى جوارها عند سور المدرسة، ربما لم يخالجهم الشك في أن البوكس لا يلبث أن يحضر، وفيه مجاهد بوجهه الذي يقطع الخميرة ويجلب النحس، ثم إن عم حسان بواب المدرسة العجوز كان يقف معهما ويهز رأسا أسفا على شبان هذه الأيام، وعلى التمثيل والكلام الفارغ الذي يضيعون وقتهم فيه، وعندما طال انتظارهما أحضر لهما كرسيين، ومضى الوقت وهما يترقبان العربة في كل لحظة، كان يتكلم طول الوقت معها أو مع عم حسان (وإن كان بالطبع يقصدها هي) ليضيع الوقت، عن صعوبة التمثيل، عن المجد الذي ينتظر الممثل في حياته، والبؤس الذي ينتظره في موته، عن عائلاتهم التي تعيش كالمواشي ولا تفهم شيئا في الفن، ومع ذلك تجاهر باحتقاره، وعندما هتفت زائغة العينين مصفرة الوجه: يا خبر! الليل دخل! أخذته الشهامة وعرض عليها أن يوصلها، وعندما أبدت معارضتها في أول الأمر، وتلفتت إلى عم حسان كأنها تستنجد به - وهو ولا هو هنا - قال لها في صوت تعلم من كثرة الإلقاء على المسرح كيف يحافظ على ثباته: المسافة قريبة، ثم إنني لن آكلك! كانت السماء صافية في ذلك المساء كما لم يرها من قبل، فلم يكن يهتم في يوم من الأيام بأن يلاحظ إن كانت صافية أو غير صافية، وكان القمر بدرا كاملا، يمشي معهما كأنه طاقة فتحت عليه من ليلة القدر، وديعا، طيبا، مبتسما كأمير صغير يسبح في قارب فضي ويراقب رعيته من النجوم التي تحرسه من حوله.
قال لها وصوته يرتجف: ماذا تنوين أن تفعلي في المستقبل يا بريسكا؟ قالت وهي تراعي المسافة التي تفصل بينهما: أبي يريد أن أدخل الجامعة، فقال وكأنه يخاطبها من فوق خشبة المسرح: هذه إرادة أبيك، وأنت؟ فقالت في تهور وقد شجعتها نبرته القوية: سأمثل.
فسأل في توسل: إذا قمت مرة بدور بريسكا، فهل ستتذكرين ميشلينيا؟ قالت في غباء خيب أمله: لم لا؟ وإن كنت لا أفكر في التمثيل على المسرح.
قال مفزوعا: لن تمثلي على المسرح، أين إذن؟
فقالت ضاحكة من سذاجته في استهتار روعه: في السينما طبعا!
قطب وجهه، وسار صامتا إلى جانبها لا يجد كلمة يقولها، كان يريد أن يستطرد في الحديث عن روعة التمثيل وعظمته، عن مجده وتعاسته، عن عذابه ولذته، فيجد طريقا للحديث عما يحسه نحوها، ولم لا يفعل ويزيح الحجر الثقيل عن قلبه، ويقول لها: إنه أحبها من أول يوم وقف فيه أمامها، وقال لها في صوت جمع فيه كل لهفته وشوقه، وسخطه وتحديه لزملائه وللأستاذ حامد ولأبيها وللمدينة بأسرها: بريسكا العزيزة! إني أترقبك منذ وقت طويل، ولكنه لم يفعل، وشعر بيأس يخنقه، أهذا هو آخر التعب والتفكير والحفظ والتمثيل؟ أهذه هي اللحظة التي كان ينتظرها ويعمل لها، ويرتب الكلمات المحفوظة لاستقبالها؟ وتلاطمت الأفكار في رأسه كالأمواج العكرة الغاضبة، وتمخض الصراع في نفسه أخيرا عن حركة من يده، خيل إليه أنها ستغير تاريخه إلى الأبد، مد يده فلمس يدها، لم تبد معارضة، رفعها إلى فمه وقبلها فسحبتها كأنما لسعتها شظية، وقالت في استهتار أغاظه حتى تمنى لو يستطيع أن يصفعها: ألا تخشى أن يضعك أبي في التخشيبة؟! سحب يده إلى جانبه ، ومضى صامتا مطرق الرأس، ولم يطل صمته، فقد رأى نور كشاف يلمع من بعيد، وما هي إلا لحظات حتى كان البوكس يقف أمامهما وعم مجاهد - كما كانت سامية تسميه - يخرج منها كعزرائيل، ويفتح لها الباب فتدخل وهو يقول لها: لا مؤاخذة يا ست هانم، البيه كان مع النيابة في جناية قتل، وتركاه واقفا في مكانه دون أن يقول أحدهما كلمة أو يلتفت إلى وجوده. وقفت العربة فأيقظته من حلمه.
وجاء صوت سامية الضاحك: وصلنا يا يمليخا! تفضل معي.
وأغضبه أن تناديه بيمليخا مع أنه لم يكن يكره شيئا كما كان يكره هذا الدور، الذي كان يقوم به عبد العزيز، وأين يأس يمليخا وانهزامه ونحول صوته وجسمه من حيويته وحماسه، بل تهوره وعذابه؟ قال وهو يحاول أن يفتح الباب فتسارع بمساعدته: تريدين ميشلينيا، هل نسيت أيضا أنني ميشلينيا؟ واندفعت تصعد السلم وهي تشير إليه ضاحكة: وهل عندي وقت لأتذكر كل شيء، أسرع، أسرع، أمامي نصف ساعة فقط، أغير فيها هدومي وأذهب للإستديو.
انطلقت تجري على السلم الرخامي الجميل وهو في إثرها، أسخطته إجابتها التي كان يتمنى أن تكون أكثر احتشاما، كما أغضبه أنها لم تعطه الفرصة ليتفرج على العمارة الفخمة من الخارج، ود لو يسألها عن الحي الذي تسكن فيه، ولكنه أشفق على نفسه من سخريتها، وفتحت باب الشقة امرأة عجوز، صغيرة الوجه، وتعجب لضيق عينها وتكشيرة حاجبها، التي بدا له أنها لا تتناسب مع الطرحة البيضاء الوقور، التي كانت تضعها على رأسها، قالت سامية دون أن تحييها: اعملي شاي بسرعة يا أم محمد، عندي صداع، لا تنسي الأسبرين على المكتب، ثم التفتت بسرعة لصابر الذي وقف في الصالة مذهولا، يتأمل قطع الأثاث الفخمة، ويتعجب من تكويناتها الحديثة الجريئة، ويحدق في اللوحات والمصابيح التي تطلع كأوراق الشجر المضيئة من كل الجدران، وقالت دون أن يبدو عليها الاهتمام أو الاستغراب لذهوله: واعملي للبيه شاي أيضا، أو تحب الكوكا كولا يا يمليخا؟! انتزع نفسه من تأملاته وقال غاضبا: قلت لك ميشلينيا! ثم في خجل من صياحه في بيت غريب عليه، وهو ينظر في تودد إلى العجوز: أشرب الشاي مع الهانم. قالت أم محمد وهي تنظر إليه نظرة ودودة، دون أن يبدو عليها أنها اهتمت بالإصغاء إليه: «حسني بك منتظرك من ساعة، قاعد في الصالون.» جرت سامية كالفراشة وفتحت بابا وهي تهتف: صحيح؟ هاللوا! تعال يا حسني، ليس عندي وقت للسلام والكلام، عارفة كل شيء (وهنا ظهر على باب الصالون رجل يقترب من الأربعين، أذهل صابرا بياض جلده الشديد وصغر وجهه، ودقة شاربه المرسوم بعناية فوق شفة غليظة داكنة، لا تتناسب مع رشاقة الوجه واتساع العينين اتساعا شديدا).
نسيت أعرفكم ببعض، حضرته الأستاذ حسني، مخرج فيلمي الجديد مصرع العشاق، أليس كذلك يا حسونة؟ أو نسميه اسما آخر لا فيه موت ولا دم؟ مصرع الأحباب مثلا؟ اسم شيك، أو أقول لك: نسأل الأستاذ ميشلينيا، حضرته الأستاذ صابر، صابر محمد مرزوق، زميلي في التمثيل، أيام زمان (ومدت في الميم إلى حد أخاف صابر، حتى خيل إليه أنها شدته من رأسه، فخشي أن يصطدم بالسقف)، أليس كذلك يا ميشو؟ (وهنا خيل لصابر أنها تنادي على كلب) عن إذنكم، أغير هدومي، لحظة واحدة، اقعدوا مع بعض.
وجلس صابر على كرسي أشار إليه الأستاذ حسني، لم يرفع وجهه إليه فقد كان لا يزال مبهورا بالجو البلوري الذي وجد نفسه فيه فجأة كأنه في قصر مسحور، مأخوذا بالثراء والفخامة في كل شيء، وغارقا إلى أذنيه في كلمات سامية، التي نزلت كالمطر فوق رأسه فلم يدر هل هي تجامله أم تسخر منه، وقبل أن يفيق جاءه صوتها، صوت بريسكا المحبوبة الذي أصبح خليعا وجريئا وغير مبال: مثل والنبي يا ميشو، قل له يا حسونة.
حتة صغيرة من أهل الكهف، كان اسمها أهل الكهف، بتاعة الحكيم، أليس كذلك؟ علشان خاطري، أنا سامعة.
وقبل أن يفيق مرة أخرى جاءه صوت الأستاذ حسني الهادئ الناعم، الذي خيل إليه أنه يشم له رائحة العطر: «لو تكرمت يا أستاذ، ولو سطرين ثلاثة، تأكد أنني أقدر المواهب ، وربما يكون لك نصيب تشتغل معنا، أنا أخرجت لسامية ثلاثة أفلام، وأمامنا الآن فيلم».
لم يدر صابر بماذا يرد، تكوم على نفسه كأنه يدافع عنها ضد هجوم مدبر خسيس، ولما عاد الأستاذ حسني يلح عليه في صوت حاد، لم يخطئ فيه نغمة صادقة تشجعه، ألقى بظهره على المسند الناعم، وقال في هدوء: معذرة، بعد أن يحضر الشاي.
وصرخت سامية من وراء باب غرفة النوم الموارب تلعن أم محمد وتستعجلها وتهددها في نفس واحد، وجاءت صينية زجاجية تزينها خطوط ذهبية وفوقها أكواب الشاي. مد صابر يده فتناول كوبه وأحس بنشوة الدفء بعد الجرعة الأولى، نشوة يكاد يغرق فيها تعب اليوم كله، وأغمض عينيه، وتمنى لو يستطيع أن يتمدد ويستريح وينسى كل شيء، وقبل أن يغفو جاءه صوت سامية من وراء الباب: نسيت أسألك يا ميشو، أين كنت الآن؟ قال وهو يغالب النعاس: كنت أتسوق من الموسكي، سألت من جديد: هدوم مثلا؟ قال في صوت لا يخفي ضيقه: لا، بقالة للدكان، سمن وزيت وصابون وتوابل من كل الأصناف، أصلي أنا الآن أعمل مكان أبي. سألت للمجاملة: يعني تاجر؟ أجاب كأنه يؤكد حزنه على المصير الذي انتهى إليه: نعم، على قد الحال، والدي مات وأنا في التوجيهية، حضرتك كنت انتقلت من البلد مع البيك الحكمدار، ترك لي ثلاثة بنات وولدين، كان لا بد من وجودي معهم لأباشر الأرض وأقعد في الدكان، سألت من جديد في استهتار تعجب كيف تقدر عليه: وعندك أولاد يا ميشو؟ فأجاب في حسرة ولكن في استسلام: خمسة، بيبوسوا إيديك.
فاجأته صيحة من الأستاذ حسني: اسكت أنت! الرجل يريد أن يمثل، ياللا يا أستاذ، قل لنا قطعة على الماشي.
قال صابر معتذرا وقد أعجبه اهتمام الأستاذ حسني به: ولكنني لا أذكر شيئا. ألح الأستاذ حسني: أي شيء. قال صابر في إخلاص كاد أن ينفجر له حسني ضاحكا، لولا أنه تحكم في نفسه: الحقيقة أنني نسيت أغلب دوري مع الست هانم، كانت دنيا وراحت. سأل حسني في عطف وكأنه يتمنى لو يستطيع أن يبكي: كان دور ميشلينيا نفسه؟ فأحس صابر أن الإلحاح عليه زاد عن حده، وأنه من الجحود وقلة الذوق أن يقابله بالصمت والجمود، فتحامل على نفسه وشد عضلاته ووقف في وسط الصالة، أطاح رأسه بهزة واحدة إلى الخلف وكشر ملامحه، عقد جبينه وزم شفتيه بكل قوته ومد ذراعيه إلى الأمام كالمستجدي، وقال: «نهاية الفصل الثالث، بهو الأعمدة، الوقت ليل والمكان مضيء»، ثم انفجر في صوت فوجئ به حسني، وذعرت أم محمد فأسرعت تجري من المطبخ، ووقفت خلفه تنظر إليه في ذهول: نعم، نعم، الوداع، يا، يا، لست أجسر! الآن أرى مصيبتي وأحس بعظم ما نزل بي، لا مرنوش ولا يمليخا رزآ بمثل هذا، إن بيني وبينك خطوة، بيني وبينك شبه ليلة، فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها، وإذا الليلة أجيال، أجيال، وأمد يدي إليك وأنا أراك حية جميلة أمامي، فيحول بيننا كائن هائل جبار: هو التاريخ!
ويبدو أن لم يكن قد انتهى حين أطلت سامية فجأة من الباب، بقميص نوم وردي شفاف، ومدت ذراعيها ضاحكة ضحكة رنت في أذنه، كوقع وعاء نحاسي يرتطم فجأة بالبلاط: الوداع يا ميشلينيا!
لا يدري صابر حتى الآن ماذا حدث له في تلك اللحظة: تراخت عضلاته، تفكك جسده، انهار على الأريكة كأنه تمثال من القش، لم يستطع أن يثور، لم يستطع أن يبكي، لم يفكر أيضا لا في الثورة ولا في البكاء، بل ربما لم يفكر في أي شيء بالمرة.
وأسرع حسني إلى غرفة النوم متأففا، وهو يؤنب سامية بصوت يحاول أن يكون مرتفعا، ودق جرس الباب في هذه اللحظة فدخل رجل ضخم، شعره مجعد وطويل وفاحم، وعيناه شديدتا السواد مخيفتان، إلى حد أن صابر لم يستطع أن يثبت عينيه فيهما أكثر من لحظة واحدة، كان صوته أجش، وبدا لصابر أنه ثور غبي وهو يقول: هل هذه مواعيد يا عالم، من الصبح أنتظركم، والناس تسأل عنكم، والبلاتوه جاهز، والمنتج الذي كان موعده معك يا سي حسني على البار، وكاتب الاسكريبت يا ست سامية، منتظر هناك على نار.
إن لم تنزلوا حالا ضاعت علينا الفرصة، أعوذ بالله من هذا الحر، الدنيا نار، بسرعة يا ست سامية، اعملي لك قلب.
كان الرجل الضخم قد وقف أمام باب غرفة النوم فسده بهيكله الجبلي وصوته الأجش وكل شيء هائل فيه، لم يلاحظ وجود صابر، بل وقف في مكانه كأنه يكتم أنفاسه، ورن جرس التليفون، وسمع صابر صوت سامية تتكلم في نفس واحد، ووجد صابر نفسه ينهض من على الكرسي، وقد خيل إليه أنه استراح قليلا، ودون أن يحس به أحد مشى على أطراف أصابعه إلى الباب الخارجي ففتحه في هدوء، حتى العجوز الطيبة أم محمد، التي كانت تقف لحظتها في المطبخ وتعطي له ظهرها، بحيث يرى طرحتها البيضاء فوق رأسها بوضوح، لم تحس به وهو يغلق الباب وراءه.
قيصر
- أفسحوا الطريق لقيصر.
من هنا سيعبر موكبه.
عما قليل ستهل عليكم طلعته. - قيصر، يا ظل الله في الأرض.
أصوات الرعية تهمهم من بعيد.
والحاشية تحف بالعربة الإمبراطورية.
الموكب لا ريب قادم في الطريق، أنا إذن سأبصره بعيني هاتين، بل ربما استطعت أن أندس بين صفوف الجند العظام، وأن أهتف مع الهاتفين، وأمد يدي فألمس - أقول ألمس! - العربة الإمبراطورية المزينة بالورود، المتوجة بالذهب والفضة، ومن يدري؟ فلعلي أستطيع أن ألفته إلى وجودي، ولعل الشجاعة أن تواتيني فأمد يدي بشكواي، سيطرق قيصر العظيم برأسه، وربما ابتسم، وربما مال على أذني ليقول لي: «أنا لم أنسك قط، أنا لن أنساك في يوم من الأيام.» ولكن هل أستطيع حقا أن أنفذ من الستار العظيم الذي يطوقه بالرجال والسلاح؟ هل أستطيع حقا أن أعبر السياج المتين الذي تصنعه الهيبة والجلال حول مجده الإمبراطوري؟!
وا فرحتي بين العالمين!
من كان يصدق أنني سأرى قيصر؟
هل يمكن أن يتحقق الحلم في لحظة واحدة؟
يا إلهي! ماذا يحدث لو أن قلبي خانته الشجاعة؟ سترهبه الأبواق التي تزعق من حولي، ستخيفه مواكب الجنود التي تزحم المكان، سيتلفت حوله فيجد نفسه غريبا، مفقودا، عبر به الموكب، وانفضت الجموع، وخرس الضجيج.
جاري يصيح وحنجرته تكاد تنشق: الموكب في الطريق. وامرأة عجوز تداعب حفيدها وتشير بيدها النحيلة قائلة: عما قليل يمر من أمامنا قيصر. وطفلة تفتح عينيها وتهتف بصوتها اللطيف: أليست هذه هي العربة يا أبي؟
لكنني لا أرى على مدى البصر شيئا.
ماذا يحدث لو لم يأت قيصر؟ اليأس لن يتسرب إلى نفسي، سوف أرى القيصر على أية حال، وسوف أهتف بملء صوتي: أنا رجل من شعبك الأمين يا مولاي، وسوف يضحك قيصر حتى يميل ظهره إلى الوراء، أما أنا فسوف أجري وراء الركب لألحق بعربة قيصر، وسوف يبعدني الحرس عن موكبه برفق، ومع ذلك لن أبعد حتى أعرفه بشكواي، وأبسط له حالي، سيقول لي في آخر الأمر: اذهب إلى دار الطعام والكساء.
قل لهم لقد بعثني قيصر إليكم.
دار الطعام والكساء قريبة من هذا الشارع.
سأتوجه إليها بعد قليل، بعد أن أكون قد رأيت الموكب وحادثت قيصر، سأتقدم في غير وجل ولا خوف؛ لأقول للأمين على خزائن الطعام: هذا أنا يا سيدي، لا لن أقول له يا سيدي - ألسنا جميعا سواء! - أتعرف من أين أنا آت إليك؟ سيفتح الأمين فمه من الدهشة، ستتسع عيناه اتساعا كبيرا عندما أقول في صوت لا تخونه الثقة: لقد بعثني قيصر إليك! قال لي: اذهب يا أحب رعيتي إلي، اذهب إلى الأمين ليفتح لك خزائني، فكل منها ما تشاء، أشبع بطنك التي هدها الجوع، اكس جسدك الذي أكلته الرياح وهصرته أمطار الشتاء، سوف لا يصدقني الأمين في أول الأمر، وسوف يزمجر غاضبا ويأمر أتباعه أن اطردوا هذا الرجل من دار الطعام، لكنه لن يعرف في سطوة كبريائه أنني قد انتصرت عليه، نعم! لقد بلغته شكواي، وماذا بوسعي أن أفعل أكثر من هذا؟
أنا لن أيأس كما قلت، ففي يدي ورقة دفعت عليها رسم الضريبة، وسطرت عليها شكواي ونمقتها بالخط الجميل، وحشوتها بعبارات المدح والثناء على قيصر العظيم، كيف تصل ورقتي إلى يد قيصر؟ قد تأخذني الحيرة أو تذهب بلبي، فغير بعيد من هذا الحي سأجد قصر العدالة، حقا إنني لم أدخل أبوابه من قبل، غير أنني سأصعد سلالم المرمر، وأمضي إلى الردهة الكبرى، سوف يسألني الحجاب: ماذا تريد أيها الرجل؟ وسوف أرد عليهم في عزم ثابت: أريد أن ألتقي بقاضي القضاة.
إنه مشغول بإقرار العدل في البلاد.
ولكني أريد أن أسمعه شكواي.
وهل نستطيع أن نعرف الرجل الذي تشكو منه؟
حسن أيها السادة، إنه قيصر!
سيعجب الحجاب من أمري، وسيمد أحدهم يديه ليطردني بعيدا عن قصر العدالة، ولكن سأقنعه أن قيصر هو الذي بعثني، وسوف أفلت من أيديهم لأجري في ردهات القصر باحثا عن قاعة المحاكمات، وسوف أظل في القصر، حتى أجدها، هناك أصرخ بملء صوتي: يا قاضي القضاة! يا قاضي القضاة! ألا تسمع شكواي! وسيرفع القاضي وجهه إلى الجريء الذي دنست قدماه قدس أقداس العدالة وسيقول لي: ممن تشكو أيها الرجل؟ وسوف أقول بلا أدنى خوف: أنا أشكو قيصر أيها القاضي الجليل!
ماذا عسى أن يفعل القاضي؟ إما أن يعطف على شكواي، ويؤجر المحامين للدفاع عنها، فأنا رجل فقير لا أملك حق الدفاع عن نفسي، وإما أن يثور ساخطا: ضعوه بين المتهمين.
أما أنا فلن أغضب أو أثور، يكفيني أنني أسمعت القاضي شكواي، وسواء علي أن أقف بين المظلومين أو بين المذنبين، ألم أوفق إلى دخول قصر العدالة في آخر الأمر؟!
أنا أنتظر موكب قيصر، سوف ينحني علي، ويقرب وجهه من أذني، ويقول لي: ستجدني في القصر غدا.
ها هو القصر بلغته بعد أن تمزقت قدماي وغطى الغبار بشرتي، وها أنا ذا أتقدم من الحراس الأشداء، إنهم يظللون جدران القصر بهيبتهم، ويتسامقون عن جانبيه كالأشجار العتيقة المتكبرة، سوف لا أهاب شيئا، سوف أقول لهم: لقد بعثني الأمير إلى هذا القصر، سيضحك الحراس بلا مراء، وسيتخذون مني أضحوكة لهم، وربما هجم أحدهم فقبض علي بين ذراعيه كأنني دمية عاجزة، لكن هذا كله لن يخيفني، لن يضيرني أن أنتظر يوما أو يومين، أو أن أقف عند البوابة المرمرية شهرا أو شهرين، فسوف أبعد عن القصر وفي نفسي أحسن الذكريات، ألست قد عرفت الطريق إليه؟ ألست قد ألفت الحراس، وضاحكتهم، وحفظت ملامح وجوههم؟ ألم أفلح - إلى هذا كله - في أن أعطفهم على حالي، وأن أسرد عليهم حكايتي وتاريخي؟ ألست قد لمست يد الحارس؟ وأليست يد هذا الحارس ستلمس يد رئيسه الذي يفوقه قوة وبأسا، وهذا الأخير من ذا يشك في أنه سيسلم على كبير حراس قيصر؟ أما كبير الحراس فإنه يسلم على قيصر نفسه في كل يوم مرات، أفلا أكون بهذا قد لمست يد قيصر؟!
ربما وجدتهم في المرة التالية يقولون لي: تفضل، لقد أذن لك قيصر، وهو ينتظرك في شوق وقلق في الردهة الكبرى!
سأمضي في طريقي غير هياب. - هل تسمح أيها الحارس المبجل؟! - أراك رجلا من الشعب! - إني لكذلك يا سيدي. - إذن فقد أخطأت الطريق. - ولكن قيصر هو الذي بعث بنفسه إلي يا سيدي.
ويفطن هذا الحارس الغبي إلى خطئه حين يهرع إلى حارس آخر أعلى منه رتبة ليقول لي: تفضل مكرما، نحن ننتظرك من سنين وسنين، ألست أنت (وهنا ينطق باسمي)؟ - نعم أنا هو يا سيدي. - ادخل، ادخل، إن قيصر العظيم مشتاق إلى رؤياك!
وأصعد سلالم الرخام الناصعة، حريصا حتى لا تنزلق قدمي، وأمرر يدي لأنعمها بملمس الأعمدة الملساء، وأسير في معبر طويل لا تكاد نهايته أن ترى، وحين أبلغ قاعة فسيحة عليها حراس متدثرون بسترة زرقاء، تلمع فوق أكتافهم نجوم وأقمار ذهبية براقة أسألهم: أنبئوا قيصر أن رجلا من شعبه الأمين قد جاء.
ولكن هذا مكان حاجب الوزير، فأرد عليهم ساخطا: من قال لكم إنني أريد مقابلة الوزير، فيجيبني أحدهم وهو يحاول أن يرضيني: أردنا أن نقول إنه وزير قيصر.
وأنصرف عنهم لأواصل سيري، عما قريب سأجد قيصر وسأمثل بين يديه، كيف يصدق أخوتي وصحابي أنني مثلت بين يدي قيصر؟ من كان يظن أن هذا سيحدث لرجل مثلي، وأدور من قاعة إلى قاعة، مبهورا بالسحر الذي يتخايل أمام ناظري، في الثريات، والطنافس، والرسوم، والمرايا، والرياش، والتحف الغالية، لكني سأمضي قدما حتى أجد قيصر، وسوف تشغلني عما أرى أفكاري التي تضطرب في خاطري، وخطابي المنمق الطويل الذي سألقيه بين يديه، ويقفز أمامي رجل طويل غرق جسده في ثوب رمادي، يبدو وكأنه قد خرج من بين الجدران ليقول لي: أي شيطان جاء بك إلى هنا؟ فأقول له وشجاعتي لا تفارقني: لقد بعث قيصر إلي.
فيقول وهو يرفع حاجبيه من الدهشة: ولكن هذا الجناح مخصص لكبير وزراء قيصر.
فأسأله في صوت رزين: وأين إذن أجد قيصر؟
اذهب إلى القاعة الكبرى، وهناك فلتسأل كبير التشريفات.
وأقلب الورقة التي كتبت فيها شكواي بين يدي، وحين أفرغ من قراءتها - للمرة الواحدة بعد المائة - يعاودني الأمل في لقاء قيصر، لكني أصحو على أصوات تناديني من خلفي: أيها الرجل، أيها الرجل!
فألتفت لأجد جماعة من الحراس يتقدمون نحوي، وأجفل لرؤيتهم، وتطرف عيناي إذ تقع على ملابسهم المزركشة بالألوان الحمراء والزرقاء، ويقبض واحد منهم على ذراعي ليقول لي: إنا نبحث عنك منذ ساعات.
فأقول لهم: وأنا أيضا أبحث عن قيصر!
فيعتذر إلي حارس طويل القامة في أدب رقيق: لقد أخطأنا حين تركناك تدخل القصر، فأتعلق بثيابهم وأنا أستنجد، ألست رجلا من الشعب! - نعم ... ولكنه يريد رجلا آخر!
وأعود معهم أشق ردهات القصر، وأعبر دروبه، وأجوز قاعاته، وأتفرج على بدائعه وكنوزه.
ويلاحظ الحراس أن رجلي أصابهما الوهن، فأنا أعرج بهما، وأنني في حاجة إلى الراحة بعد جهد المسير، أنا ما زلت في موقفي على أفريز هذا الشارع، ها قد انقضت ساعات الظهيرة، ولا بد لي من أن أرى قيصر، سمعت أناسا يهتفون وتبح أصواتهم، بعضهم يقول: إنه قد رأى الموكب، وهو يعبر الحي القريب، ولكن عاقته الجماهير المتدافعة عن مسيره، والبعض الآخر يؤكد أنه قد سمع الأبواق على طول الطريق، وهي تؤذن بقدوم قيصر، وفريق ثالث يقسم الأيمان على أنه قد شاهد العربة الإمبراطورية وهي تخطر في الطريق كالعروس الجميلة في ليلة الزفاف، ثم يعتذر عن تقصيره في الوصف قائلا: إن أحكم حكمائنا، وأبلغ شعرائنا لن يستطيع أن يصف لكم روعة الموكب الإمبراطوري، ونتحرق نحن شوقا إلى رؤية هذا الموكب ، وقد يحلم بعضنا بالذهب يتناثر من يدي قيصر على جانبي الطريق، وقد يطعم الجياع في طعام هنيء يأمر به قيصر، والحفاة في أحذية جديدة يوصي بصنعها قيصر، والمظلومون في العدل الذي يأمر به قيصر، لكن الشمس تغرب، والشفق يصبغ بحمرته الدامية وجوهنا الشاحبة كشحوب أنواره، والأصوات التي كنا نتصور أنها تصم آذاننا أصبحت موجات من الصدى، تنغمها الريح في الفضاء، وفريق منا أضناهم التعب فانصرفوا إلى بيوتهم، وهم يعدون أنفسهم برؤيته في زمن قريب، أما أنا فأقلب بين يدي الورقة التي كتبت فيها شكواي، ودفعت عليها رسم الضريبة، وأقول في نفسي أفلا يصدق الحلم فأجثو أمام قيصر، وأقبل قدميه وأبكي!
يا ظل الله في الأرض!
لم لم يعبر بي موكبك؟
يا سيد البحار والأراضي!
أنا أنتظر موكبك!
ألن يأتي هذا اليوم في عمري أبدا؟
أنا لن أذهب إلى بيتي كما فعل غيري، فسوف أنتظر، وأنتظر، إلى صباح الغد، وبعد الغد، وأيام المستقبل كله.
على هذا الجانب من الطريق سأسمر رجلي الضعيفتين حتى أسمع الأبواق تنفخ من بعيد، والرعية الأمنية تهتف، والعربة التي تجرها الجياد المطهمة تسير أمامي، عندئذ سأمرق وسط الزحام، وأشق السياج المتين الذي يطوق قيصر، وأقف بين يديه، وألقي عليه بشكواي، حقا إن شكواي طويلة مستفيضة، ولكن قيصر لن يسأم منها، سيأمر بوقف الموكب ليراني.
سيوصي بإخماد كل الأصوات ليسمع صوتي.
وبعد أن أفرغ من شكواي التي ستستغرق أياما وأياما سيميل على أذني، ويسر إلي بهذا السؤال: من أنت أيها الرجل المسكين؟
فأرفع إليه عينين تملؤهما الدموع، وأقول: أنا رجل من شعبك الأمين يا مولاي.
فيميل على أذني للمرة الأخيرة ليقول لي في حنان عظيم: يا أقرب الناس من قلبي.
انتظر حتى أراك في موكبي التالي.
ولكن متى يمر الموكب؟
ومن أين؟
من الشارع الآخر؟
لا! في مدينة أخرى؟
لا؟ في عالم آخر؟
أحقا أنني لن أراه أبدا؟!
مولانا السلطان
طردوني من المسرح، لم يكتفوا بطردي، شتموني ولعنوا وجودي، لم يكتفوا بهذا أيضا، صفعوني على وجهي وعيني وركلوني بالأقدام، قالوا لي: إياك أن تضع رجلك على عتبة المسرح، إياك وإلا قطعنا رأسك ورميناه للكلاب.
أنكروا العيش والملح الذي أكلناه معا عشرين عاما، في عز الليل والناس نيام كسروا عظامي وأغلقوا ورائي الباب، لم يشفع لي الجري والتعب وسهر الليالي والبهدلة في بلاد الله، حتى الجمهور الذي أفنيت عمري في خدمته لم يشعر بحالي، فقد كنا كما قلت في عز الليل، بعد أن انصرف الناس وأسدلت الستار.
هل أحكي لكم الحكاية من أولها؟
كان ذلك منذ عشرين عاما أو يزيد، حين انضممت إلى فرقة «الفنون العالمية»، أقول انضممت وأعترف بما في هذا القول من مبالغة، فلم أكن أعرف شيئا عن التمثيل، ولا جربت الوقوف على المسرح، كنت أيامها أبحث عن عمل، أي عمل، فبعد أن سقطت في الابتدائية أربع مرات، يئس مني أبي وقال: يحرم عليك بيتي حتى تبحث لك عن عمل، جربت ألف صنعة وصنعة، تسكعت في الشوارع، نمت في الحدائق والجوامع، اشتغلت صبي نجار وسمكريا وشيالا في السكة الحديد، وعتالا بالأجرة وملاحظ أنفار، وفشلت فيها جميعا، عشت مع النشالين والبلطجية والقوادين، ولم أفلح في أن أكون نشالا أو بطلجيا أو قوادا، حاولت أن أنتحر ثلاث مرات - محاولات غير جادة بالطبع - بالزرنيخ والأسبرين وصبغة اليود، ولكنهم كانوا ينقذونني في كل مرة، وحين رأيت الزفة تسير في مولد سيدي إبراهيم، معلنة بالطبل والمزمار والصياح عن فرقة الفنون العالمية، قررت أن أكون ممثلا، مشيت معهم في الزفة، زعقت بأعلى صوتي وتشقلبت كالقرود، وملأت وجهي بالدقيق كالبهلوانات فأحبوني، وذهبت معهم إلى مدير الفرقة وقلت له: أريد أن أمثل معكم، ابتسم حين رآني أمامه ثم مسح على وجهه وقال: الإرادة لا تهم، المهم أن تكون ممثلا، لم أفهم فصحت من جديد: أريد أن أمثل معكم! قال بعد أن قطب جبينه: المهم هو الموهبة، ماذا تستطيع أن تمثل؟ قلت: أمثل دور رجل يموت (كنت قد رأيت الموت بعيني أكثر من مرة، وجربت أثر السكاكين في بطني عندما كنت أحاول الانتحار)، قال ضاحكا: طيب فرجنا على شطارتك. فارتميت على الأرض وبدأت أتأوه وأئن، وأمد ذراعي إلى الأمام والخلف، وأرسم على وجهي كل ما أستطيع من علامات الألم، ويظهر أنني كنت ساذجا في التمثيل؛ إذ سمعت المدير يقول: هل تموت أم تتثاءب؟ قم رح لحالك! تشنجت وتأوهت في هذه المرة تأوها يقطع القلوب، وقلت وأنا أبكي: في عرضك يا سعادة المدير، جربوني ولو ليلة واحدة، قال غاضبا: ليس في روايتنا أحد يموت، إلا إذا وافقت على أن تقطع رأسك كل ليلة، صرخت: تقطعوها أو لا تقطعوها، أي دور يا سعادة المدير.
ضحكوا علي وضربوني على قفاي، وحين جلسوا للعشاء عزموا علي واعتبروني واحدا منهم، ورفع المدير صوته وقال: سنعملك حاجبا على باب السلطان، كلما رأيته داخلا المسرح هتفت بأعلى صوتك: مولانا السلطان. فهتفت بصوتي الجهوري: حاضر يا مولانا السلطان! قال في غضب وسط ضحك الممثلين الذين غرغرت عيونهم بالدموع: لا، من غير حاضر، مولانا السلطان فقط، تقولها كل ليلة عشر مرات، وبالنهار تمشي مع زفة الإعلانات وتجذب الجمهور للرواية، ولا مانع عندي أن تهتف بدورك ألف مرة، ليلتها اتفقنا وكان ما كان، عرفت أن الرواية اسمها «هارون الرشيد أو نكبة البرامكة»، رواية من ثلاثة فصول يمكن على حسب الأحوال أن تصبح اثنين أو أربعة أو حتى خمسة، ومنظر واحد لا يتغير، قاعة العرض يمثلها كرسي فخم، هو كل ما تملكه الفرقة، ووراءه منظر بيوت وقباب، المفروض أنها مدينة بغداد، وسجادة دابت ورقعت ألف مرة من كثرة ما مشى عليها الزمان، وسيف قديم لو دقق الجمهور النظر فيه لرأى الصدأ الذي يملؤه، يمسكه العبد مسرور ويخطر به على المسرح، ويقطع رقبة جعفر ويقدمها لهارون الرشيد في آخر منظر على صينية من النحاس، وصندوق من الخشب رسم عليه سبع يمسك بيده سيفا، يمتلئ بعباءات الممثلين وطراطيرهم وبلغهم ولحاهم المستعارة أيضا، ننقله معنا من بلد إلى بلد، ومن مولد إلى مولد يجلس عليه الوزراء والعظماء بين يدي السلطان، وينام عليه السلطان نفسه بعد أن يسدل الستار!
عشرين سنة قضيتها معهم، بالطبع ليس من الواجب أن أتحدث عنهم بضمير الغائب، فقد عرفنا بعضنا وأكلنا العيش والملح مع بعضنا، ودخنا من الصعيد الجواني لوجه بحري على رجل واحدة، في عز الحر وفي عز البرد، في عربات السبنسة وعلى العربات الكارو، في الموالد، وفي الأفراح، في الجوع، وفي العطش، بالليل وبالنهار. علي السبع هو مدير الفرقة وصاحبها ومؤلف الرواية، وموزع التذاكر ومؤدب الجمهور إذا لزم الأمر. كان جزارا في شبابه وهوي التمثيل، من كثرة ما شاف في السيما وسمع في الراديو وحفظ من عنترة وأبو زيد، الفن حكم عليه أن يرمي السكين ويمسك صولجان الخلافة، يترك رقاب العجول والخرفان ويأمر بقطع رقاب البرامكة، ومسرور السياف كان بوابا من النوبة وتاب، زهق من القعدة طول النهار لا شغلة ولا مشغلة، قامت في مخه يمثل ويقف على المسرح، لا يوسف وهبي ولا علي الكسار في زمانه، جاره أبو السباع قال له تقعد في الشمس، ولا تقطع الرقاب؟ قال له: أقطع الرقاب، قال له: طيب شف لك سيف وتعال معي. وجعفر الزبال - واسمه الحقيقي جعفر - حكم عليه الزمان أن ينضم للفرقة، ويقدم رأسه في آخر كل ليلة لمسرور السياف، إنه يصرخ طول الرواية ويسترحم، ويثبت بألف دليل ودليل أنه بريء، ولكنه يقدم رأسه في آخر الليل، لا يقدمها بنفسه بالطبع، بل يقدمها مسرور السياف على صينية النحاس، وهو ينحني أمام كرسي العرش ويقول: رأس الخائن جعفر يا مولانا السلطان!
أما أنا فأقف على المسرح طول الرواية، ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، على حسب الأحوال كما قلت، وعلى حسب عدد الجمهور، ورواج الإيراد. يمكنكم أن تقولوا: إنني في الحقيقة لم أكن أصنع شيئا سوى الوقوف على رجلي، والصياح بملء صوتي الذي يعرفه الناس من أقصى الصعيد إلى أقصى وجه بحري: مولانا السلطان! صحت بها وأنا شاب في العشرين وصحتها وأنا في الأربعين، في المدينة وفي القرية، في الأفراح والموالد، عندما كنت صحيحا وعندما بدأ المرض يدب إلى جسدي، كانت تخرج قوية من حلقي، لا بل من صدري كله، تزلزل أرجاء المسرح الخشبي الصغير، وترج الصالة، وتهز القلوب، يظهر بعدها السلطان في أبهته وجلاله، فيجلس على كرسي العرش، ويستمع إلى الوزراء والعلماء، ويداعب زبيدة وقوت القلوب، ويفرح بغناء الجواري أو يغضب حين يسمع ما يرويه له الوزراء ورجال البلاط عن خيانة جعفر وفتنه، يظهر على المسرح فيستقبله صوتي الرنان: مولانا السلطان! كلمتان اثنتان، لم يكن لي أن أزيد عليهما كلمة واحدة، فما كان دوري - دور الحاجب - ليسمح بأكثر منهما، ومع أنني كنت أبذل كل ما أستطيع في القيام بدوري على خير وجه، فأتقنت مع الزمن تأدية الحركات التي تلازم هاتين الكلمتين، من مد الذراعين على آخرهما، وتطويح الرأس إلى الخلف، وحشر كل معاني الرهبة والإجلال في نبرات صوتي الجهوري، فلم يكن يزيد عن قولي: مولانا السلطان. ومع أنني كنت أساعد في تجهيز المسرح قبل بدء العرض، وأحمل الديكور الوحيد إلى مكانه في خلفية المسرح، في الواجهة وعلى اليمين، وأستعجل الممثلين بل أساعدهم في بعض الأحيان على ارتداء ملابسهم، وربما أيضا على حفظ أدوارهم، ومع أنني كنت أنظم زفة الموكب الذي يقوم بالإعلان للرواية في الشوارع، وأشارك فيها بالرقص والغناء والهياج والشقلبة إن اقتضى الأمر، وأبتكر في ذلك كله ابتكارا يشهد به العدو قبل الصديق، مع أنني كنت أفعل ذلك فلم يكن يسمح لي بأن أزيد على هاتين الكلمتين كلمة واحدة، وتستطيعون بالطبع أن تتصوروا مدى حزني وضيق صدري على مر الأيام، صحيح أنني كنت سعيدا بذلك الدور متمتعا بالوقوف على المسرح كل ليلة أطول مما يقف أي ممثل آخر، مغتبطا بلقب «ممثل» الذي يطلقه علي زملائي في العمل، بل أفراد الجمهور الذين كان يحدث أن ألتقي بهم في الشوارع أو على المقاهي ويتذكرونني، وصحيح أيضا أن عظمة الدور لا تقاس بعدد الكلمات التي يقولها الممثل على خشبة المسرح، كما أن أهميته لا تحسب بحساب الحركات التي يؤديها عليه، إلا أنني مع ذلك كنت قد بدأت أستشعر شيئا كالحزن أو خيبة الأمل يزحف على قلبي كل ليلة، بل أصارحكم بأنني كنت قد بدأت أسأل نفسي الأسئلة التي لا يجوز أن تخطر على بال ممثل حدد دوره من قبل: إلى متى أظل على هذا الحال؟ لماذا لا يتيح لي أبو السباع دورا أكبر؟ وإذا كان من المستحيل أن أقوم بدور جعفر أو مسرور أو أحد الوزراء أو العلماء - بالطبع لم يكن يدور بخاطري أن أقوم بدور السلطان نفسه، فذلك هو رابع المستحيلات! - فلماذا لا يسمح لي ببضع عبارات أضيفها إلى الكلمتين اللتين عهد إلي بهما؟ لماذا لا يضاف مثلا أحد المناظر - حتى ولو كانت ثانوية ولا تؤثر على مجرى الرواية أدنى تأثير - يتاح لي فيها أن أظهر براعتي وأثبت أنني أستطيع أن أضيف شيئا إلى دوري الذي لا شك في أهميته، ولكن لا شك أيضا في ضآلته؟
بمرور الأيام رحت أفكر في ذلك تفكيرا جديا، بدأت أعلن سخطي هنا وهناك، في صورة ملاحظات تافهة في أول الأمر، أخذت تتطور بعد ذلك إلى ما يشبه التمرد والعصيان، كنت أغتنم الفرص لأختلي بجعفر ومسرور، كل على حدة، بعد أن ينتهي التمثيل ونتهيأ للنوم، أو نتجول في الشوارع، أو نشرب الجوزة في أحد المقاهي، كنت أتوسط عندهما لكي يشفعا لي عند أبو السباع، وأزن عليهما بأن المسألة طالت أكثر مما ينبغي، وأن على السلطان أن يسمح لحاجبه ولو مرة واحدة في حياته، ولو في عرض صغير في قرية صغيرة منسية، بأن يظهر براعته في التمثيل، ويقول جملة أو جملتين من نفسه، وقد استطعت مع الزمن أن أجذبهما إلى صفي، وأضمن عطفهما على قضيتي، التي أصارحكم بأنها كانت في ذلك الحين أشبه بما يسمونه في هذه الأيام بقضية حياة أو موت. كانت المشكلة الوحيدة عندهما هي ماذا عسى أن أضيف إلى ندائي المشهور، فأنا لست مؤلفا ولا يمكن أن أدعي ذلك، ولا بد في مثل هذه المشكلة أن يتولاها بنفسه مدير الفرقة، وصاحب المسرح والمسئول الأول والأخير عن الرواية، فمن غير الجائز بالنسبة لفرقة تحترم نفسها وتحترم جمهورها، أن يقف أحد الممثلين ويرتجل كلاما أي كلام على خشبة المسرح؛ إذ ماذا يفعل أبو السباع يا ترى؟ وماذا يكون وقع هذه الكلمات عليه، وحتى إذا فرضنا أنه لم يغضب ولم يثر ثورته المألوفة، فماذا يكون موقفنا أمام الجمهور؟ وإذا حدث وتلجلجت أو اختلط الأمر على السلطان، ولم يعرف بماذا يرد علي، فماذا تكون الحال يا ترى؟ مشاكل عويصة بالطبع، حاولت أن ألتمس لها الحلول من كل طريق، ويظهر أن الإنسان مخلوق لا ييأس بطبعه - فمجرد أنه يتنفس دليل على أنه لم ييأس بعد تماما! - وأنه في بعض الأحيان يصل به الطيش إلى حد أن يخاطر بكل شيء في سبيل نزوة طارئة، يخيل إليه أنها الشعرة التي تفصل بين وجوده وعدمه، المهم أنني كنت قد يئست من أن أفاتح أبو السباع بنفسي في ذلك الأمر، كتمت في نفسي وقلت: أنتهز فرصة مناسبة وألقي بقنبلتي على المسرح، فإما أحرقتني ومن معي، وإما تطايرت معها في السماء وأصبحت أعظم ممثل في فرقة الفنون العالمية.
وقضيت السنوات الطويلة أفكر في مسألتي، كان لا بد أن أضيف شيئا إلى مولانا السلطان، جملة أو جملتين أو عدة سطور، كانت المسألة في نظري قد انتهت وتقرر الأمر، لا بد من أن أقول شيئا وليكن ما يكون! وجاءت مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان، ماذا ستكون هذه العبارة؟ وهل تناسب الجو الذي ستقال فيه أم ستكون شاذة عليه؟ هل تحوز قبولا لدى السلطان هارون أم سينفر منها وبغضب، وربما يهجم علي ويقبض على رقبتي؟ وإذا أغضبته فهل تحوز رضا الجمهور؟ إنها إن فعلت فلن يهمني بالطبع أن يسخط السلطان أو يرفض، فإسعاد الجمهور، كما يعلم كل ممثل على ظهر الأرض، هو هدفنا الأول والأخير، أم يا ترى سيتلجلج السلطان وينسى الدور الذي حفظه، ويرتبك ويشعر الجميع بارتباكه؟ ورأيت بعد طول تفكير أنه لا بد من استبعاد هذا الاحتمال الأخير، فالملقن سيبادر بغير شك إلى مساعدته، ومن حسن الحظ أن الملقن دائما ما يكون هناك، إذن فلأتوكل على الله وليكن ما يكون!
وجاءت مشكلة أخرى: ماذا سأقول؟ لا يمكن بالطبع أن أرتب دورا طويلا يستلزم الأخذ والرد، كما يستلزم استعدادا سابقا ومرانا طويلا عليه، ثم إنني لا أستطيع أن أرتب هذا الدور من طرف واحد، وإلا لزم أن يخرج السلطان على الفور من المسرح ويتركني لأحدث نفسي، إذن فلا بد أن تكون عبارة أو عدة عبارات أضيفها إلى كلمتي القديمتين، ولكن أي عبارة؟ هل أقول مثلا: م. - مولاي السلطان (لاحظ أنني قلت مولاي لا مولانا واعتبرت المسألة بذلك شخصية إلى أبعد حد!) لماذا حكمت علي بهذا؟ - عبارة سخيفة بغير شك، فهو أولا لم يحكم علي بشيء؛ لأنني أنا الذي سعيت إلى الالتحاق بالفرقة، وإن لم أكن بالطبع قد سعيت إلى هذا الدور بالذات، ثم بماذا يستطيع أن يرد علي؟ وهل من المعقول - وليكن معلوما أن كل جهودي ليس فيها أي اعتراض على هذا الدور - أن يتحدث الحاجب إلى سيده وسلطانه، ويوجه إليه مثل هذا السؤال؟ أم يخاطبه - وسيفاجأ بالطبع بذلك في كل الأحوال - قائلا: مولاي السلطان، هل تسمحون لي بأن أقول لكم.
ولكن ماذا أقول له؟ هنا تأتي المشكلة.
إن كل ما سمح لي بقوله هو: مولانا السلطان.
أقولها بصوتي الجهوري، وأمد فيها وأجود كما أشاء، ولكنها تظل محايدة، بعيدة عن كل علاقة شخصية، ثابتة ورزينة كحكم يتلى في المحكمة، ثم ماذا عندي لأقوله له ستقولون أشكو له حالي، ولكن لماذا أشكو الآن بعد هذا العمر الطويل؟
وهل يستطيع هو نفسه - وهو في نهاية الأمر ممثل يقف على خشبة المسرح كل ليلة كما أقف - أن يغير من الأمر شيئا؟
قضيت السنين كما قلت أفكر فيما سأقوله لأبو السباع، لا بل فيما سأفاجئه به، في ليلة رهيبة كنت أعلم تماما أنها ربما كانت آخر ليلة على المسرح، وربما كانت بداية مجد جديد يكتب لي فيها الحظ من السماء، كنت قد بدأت أشعر بدبيب الشيخوخة في جسدي، بالشعرات البيض تلمع واحدة بعد الأخرى في رأسي ، بالتعب يزحف على روحي، ويظهر أن هذا الشعور ، إلى جانب النزوة الطائشة التي كانت قد تحكمت في، والتي حكيت لكم عنها من قبل، هما اللذان أوعزا إلي أن أنتهي إلى عبارتي التي فكرت فيها طويلا، حتى كدت أنا نفسي أصبح حرفا أو نقطة فيها. (ومن حسن الحظ أن مسرور السياف وجعفر بل السلطان نفسه، لم يلاحظوا في السنوات الأخيرة أنني كنت أكثر من الحديث مع نفسي، وأنني كنت أقف على المسرح شبه غائب عن الوعي، وأن صيحتي المألوفة كانت تأتي قبل موعدها أو بعده، بل إنني نسيت عدة مرات أن أهتف بها بالمرة.)
المهم أنني وقفت أخيرا على المسرح، وجاءت اللحظة التي أقول فيها كلمتي الخطيرة، كان ذلك ليلة الأمس كما قلت لكم، ولست في حاجة إلى أن أقول إنني على الرغم من تعبي ودقات قلبي المتلاحقة، قد جمعت كل شجاعتي على طرف لساني، وقذفت بها مرة واحدة في وجهه، بغير ضعف ولا صراخ ولا رغبة ظاهرة أو خفية في البكاء أو العفو والاستغفار، لم يكد السلطان يجلس على كرسي العرش في أول الرواية، حتى تركت مكاني المعتاد على الباب الأيمن من المسرح ووقفت أمامه، قلت: مولاي السلطان!
ورفع أبو السباع رأسه الضخم الأصلع إلي، ولاحت على شفتيه الجافتين شبه ابتسامة، وفي عينيه الراضيتين شبه استغراب، فتقدمت أكثر وألقيت بنفسي على ركبتي، وأنا أهتف: مولاي السلطان! هل تسمحون لي بأن أقبل قدميكم؟!
ونهض السلطان واقفا، في جلال يعرفه الجميع عنه انحنى ووضع يديه على كتفي (يظهر أنني كنت قد نسيت نفسي!) وقال: «قم يا بني، قم وخذ جزاءك من عبيدي.» وأشار بإصبعه الذي يلمع فيه خاتم ذهبي مرصع بفص من الفيروز إلى مسرور السياف، فأسرع وجذبني معه إلى الخارج، لا أدري إن كان الجمهور قد هاج وثار أم ضحك وزاط، أم لبث هادئا ولم يلاحظ شيئا (فمن حسن الحظ أن الجمهور في كل ليلة غالبا ما يكون غيره في الليلة السابقة). المهم أنني كنت أنتظر جزائي في الخارج.
بعد أن قلت كلمتي نلت جزءا منه، والباقي بعد أن انتهت الرواية، ألم أقل لكم: إنهم تجمعوا حولي وصفعوني على وجهي وركلوني بالأقدام؟ ألم أقل لكم إنهم طردوني من المسرح؟!
القلم
ضربوني يا سعادة البيه، والله يا سعادة البيه ضربوني، أولاد الحرام اتلموا علي، هجموا علي في عز الليل، كنت في حالي لا بي ولا علي، نزلوا علي ضرب، بهدلوني، نعم؟ أحكي الحكاية لسعادتك؟ من الأول؟ الله يعمر بيتك ويوقف لك أولاد الحلال، ينصرك على الظالم ويرزقك برزق عيالك، نعم يا سيدنا الأفندي؟ من هم؟ ناس ظلمة بعيد عنك، اتلموا علي وضربوني، هجموا علي من الباب للطاق، قلم وراء قلم، آه وحياتك عندي، نزل يرف على أصداغي، لا عمري شفتهم ولا كلمت أحدا منهم، أي والله يا سعادة البيه، لا مؤاخذة؟ أقول الحكاية من الأول؟ أدخل في الموضوع على طول؟ حاضر يا سعادة البيه، على عيني وراسي، ربنا يعمر بيتك ويوقف لك أولاد الحلال، قلت لسعادتك: إنهم ضربوني، هم من؟ ناس أولاد حرام بعيد عنك، أقول الأول أنا من؟ اسمي وبلدي وصنعتي؟ أمرك يا سعادة البيه، والأمر كله لله.
اسمي عبد الموجود.
عبد الموجود من؟
محسوبك عبد الموجود بن عبد الموجود، أي والله وحياة مقامك عندي، لا مؤاخذة من الصعيد الجواني، البلد؟ مركز جرجا يا سعادة البيه، رجل على قد حالي، يوم هنا ويوم هناك وكلها أرض الله، يوم فلاح ويوم بياع فجل ويوم شيال على ظهري، ويوم أشتغل وعشرة من غير شغل، وكلها لقمة عيش والرزق كله بالله، تركت الولية والعيال في البلد، وقلت: أسعى على باب الله، أصل لقمة العيش تحب التعب والشقا، إنما الأرزاق كلها ولا يخفى على سعادتك على الله، أدخل في الموضوع؟ ما هي الحكاية؟ حاضر يا سعادة البيه، ما أنا قلت لسعادتك أنهم ضربوني، أي والله هجموا علي وضربوني، أولاد الحرام اتلموا علي وبهدلوني، كنت في حالي لا بي ولا علي، في عز الليل والدنيا ساكتة والناس نايمة في بيوتها، وأنا ماشي في حالي لا أكلم أحد ولا أبص لأحد، بصيت لاقيتهم من بعيد ، جماعة بهوات محترمين، كانوا مفرفشين ومبسوطين وضحكهم يصحي النائمين، قلت يا عبد الموجود لازم راجعين من السيما، الله يلعن السيما وسنينها، من يوم ما دخلت البر والناس بقى حالها غير الحال، تعلموا السهر وطلع من قلوبهم الإيمان، أنا قلت في سري: ما لك يا ولد ومالهم، شبان ورائقين وربنا يمتعهم بشبابهم، ربنا قادر على كل شيء، ومصيره يصلح حالهم ويهدي قلوب المسلمين، قربوا مني قلت أبعد عنهم، فاتوا من جنبي قلت اللهم فوت الليلة على خير، تغامزوا وتلامزوا قلت اللهم اخزك يا شيطان، فرقعوا بالضحك والقهقهة قلت جمد قلبك يا عبد الموجود، أنت في حالك وهم في حالهم، وكل واحد وله طريق، وقفوا ورائي قلت في عقل بالي مصير كل حي يروح في حاله، سمعت واحد منهم ينادي علي: إنت يا رجل يا فلاح! أقول الحق قلبي سقط في رجلي، بصيت ورائي وأنا أرتعش، جمدت قلبي وقلت: نعم يا سيدنا الأفندي؟ نادى علي وقال: تعال هنا! قلت وأنا ركبي تنتفض: أيها خدمة يا سيدنا الأفندي؟ وقفت قدامه في أمان الله لقيت القلم نزل على صدغي قلت: آه! تقول ترماي وصدمني! آي وحق من أحياني، جئت أتكلم كان القلم الثاني حصله، تقول كرباج ولسعني، سكينة وانغرزت في عيني؟ سعادتك تضحك، آي والله يا حضرة البيه، يمكن صحيح حاجة تضحك، لكن أنا لقيتني من غير مؤاخذة دخت ودماغي لفت وعيني زغللت، ما عرفت رأسي من رجلي، الأفندية ضحكوا وهللوا واتلموا علي، واحد يشد هدومي، والثاني يلطمني على قفاي، والثالث يناولني بالشلوت، حتى دقني شدوها وضحكوا عليها، وأنا ولا يخفى على سعادتك، رجل كباره وصاحب عيال، أي والله صاحب عيال، يمكن قدهم أو أكبر منهم، صحيح لا عمري لبست بذلة ولا دخلت مدارس، لكن رجل كبير ومخلف عيال.
يا ناس عيب! يا ناس أنا رجل كبير، رجل على باب الله، هو الغلبان كفر يا ناس؟ يا أفندية حرام عليكم، الدنيا ليل والناس نايمة في بيوتها ، يا ناس بلا ضرب وبلا إهانة.
يعني ما لقيتم غيري تضحكوا عليه، آه! آه! الأقلام دوختني، الشلاليت هدت ظهري، شلوت من اليمين وقلم من الشمال، رفسة في البطن وهبدة على الدماغ، قل وقعت على الأرض.
تقول لا مؤاخذة عجل وكترت عليه السكاكين؟ عددهم كم؟
والله ما أعرف يا سعادة البيه، قل ستة قل سبعة.
يمكن أكثر يمكن أقل، ربنا وحده يعلم، كل واحد منهم مثل الحصان، صحة وشباب وأبهة، ناس محترمين أولاد ناس محترمين صحيح، استفرسوا في وعملوني مسختهم، نعم؟ السبب في ضربهم لي؟ بس لو كنت أعرف، لو كان أحد دلني عليه! القصد، وقعت جاءت وقعتي بعيد عنك سوداء، الأفندية بعد ما ضحكوا وانبسطوا راحوا لحالهم، تمددت على الأرض والدم يشر مني، من عيني أو من راسي، ربنا وحده أعلم، بحر وغرقت فيه ولا من سمع ولا من دري، الشارع اسكت هس، لا فيه كبير ولا صغير، حتى العسكري ناديت عليه ما أحد رد علي، تهت وغبت عن الدنيا وما فيها، لا أحد سأل عني ولا أحد رأف بحالي، قل ساعة قل اثنتين رجعت لعقلي، لقيت الفجر شقشق والديوك صيحت والطير على الشجر وحد الخالق، قلت: يا ولد تروح لمن وانت هنا غريب، غريب يا ولداه لا أحد يعرفك ولا أحد عمره سأل فيك، الناس صحت وقامت تسعى على رزقها، والطير صحى وقام يجري على قوته، والترماي مشى في الشوارع، أنا قلت: يا ولد تروح القصر العيني، الحكما يربطوا لك دماغك، قل جئت على نفسي رحت على هناك، قطعت التذكرة ودخلت.
الحكيم كان رجل طيب مثل سعادتك، ربط لي عيني ودماغي وسألني عن اللي حصل، قلت له: ربنا يجازي أولاد الحرام، ضربوني وبهدلوني وضحكوا علي، حتى القلم ما زال معلم على صدغي، ضحك، الله يعمر بيته وسألني: تعرفهم؟ قلت له: والله لا عمري شفتهم يا سعادة البيه، ولا كان بيني وبينهم تار.
نادى على العسكري قال: خذه على البيه المدير الكبير واعمل له اللازم، قل رماني في الشارع جئت على هنا، لقيتني في مكان ما وقعت، مثل ما قلت لسعادتك كده، حكيت لك على الحكاية، ربنا ينجيك من أولاد الحرام، حاجة ثانية؟ لا والله يا سعادة البيه، لن أتهم أحدا، أولاد الحرام طبعا وسعادتك سيد العارفين، وربنا مصيره ينتقم منهم، أقول لسعادتك على اسمهم؟ وأنا أعرف أحدا منهم يا سعادة البيه؟ أولاد الحرام منهم لله يخلص منهم، تشطروا على رجل في حاله، كتموا على نفسه، أهانوه وضربوه، حتى القلم معلم على صدغي، آي والله! شفت سعادتك؟ لا تقول أني كذاب لا سمح الله، وحياة مقامك عندي يا سعادة البيه، تقول ولا بصبوص نار؟ تقول كرباج ولسعني ولا فاس قسم وجهي نصفين؟ خلاص؟ سعادتك تقول روح للقسم؟ أقدم بلاغ فيهم؟ نعم؟ وسعادة الشاويش يبعثه لسعادة القاضي؟ قاضي من؟ تقول يقيدوه ضد مجهول؟ طيب شفت حضرتك الرباط على عيني ودماغي، يعني يرضيك يضربوني ويتقيد ضد مجهول؟ بقى القلم معلم على صدغي ويقيدوه ضد مجهول؟
التابوت
أخيرا زرت المتحف يا عبد الموجود، زيارة كان نفسك فيها من زمان، آخ يا دماغي! لا بد أن عندك حمى، رأسك ساخن، مفاصلك ترتعش، والنبض أيضا سريع، من أربعين سنة وأنت تحلم بهذه الزيارة، هل تذكر يوم ذهبت لأول مرة في رحلة مع المدرسة؟ كنت أيامها بالبنطلون القصير يا عبد الموجود، والمدرس أيضا كان قصيرا، ومن الذي لا يبدو قصيرا أمام تمثال رمسيس؟ والأسماء الكثيرة ما زلت تذكرها، ولكن في أي دولة هي؟ دماغي ستنفجر.
أين الثلج الذي وضعته زوجتك إلى جانبك؟ على الكرسي أم على المكتب؟ آخ! بل هو على رأسك، ومع ذلك فأين ذهب؟ لا بد أنه الآن يغلي، يا لطيف! خوفو وخفرع وأحمس الشجاع وأخناتون النحيف المسلول، لكن الأيام تمر، والسنين تمر، والأتوبيس يمر كل يوم على المتحف، لكنك لا تنزل منه، لا تنزل منه يا عبد الموجود، المتاحف خلقت للسواح، وزوجتك عندها شغل في المطبخ، والأولاد يلزم لهم ملابس للشتاء، والدوسيهات لا بد أن تراجعها بالليل، وعيشة الدنيا تعب، عيشة الدنيا تعب يا عبد الموجود.
اليوم هو الجمعة؛ لأنك خرجت من المتحف على الصلاة، القاعة كانت مزدحمة يا عبد الموجود، ودفعت فيها خمسة وعشرين قرشا، والسواح كانوا في كل مكان، حمر وبيض وعيونهم خضر وشعرهم أشقر وطويل، والصناديق الزجاجية كانت مرصوصة إلى جانب بعضها، عشرة عشرين ثلاثين، شبان وعجائز ونساء، وأحمس شعره ما زال هناك، الغريبة أن شعره أصفر، أصفر مثل شعر الإنجليز، والجلد ما زال على حاله، وحتى الأسنان، والشابة التي على اليمين فيها ملامح من زوجتك، وجهها عريض، عظم خديها بارز، بشرتها سمراء، الابتسامة لا تزال على شفتيها، لا بد أن دمها كان خفيفا، والصلاة وجبت يا عبد الموجود، والجامع كان على آخره، وفرشت الجرنال على الرصيف، آخ يا دماغي! الشمس كانت تلسع، الشمس هي السبب، وأحمس أسنانه لا زالت تلمع، والبنت السمراء لا زالت تبتسم، من ثلاثة آلاف سنة؟ أو أربعة آلاف؟ أو حتى خمسة؟ من يدري يا عبد الموجود؟ يحنطوك في صندوق من زجاج، والسواح تتفرج عليك؟ ويعرفونك أنك كنت موظفا في الأرشيف؟ أربعين سنة؟ أربعين سنة يا عبد الموجود؟
اليوم إجازة، أول إجازة بحق وحقيق، استرح لك يوما يا عبد الموجود، يوما من نفسك! أربعين سنة وأنت تعمل مثل الحمار، أربعين سنة وأنت تصحو من النوم، وتجري على الديوان، وتجلس على المكتب، وتفحص البوستة، وتسرك الجوابات، وتفرز الصادر من الوارد، أربعين سنة وأنت تشرب الشاي وتأكل الفول، وتقرأ الجرنال، وتقف زنهار أمام الرئيس والمدير، أربعين سنة وأصبحت على المعاش يا عبد الموجود؟ الشمس كانت نار، وقاعة المومياء ملآنة بالتوابيت والسواح شعرهم أشقر وعيونهم خضراء، شباب وصحة وملك صحيح، وأحمس راقد على ظهره، والبنت السمراء أم شعر أسمر تبتسم، وتحتمس وجهه متآكل، ومكانك معهم يا عبد الموجود، مكانك معهم في الصندوق أو في التابوت.
عندما تدخل في الصباح إلى الديوان، سيكونون جميعا في استقبالك، السعاة واقفون على الجانبين، حللهم زرقاء، وجوههم المصفرة تبتسم، يقفون على الجانبين ليحيوك، أياديهم الخشنة تريد أن تمتد لتصافحك، وفي أعلى السلم ستلمح رئيس القلم ومدير الإدارة والمدير العام، نعم إنهم ينتظرونك ، ابتسامتهم العريضة ستخجل تواضعك، ولكن حاول ألا تتعثر في الطريق! لماذا الخجل يا عبد الموجود؟ ألأنك تلبس حلتك السوداء؟ ولكنهم رأوها عليك من قبل.
ألأنك تلبس قميصا جديدا، ياقته منشاة؟ ولكنه يبدو كذلك فحسب؟! أم لأنك تلبس حذاء شديد اللمعان؟
سيسلمون عليك، سيرحبون بك (حاذر فربما أخذوك بالأحضان!) سيقولون لك: كل شيء جاهز وعلى ما يرام، الأوراق منتهية، والمعاش ستقبضه بالكمال والتمام، لكن قبل الإمضاء تعال لنحتفل بك، لا تحاول أن تعتذر، فكل شيء جاهز كما قالوا، والشمس لن تلسع رأسك، ومكانك محفوظ في قاعة المومياوات.
الموكب سيتحرك يا عبد الموجود.
أنت في الوسط، المدير في المقدمة، السعاة على الجانبين، وكل شيء على ما يرام، وعندما تدخل إلى حجرة المدير - يا لها من حجرة فخمة مزدانة بالستائر المخملية والسجاد وصور المديرين السابقين وأواني الزهور والريحان - ستجد أن مكانك أيضا هناك، افتح عينيك، فكل شيء معد من أجلك.
افتح أذنيك، فالخطب التي ستتلى عليك طويلة وفصيحة، ابلع ريقك، فالمائدة مرصوصة بألوان الطعام، سوف يجلس الجميع، كل في مكانه، وسيقف السعاة، على أهبة الاستعداد، وعندما يقف المدير، سيسود الصمت، وعندها يتكلم فيقول:
المدير: أنا المدير العام.
المسئول عن هذه المصلحة ومن فيها.
في كل يوم أراجع كشوف الغياب.
ألاحظ أن يكون كل شيء في مكانه.
أن يكون كل موظف على مكتبه.
أن تشرق الشمس في موعدها.
لأنني أقدس النظام.
واليوم جئت بنفسي لأحتفل بك.
أنا الذي كنت موظفا مثلك.
ثم صعدت بهمتي ونشاطي.
من الوحل حتى لمست النجوم.
حتى أصبحت المدير العام.
ويصمت المدير ليلتقط أنفاسه.
وعندها يتكلم الموظفون فيقولون:
المجد لك.
أيها المدير العام.
يا من تسمح لقلوبنا أن تدق بانتظام.
وتراجع كشوف غيابنا على مر الأيام.
وتأذن لنا، وما أكرمك.
بأن نقبض مرتباتنا في أول كل شهر.
ها نحن قد جئنا.
اثنان وسبعون موظفا.
اثنان وسبعون بالكمال والتمام.
يا زميلنا العزيز.
أتينا لنحتفل بك.
أتينا لنودعك إلى المعاش.
هل علمت ماذا أعددنا لك؟
هل سمعت عن المفاجأة؟!
ويسكت الموظفون لأنهم لا يملكون أن يذيعوا السر الرهيب، وعندما يتحرك المدير إلى آخر القاعة التي تضيئها مصابيح النيون، ويمد يده ليرفع الستار عن الصندوق الجميل، إنه راقد هناك، كأنما وجد من الأزل، كأنه جسد امرأة بيضاء مصنوع من الفضة، غامض وساحر ومخيف، سيلمسه المدير العام بكفه، سيطوف حوله الموظفون، سيدعونك لكي تتفرج عليه، وسوف يتكلم المدير ويقول: هذا الصندوق الفخم الجميل.
لن يليق لغيرك.
لن يناسب إلا جسدك.
لن يملأه أحد - حين يتمدد فيه - سواك.
وحين تنزل فيه لتستريح.
لا، ليس الآن، ليس الآن.
بل بعد أن تأكل وتتنفس وتحمد الله.
سنهرع إليك، سنغلق الصندوق.
لن ندقه من الخارج بالمسامير.
لا تخف، ولن نغلق عليك الغطاء.
لن نلقي به في النيل.
لأنك كنت دائما في التابوت.
تحمله أينما ذهبت.
حين تلبس البذلة الكاملة.
وحين تسير بالقميص والبنطلون.
حين تجلس على القهوة وحين تتمشى على شاطئ النيل.
حين تقف أمام دكان البقال ودكان السجائر.
وحين تتزاحم في الشارع والترام والطابور.
حين تحلم بالسفر إلى بلاد بعيدة.
أو بحساب في البنك وثلاجة بدون تقسيط.
وعندما نلقي بك، لا في الماء كما أكدت لك.
فجدران التابوت تحيط بعظامك ولحمك من كل مكان.
إلى زحام الشارع المجنون.
لن تنزع إيزيس غدائرها، لن ترتدي ثياب الحداد.
وعندها يرد عليه رئيس القلم فيقول: يا أيها الموظف المحال إلى المعاش.
إيزيس الرحيمة لن تبكي عليك.
لن تهيم في شوارع المدينة بحثا عنك.
لن تسأل الرجال ولا الملاحين والأطفال.
لن تلقي بك الأمواج على شاطئ بعيد.
ولن تلتف حولك جذوع شجرة.
وعندما يكتشفونك.
لن تبكي عليك عين.
ولن ترتمي أم على التابوت.
أو تلقي بنفسها على جثتك.
أو تضع محياها على محياك.
لا ولن تقبلك ولن تجهش بالبكاء.
وحين يسكت يتقدم الموظفون فيلتفون حولك، يطوقونك بأجسادهم وأيديهم ورائحة العرق التي تفوح منهم، يودون لو يحملونك فوق رءوسهم كما يحملون خشبة النعش، ويقولون:
جوقة الموظفين: إيزيس لن تكون هناك.
لن تفتح الصندوق العجيب .
ولن تضع محياها على محياك.
إيزيس لن تكون هناك.
لن تقبلك ولن تجهش بالبكاء.
لأن أشلاءك الأربعة عشر.
لم تجمعها يد إنسان.
لم تجمعها يد إنسان.
ويتقدم المدير العام، الذي كان يقف من البداية إلى جانبك ويضع يده على كتفك، ليروي تاريخ حياتك فيقول: ساعة ولدت دوى صوت يقول: ها هو المسكين يخرج إلى النور.
لم تجد الولادة اللفافة المناسبة.
فدثرتك في الأكفان.
دثرتك في الأكفان.
وعندما جلست على الكرسي، أمام المكتب.
ورسموك بالعين والصولجان.
عندما جلست عليه، في عز الشباب.
انخسف القمر ونسيك الله.
تعلمت كيف تضغط على الجرس، وتطلب الشاي.
وكيف تخفض رأسك.
وتقول: الحمد لله.
غرقت في الملفات والدوسيهات.
تعثرت في اللوائح والقوانين والتعليمات.
كنت صاحب الجلالة أوزيريس العظيم.
تزرع الحب، تخصب الأرض.
تعلم، بغير سلاح.
تهذب، بغير تخويف.
تسحر، بغير عناء.
الآن ماذا جرى لك؟
فيجيب الموظفون كأنهم صوت واحد: تعثرت في اللوائح والقوانين.
تعثرت في اللوائح والقوانين.
من البيت إلى المكتب.
ومن المكتب إلى البيت.
يا قطرة عرق في زحام الأوتوبيس.
يا حرفا مهملا في ملف كبير.
يا أيها الزوج الشهم، والأب الكريم، والحاكم العادل.
يا أول من علم الإنسان.
يا رسول الحب والسلام على الأرض.
من الذي يجمع رفاتك المبعثرة؟!
ومن الذي يحييك من جديد؟!
ويتقدم السعاة الذين يبدو أنهم خجلوا من صمتهم طوال هذا الوقت فيقولون: عبد الموجود!
نحن السعاة المخلصون.
أيدينا الخشنة طالما حملت لك الشاي الثقيل.
طالما أحضرت القهوة للضيوف والأجانب.
في كل يوم نقف عندما تمر أمامنا.
نسألك عن الصحة والمزاج.
ننظف الملفات وننفض التراب.
نسب الدنيا ونلعن الغلاء.
نقول على الرغم من كل شيء: الحمد لله.
ونرضى بالبقشيش القليل.
نرضى بالبقشيش القليل.
وترد جوقة الموظفين: إيزيس!
أيتها الزوجة المخلصة.
أيتها الأم الرءوم.
لماذا نسيت زوجك؟
لماذا نسيت ابنك؟
المأدبة التي أقيمت لك تليق حقا بالمعاش.
ها أنت ذا يا عبد الموجود تتصدرها، والسعاة يقدمون إليك طبقا بعد طبق، اللحوم النادرة والفواكه المنتقاة تملأ رائحتها أنفك وتنفذ إلى صدرك، أكواب الشاي الأسود وأطباق الشطائر والحلوى لا تفرغ أبدا ، الحفل حفل وداع لكنه طيب وبهيج، وعندما تفرغ أكواب الشاي الأسود الثقيل سيهب «ست» واقفا، ويصيح بأعلى صوته الخشن البغيض: فلتشربوا أيها الصحاب! وأنتم أيضا أيها السعاة! لا تنسوا أنفسكم! اشربوا نخب صاحب الجلالة أوزيريس العظيم، ملك مصر الخالدة، ثم يشرب ويشرب إلى أن يخبط على المائدة مرات، وينبه الجميع إلى خطبته القادمة، ها هو ذا يقف منتصبا، قويا، فارع الطول نظارته السميكة على عينيه، شعره ملأه الشيب، وجهه أقبح وجه شاهده حراس طيبة ذات الأبواب المائة طول حياتهم.
رأسه الضخم مستقر على عنق قصيرة مكتنزة كعنق الثور، حاجباه كثيفان أسودان كزوج من الخنافس، وعندما يتكلم، ينفث الدخان من سيجاره الكالح الغليظ، ويتحسس كرشه الضخم عند كل كلمة ينطق بها اللسان: قديما يا أيها الإخوان.
وقبل أن أصاب بالسكر والكبد وضغط الدم.
كنت أصيد ليلا في ضوء القمر.
عندما عثرت عليك يا عبد الموجود.
تعرفت على جثتك. - لم أكن قد لبست نظارة بعد -
مزقتها أربع عشرة قطعة.
بعثرتها في كل مكان.
إيزيس غرقت في دموعها.
إيزيس أصبحت عمياء ولن تبحث عنك.
وعندما يكبر حورس.
لن يمتطي ظهر الحصان ولن يعد القوس.
لن يحاول الانتقام لأبيه. - إذ كيف يستطيع وكل شيء ينتقم الآن منه؟! -
بل سيجلس هو أيضا على مكتب.
ويصبح حرفا مهملا في ملف الخدمة.
وقطرة عرق في زحام الترام.
وعندما يكبر في السن ويلبس نظارة سميكة.
سيحال إلى المعاش، سيحال إلى المعاش.
وحين يموت، لن يدفن في معبد ولا ضريح.
لن تحط الطير عليه، ولن يدنو السمك منه.
ويجيب الموظفون قائلين: لن يحط الطير عليه.
ولن يدنو السمك منه.
ولن يسمع صوت إيزيس تنادي: عد إلى بيتك! عد إلى بيتك، يا من تسكن الشمس.
عد إلى بيتك فقد طالت غيبتك.
تعال وزر حبيبتك، زر أختك التي تحبك.
عد إلى بيتك، يا أخي وحبيبي.
ألا تسمع إذن صوتي؟
لكن لن تستطيع أن تعود يا عبد الموجود، لن تستطيع أن تعود، فقد أخذوك من يدك، من مئات السنين، وقادوك إلى المملكة السفلى، مملكة الموت والظلال، المملكة التي كتب على بابها:
يا أيها الداخل من هذا الباب، ودع كل أمل.
هل تقول إنهم يحتفلون بك؟
نعم، ولك الحق، يحتفلون بوضعك في التابوت.
والتابوت غامض وساحر وجميل، مرصع بالأحجار النفيسة، براق من المعدن الخالص، رسمت عليه زهرة لوتس وحيدة، وحشيت جوانبه بالملفات والدوسيهات والتقارير.
ومن يدري؟ فبعد أن تدخل فيه وتتمدد وتتثاءب، وتشرب شايك الأسود الأخير، وبعد أن يأخذوا إمضاءك على ورقة المعاش، ربما تذكروا فرسموا وجهك الأسمر النحيل على غطائه، ولم ينسوا أن يضعوا على شفتيك ابتسامة راضية، وفوق عينيك نظارة سميكة، وعلى رأسك تاج الوجهين.
البيت
كان الوقت ليلا عندما وصل الدكتور، وكانت المحطة الريفية هادئة، والقمر تفاحة مشتعلة تتوسط السماء، والسكون يغرق القرية والحقول المحيطة بها، فلا يكاد يسمع الإنسان - فيه عدا نباح كلاب متفرقة - سوى صوت أنفاسها البطيئة تتصاعد إلى السماء، وعندما وقف القطار راح أخوه الأكبر سليمان وابن عمه حامد - لعله لا يذكر الآن أن له ابن عم - يجريان بين النوافذ بحثا عنه.
وأخيرا سمعا صوته ينادي عليهما، هرولا نحوه وهما يشعران بالارتياح؛ لأنه أراحهما من عناء البحث بين وجوه الناس، وربما شعرا كذلك بالامتنان نحوه؛ لأنه لم يتعبهما كثيرا في تذكر وجهه الذي لا بد أنه تغير كثيرا، عانقه أخوه بحرارة واستعذب طعم شفتيه على فمه وبين عينيه، قال الدكتور لنفسه: لماذا هزل سليمان إلى هذا الحد؟ ربما كان السكر أو داء البلهارسيا اللعين! وسقط ضوء القمر على رأس أخيه فخنقته الدموع، ها هو ذا الرأس قد شاب ولم يبلغ أخوه الأربعين، يا لبلدنا الذي لا يعرف الشباب ولا يرحمه! وأقبل ابن عمه فشده إليه بعنف كاد يخنقه، وأخذ يخبط على يده فأحس كم هي خشنة أيدي الفلاحين!
حلف شقيقه أغلظ الأيمان وحمل حقيبته، وخاف من شهامة ابن عمه فسلم له الأخرى قبل أن يفتح فمه، وسار في الوسط وهو يبتسم لذكرياته ويعانق القمر والأشجار والأرض المخضرة بنظراته وضحكاته ، خبط حامد على ظهره وقال: والله سلامات، خمس سنين يا رجل! وانتزع سليمان نفسه من أحلامه وأحزانه، ورفع رأسه إلى وجهه الأبيض الناعم، وقال: شرفتنا يا دكتور، البلد نورت.
قال الدكتور: والله وحشتموني، هل تعرف ما في نفسي الآن؟ أن أذهب إلى بيتنا وألبس الجلابية والطاقية، وأتمدد على الكنبة في المنضرة. وجم سليمان ونظر إلى ابن عمه، سكتا ولم يقولا شيئا، سبح الدكتور في ذكرياته: المزلقان، شريط السكة الحديدية، الكرة الشراب، خناقاته مع الأولاد والشعر الذي كان يكتبه وهو يتمشى على هذا الطريق، غطت سحابة سوداء وجه القمر، هبت نسمة برد، فندم؛ لأنه لم يلبس «بلوفر»، بدأت قطرات المطر تسقط رذاذها على شعره ووجهه، وسمعا من بعيد جلبة وصياحا.
هتف حامد متسائلا: فرح محمد أبو إسماعيل الليلة؟
وأقبلت زفة في اتجاههم، وعندما اقتربت منهم لمح الدكتور رجالا وصبية يصيحون ويهتفون، كان بعضهم يحمل الكلوبات في يده، وفي الوسط يخطو العريس الأسمر الطويل في معطفه الأسود، والطربوش على رأسه، ابتسم الدكتور، بانت السعادة على وجهه وملأت قلبه، هتف الرجال: يحيا العريس، يحيا العريس، وعندما مر الموكب الصغير بهم أوقفوه وقالوا: سلام للجدعان، عقبال عندكم وعند أولادكم يا رجال!
تقدم الدكتور وسط الرجال وصافح العريس في حرارة، هتف رجل منبها العريس: الدكتور أحمد أبو المعاطي يا إسماعيل، عانقه العريس وشد على يده، سأله في إخلاص: إزي حال أمريكا يا دكتور؟ ورفع فلاح صوته: أين «العروسة الأمريكاني؟» ضحك الدكتور وقال: وبنات بلدنا يا جماعة عيبهم إيه؟ قال الجميع: والله فيك الخير. فتحت امرأة باب بيت مجاور وزغردت، صاحت بأعلى صوتها: والله لازم تشربوا الشربات، هتف العريس عندما أقبلت المرأة بالصينية وعليها الأكواب الحمراء: والله لانت شارب الأول يا دكتور، زغردت المرأة وشرب الجميع، شد الدكتور على يد العريس مرة أخرى، وقال له وهو يضحك: مبروك، شد حيلك «يا أبو إسماعيل».
كانت قطرات المطر لا تزال تسقط متفرقة، والقمر يحاول أن يطل من بين السحب السوداء، وكان الدكتور يبتسم في سره، فلم يلاحظ أن حامدا يهمس في أذن شقيقه الذي سار مطرق الرأس.
قال سليمان: والله أوحشتنا يا دكتور، حمدا لله على السلامة، قال الدكتور ضاحكا: الله يسلمك، والله أنتم الذين أوحشتموني، كيف حال صلاح وجميلة؟ (كان هذان هما اسمي طفلي سليمان.)
قال شقيقه: «يبوسان الأيادي»، إن شاء الله تقعد معنا يومين؟ قال الدكتور: كله على الله، الشغل في مصر ينتظرني.
قال سليمان: في الجامعة إن شاء الله؟
قال الدكتور: لا، في المؤسسة ...
هتف حامد: مؤسسة اللحوم ...
ضحك الدكتور بصوت جعله يتعجب من نفسه: كل شيء جائز، لكنهم طلبوني في مؤسسة الطاقة الذرية، قال حامد: الذرية؟ يعني حضرتك دكتور في الذرية، قال سليمان ينبهه: يا جدع ده دكتور في الذرة، أول واحد في المديرية كلها. قال حامد وكأنه فهم: آه! طيب كنت قل من الأول. ضحك الدكتور وأمسك برأس حامد وقبله، لم يدر لماذا فعل هذا.
سار الثلاثة صامتين، كان الدكتور يسأل بين حين وحين عن الزرع والمحصول، أو يستفهم عن غيط يبدو من بعيد، أو عن التقاوي الجديدة وحال الناس مع الجمعية والدودة التي قرأ وهو في البعثة عن بهدلتها للقطن والفلاحين، وعاد يسأل عن البيت والمنضرة، وهل يسهرون فيها كالعادة في رمضان؟ ثم التفت لأخيه وقال: لم تفدني عن صحة الوالد؟ هل وصلتكم آخر شحنة من الدواء؟ سمع حامد يهمس في أذن أخيه بصوت مسموع: قل له، يا رجل قل له.
قال سليمان بعد أن تغلب على تردده: اسمع يا دكتور.
قال الدكتور: تكلم يا سليمان، خير إن شاء الله. وأراد سليمان أن يقول خيرا أو يقول شيئا آخر حين رن في سمعه صوت رجال يهتفون: تفضلوا يا جماعة، تفضلوا يا إخواننا، نفسكم معنا يا شيخ سليمان، ونظروا فرأوا جماعة من الفلاحين ملتفين حول شيء لم يره الدكتور، ولمح الدكتور بقرة تقف بعيدا عنهم بقليل، ورجلا يمسك بحبل مربوط حول رقبتها، أما الجماعة التي نادت عليهم فكان معظمهم راكعا على الأرض حول ثور ممدد بطوله كالبطل الصريع، وكان بعضهم يمسك برأسه أو قرنيه وبعضهم برجليه الأماميتين والخلفيتين، في حين راح رجلان يقيمانه من ظهره ويدفعانه بكل قوتهما على الوقوف.
تقدم الدكتور بعد أن قرأ السلام، فاقتحم الحلقة حتى اقترب من الثور، قال رجل: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي، وقال آخر: عنك أنت يا بيه، لا مؤاخذة الثور داخ شوية ووقع على الأرض. ضحك بعض الرجال. تقدم سليمان وحامد ليساعدا في رفع الثور عن الأرض، لاحظ الدكتور أن الثور ينهج ويزفر بصوت كحشرجة الموت، أقبل على رأسه يفحصه، ورأى كيف تنظر إليه عيناه الواسعتان، قال أحد الرجال بعد أن عرف من حامد أنه دكتور: يدك فيها البركة يا دكتور، ربنا يجعل فيها الشفا إن شاء الله، نبه سليمان إلى أن شقيقه دكتور في الذرة لا في الثيران. لم يفهم الرجل فاستمر يقول: أصل لا مؤاخذة كنا ننططه على البقرة، لكن يظهر أن الثيران ما عاد فيها حيل! ضحك أحد الرجال، وكان يمسك بساق الثور ويدلكها: طيب والنبي مصيره ينطحك يا عبد الله.
سأل حامد فجأة وكان يجاهد مع الرجال في رفع الثور: إلا قل لي يا سي الدكتور، صحيح أمريكا فيها ناطحات السحاب؟ يعني دول لا مؤاخذة ثيران ولا بقر؟
قال سليمان: والله إنتم اللي تعيشوا وتموتوا عالم بقر!
ضحك الرجل وضحك الدكتور، قال في نفسه: ما أجمل هذا كله! ما أبسط الناس هنا! ما أطيب الفلاحين!
نجح الرجال أخيرا في إيقاف الثور، أمسك به اثنان من الحبل واثنان من صدره، قال أحد الفلاحين: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي. أصلح كلامه فلاح آخر وقال: كله بأنفاس سعادة الدكتور. ربت الدكتور بيده على ظهر الثور ثم سلم على الجميع، تذكر أنه طالما حضر في صباه تنطيط الثيران، تعجب لأنه لا يزال يذكر الشيخ (دسوقي) حكيم البهائم كما كان يسميه، قال لنفسه وهو يبتسم: والله زمان! ثم ضحك من قلب صاف وقال: يسعد الله مساءكم.
سار الثلاثة الآن على طريق المزلقان، عاد سليمان إلى صمته ووجومه، وعاد حامد يهمس في أذنه، قال الدكتور: نروح على البيت يا جماعة؟
قال سليمان نتمشى شوية في الطراوة.
كان المطر قد توقف والسحابة اختفت من على وجه القمر، سأل الدكتور بعد أن تطلع إلى وجه أخيه ثم إلى السماء: هل تخفي عني شيئا يا سليمان؟ قال حامد: اسمع يا سي الدكتور. أكمل سليمان: أنت رجل مؤمن وموحد بالله. قال الدكتور وقد داهمه إحساس غامض: تكلموا يا جماعة، أنا كنت حاسس بكل شيء. تشجع سليمان وقال: أبوك الله يرحمه مات من سنتين! كان نفسي أكتب لك، لكن أختك الكبيرة خافت عليك. صمت الدكتور قليلا، وتطلع إلى وجه أخيه، ثم إلى القمر وسكت، فرت دمعة من عينه حين قال شقيقه: عملنا له مشهد عمر البلد ما شافته، نصبنا «الصيوان» في أرض الباشا وعملنا له أعظم مأتم، كانت ليلة عظيمة وربنا أكرمه آخر كرم. قال الدكتور بعد قليل: كان نفسي أشوفه قبل ما يموت، قال سليمان: الله يرحمه، كان يدعو لك ويسأل عنك كثيرا. قال الدكتور: تعب في الآخر يا سليمان؟ قال سليمان: أي نعم، الشلل بعيد عنك، كان ساعات يغيب عن وعيه ولما يفوق يسألني: ابننا مش هيرجع يا ابني؟ أقول له: أنت مش فاكر اسمه يا ابه؟ فيقول: ابننا اللي في بلاد بره. أقول له: إن شاء الله يرجع لما يأخذ الدكتوراه. يقول لي: ربنا يسلمه يا بني ويسلم كل اللي زيه. قال الدكتور: ألم تكن تقرأ عليه خطاباتي؟ قال سليمان: أقرأ عليه؟ ده ساعات كان ينساك وأقعد أفكره بيك، وفي مرة جبت له صورتك وانت في أمريكا مع أصحابك، قعد يطل فيها ويقول: مين ده يا ابني؟ قلت له: ده ابننا أحمد يا ابه، يسألني: إحنا لنا ابن بالاسم ده يا ابني؟ ثم يسكت ويتوه وبعدها يقول: ربنا يسلمه هو واللي معاه.
صمت الدكتور، فكر في نفسه: لو كنت أعرف لحضرت، ليتني رأيته قبل أن يموت، والتفت ناحية الجبانة الراقدة وراء المزلقان في حضن التل، وتصور نفسه وهو يقف في الصباح على قبر أبيه ويقرأ الفاتحة، أراد أن يفعل شيئا ليقنع أخاه بأنه سلم أمره لله، خنقته الدموع وخجل لأنه لا يستطيع أن يبكي، تذكر أنه كان من عادته في مثل هذه الأحوال أن يتجمد كالحجر، وحين يختلي بنفسه ينفجر كالطفل في البكاء. حاول أن يبتسم وتشجع وقال: البركة فيك يا سليمان وفي الأولاد. قال سليمان وقد أحس بالارتياح: إيه؟ البركة فيك أنت يا دكتور، ربنا قادر يكتب لك طول العمر وتحيي اسم والدك وبلدك، وشعر حامد أن من واجبه أن يقول شيئا ففتح فمه مترددا وقال: الموت حق يا سي الدكتور، وأنت سيد العارفين. سكت الدكتور لحظة شعر فيها بالتعب يتسرب إلى جسده، تمنى أن يرى نفسه راقدا على الكنبة العتيقة في المنضرة.
في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أبوه بعد الصلاة ليقرأ القرآن، قال لنفسه: نعم سأحيي ذكرى المرحوم بأبحاثي وتجاربي، ولكنه تشكك في كلامه فسأل: ولكن ماذا يستفيد؟ ورأى أن كل ما سيفعله لن يخلصه من الخجل الذي يحس به نحو أبيه.
قال لأخيه ضاحكا: المهم أنك معمر البيت، تجهم أخوه على غير ما يتوقع، لم يقل شيئا، لاحظ أن حامدا قد بدا عليه الحرج وتأوه من ثقل الحقيقة بصوت مسموع، ظهرت من بعيد عربة نقل كبيرة تقترب من المزلقان، سطح نور الكشاف عليهم فأضاء وجوههم، ووضع الدكتور يديه أمام عينيه، اقتربت العربة ورآها تتكدس بالبشر: رجال ونساء وصبية يصفقون ويغنون ويهتفون، كانت أصواتهم التي يتداخل فيها الصياح والزغاريد تظهر بؤس أصحابها أكثر مما تخفيه، تأملهم طويلا وهم يمرون عليه ويشيرون بأيديهم النحيلة السمراء ويرددون: «عطشان يا صبايا دلوني على السبيل.» لاحظ وجوههم الشاحبة الصفراء وجلابيبهم القذرة، وطواقيهم التي تغطي رءوسا متعبة من لهيب الشمس واللف والجري في بلاد الله.
قال سليمان: الأنفار خلصوا الجمع ومروحين، تذكر الدكتور أنهم عمال التراحيل، وأعجب بنفسه؛ لأنه لا يزال يذكر هذه التسمية، قال لنفسه: إنه طالما أشفق عليهم وهو صغير، سألها: ترى هل يظلون كذلك في عصر الذرة؟ عاد يلح عليها بالسؤال: ماذا تفيد الدكتوراه إن لم تساعد هؤلاء؟ أحس في لحظة كأن كل جهده وعمره ضاع عبثا، تمثل له الغلب والشقاء على لقمة العيش والجري وراء الأرزاق، بدا له أنه طوفان أسود يغرق كل المعادلات التي تعب في فهمها والمعادلات التي شقي في اكتشافها، قال سليمان وقد لاحظ اهتمامه بهم: ناس طيبين وعلى الله، عمر البلد ما اشتكت منهم، دائما ضيافتهم خفيفة. سكت الدكتور ولم يرد.
عبروا المزلقان وساروا في الطريق المؤدي إلى البيت، وقف سليمان لحظة ثم قال: باقول يا دكتور نتعشى عندي الليلة.
سأل الدكتور مستغربا: عندك؟
أسعفه حامد: أصل يعني سي سليمان بنى له بيت، عقبال عندك، إن شاء الله تبني لك فيلا في مصر ونحضر لزيارتك. قال الدكتور: أخفيت عني هذا أيضا، قال سليمان محاولا الابتسام: قلت أعملها مفاجأة. قطب الدكتور وجهه وقال: لا، نفسي أروح بيتنا الأول، الصبح أزورك وأتغدى مع الأولاد. تردد سليمان، أشاح حامد بوجهه بعيدا، ضحك الدكتور وقال: الله؟ يلا بنا على البيت. سار الدكتور في المقدمة، لم يجد سليمان وحامد بدا من متابعته، تهامسا قليلا، ولكن لم يجرؤ أحد منهما على مصارحته، كان هو أيضا مشغولا عنهما بذكرياته عن أبيه وأمه وإخوته الذين ماتوا في طفولتهم، والحجرة الصغيرة الدافئة التي ولد فيها، والحمام الضيق والطست الذي كان دائما ينزلق فيه.
وكان سيره الحثيث واستغراقه في الذكريات لا يمنعانه من تحية المارة، والتطلع إلى البيوت التي لم يغير شكلها الزمان، والابتسام لكل ما يراه من مبان وأشجار وبهائم ومخلوقات، لم يكن البيت بعيدا عن المزلقان، فلا يكاد الإنسان يخطو عشرين أو ثلاثين مترا في الطريق المنحدر منه، ثم ينعطف في طريق آخر ضيق معروف بالطاحونة التي أقيمت في نهايته، ويخرج منه إلى ساحة صغيرة تطل على سوق القرية من ناحية، وأحد المقاهي المشهورة بشاعر الربابة من ناحية أخرى، حتى يرى البيت بعدهما بقليل.
كان سليمان وحامد يسيران وراءه صامتين، حاول سليمان أكثر من مرة أن يقول شيئا، لكنه لم يعرف كيف يبدأ؟ ولا ماذا يقول؟ ألح عليه حامد وقرص ذراعه وخبطه على ظهره، لكنه كان يهمس له : خبر أبيه أهون، قل له أنت يا عم. لذلك آثرا السكوت إلى أن نبهتهما صيحة خرجت من الدكتور: سليمان، حامد، ماذا حدث؟ اقتربا منه ووضعا الحقائب على الأرض، نفخ سليمان في يده وطقطق حامد أصابعه، لم تخطئ عين الدكتور ولا أخطأت ذاكرته، لم يحتج أن يطيل البحث عن البيت، كانت هناك عروق من الخشب قائمة، وأكوام من التراب مكدسة، ورجل أو اثنان يجمعان الأخشاب على عربة كارو، وثالث خلع جلبابه وبقي عاري الصدر بسرواله الطويل يرفع التراب في مقطف، ويكومه على جانب الطريق.
هتف الدكتور: بيتنا يا سليمان؟
تقدم منه سليمان ووضع ذراعه على كتفه.
قال مطرقا برأسه: كان لا بد عنها يا دكتور، البيت وقع وجاءته الإزالة.
سأل الدكتور: الإزالة؟ من الكلب الذي أمر بها؟
قال سليمان: أنا عملت الصالح يا حبيبي، أختك أخذت حقها وحقك محفوظ إن شاء الله. قال الدكتور وقد أحس بجرحه: حقي؟ من الذي يتكلم عن حقوق؟ لماذا لم تأخذ رأيي؟
أراد أن يصرخ في وجهه، أن يلعنه ويصفه بالقسوة والتوحش والجشع، أن يستحلفه بذكريات طفولته وشبابه، بالدفء الذي راح، بالحب الذي ضاع، بالأيام الحلوة والمرة التي عاشها فيه، لم يستطع أن يفتح فمه، بدا له الاحتجاج سذاجة لا تليق به، والصراخ اتهاما لا داعي له.
نظر إلى سليمان وحامد فوجدهما صامتين، رأى في صمتهما طلبا للصفح ورغبة في التسليم، أشار إلى البيت وأراد أن يسأل: هل هذا هو بيتنا؟ وجد أن السؤال سيضيع في الفراغ.
توقف في مكانه كأنه شد إلى الأرض بمسامير.
أخذ يراقب العمال الذين يقذفون بالأخشاب في رتابة على ظهر العربة، والصوت الذي تحدثه كأنه تكسر ضلوعه.
لم يحس بأخيه الذي اقترب منه ومد ذراعه فوضعها على كتفه، وعندما شعر بملمسها انتفض جسده، وانزلقت قدماه فجأة فسقط على وجهه! تناثر الطين حوله، غاص بصدره في الوحل، دخلت قطع منه في عينه ولطخت جبهته.
أسرع أخوه وابن عمه يساعدانه، وجد نفسه يتشبث بالأرض، وينشج وهو يشير للبيت، ويضرب بيديه في الطين.
قال لنفسه: الدكتور غرق في الوحل، الدكتور لن ينقذه منه أحد.
انفجر البركان من صدره واشتد نشيجه، سمع نفسه يقول: أبي، أبي، انهدم برج بابل، سدت كل الأبواب!
ابن السلطان
رأيته لأول مرة في دكان أبي. كنت في ذلك الحين في السابعة أو الثامنة من عمري، أختلف على المدرسة الابتدائية الواقعة في البلدة المجاورة على حمار هزيل، يعرف الطريق أكثر مما أعرفه، وربما كان يعرف عن العالم أكثر مما أعرف.
كنت أقرأ درسا في كتاب الجغرافيا، عن منطقة عجيبة اسمها المنطقة الاستوائية، وكان اليوم من أيام الصيف القائظة، وجسدي ينضح بالعرق، ورأسي مثل قدرة الفول تغلي وتفور، أغلقت الكتاب وأخذت أفكر فيما قرأت، هل يمكن أن تكون الحرارة في خط الاستواء أشد مما هي عليه في بلدنا؟ وأيقنت أن الكتاب لا ريب مخطئ، وأن خط الاستواء يمر من بلدنا بغير شك، وأقبلت على الساحة المواجهة أبحث فيها عن مكان الخط الملتهب، فلم أر أمامي غير سوق القرية، يحوطه سور خشبي مهدم في أكثر أجزائه، وترقد فيه قطعان من الخرفان والجاموس والحمير.
وأحسست بفيض من السعادة وأنا أنظر إلى هذه القطعان التي لا تعرف شيئا عن خط الاستواء، كان ذلك في يوم السوق، وكان دكان أبي في مدخل القرية، يلتقي فيه الفلاحون القادمون من الكفور المجاورة فيطلبون طبقا من الفول، أو يستريحون في الظل، وكنت أعجب لأن أبي يعرفهم جميعا وأعجب أكثر من ذلك لأنه يحبهم جميعا، فلا يكاد أحدهم يدخل الدكان مجهدا من عناء السكة الطويلة حتى يستقبله مرحبا، مناديا باسمه، سائلا عن الصحة والعيال، بل لقد كان يعرف من طلق منهم زوجته، ومن مات ابنه، أو فطست بهيمته أو سرق أولاد الحرام جرنه، كل منهم يجد الكلمة الحلوة عنده: ربنا يعوضك خيرا، كل شيء قسمة ونصيب، الحمد لله على الستر، النسوان ليس لها أمان، والمرأة مثل القطة، تأكل وتنكر، الأمر أمره؛ لهذا كان أبي تاجرا ناجحا، وكل من يحاول أن يفتح مطعما إلى جوارنا تكسد تجارته، ويعزل بعد أيام، كنت في ذلك اليوم مسترخيا في الظل، أراقب ما يجري في السوق، وكان أبي قد سمع كلام الفلاحين، فلم يعد يجبرني على العمل معه، أو يؤنبني على كسلي، بل إنه قد غفر لي كل شقاوتي حين علم أنني عرفت الجهات الأربع، وأنني أضع له سجادة الصلاة ناحية القبلة تماما.
وكنت أتابع وجوه الزبائن يدخلون ويخرجون من دكاننا دون أن أجد بينها ما يلفت النظر - فقد كانوا جميعا كأنهم أولاد أب واحد - حينما وجدت رجلا يقف أمامي ويحملق في وجهي، الحقيقة أنني خفت منه في أول الأمر، وأيقنت أنه لا يمكن إلا أن يكون مجذوبا أو وليا من أولياء الله، كانت شفتاه الدقيقتان، المجروحتان في أكثر من موضع، ترتعشان بصوت خفيض، وكان وجهه شاحبا وصدغاه غائرتين، وعظام خديه بارزة وعيناه المفتوحتان كعيني ذئب جائع، تقاومان جفنين يريدان أن ينطبقا عليهما، وكان العرق ينضح من جبهته، ويسيل في خطوط سوداء متعرجة على خديه، كأنه دماء جمدت من أثر جرح قديم، الحق أنني استغرقت في النظر إليه فلم أتبين كلامه، ولو أنني سمعته حينئذ لقلت له: لا تتكلم، انتظر حتى أشبع منك! وانتبهت على صياح الزبائن من الداخل، وعلى اثنين منهم يندفعان إلى عتبة الدكان ويجذبان الرجل وأحدهما يصرخ مهللا: شوفوا يا جماعة، ابن السلطان!
ويصيح الرجل وهو يضربه على ظهره: والله سلامات، كنت تائها يا عم؟ ويجيء رجل آخر ترك طعامه ليشترك في استقبال الزائر الجديد: من كثرة ما لف في الأرض، قلبها من ظهرها لبطنها، ويضحك الجميع، ويقبلون على الضيف وهم يضحكون ويثرثرون ويأكلون، وكان أبي أكثرهم بشاشة في وجهه؛ لأنه اعتبره ضيفه هو، ترك مكانه وأقبل عليه يربت على كتفه ويتحسس عظم ظهره: والله زمان، هكذا تنسى الأحباب والأصحاب؟ وحشتني، وتنسى مطعم الصدق والأمانة؟ وحشتني قوي.
لبث الرجل جامدا كالتمثال، عيناه ذاهلتان تجولان في وجوه الحاضرين، كأنه يستعرض مخلوقات من فصيلة أخرى، ربما كان يفضل في هذه الساعة أن يستلقي لينام كالميت، ونظر أبي إليه، وفحصه بعينيه فترة قبل أن يقول : ابن السلطان، ما لك؟ فأجاب كأنه لا يفهم: هه؟ فعاد أبي يقول وهو يخبط على ظهره: يعني لا تضحك ولا تتكلم؟
تدخل رجل يمزج الحنان والشوق في صوته: ابن السلطان دائما مسافر، من أين جئت الآن؟
فقال الرجل بدون أن تطرف عيناه: من الشرق، فعاد يسأله وكيف أحوال الرعية؟
ولكنه لم يجب، بل التفت إلى أبي قائلا: عم إبراهيم.
فقال أبي: أمرك يا سلطان.
فعاد يقول في صوت ود لو لم يسمعه أحد: ميت من الجوع، ويبدو أن هذه الكلمة قد لمست قلب أبي، فأسرع إلى الأطباق يعدها، وفي لحظة كان الطعام أمام الزبون الجديد الذي أقبل عليه بنفس مفتوحة، ولما شبع الزبائن من النظر إليه، والحديث معه، بدءوا يتفرقون واحدا بعد الآخر إلى السوق أو البلد، أو القهوة المجاورة.
لم يتح لي في ذلك اليوم أن أتحدث معه، لكنني اعتدت بعد ذلك أن أراه في دكان أبي، فقد كان من الزبائن المستديمين، وكان أبي يخصه بكثير من العطف، ومن الطعام الجيد - وقد يكون العطف في بعض الأحيان عملا تجاريا ناجحا - وكان وجوده يشيع في المكان جوا من الألفة والبهجة والمرح، ولكنه كان في كل يوم يبدو في زي جديد، مرة يلبس عمامة كبيرة، ويتدثر بعباءة فضفاضة كالمغاربة، وحينا نراه وعلى ظهره قربة كبيرة يمر بها على الناس في السوق، وقد أراه على فرس كما حدث في مولد صاحب المقام؛ إذ علمت أنه أصبح من السادة الرفاعية، وأنه قد حمل الراية، وتبعه المريدون، يسيرون في موكب طويل يشق طرقات البلد، ويملأ جوها بدقات الطبول، ورنين الصاجات، وعبير البخور.
وكان يمكن أن يظل «الشيخ سيد» مغمورا خامل الذكر، لولا أنه جر على نفسه المتاعب، من كان يصدق أن سيرته يمكن أن تتجاوز الفلاحين، وعمال الطرق، وجامعي الدودة، وأطفال المدرسة الأولية، إلى أسماع السلطات؟ لا شك أن الشيخ سيد هو الذي جنى هذا على نفسه، فلولا طيشه وسوء تدبيره لما وضع رجله في النقطة ، لقد أتعب الرجال الثلاثة (الذين ندبتهم النقطة من المديرية رأسا) في تقصي أحواله، ودوخهم بين الأسواق والغيطان والجوامع والشوارع، فقد دأب على السير بين الفلاحين والتجار الوافدين على القرية في أيام السوق، والهتاف بصوت عال: «يحيا العدل».
وبالطبع لم يكن أحد ينتبه إليه، أو يسأل عن معنى ما يقول، فقد اشتهر عنه أنه قد صار من أحباب الله، ولو أنه اقتصر على هذا الهتاف وحده ما كان في الأمر ما يدعو إلى القلق، فلقد ضبطوه في بعض الأحيان وهو يهتف: «يسقط النظام».
ويوما علمت أنه قد مثل أمام ضابط النقطة، وكان كعادته حافي القدمين مهلهل الثياب، منفوش الشعر، طويل اللحية، قال له الضابط وهو يتفرس في وجهه: اسمك؟
ابن السلطان.
ماذا؟
فمال أحد المخبرين على أذنه وهمس فيها شيئا، وعاد ضابط النقطة يسأله: وأبوك، أين هو؟
فأجاب «الشيخ سيد» دون تردد: في الشرق.
في الهند مثلا؟
فهتف الشيخ سيد: لا، في الصين!
لم يستطع الضابط أن يكتم ضحكه فأقبل عليه، وقد زاد اهتمامه بأمره. - عال، عال، وأين تقع الصين؟
فمد «الشيخ سيد» ذراعه وأشار ناحية الشرق: من هنا ...!
وسأل الضابط بعد أن نهض من مكتبه وأقبل نحوه يربت على كتفه كأنه يفحص حيوانا أليفا: وماذا يفعل هناك؟
فأجاب الشيخ سيد في حماس: يحارب الكفرة.
فرفع الضابط حاجبيه من الدهشة وعاد يسأل: ومن هم؟
الصينيون؟ فصاح الشيخ سيد وهو يعجب من جهله: لا، العسكر واليهود! - وهل هو هناك، من زمان؟ - من ألف سنة!
وضع الضابط يده على فمه، ثم وضعها على بطنه.
وقال بعد لحظة: يا سلام! لا بد أنه أفناهم عن آخرهم، متى يعود؟!
فبرقت عينا الشيخ سيد: هل تشك في عودته؟ إنه سيعود حتما، سيعود ليمحق الكفرة، سيعود راكبا.
فقاطعه الضابط: حمارا؟!
فاستنكر الشيخ سيد ما يبديه محدثه من الامتهان لمقام السلطان وصاح غاضبا: ما هذا؟ هل يعقل أن يركب السلطان حمارا؟ إنه يركب فرسا أبيض، ويلبس أبيض في أبيض، على رأسه، ولم يشك الضابط في أنه قد بدأ يهذي، وأراد أن يسأله سؤالا أخيرا: وهل السلطان هو أبوك حقا؟ فهاج الشيخ سيد، وتهدج صوته وهو يصيح: إنه أبي، وأب جميع الناس، يحبهم، ويحبونه، وحين يرونه قادما على ظهر فرسه الأبيض الأصيل يجرون نحوه، من البيوت والحقول والأسواق، سيقبلون قدميه ويقولون له: شرفت بلدنا يا مولانا السلطان.
وانفجر «الشيخ سيد» باكيا، كان في بكائه شيء أعمق من الحسرة ومن اليأس، مثل طفل ضاع منه أبوه في الزحام، فوقف على الطريق يسأل كل عابر سبيل: هل رأيت أبي؟ فلما لم يجد أحدا يعرفه بكى وصرخ؛ لا لأن أباه ضاع منه، بل لأنه وجد بين الناس من يجهله، لم يبق في القرية من لم يسمع بحكاية «الشيخ سيد»، وعرف الناس أن الإنسان يمكن أن يصبح مشهورا إذا ما سمعت به السلطات الرسمية، وهكذا بدءوا يهتمون بشأنه، وتوالت العطايا عليه، وعطف بعضهم عليه فأعطاه حذاء، وتصدق تاجر أقمشة فوهبه ثوبا من الدمور المعتبر قائلا له: خذ يا عم، ينفع جلبابا وكفنا! والحقيقة أنه لم يعرف كيف يفصله، فإن الترزي الوحيد في بلدنا كان رجلا عجوزا بخيلا، ولم يكن أحد يتصور أن يتصدق عليه بخيط؛ لذلك بقي الثوب قماشا يحمله على كتفه، إلى أن جاء يوم لم يره أحد معه، ولم نعرف إن كان قد سرق منه وهو نائم أو خطفه اللصوص، وبمرور الأيام نفض الناس أيديهم منه، ولم يعد أحد يهتم بأمره أو يتصدق عليه بشيء، بل إن أبي الذي كان يدعوه إلى الطعام كلما رآه، قد خفف من عنايته به، إلى أن جاء يوم افتقدته فيه فلم أجده.
وسمعت أنه يتجول بين العزب المجاورة، وأن حظه هناك لم يكن أفضل من حظه عندنا.
وذات يوم كنت أجلس وحدي في الدكان، فقد لزم أبي الفراش، واضطررت أن أتغيب عن المدرسة، وأن أباشر حركة الدكان بنفسي، الحق أنني كنت أخشى أن يأتي علي يوم السوق وأنا وحدي، إذ كيف أدير حركة المحل؟ وكيف أتصرف مع كل هذا العدد من الزبائن؟ ولست أدري ما الذي ذكرني بالشيخ سيد، فقد شعرت في نفسي بحنين غامض إليه، وتمنيت أن أراه إلى جانبي؛ لذلك لم أفرح كفرحتي حين رأيته ينحدر على السكة من بعيد، كأنه عمود من الدخان يطول ويقصر، كانت له مشية تميزه عمن سواه، ولكنني دهشت قليلا حين وجدته يربط إحدى ذراعيه برباط كبير، ويتوكأ على عصا، وهو الذي كان مثل الجن الأحمر.
أقبلت عليه مرحبا، ولو أطعت نفسي لعانقته: ما هذا؟ كفى الله الشر.
فأجاب وهو يجلس إلى إحدى الموائد: الحمد لله، جاءت سليمة، قلت محاولا أن أكتم فرحتي به: سمعت أن قطاع الطريق هجموا عليك، فضحك من قلبه، وتلفت ينظر في الدكان. - أبوك ليس هنا. ثم غمغم قائلا: هل تعرف مولد سيدك إبراهيم الدسوقي؟ - سمعت أنه في هذين اليومين. - حاولت أن أحضر الزفة، وأن أركب الفرس، ولكنهم لم يصدقوا أنني ابن السلطان، ألم أقل لك: إنهم كفرة!
جذبوني من على الفرس، ومن حسن حظي أن ذراعي هي التي كسرت، لا رقبتي! وأردت أن أغتنم هذه المصادفة التي جمعتني به وحدنا، فاستدرجته قائلا: ألم تعرف ما حدث لي؟!
فأقبل علي في اهتمام، وفرحت بالقلق البادي في عينيه، ثم قلت أخيرا: رأيت أباك في المنام، فسألني غير مصدق: حقا؟
قلت وأنا أصطنع لهجة الكبار حين يتحدثون في أمر خطير: وهل عرفتني كذابا؟ لا، لا، زعلتني منك.
فعاد يسأل في شوق: وماذا كان يركب؟
فقلت بعد أن تركته معلقا في لحظة انتظار: كان يركب يا سيدي فرسا أبيض، ويلبس أبيض في أبيض.
فصاح: تمام! تمام! - وكم كان يشبهك، جل سبحانه، أنفك، عينيك، ملامح وجهك، ألم يظهر لك أيضا في المنام؟! - طبعا، طبعا، في المنام وفي اليقظة، وتردد لحظة، ثم قال: ألا يمكنك أولا، أن تعطيني لقمة، لي ثلاثة أيام، لم أذق طعم الأكل، الناس أصبحوا كفرة يا ابني، يغلقون الباب في وجهك، وإذا فتحوه فلكي يقولوا لك: اذهب!
قمت من فوري أجهز له الطعام، وشعرت بيني وبين نفسي بالخجل؛ لأنني لم أبدأه بالسؤال، وبذلت غاية جهدي في توفير طبق شهي من الفول وآخر من السلاطة والباذنجان المخلل، ووضعت أمامه ثلاثة أرغفة، ثم جلست أراقبه، وأحسست أني قد كبرت فجأة وكأنني أراقب ابني وهو يأكل، واستغرقت في سماعه وهو يقول: سوف يعود أبي يا محمد، أمي قالت لي ذلك، قالته وهي على فراش الموت، وحين يعود، لن تجدني أجوع أو أتشرد في الشوارع، كل الناس سيكونون إخوتي، والسلطان هو أبونا جميعا، سوف يأتي من هنا (وأشار ناحية الشرق)، طبعا أنت تعرف الشرق من الغرب، هات كوب ماء، إنه يتقدم الموكب، في يده سيف أبيض، طوله ألف ذراع، وخلفه جيش كبير من الفرسان، والغبار الذي تثيره أرجل الخيل يحجب وجه الشمس، سيهرع الناس إليه من كل مكان، يبكون عند قدميه، ويقولون: أين أنت يا مولانا السلطان؟ نحن في انتظارك من مائة سنة، من مائتين، من ألف سنة وأكثر، وستحني الأشجار رءوسها لتحيته، وتفزع الحيوانات إليه، وتتمرغ عند قدميه، تمأمئ وتعوي وتخور وتصهل، حريم المملكة كلهم حريمه، هات كوب ماء، وقفت لقمة في حلقي، الله يلعن النسوان وسيرتهم! لن تغلق أبواب البيوت بعد اليوم في وجهي، لن تكون هناك أبواب على الإطلاق، سيقول أبي لليتيم: لا تحزن، إنني أبوك، وللجائع، والعاري، والمريض، وسوف تقبل الرعية قدميه، وتقول له: «شرفتنا يا مولانا السلطان، نحن هنا في انتظارك، من زمان، من زمان.» أكلة عظيمة، الله يعمر بيتك، لو كان الواحد يأكل مرة واحدة في العمر وينتهي، الحمد لله، كنت قد أخذت بكلامه، فبقيت أنظر إليه وأنا لا أدري هل أضحك أو أبكي، ومسح فمه بكمه، وتناول عصاه، وشكرني، ووعدني أن يدفع لي في القريب.
ووجدتني بعد لحظة أقف في الظل أمام الدكان، وأتجه ببصري ناحية المشرق، حيث يغيب شبحه.
ومع أنه قد انقضت على ذلك عشرة أعوام أو يزيد، ولم أعد أسمع شيئا عنه، فلم أزل إلى اليوم، كلما رددت بصري في الفضاء، أنظر إلى هذه الجهة، ربما كنت أنتظر أن يظهر في الأفق فرس أبيض على ظهره فارس أبيض في يده سيف طوله ألف ذراع.
وأن أرى موكب السلطان وهو يتقدم من بعيد، والغبار الذي يثيره يحجب وجه الشمس.
الشمس
الشمس تلسع وجهي، لهيبها يحرق عيني وصهدها، يكتم نفسي، الطريق ما زال طويلا على أن أسير ساعة أخرى، ربما ساعتين على الأرض المحمية كالجمر، في التراب الذي يخنق الصدر تحت الشمس التي لا ترحم، أضع حقيبة كتبي على رأسي، بعد لحظات تصبح هي الأخرى كأنها خارجة من فرن! أبحث عن شجرة أقف تحتها، لكن المزارع بعيدة، وعمال الطرق نسوا أن يزرعوا الأشجار، أشير للعربات أن تقف وتأخذني معها، لكنها تمرق من جانبي وتغمرني بعاصفة من التراب؟ لو كنت سمعت نصيحة أبي وأخذت معي الشمسية؟ لكن ماذا كان العيال يقولون؟ ماذا كنت أفعل لو ضاعت مني؟ وماذا كان يفعل أبي؟ هو اليوم راقد في البيت، أمي قالت لي أبوك جسمه نار، سمعته يتأوه وأنا خارج في الصباح، ألقيت عليه نظرة من وراء الباب، فوجدته عصب عينيه، بالليل كان يصرخ: ابعدوا عني! ابعدوا عني! أمي قالت: أبوك عنده حمى، الشمس لطشت دماغه، ربنا يلطف بنا.
الشمس تحرق رأسي، قرصها الملتهب يطبق علي، جسدي يرتعش، لو توقفت عن السير لحظة فسأقع على الأرض، والأرض أيضا ستشوي لحمي، وأمي لن تراني لتقول: يا رب الطف بنا، إنها لا تعرف شيئا، لم تكن هناك لترى ما رأيت، لم تدر ماذا حدث؟
أمس وأنا راجع من المدرسة مررت على أبي، في كل يوم كنت أراه في وسط الأنفار، الشمسية فوق رأسه والمنديل الأبيض معصوب على دماغه، كان الأنفار يحملون الطوب على ظهورهم، أو يخلطون المونة أو يرشون الماء على البناية، أو ينزلون الزلط من العربات، كنت أجلس معه قليلا، ثم أتابع سيري إلى البيت، وأمس عندما اقتربت من البناية كان هناك حشد كبير لم أره من قبل: صياح وزعيق، أصوات تلعن وأصوات تستعطف، أفندية ومشايخ، نساء وأطفال، باعة وشحاذون، اندسست من بين الصفوف لأرى أبي في وسطهم، كان هناك رجل سمين أبيض الوجه يشخط فيه، ويصرخ بأعلى صوته، هل كان هو الباشمهندس أو صاحب البيت؟ كان الرجل يصيح: أنت لا تسمع الكلام، قلت لك ألف مرة، هذا الشغل لا ينفع. أبي يرد عليه: يا سعادة البيه، أنا أنفذ الأوامر. الرجل يزعق: أنا هنا صاحب الأمر، الأوامر تأخذها مني. أبي يستطعف: أمرك على العين والرأس، الأوامر نفذناها. الرجل يصرخ: ولك عين ترد علي يا بهيم يا حمار! ذراع الرجل تمتد، يده غليظة وبيضاء وسمينة، وخد أبي يحمر، يصبح كالجمرة المحترقة، ووجهه يسود، يصبح كالفحم.
الناس تقول: معلهش يا سعادة البيك. الأنفار تقف مذهولة، تريد أن تنقض على الرجل السمين، أبي يمسك بخناقه، يريد أن يطرحه من على السقالة، الناس تفك يده عنه.
تقول له: اصبر على أكل العيش.
تقول للرجل السمين: هو خادمك على كل حال.
والشمس تلسع وجهي، تشعل بركان الغضب في صدري.
أريد أن أهجم على الرجل السمين، أن أصفعه على وجهه كما صفع أبي، أن أجعله عبرة أمام الناس، أن أعلمه درسا لن ينساه، لكنني أبكي، تخونني دموعي، أبتعد عن المكان لكيلا تقع عيني على عين أبي، أنهنه طول الطريق، وأغرق في دموعي وعرقي.
عندما خرجت اليوم من البيت كان أبي ما يزال راقدا على السرير، أمي اشترت لوح ثلج ووضعته على رأسه، عندما سألتها قالت: أبوك عنده حمى، جسمه نار. قلت لها: أبقى معه اليوم. قالت: اذهب أنت للمدرسة وخذ بالك من لطشة الشمس. وعندما رقدت في العام الماضي كنت مصابا بالحمى، أبي أحضر لي الطبيب، والطبيب قال: عنده حمى، وضعوا الثلج على رأسي، سهرت أمي إلى جانبي وبكت، لكن الرجل السمين لم يكن قد ضربني، الرجل السمين لم يصفعني على وجهي، وخدي لم يحمر كالنار، ووجهي لم يسود كالفحم، هي لا تعلم أنهم ضربوا أبي.
صفعوه على وجهه في وسط الأنفار.
الشمس تحرق وجهي، تعمي عيني، الطريق ما يزال طويلا، قدمي تعبت، وساقي ترتعش، والشمس تضيء كل شيء، أين أختفي منها؟ وأين يخفي أبي وجهه؟
الآن لا أستطيع أن أذهب إلى البيت .
لا أستطيع أن أنظر في وجه أبي.
لا أستطيع أن أرفع عيني في عينه، لا أستطيع أن أتحسس وجهه حتى لا تلسعني الصفعة على خده، حتى لا تحرقني اللطمة التي لا يزال أثرها على خده، أين أذهب؟ إلى البناية أسأل عن الرجل الأبيض السمين؟ هل هو الآن هناك؟ أفلا يزال يشخط في الناس؟ هل تمتد ذراعه السمينة وتصفع الرجال الذين يبنون؟ هل أذهب إلى المركز وأشكوه؟ هل أقدم فيه بلاغا للنيابة؟ هل أذهب إلى مقام سيدي المدبولي وأدعو عليه؟ من هو يا ترى؟ ما اسمه؟ ما عمله؟ ما الذي يعطيه القوة على صفع الناس؟ ساقي ترتعش، دماغي يلف ويدور، سحابة تراب تخنقني.
آه لو كانت الأرض ابتلعتني، فلم أره يضرب أبي أمامي!
أبي ملاحظ عمال البناء، هو الذي يجمع الأنفار، ويوزع عليهم العمل، في السنة الماضية كانوا يبنون سور السكة الحديدية، كنت أذهب إليه وأتفرج على الأنفار، وأشرب معهم الشاي، لم يقل لي أبي: ماذا يبنون في هذا العام؟ هل هو المركز الجديد؟ هل هو المستشفى، أو يا ترى فيلا للعمدة، أو بيت لمهندس التنظيم؟ بنى يبني بناء، قدماء المصريين أيضا بنوا الأهرام، مليونين وثلاثمائة ألف حجر، كل حجر يزن طنين ونصف الطن، مائة ألف نفر في كل عام، ومصر كلها حجر واحد حجر ضخم، مثلث مثل الهرم، قمته ترتفع إلى السماء، وعلى قمته يجلس فرعون وفرعون والسلطان والباشا والخفير سخروا الفلاحين، والرجل الأبيض السمين كان دائما هناك، كان دائما يضرب الأنفار على وجوههم، والشمس كانت دائما تلسع الوجوه وتشوي الأجسام، ونابليون نفسه وقف في الشمس أمام الأهرام، وقال: إن أربعين قرنا تنظر إليكم!
أبي كان ينهنه عندما خرجت من البيت، طول الليل يتأوه ويهذي، أمي تدعو على الظالم، تطلب من الله أن ينتقم منه، والشمس كانت هي السبب، ولهيبها الآن يحرق وجهي، ينضح العرق من جبهتي فيسقط في عيني، يصهر أعصابي، ويشعل النار في جسدي، في حصة الجغرافيا قال لنا المدرس: إن الشمس جرم سماوي هائل متوهج، تدور حولها تسعة أجرام كروية معتمة بذاتها، مضيئة بانعكاس ضوء الشمس عليها تعرف بالكواكب، الأرض تدور حول الشمس مرة كل عام، هل تعرف الشمس أن الأرض تدور حولها؟ هل تعرف أن أبي على الأرض وأن الرجل السمين صفعه على وجهه؟ هل تعرف وهي تدور حول نفسها كل يوم كما يقول مدرس الجغرافيا أنني أنا أيضا أدور عليها أبحث عن الرجل السمين الذي صفع أبي، أفكر في أن أصفعه على وجهه أمام الناس جميعا، أن أسحبه من هدومه وأجعله يعتذر لأبي، يقبل رأسه، يستعطف أمي أن يصفح عنه، لكنني لا أملك سيف أبو زيد الهلالي، ولا مدافع هتلر! لا أقوى حتى على حمل ساقي، والشمس تحرق وجهي، تبدد أفكاري، تشعل الحمى في عروقي، آه لو لم تكن الشمس هناك! آه لو طمرتها السحب! لو غطتها سحابة واحدة، واحدة فحسب.
السكة ما تزال طويلة، الشمس تحيط بي من كل مكان، حتى ظلي أحرقته، من الصباح وأنا تائه في الشوارع، قلت لهم: إنني سأذهب إلى المدرسة، لكنني لم أذهب إلى المدرسة. مررت على البناية ورأيت الأنفار يعملون في الأرض، وعلى السقالات ويغنون، كأن أبي لم يصفعه الرجل السمين أمس، كأنهم لم يغضبوا أو يثوروا في وجهه، كأن صدى الصفعة اختفى من آذانهم، وعندما رأيت كل شيء كما كان، قررت ألا أذهب إلى المدرسة، ماذا أفعل إذا كانت الصفعة لا تزال تطن في أذني؟ ماذا يفيدني إن كانت الشمس تدور حول نفسها من الغرب إلى الشرق، أو من الشرق إلى الغرب، طالما أن أبي الذي لطمه الرجل الأبيض السمين يدور معها أيضا كما تشاء؟ ماذا يفيدني أن (كان) ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وأن بلادنا مهد الحضارة من آلاف السنين؟ آه يا رب! الرعشة تزداد، رأسي يتفتت، جبهتي شعلة نار.
الدنيا تغيم أمامي، العرق المبلل بالتراب يملأ عيني، سأجري الآن إلى الترعة وأبلل وجهي، لا، سأخلع هدومي وأسقط في الماء، أم أكتفي بغسل رأسي؟ لكن رأسي سينفجر، وأبي رأسه معصوب بمنديل أبيض، وأمي وضعت الثلج على رأسه ، من الذي ينقذه من الحمى؟ من الذي ينقذني من الشمس؟ الشمس تجري ورائي! تحمل سيخ نار في يدها، آه! إنها تصفعني على وجهي، تلقي بي على جانب الطريق، تصفعني كما صفع الرجل الأبيض السمين أبي.
هل سيعثرون علي؟ من الذي سيضع الثلج على رأسي؟
من ينقذ أبي؟
من ينقذني؟
تذكر يا مولاي
هي عبارة قالها مجهول لرجل آخر مجهول في ظروف لا ندري الآن عنها شيئا، ربما سمعناها تروى كنادرة أو مثل، وربما قرأناها في أحد الكتب أو المخطوطات العتيقة، بل ربما جاءت على لسان إحدى عجائزنا كموعظة أو حكمة من السلف الصالح أو الزمن القديم، غير أننا قلما ما نسأل أنفسنا عن قائلها أو عمن قيلت له، ونادرا ما نحاول أن نعرف صيغتها التي قيلت بها أو ندرك معناها ومغزاها، فلنكرر السؤال معا على هذه الصفحات، ولنتذرع بالصبر - ونحن لا نملك سواه - لنكشف عن غموضها، ونفهم جهد الطاقة ما يختفي وراءها. (تذكر يا مولاي أنك ستموت في يوم من الأيام)، هكذا تروى هذه العبارة التي لا تخلو - كما نرى - من بساطة وسذاجة، قالها رجل مجهول كما قدمت لرجل آخر مجهول أمام رجال أو نساء مجهولين في ظروف لا نكاد نعلم عنها شيئا، إنها لا تشير إلى قائلها، ولكنها - لحسن حظنا - تكاد تنطق بأنها قيلت لرجل غير عادي، صحيح أنه لا يزال بالنسبة إلينا مجهولا كما كان، ولكنه كما قلت رجل غير عادي، نحس أنه حاكم أو ملك أو خليفة أو إمبراطور أو أحد القياصرة أو ما شئتم من أسماء.
تعالوا معي نتصوره في تلك اللحظة الرهيبة، لعلها لم تكن رهيبة تماما كما تصور هذه الكلمة، فها هو ذا في جلال الحكم وروعته يجلس على عرشه الذهبي المريح، على رأسه التاج المرصع بالجوهر والدر الثمين، وفي يده صولجان الملك المخيف، وفي عينيه نظرة البطل المنتصر أو الملك العادل الحكيم، وها هم أولاد العبيد السود من غابات أفريقيا، أو الصفر من سهول الصين أو السمر من على ضفاف الأنهار في بابل وآشور أو وادي النيل يهزون مراوح الريش على وجهه الملكي الناصع، ويضيفون إلى روعة المشهد رهبة السلطان، وها هم أولاء الوزراء ورجال البلاط والحاشية، وسفراء البلاد الغريبة وأمراء الحرب والأمن، وحكماء المملكة وشيوخها وشعراؤها وعلماؤها ومنجموها يحيطون به من كل جانب.
إنه يجلس إلى المائدة، والمائدة رائعة وحافلة بكل ما يخطر على بالكم من أصناف الطعام والشراب، هل أصفها لكم أم تستطيعون أن تتخيلوها؟ إن أتعس فقراء العالم يستطيع مع ذلك أن يتصور بالخيال ما لم يدخل جوفه ولن يدخله من لحوم شهية محمرة من الضأن والغزال والديكة والحمام، صحاف ذهبية وفضية ملأى بألوان الخضر والفاكهة والحلوى، فنون من الخمر والنبيذ من كل لون وصنف ومذاق، شموع تتألق على المائدة وفي أركان القاعة الفسيحة الناصعة كمصابيح السماء التي ندعوها بالنجوم، وأيد وأفواه مشغولة بتقطيع اللحم وتذوق الحلوى وتجرع النبيذ، وعيون مبهورة بكنوز الأرض الطيبة، وثمارها الحلوة المتاحة، ترتفع إلى الملك الذي يتصدر المائدة، لتشكره على نعمته أو تحسده عليها أو تتمنى بقاءه لكي تدوم أو زواله لتستأثر بها دونه، والملك - كما هو مفهوم - قد نسي فيما يبدو أنه ملك، فعند الطعام تنسى الرتب والألقاب، ويذكر حتى الملوك أنهم معدة جائعة ولحم ينهش لحما، إنه يأكل ويأكل، إنه يشرب ويشرب، قد يرفع يديه ووجهه عن الأكل لحظة ليقلب عينيه في الحاضرين، قد يشير إشارة إلى اليمين أو اليسار، أو يسر بكلمة لوزير أو حكيم، أو يعلق بنكتة لطيفة على مشهد يراه من قريب أو من بعيد، وقد يتوقف قليلا ليشرب على صحة الحاضرين، أو على صحة ملكته أو أولاده أو وزرائه المخلصين، وقد يأمر فجأة بأن يقف الجميع لحظة حدادا على شخص عزيز أو نديم قديم كان يلازمه في مثل هذه المناسبات، أو يميل بأذنه إلى جاره ليسمع الأنباء والشائعات، أو أخبار الأعداء على الحدود، أو أبياتا من الشعر ارتجلها شاعر البلاط المعجب المتخوم، أو نكتة بذيئة يطلقها مهرجه العابث التعس، إنه في قمة مجده وسلطانه، وهو أيضا في ذروة شبابه وعنفوانه، والخير كثير والأحوال طيبة، والملك مستقر وما يأتي من الأيام أفضل مما مضى.
أليست كل هذه المتع ملك يديه وفمه ومعدته؟ أليست بهجة قلبه وعينيه؟ ألا يستطيع أن يمنعها فجأة كما بذلها فجأة؟ أليس في قدرته أن يغضب مرة واحدة فيحول الوزير شحاذا والشحاذ وزيرا، ويحرر العبد ويأسر الحر، ويجلد الجلاد ويقطع لسان الشاعر ويعين الأخرس والأعمى والمخبول في مكان الخطيب والفلكي والحكيم؟ وأي شيء لا يستطيعه ملك الملوك وسيد الأحكام وأمير الشرق والغرب والشمال والجنوب؟ لكنه لا يفكر في هذا الذي لا يفكر فيه إلا الجائعون والمحرومون والعراة، بل يمضي في نهش اللحم كما يفعل وحش منهوم، وينقض على الفاكهة كنسر جارح، ويعب الخمر كالتائه العطشان في الصحراء، هل نضيف أنه يستمتع بلذات أخرى لا نتصورها الآن؟ هل نقول: إنه - وهو يأكل ويضحك ويشرب بصوت مسموع وينثر نكته وحكمه وأمثاله إلى اليمين واليسار - يمتع عينيه بمشهد تقطيع الرءوس؟ رءوس أعدائه بالطبع من أسرى بابل وآشور، أو من الزنوج والعبيد السود أو من ضحايا الصراع بين الجلادين والأسود؟ أم هل نقول: إنه يمتعها بمشهد المغنين والعازفين والراقصات بالصدور والأفخاد والبطون، أم تراه يمتع أذنيه بأبيات ترن في أذنيه بأعذب من رنين الذهب المكنوز من بلاد الأعداء، أو بحكمة يقولها فيلسوفه ومربيه الناصح الأمين، أو نبوءة يرويها عرافه الأعمى العجوز، أو منجمه الذي لا يصدق أحدا سواه؟ ليكن كل هذا صحيحا أو لا يكون، فالمهم أن صوتا واحدا قد عكر صفو المكان، أطلق عاصفة على الحفل المشرق المزدان، أشعل الحريق في قصر الملك أو الخليفة أو السلطان، من أين انطلق هذا الصوت الخشن هادم اللذات! أي رجل ذلك الذي تجرأ عليه؟ إنه كما قلت لكم رجل مجهول، أو وزير البلاط أشفق على الملك من التخمة أو من كثرة الشراب فأراد أن يحذره؟ ولكن كيف يكون وزيرا أو نديما أو قائد حروب أو داهية سياسة وكلهم على ما نعرف من حب النفاق، أم يكون شاعر البلاط أراد أن يطلقه بيتا يخلد مع الزمان ويدونه الكتبة للأجيال؟ ولكن العبارة غير منظومة، ولو قد قالها شاعر البلاط لانقطع عيشه أو رأسه، وكلاهما مجازفة لا يقدم عليها شاعر من الشعراء، أم يكون مهرج الملك الذي يضحكه في كل مناسبة بالنوادر والأعاجيب والحكايات المضحكة والشائعات التي يرويها عن علية القوم أو سفلة الدهماء؟ غير أن المهرج لا يمكن أن يصل بتهريجه إلى هذا الحد، وهو يعرف بطبعه وخبثه أن هذه العبارة سرعان ما تنقلب إلى دعابة سخيفة، والدعابة السخيفة يمكن أن تدفع بالثمن الغالي، أم يكون طفيليا أو شحاذا أو رجلا من غمار الشعب تسلل بحيلة من الحيل إلى قاعة الطعام، ثم زحف بحيلة من الحيل أيضا إلى جانب الملك، حتى وصل إلى مسمع من أذنيه وأسرها فيهما أو أعلنها على مسمع من الجميع، غير أننا نعلم أن المجهولين من الشحاذين ورجال الشارع والمتطفلين أبعد ما يكونون عن بطولة الأبطال، وهم يعلمون بفطرتهم أو يعلمون من شقائهم الطويل أن مثل هذه العبارة لا تناسب المقام، وأنها قد تحرك سيف الجلاد أو نقمة قائد القواد!
نحن إذن لا ندري شيئا عن ذلك الرجل العاقل أو المجنون، والتاريخ لم يقل لنا شيئا عن شكله أو لونه أو طبعه أو منزلته بين الرجال، وليس أمامنا إلا التسليم بأنه لا بد أن يكون قد اقترب من الملك وهو في نشوة الطعام والبهجة والشراب، وأسرها في أذنيه بصوت هامس غير مسموع أو أعلنها فجأة بصوت مرتفع ذي رنين! لكن ماذا تكون هذه العبارة؟ وبأي لغة قيلت؟!
وكيف نطق بها لسانه؟!
هل قالها دفعة واحدة في نفس واحد أو شهقة واحدة كما يبكي طفل فجأة أو كما يصرخ قتيل قبل أن تنفصل رأسه عن جسده أو كما يهتف فارس وهو يغرز الحربة أو السيف في قلب عدوه؟ ثم هل قالها - كما تقول الرواية - للملك أو الخليفة أو السلطان أو الإمبراطور وهو جالس إلى مائدته الفخمة المزدانة بأطيب الطعام والشراب، المتألقة بأجمل الأنوار التي ترسلها الشموع العابقة برائحة المسك والعطور من بلاد العرب والشام، أو لعله قالها لهذا الملك الرائع المجيد وهو يستمتع بمجلس الأنس والطرب ويشنف أذنيه برنين القيثارة وغناء المنشدين، ويبهج عينيه بتأود الراقصات الفاتنات، أو وهو في أوج معركة رهيبة بينه وبين الأعداء، على ظهر جواده الأصيل أو في عربته الملكية البديعة، يرسل سهامه إلى قلوب الفرسان، ويوغل سيفه في رقاب الكفرة، ويصرخ آمرا بقتل النسوة والأطفال، وتعذيب الشيوخ والرجال، وحرق القرى والمدن والأبراج ومخازن الغلال، أو يكون - وهذا فرضنا الأخير - قد قالها له وهو في رحلة صيد في الغابة المعتمة وراء الطيور والوحوش والغزلان، أو وهو يتتبع أفراس البحر أو يصوب حرابه للتماسيح والحيتان؟ نحن لا نعلم شيئا كما قلت، لا نعلم على وجه التحديد ماذا كان مصيره بعد أن قال عبارته؟ ونحن لا نريد أن نلتمس عذرا لتعكيره صفو الملك والمملكة، كما أننا لا نسأل عن الدافع الذي دفعه على قولها، وهي العبارة النزقة الطائشة، لعله تذكر الموت فجأة، موته الخاص أو موت الملك أو موت الحاضرين جميعا في ذلك اليوم الحزين، أو لعل الموت نفسه قد قفز إلى ذهنه أو قلبه دون أن يدري، فتصور الملك والحاشية وسكان المملكة جميعا هياكل فانية أو جثثا عفنة أو كومة تراب، وربما بعد أن قالها بصوته الهامس أو صوته الجهوري، قد لقي العقاب الذي كان ينتظره أو الذي لم يكن ينتظره، فربما أمر الملك الغاضب في ثورة غضبه الملكي العظيم أن يقطع رأسه أمام الجميع، أو ربما أمر أن يلقى في جبه المشهور مع المذنبين والمجرمين والخونة السابقين، أو يربط جسده السمين أو النحيف إلى أربعة خيول قوية شابة فيمزق أشلاء تتناثر في جهات الأرض الأربع! أو ربما - وهذا هو الفرض الأبعد والأخير - قد أطرق في حزن، ومر بيده الملكية الناعمة في شعر لحيته الكثة المهيبة، وترقرق الدمع في عينيه قبل أن يقول له في صوت هامس: معك الحق يا ولدي، فالملوك أيضا يموتون!
نحن لا ندري اليوم شيئا كما قلت، بل لا ندري شيئا عن تلك العبارة المشهورة السيئة الطالع، كل ما ندريه أنها كانت تدور حول الموت، وأنها قيلت للملك أو السلطان أو الإمبراطور وهو في ذروة المجد والحياة، قد تكون كلماتها كما يلي:
تذكر يا مولاي أنك أيضا ستموت في يوم من الأيام! (لاحظ أنه لا بد أن يكون قد ضغط بشدة على هذه الكلمة البسيطة أيضا)، أو قد تكون على نحو آخر مشابه: «تذكر يا مولاي أنك أيضا ستصبح طعاما للديدان!»
وهي صيغة منفرة وغير لائقة، وبخاصة إذا كان الملك وحاشيته على مائدة الطعام، وقد تكون أخيرا على هذه الصورة: «تذكر يا مولاي أن كل الملوك يموتون!»
صحيح أن هذه الصيغة تمتلئ بالحكمة أكثر مما يجب، وأننا يمكن أن نستبعدها على رجل من الشارع أو على وزير، بل قد نستكثرها على الشاعر والحكيم، ولكن ماذا يهمنا من هذه الصيغة المختلفة عليها، ما دامت العبارة قد ذكرت الموت وحذرت الملك من شبحه الجاثم فوق رأسه، وذكرته المصير الذي لم يفلت منه آباؤه وأجداده، وآباء الملوك وأجدادهم ورعاياهم في كل مكان وزمان؟!
قد لا يهمنا هذا كله، وقد نرفض تلك الفروض جميعا، لكن الشيء الأكيد الذي يهمنا والذي كان حقيقة لا نستطيع ولا يمكن أن يكون الملك أو حاشيته أو وزراؤه وندماؤه وشعراؤه ومنجموه وعبيده قد شكوا فيه هو أن العبارة قد قيلت، لا يهمنا على أي صورة من الصور قيلت، ولا يهمنا ذلك الرجل المجهول الذي قالها ولا بأي صوت أو أي طريقة، ولا المصير الذي انتظره ولا العقاب أو المكافأة التي كانت من نصيبه، كما لا يهمنا أيضا أن نعرف ماذا كان رد فعل الملك أو الخليفة أو القيصر أو فرعون أو الإمبراطور أو السلطان: أيكون قد ضحك مستهزئا واستمر في طعامه ونشوته؟!
أم بكى كطفل وفزع وترك مائدته وتركتها الحاشية وراءه؟! أم أصبح بعد سماعها حكيما يعكف على كتب الحكماء، ويحرص على سماع حكاياتهم وأسرارهم، أم أمر بشنق الرجل المجهول أو صلبه أو قطع رقبته أو إلقائه في قاع الجب أو السجن، أو أمر على العكس من ذلك بمكافأته بكيس مملوء بالذهب والفضة أو خلع الحرير عليه وعلى أسرته، أو أمر بتنصيبه وزيرا في البلاط أو حكيما بدل حكمائه الخرس المنافقين، أو إطلاقه يهيم حرا في بلاد الله بعد أن ألقى الحسرة في القلب الكبير؟!
لا نعلم شيئا ولا يهمنا أن نعلم، المهم كما قلت لكم أن العبارة قيلت ذات يوم، وهو أمر لا يصح أن تشك فيه مهما تسرب إلينا الشك في صيغتها وكلماتها ومعناها، المهم أنها الآن موجودة أمامنا تقول لفرعون والخليفة والقيصر والإمبراطور والوالي والسلطان: تذكر يا مولاي أن الملوك جميعا يموتون، أو تقول: تذكر يا مولاي أنك ستصبح ترابا وطعاما للديدان.
أو تقول أخيرا على أحسن الأحوال: «تذكر يا مولاي أنك أيضا ستموت في يوم من الأيام!»
البئر
قالت أمي: إياك أن تمر أمام هذا البيت!
قلت مستنكرا: ولكني أفوت عليه كل يوم!
قالت بسرعة كأنها تريد أن تتخلص من الموضوع كله: إذن فلا تقترب منه ولا تنظر إليه، امش في حالك والسلام.
سكت، وأدركت أنها لم تقنعني كما كانت تريد، فتركت الثوب الذي كانت ترفعه وقالت: هل تريد أن يطلع لك شحاتة بك؟ هي كلمة وبس، إياك أن تعتب هذا البيت.
أخذت حقيبة كتبي ومضيت إلى حجرتي، أخرجت كراسة الواجب ووضعتها أمامي، لكني لم أجد لي نفسا في شيء، ما الذي يخيف أمي من هذا البيت؟ لا أمي وحدها، بل أبي أيضا، وأخي الأكبر، والتلاميذ في المدرسة، كل إنسان يتجنب سيرته، وإذا جاء على لسان أحد غمغم بكلمات غامضة، وسرعان ما يسكت أو يستعيذ بالله من الشياطين، مع أنه بيت مثل كل البيوت، قديم، عال، سلالمه متآكلة، جدرانه سقط من عليها الطلاء، وعلى واجهته الرزينة المتجهمة آثار عز زائل، كان يبدو من منظره كأنه مهجور، ولولا أنني كنت أرى بنفسي في بعض الأحيان شباكا مفتوحا فيه، أو أشاهد بعض الناس يدخلون أو يخرجون منه، لاعتقدت - أنه - كما يقول البلد كله: مسكون، صحيح أنني لا أراه إلا بالنهار.
في طريقي إلى المدرسة أو عند عودتي منها، ولم يحدث أبدا أن رأيته بالليل، في تلك الساعة التي تخرج فيها الأرواح من سجونها تحت الأرض، وتهرول في البيت أو تصرخ في النوافذ أو تلقي على الناس الأحجار من الشرفة، لكن لو حدث لي هذا، فهل أرى حقا شحاتة بك، هل سيجري ورائي كما قالت لي أمي بعصاه الطويلة وقامته النحيلة، ويلعنني بلغته المشهورة وهو يصيح: ابعدوا يا شحاتين يا غجر؟
وهل سأستطيع أن أرى وجهه النحيل الصغير كوجه الفأر، وعينيه الضيقتين اللتين تطقان بالشرر وقد وضع فوقها - كما أكدت أمي - نظارة بسلك مثل نظارات الصرافين؟
بقي السر مكتوما عني، وبقيت أسمع عنه همسا في البيت وفي المدرسة، كنت أمر عليه كل يوم فتتحرك شفتي - على الرغم مني وبحكم العادة - بقراءة الفاتحة أو بما أحفظه من سورة ياسين، لكنني لم أكن أنسى في الوقت نفسه أن أتأمله في عناد، وألاحظ نوافذه وبابه والخرابة محيطة به بدقة، ويقال: إنها مقبرة قديمة، تضم فيما تضمه رفات شحاتة بك وربما أيضا نظارته وعصاه، وأقول لنفسي بين الشك والسخرية والاستياء، إنه بيت مظلوم بكل تأكيد، وأن حقيقته مثل كل المساكين في هذه الدنيا، أفضل بكثير من سمعته، إلى أن جاء اليوم الذي رأيتها فيه، كنت أطوح حقيبتي إلى الأمام والخلف وأتعمد أن أمشي مشية من لا يكترث بالأرواح على اختلاف أنواعها، وحين أبصرتها في الشرفة، توقفت يدي عن حركتها، ونسيت قدمي الحجر الذي كانت تحرص على أن تدفعه من باب المدرسة إلى عتبة البيت، وتسمرت في مكاني أراقب الوجه الذابل العجوز، والشعر الفاحم المنثور في فوضى على العينين والصدر والكتفين، والجسد القصير النحيل المائل على حافة الشرفة يكاد أن يسقط منها، لا أدري حتى الآن ما الذي جذبني إليها، ولا ما الذي منعني من أن ألوذ بالفرار، لم يكن ما اعتراني خوفا، بل ربما كان خليطا من الحزن والدهشة والإشفاق والرغبة في حب الاستطلاع، ولا أدري لماذا نسيت كل ما قيل لي عن الأرواح والأشباح والبيت المسكون ، فقد كان هناك جسد لا أستطيع أن أشك فيه، جسد تستطيع عيناي أن تحيطا بكل أبعاده وقسماته، وكان هناك الوجه، الوجه الأبيض المعفر بالألم والتراب، والتجاعيد التي بدأت تهزم الشباب، أحسست أن المرأة تنظر إلي، لا بل تثبت عينيها في، عينيها الواسعتين الجامدتين اللتين كنت أبحث عن لونهما، وربما أتوقع في كل لحظة أن تسقط منهما الدموع فوق رأسي، وفجأة رأيت ذراعها اليمنى تتحرك وتشير إشارة خاطفة نحوي، اقتربت قليلا فوجدت اليد تشير بإلحاح، والصوت الخافت ينطلق - ربما من كيانها كله - ويهمس: تعال، تعال يا حبيبي!
لم أدر ماذا أفعل؟!
كان يمكن أن أقول: ماذا تريدين مني؟ أو من أنت؟ أو ما اسمك؟ أو أجري هاربا لأتخلص من الموقف كله، ولكن يدا لمست كتفي وهزته بقوة جعلتني أنزل عيني عن الشرفة لأرفعها إلى فلاح طويل، رأيت قدميه الحافيتين ولاحظت الحبل الذي يشد به بقرة نحيفة، تقف غير بعيد مني وتنظر هي الأخرى إلي بغير اهتمام: امش يا بني على داركم، دي مجنونة الله يشفيها ويشفي المسلمين، روح يا ابني على طول.
جررت ساقي بصعوبة، تطلعت إلى المرأة فوجدتها ما تزال تنظر إلي، كانت ذراعها قد توقفت عن الحركة، ويدها التي كانت تشير إلي تسند رأسها وتغيب في طيات الشعر الفاحم المنقوش، لم أدر إن كانت في الحقيقة تنظر إلي أو إلى الفلاح أو إلى البقرة، لكنني شعرت من بعيد أنها تمد لي حبلا من الحنان والدفء، يتابعني في كل خطوة، ويكاد يتلوى يائسا حولي دون أن يتمكن من تطويقي.
لم أنس في اليوم التالي أن أرفع عيني إلى الشرفة الخشبية القديمة باحثا عنها، ولا نسيت عند عودتي من المدرسة أن أفتش عنها في كل النوافذ المقفلة، كان يخيل إلي أنها تختبئ في مكان ما، وراء نافذة أو ستارة أو باب، وأنها تمد إلي الحبل الخفي باستمرار، وتعودت أن أتلكأ أمام البيت، مختلقا الأعذار التي تخفي حقيقتي عن المارة أو تلهيهم عني، كنت أفتح حقيبتي لغير سبب واضح، أو أخرج كتابا أطالع فيه بغير مناسبة، أو أقذف حجرا على السلالم المتآكلة دون كلل، أو ألعب بالنحلة الخشبية التي تنتهي بخيط في يدي، وأنا ساخط على نفسي لهذه الحيل السخيفة، كل هذا وعيني لا تغادر الشرفة التي أنتظر أن تفتح بين لحظة وأخرى، ليطل منها الوجه الذابل العجوز، ومرت أيام طويلة دون أن ألاحظ شيئا، اللهم إلا رجلا نحيلا شديد النحول، رأيته مرة يدخل البيت ثم يتوقف قليلا ويلتفت نحوي ليقول بسرعة ويأس شديد: امش يا شاطر.
إلى أن كان يوم سمعت نوافذ الشرفة تفتح فجأة، كانت هي بعينها، بالوجه الذابل العجوز والشعر الفاحم المنتشر في فوضى على العينين والصدر والكتفين، لم تكد تراني حتى أقبلت على السور الخشبي في لهفة، وأشارت إلي هاتفة: تعال، تعال يا حبيبي!
تشجعت وألقيت السؤال الذي أعددته منذ وقت طويل: ماذا تريدين؟!
قالت وهي تضع يدها على رقبتها كالمختنقة: أشرب، عطشانة يا حبيبي.
لم أصدق أن مثل هذا البيت خال من الماء، ونظرت حولي لم أجد زيرا ولا قلة، فسألت: تشربين؟ من أين؟
قالت مؤكدة: من البير!
تلفت مرة أخرى فلم أجد البئر الذي تتحدث عنه.
ثم سمعتها تقول: لا لا، البئر هناك.
ورأيت يدها تشير إلى بعيد، ربما إلى الجسر القائم على الترعة، أو إلى المدرسة، أو ما وراء البلد كله، ولم أستطع أن أتذكر وجود بئر في أي مكان، وسكت فعادت تقول في هدوء: عاوزين يسموني، هات لي أشرب يا حبيبي، عطشانة.
وظلت تكرر كلمة عطشانة وأنا أتطلع إليها في حيرة، وفجأة فتح باب الشرفة وأطل وجه الرجل النحيل الذي رأيته يدخل البيت منذ أيام، وذراعه تمتد إليها وتجذبها بشدة وهي تهتف عطشانة، عطشانة، وباب الشرفة يغلق في عنف، ومرت لحظات قبل أن يفتح باب الشرفة من جديد، ويطل منه وجه الرجل النحيل الصامت، مال بجسمه على السور وتلفت في كل اتجاه، ثم أشار إلي يائسا وقال: روح يا شاطر، روح!
فلما وجدني لا أزال واقفا في مكاني وبدا عليه الاطمئنان؛ لأنه لم يصادف أحدا يمر في الشارع قال: روح يا ابني ، روح سيبوا الناس في حالها!
لم أخبر أحدا بما حدث، طويت صدري على السر الذي ظننت أنه ملكي وحدي، بالطبع لم يغب عني أن كثيرين من أهل بلدتنا قد سمعوا عن هذه المرأة، وربما رآها بعضهم في الشرفة كما رأيتها، أو سمعها تناديه أو تكلم نفسها أو تشير إليه، لكنني كنت على يقين بيني وبين نفسي بأنها لم تطلب من أحد سواي أن يسقيها، وحتى لو كانت قد طلبت هذا من أحد غيري، لما كان في الأمر شيء، فلم يكن السر كله في أنها عطشانة، فهذا شيء قد يعرفه معظم الناس، وقد تعرفه أمي وأبي وأخي الأكبر أيضا، وإن لم يحدثوني عنه أبدا، ولكن مصدر افتخاري وسعادتي - أجل كانت سعادة لا أدري كيف لم أخجل منها - هو يقيني بأنها لم تكلم أحدا غيري عن البئر الذي أرادت أن تشرب منه، ولم تكلف أحدا غيري بأن يسقيها منه.
أحسست من ذلك اليوم بأنني مكلفة بمهمة حقيقية، لا أدري حتى الآن ما الذي جعلني أشعر بعبئها الثقيل فوق كتفي، ولا أدري إن كنت قد تصورت أنني سأجد ذلك البئر البعيد في أي مكان، بل ولا فكرت إن وجدته كيف أوصل إليها الماء الذي آتي لها به، كل ما أذكره أنني قبلت أن أقوم بهذه المهمة، لا بل تحمست لها وشعرت بضرورتها وجدواها، هل غاب عني أن المرأة مجنونة؟ هل كنت أجهل أن ما تقوله مجنونة عن بئر مجهولة لا يزيد عن كونه جنونا في جنون؟ بالطبع لم يغب هذا كله عني، لكنني كنت أعتقد لسبب لا أدريه أنني مكلف بالبحث عن هذه البئر، كما كنت متأكدا أنني لا بد أن أجده بمعجزة من المعجزات، ومضيت أبحث عن البئر في كل مكان، في البداية لم أكن أسأل أحدا بل رحت أفتش في الاتجاه الذي أشارت إليه، وراء المدرسة وعند الجسر، في داخل العزبة الصغيرة التي كانت تقع بالقرب من مدرستنا، وتسكنها جماعات من عمال التراحيل والمداحين والشحاذين، ومن ليست لهم حرفة محددة، وكنت في بعض الأحيان أتعلل بأي سبب لأخرج من بيتنا عند الغروب، وأمضي إلى ما وراء الجسر الذي تعبره مواكب الفلاحين والجاموس والحمير والأطفال والنساء العائدين من الحقول، كنت أحتمل نظرات الجميع المتطفلة إلي، وأداري نفسي إذا لمحت فلاحا يعرف أبي، وأقول لمن يسألني إنني أشم الهواء أو أنتظر أحد أصحابي أو أذاكر في الخلاء، وكان أغلبهم يصدقني وينصحني ألا أتمشى في الخلاء، أو يحذرني من الكلاب والذئاب وأولاد الحرام، وبعضهم يشدني غصبا ويركبني على حماره ويعود بي إلى البلد، صحيح أنني كنت في بعض الأحيان أسأل أحدهم عن البئر، فإن سألني عن مكانه لم أجد ما أرد به سوى ما قالته لي المرأة: البئر اللي هناك!
فيضحك مني أو يقسم بأنه لم يره في حياته، أو ينكر وجود آبار في بلدنا على الإطلاق، لكنني كنت على العموم أكتم سره في نفسي، وأواصل البحث عنه حتى تحت قدمي، ويكاد يخالجني إلهام بأن الأرض ستنشق عنه ذات يوم، وأنني سأملأ أقرب وعاء تصل إليه يدي، أو حتى أملأ به كفي وأجري إلى المرأة المسكينة، وأصرخ ولو في عز الليل: يا عطشانة اشربي من البئر!
وكنت في كل مرة أمر أمام بيتها أو أراها تطل من الشرفة أو من نافذة، أو أشاهدها تشير إلي في الحقيقة أو في الخيال، أجري مسرعا كأنني أخاف أن تطالبني بالماء، أو كأنني أثبت لها أنني ما زلت أبحث عن البئر، وأنني قد عهدت لها بذلك ولن أخون هذا العهد، لم يكن في مقدوري أن أقف أمام البيت وأصرخ مؤكدا أنني سأجده في يوم من الأيام، ولا بأنها ستشرب من مائه وتشرب حتى يزول العطش إلى الأبد، ويختفي الحزن من العينين والتجاعيد من الوجه العجوز، واليأس من الصوت الهاتف المتحشرج بالدموع، لم يكن هذا ممكنا لأنني كنت أعرف أنها لن تسمعني، وإذا سمعتني فلن تصدقني أو تفهمني، وحتى إذا صدقتني وفهمتني فإن الرجل الصامت النحيل والمارة الذين يعبرون الطريق لن يتركوني أتكلم معها، ولن يسمحوا لها بالوقوف طويلا في الشرفة لتستمع إلي.
وفي يوم من الأيام وأنا أمر من أمام البيت - كان وقت الغروب ولا أذكر في أي مشوار أرسلتني أمي، ولا إن كنت عائدا من جولاتي السرية في أرجاء البلد وضواحيه - سمعت صراخا ينبعث من البيت، لا بل من الشرفة التي رأيتها فيها وسمعتها تتكلم منها، كانت تقف هناك، لا بل تتعلق بكل قوتها بالسور، وتتخلص من قبضة الرجل الصامت النحيل، الذي كان يحاول هو أيضا بكل قوته أن يشدها إلى الداخل، جلجل صوتها المشروخ في فضاء البلدة التي كانت نائمة أو تتهيأ للنوم، صوت يستغيث ويبكي ويرن كأجراس معلقة في حبل مشدود فوق هاوية: عاوزين يسموني، الحقوني يا ناس، عطشانة، عطشانة!
تجمع بعض الناس تحت الشرفة، فلاحون عائدون لتوهم من الحقول، أو صبية استطاعوا أن يغالبوا النوم، ونسوة خرجن من بيوتهن على الصوت المألوف، أو مشايخ في طريقهم إلى الخاتمة أو صلاة العشاء، ولاحظت أن الجميع يكادون يتفقون في شيء واحد هو أنهم لم يندهشوا لما يحدث أمامهم بل توقعوه دائما.
وربما عرفوه قبل ذلك مرات، وكان هناك شبه إجماع آخر في الدعاء الذي يخرج منهم: اللهم اشفها واشف المسلمين.
أو في الاستغاثة بالله والنبي والأولياء: لا حول ولا قوة إلا بالله، نجنا يا منجي!
وكنت لدهشتي أراهم يقتربون من البيت خطوة ليتراجعوا خطوات، والرجال فيهم يبعدون النسوة والأطفال، ويجمعون بعضهم ويسيرون وهم يهزون رءوسهم.
كنت أشعر أنهم يعملون خاطرا لصاحب البيت، الذي يحاول محاولاته اليائسة مع المجنونة، لا بل يعذرونه ويتمنون أن يقويه الله ويعينه على بخته، وكنت - في سعادة وتشف لا حد لهما - أقف هناك وأحس أنها تشير إلي أنا وحدي دون الجميع، وتسألني ولا تسأل أحدا سواي: فين الميه يا حبيبي، فين الميه اللي جبتها لي؟!
ولما لم يكن أحد يعرف لمن تتحدث ولا أي شيء تعني، فقد كانت تهتف بعد ذلك يائسة، ويدها ورأسها وشعرها وكل نبضة حزن وحياة فيها تستغيث بي: عطشانة، عطشانة يا حبيبي، هايسموني، أولاد الحرام عاوزين يسموني، روح هات الميه من البير، البير اللي هناك، عطشانة، عطشانة!
في هذه المرة أيضا شعرت بيد تلمس كتفي، لا بل تهزه هزة عنيفة، وقبل أن أفيق إلى صاحبها وجدتها تنتزعني من مكاني وتدفعني بعيدا وصاحبها يقول: حرام عليكم يا ناس، ما فيش في قلوبكم رحمة؟!
وأسمع وأنا أبتعد خجلا، صوت الشرفة يغلق أخيرا.
وصاحب البيت الصامت النحيل يطل منها ويقول كأنه يحدث نفسه؛ لأن الناس تكون في العادة قد تفرقت: روحوا يا ناس، سيبونا في حالنا!
لم أعد أرى المرأة من ذلك اليوم أبدا، ولا عدت أسمع صوتها الذي ظل يدوي في أذني منذ تلك الليلة العصيبة، ولاحظت أن سيرتها بدأت تخف على ألسنة الناس، حتى أوشكت أن تنسى أو تختفي، وكلما تجرأت على سؤال أحد عنها أجبت بالصمت أو بكلام لا فائدة منه، أو بتحذير صريح من البعد عن سيرتها، كانت أمي تقول في حزن: الله يعينها هي وأخوها!
وأكد أبي مرة وهو يتكلم مع أحد الضيوف من الصعيد أنهم ألبسوها القميص الأبيض، ولم يسمع أحد عنها شيئا منذ أخذوها على المركز، وسمعت بعض الفلاحين - حين تجرأت مرة وسألت أحد جيران بيتها عندما كان ينزل من على حماره - سمعته يقول: إنها ماتت في مصر في المورستان عند جبل المقطم.
كما خيل إلي مرة وبعد سنين طويلة أنني ألمح في عيني أبي سخطا على أخيها وأهلها؛ لأنهم لم يزوروها مرة واحدة في المورستان، وأن المسكينة ستموت غريبة يا ولداه كما عاشت غريبة، وكان يدهشني أن القليلين الذين يذكرونها أو تأتي سيرتها على ألسنتهم مصادفة لم يقولوا شيئا عن عطشها، ولم يعرفوا شيئا عن البئر التي كانت تشير إليها، ولا الماء الذي كانت تطلبه وهي تبكي وتولول وتستغيث، وكان هذا التجاهل والنسيان مصدر إحساس خفي في نفسي بالانتصار أو الفخر، ظل يتحول مع مرور الأيام والسنين إلى شعور ممزوج بالخجل والندم والشقاء.
والآن بعد أن مرت الأعوام، وظهرت الشعرات البيض في رأسي، واختفت النحلة وحقيبة المدرسة من يدي، ومات الرجل الصامت النحيل ، ونسي الناس سيرة شحاتة بك ونظارته وعصاه، أقول لنفسي كلما مررت بالخرابة التي لا تزال قائمة وبالبيت الجديد الذي بني على أنقاض القديم: أيتها المجنونة المسكينة!
أيتها المجنونة العزيزة!
متى تظهرين في الشرفة مرة أخرى وتنادين علي؟!
متى تجدين البئر النقية البريئة، فأشرب منها وتشربين؟!
الشيخ سيد طار
ليس للإنسان أن يستهين بشيء أو بمخلوق مهما قل شأنه، فالله يضع سره - كما يقولون - في أضعف خلقه، وهم أيضا يقولون في بلدتنا عن بلدة أخرى مجاورة، عن عزبة صغيرة لن تظهر على الخريطة ولن تدخل التاريخ، إن الشيخ سيد طار، بالطبع لم تكن له أجنحة، فالشيوخ ليسوا عصافير.
ولا يعرف أحد على وجه اليقين هل كان الشيخ سيد شيخا بحق، أم أن الناس سموه كذلك من كرمهم المعروف!
بل لا يستطيع أحد منا أن يؤكد أو ينفي أنه كان يدعى سيد ولا يدعى محمد أو أحمد أو محمود، لكن الشيء الذي لا نستطيع أن ننكره - نحن العجائز على الأقل - فلا يضمن أحد اليوم أو غدا ما ستكون عليه آراء الشباب جيلا بعد جيل، هو أن الشيخ سيد قد طار.
وإليكم الآن ما سمعته عن هذا الأمر العجيب!
صحا الناس ذات يوم، في تلك العزبة التي حدثتكم عنها، فوجدوه في مكانه الذي لم يغادره أبدا بعد ذلك، كان من عادتهم في كل صباح أن يعبروا جسرا صغيرا من الخشب، يئن تحت كل خطوة كأنه يلفظ أنفاسه، أو يذكر الناس بأنه مات بالفعل، وحرام أن يدوس الإنسان على الأموات، فلاحون يجرون مواشيهم وحميرهم وكلابهم وأولادهم، ويسيرون إلى حقولهم أو حقول غيرهم متوكلين على الحي الذي لا يموت، وتجار صغار يجرون على رزقهم والأرزاق كلها على الله، ونسوة وأطفال وتلاميذ وأفندية ومخلوقات تمشي على اثنتين أو على أربع على حسب البخت والنصيب، ونادرا ما يتوقف الناس عند الجسور أو يخطر لهم أن يقضوا عليها أكثر مما يقتضيه العبور، ومن يدري؟ فقد يطوف بأذهانهم أن الدنيا ليست دار بقاء، وأن عمرهم - كهذا الجسر - رحلة يقطعونها بين حياة لا يذكرونها وحياة لا يعرفون عنها شيئا، وسواء أكانت هذه الأفكار تدور في رءوسهم أم كانت من آثار الشيخوخة علينا، فقد كانوا يتجمعون بعد الجسر قبل أن يتفرقوا كل في سبيل، هنالك اكتشف واحد منهم وربما أكثر من واحد، أن رجلا ضئيلا قد سكن في شجرة الجميز التي تواجه الجسر، أقول سكن فيها ولا أقول جلس تحتها، فلو أنه كان يجلس تحتها لما كان في منظره ما يسترعي انتباه الصغير ولا الكبير، ولقالوا لأنفسهم واحد من المتعممين يستريح في الظل، أو غريب والغرباء أحباب الله، لكنه كان قد سكن في الشجرة وانتهى الأمر، وهيأ له بيتا في تجويفها الكبير الذي يبدو أنهم لم يفطنوا إلى وجوده من قبل، كان يجلس هناك متربعا على راحته كالمشايخ الذين يتلون القرآن على القبور، برأسه الصغير الذي يلتف في شال أخضر بدا من بعيد كعمامة الأولياء الواصلين، ووجه ضامر مغبر لا يدري أحد أن كانت سمرته الشاحبة - التي زادتها لحية كثة مهملة - من أثر العرق والتراب أو من شقاء الغربة والمرض والسفر في بلاد الله، وجلباب أبيض فضفاض يستره ويجعله يبدو للعين من داخل التجويف المظلم كأنه شمس صغيرة أو مصباح أضيء في عز النهار، كان يجلس هناك كما قلت، على راحته وفي اطمئنان من يشعر أنه في بيته، وقد تقول أن الناس تعجبوا في أول الأمر حين شاهدوه، وقد يكون بعضهم قد قال كلمة من هنا أو من هناك، أو ضحك بصوت مرتفع أو صوت مكتوم، وقد يكون بعضهم قد اقترب منه ووقف يتفرج عليه أو يفرج الناس، لكن يظهر أن جلسته الجامدة المستريحة كالتمثال، واطمئنانه إلى أن كل شيء عنده على ما يرام وأكثر مما يرام، ووضعه أشياء مرتبة أمامه ووراءه في نظام (المركوب الأصفر أمامه، والمصحف مفتوح على حجره، والمسبحة السوداء الطويلة في يده، والبقجة المعروفة وراءه وفيها زاده وفراشه، والكوز والطبق الوحيد إلى جانبه)، كل هذا قد كتم ولا شك صيحة الدهشة أو ضحكة السخرية في صدور الناس ، كان الشيخ سيد قد أصبح حقيقة قائمة أمامهم، لا بل متربعة ومستريحة وهادئة البال.
تستطيعون بالطبع أن تشكوا في كل ما قلت عن الشيخ سيد، ابتداء من اسمه إلى وجهه وسحنته وعمامته وجلبابه وخرجه وكوزه وهلاهيله، بل تستطيعون أن تستبعدوا وجود إنسان في داخل شجرة، وخصوصا إذا عرفتم أنه ظل فيها كما يقولون سنين وسنين، لكنني أحكي لكم ما سمعته ولم تره عيناي، ومن حقكم بالطبع أن تصدقوه أو لا تصدقوه، وما سمعته أن الشيخ سيد قد أصبح مع الزمن، بل من أول يوم رآه الناس، معلما بارزا من معالم العزبة، كما يقولون اليوم في لغة الصحف والمجلات، لقد ألف الناس أن يأتوا إليه كل صباح بعد عبورهم الجسر، وكل مساء في طريقهم إلى بيوتهم، فيتبركوا به وقد يلثمون يديه ويسألونه الدعوات.
ولا شك أن الأمر تطور ببعضهم، وخصوصا النساء الحوامل أو اللائي يتمنين الأطفال، فيطلبون منه الشفاء للمرضى والستر للأصحاء والرحمة لأمواتهم وأموات المسلمين، وقد يسألونه أن يمسح بيديه الطاهرتين على رءوس أطفالهم أو يصنع لهم الحجاب، أو يقرأ عليهم الصمدية أو يعمل لهم العمل، أو يقرأ الطالع ويكشف المستور، وطبيعي أنهم كانوا يذكرونه بعطاياهم - والكريم لا يضام - ويقدمون له في السر ما فيه القسمة: جلباب قديم، أو رغيف بالغموس، أو قليل من اللحم والطبيخ أو شيء من خضار الغيط، أو حتى قطعة دمور تنفع - حين يحين المقدور - للطلعة والتكفين.
لا أطيل عليكم، فقد ظل الشيخ سيد يتمتم بأدعيته - والله وحده يعلم إن كانت من القرآن أو كانت أي كلام - وظل أهل العزبة يتبركون به ويلثمون يديه، وينفحونه من خيراتهم على قدر النصيب، ولا أستطيع أن أحكي عنه شيئا غير مألوف، بل لا أذكر أن أحدا ممن سمعت قصته منهم، قد روى عنه خبرا أو كلمة يمكن أن تؤثر عنه، أو تدخل في باب النوادر والأعاجيب، وكل ما يقولونه: إنه همس ذات صباح أو مساء في أذن واحد منهم - ولا يهم فيما أظن أن نعرف شيئا عن هذا الواحد المجهول - برغبته الأخيرة.
لا أعلم بالضبط ماذا كانت كلماته؟ لكن يبدو أنه قال ما قاله وانتشر كالريح بين الجميع، وعرف الناس أن الشيخ يريد أن يدفن في مكانه، صحيح أن أحدا لم يسأل نفسه هل ذلك سيكون ممكنا أو لا يكون، وصحيح أنهم ربما يكونون قد تعجبوا من رغبته في أن يدفن في بطن شجرة عجوز مصيرها ككل الأشجار أن تقطع أو تكسرها الشيخوخة أو الريح، وربما يكونون قد ابتسموا أو أسفوا على طيبة قلب هذا الرجل أو عبطه؛ إذ يطلب أن يكون قبره شجرة في حين أن أرض الله واسعة، والمحسنون من هذه الناحية كثير.
المهم أنهم وجدوه ذات يوم ميتا، لا يدري أحد كيف خرج النفس الإلهي منه، ولا كيف كانت ميتته، فهي آجال وأسباب، المهم أنهم وجدوه ذات يوم ميتا في جوف الشجرة، كما وجدوه ذات يوم من أشهر وسنين متربعا تحتها، شموا رائحة المسك تفوح من جسده الطاهر فهاجوا وكبروا، ووجدوا فوق رأسه الصغير المسندة إلى جذع الشجرة حمامة تجمجم فارتفع تكبيرهم، وعرفوا أن هذه علامة من السماء، صحيح أن هناك من يقولون إنها لم تكن حمامة ولم تكن فوق رأسه تماما، فربما كانت هدهدا أو يمامة أو عصفورا أو حتى فراشة أو نحلة أو حشرة من حشرات الحقول، ولكنهم رأوا في هذا الكائن الحي الذي لا ندريه إشارة أو بشارة أو أمر تكليف، وربما يكون أحدهم قد هتف بعد أن أخذته الجلالة باسم صاحب المقام، أو يكون أحدهم قد ذكر كلمة المقام صدفة وبغير تدبير، المهم أن الكلمة تنقلت بين الأفواه والآذان، ودارت دورتها المحتومة في الجوامع والبيوت والحقول، حتى صار بناء المقام في تلك البقعة، عند هذه الشجرة، أمرا مقدسا لا يصح أن يجادل أحد فيه، وسرعان ما أعد الكفن، وغسل الميت بماء طاهر تعاون الجميع في إحضاره، ورش قطرات فوق الجسد الضئيل المسجى في ظل الشجرة العجوز، راح كل إنسان يأخذ من البركة نصيب، راح الجميع يشاركون في هذا الحفل المشهود، وأصبح من واجب كل واحد أن يمد يده ولو من بعيد، وإذا لم يستطع أن يغسل الميت أو يساعد الملحد في الغسل فلا أقل من أن يجلب الماء أو يمسك بالوعاء، أو يطلق لسانه بالتكبير أو يمتع عينيه بالفرجة على أضعف الإيمان، وكما يحدث في هذه الحالات وصل الخبر إلى السلطات، بدأ بالعمدة الذي أقبل مسرعا عبر الجسر ووراءه الأعيان والأتباع، لا بد أنه لم يفاجأ بموت الشيخ سيد كما لم يفاجأ من قبل بوجوده، بل لعله قد مر عليه وتبرك به عن إيمان أو تقليد كما كان الجميع يفعلون، ولكن لا بد أنه فوجئ من ناحية أخرى برغبة الأهالي في دفن الرجل عند الشجرة أو في داخلها، ورأى في ذلك شيئا يتحتم الرجوع فيه إلى المسئولين.
هل صرخ ونادى على الناس أن يعقلوا ويرجعوا عما ينوون، أم أظهر الموافقة ودعا بالبركة للموجودين، أم ذهب إلى حد تحبيذ الفكرة والمشاركة برأيه وماله في تجهيز الميت وإعداد الضريح وإحضار البنائين؟! لا أحد يدري كما قلت، لكن الأرجح أنه وجد من واجبه ألا يبت في المسألة بنفسه، وأن يسأل ضابط النقطة وناظر المدرسة وواعظ الجامع، حتى ولو أدى به الأمر إلى الاتصال بالبندر وإبلاغ البيه المدير، ويبدو أنه لم يحتج إلى هذا الإجراء، فسرعان ما جاء رأي الضابط أو حضرة المأمور، لقد رفض حضرة المأمور، بل هتف وصاح: يا ناس، هل نحن في مستشفى المجاذيب؟ كيف يقام قبر على الترعة؟ وهل ضاقت الجبانة بالشيخ عفريت؟!
طبيعي أن يحزن الناس ويستعيذوا بالرحمن الرحيم، لكن يظهر أنهم في مثل هذه الحالات، وبغريزة كغريزة الحيوان، يطوون حزنهم في الصمت المطبق القديم، ويمضون في عملهم كأنهم لا يفهمون ولا يهتمون.
جهز الميت، وسار النعش وعليه العمامة الخضراء، ويتزاحم على حمله الفلاحون، كانت الجبانة في الناحية الأخرى من الجسر المتآكل القديم، وكان عليهم أن يصلوا على الشيخ سيد في الجامع قبل أن ينقلوه إلى قبر من قبور المحسنين، وانتهت الصلاة وزاد الزحام على حمل النعش بين الدعاء والتكبير والتهليل ، الجبانة معروفة والطريق إليها مضمون، يعرفه هؤلاء الذين يسيرون في الجنازة، وكيف يجهلون الطريق المحتوم؟! لكن ما بال الشيخ يجهله ويشرد من بين المشيعين؟ ها هو النعش يغير الطريق.
إلى أين يا شيخ سيد؟ إلى أين يا نور الصالحين؟!
الزحام يشتد حول النعش والشيخ رأسه وألف سيف أن ينفذ ما في دماغه ويسحب الأهالي من الأنوف والذقون، حاسبوا يا أولاد، يا أولاد على الجبانة، يا شيخ سيد عيب، وقف يا ولد أنت وهو.
على الجبانة يا أولاد، ماذا نفعل يا عمدة والشيخ يطير؟
سبحان الله، لا إله إلا الله محمد رسول الله، النعش يطير، النعش يطير، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الشيخ يطير، الشيخ يطير، أمسكوا يا أولاد، نفسكم يا جدعان، لكن الشيخ سره باتع، الشيخ يطير يا عمدة، والله العظيم الشيخ يطير.
كبر الأهالي وهللوا، انطلقت حناجرهم في صوت خشن رهيب، وانطلقت أرجلهم وراء النعش الذي لم يكن هناك شك في أنه يطير ويطير، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وفي نشوة الجلالة ودوامة التكبير والتسبيح والزغاريد ارتفع صوت قوي رهيب: لا إله إلا الله يا ظالم منك لله! - أوقفوا النعش يا أولاد، يا أولاد اثبتوا يا أولاد.
لكن صوت العمدة ورجاله يتوه ويضيع كالحصى في دوامة الريح، وعمامة الشيخ تجري كالرهوان، والشيخ سره باتع يا عمدة، الشيخ جبار وعنيد، الشيخ يشدنا يا عمدة، يكفينا على وجوهنا يا ناس، يدفعنا من ظهورنا ويحرك حناجرنا لا إله إلا الله، يا ظالم منك لله، انطلق النعش يجري والناس وراءه، النسوان زغردت وصاحت: بركة يا جدعان! والرجال داخوا يا ولداه من الشد والجذب والجري والوقوف، والأطفال وجدوها فرصة للسباق والصياح والعفرتة والشماتة في الأعداء ورجاله والأعيان: بركة يا عمدة، طر يا سيد، طر يا شيخ!
وبعد أن تعب الرجال وصارت هدومهم ماء في ماء، وانقطعت أنفاسهم من الجري والتهليل والدعاء، فوجئوا بأنفسهم أمام النقطة، رأوا العساكر أمامهم ينظرون إليهم ويتعجبون ، كان من الممكن، بل من الواجب أن يرتدوا عائدين لولا أن الأمر لم يكن في أيديهم، فها هو الشيخ يدفعهم وهم يجرون ويجرون، حتى ألسنتهم لم تستطع أن تتوقف عن دعاء تحركت به بغير تفكير: يا ظالم منك لله!
ومع لا إله إلا الله تهدر كالعاصفة، كخرفشة مكنة الطحين، كدوي الميكروفون من مئذنة الجامع القديم، اندفعوا كقطيع هائج مجنون من باب النقطة، كل من رآهم من العسكر والحراس تجمد في مكانه، بهت وزاغت عيناه، تصلب في وقفته وصار كشجرة مزروعة في الأرض مغروزة في الطين، من كان يعرف أن الميت سيأتي بنفسه إلى النقطة؟ من يصدق أن النعش يترك الجبانة ويأتي للزنزانة؟ ها هو يسير ويسير (ترى هل أطل الشيخ برأسه دون أن يشعر أحد؟) وللحكمة الإلهية يقف عند حجرة حضرة المأمور، ثم يندفع بالفلاحين المساكين كالسهم الهائج من الباب الكبير. - امسكوا يا جدعان، حاسبوا يا أولاد، اعقل يا سيدنا الشيخ، يا سيدنا الشيخ ربنا يهديك.
لكن الشيخ يندفع بكل قوته (من كان يصدق أن الشيخ سيد يملك كل هذا الجبروت)، ناسيا هيبة المكان متجاهلا البنادق المشرعة في أيدي العساكر، والنجوم اللامعة في ستراتهم، والشوارب المبرومة في وجوههم، لا بل يبلغ به العناد أن يهبط فجأة - كما ينزلق المولود من يد القابلة - على مكتب حضرة المأمور، ويزداد به العناد حتى يخبط بكل قوته على المكتب (من ناحية الرأس كما يروي الشهود الأقدمون) خبطتين أو ثلاث خبطات قوية، صارمة.
لا بد أن الضابط هب مذعورا، طارت روحه من جسمه، أو وقف قلبه في صدره لحظة قبل أن يتسمر بالحائط ويبلع ريقه، ويرفع يده المرتعشة وأصبعه بالشهادة، ويصيح بصوت كأنه صوت ميت: أمرك يا سيدنا الشيخ، أمرك يا سيدنا الشيخ!
ثم يهتف بالأهالي: نفذوا طلباته يا جدعان، كل طلباتك يا شيخ سيد، وابنوا له المقام ابنوا له المقام، المقام، المقام!
ويظهر أن حضرة المأمور ظل يكرر هذه الكلمة حتى نبهه الشاويش النوبتجي والعساكر الذين بدءوا يفيقون من الذهول إلى أن النعش قد خرج من زمان، والجنازة انفضت والناس راحت لحالها ، بل ربما ظلوا لأيام وشهور عديدة يؤكدون له أن الشيخ قد خرج مسرورا من عنده، راضيا عنه وعن عياله، داعيا له وللحكومة بالستر والنصر على الكفار، ومن يدري؟ فلعلهم ظلوا يكررون له ذلك حتى في تلك الأيام الطويلة، التي دأب فيها على الإشراف بنفسه على بناء المقام، تحت شجرة الجميز العجوز، أمام الجسر المتآكل الذي ما يزال يئن أنين المحتضر تحت كل قدم تعبره، بل يؤكدون له كما سمعت من بعض العجائز الذين يذكرون هذه الحادثة حتى الآن، أن الأهالي لا ينظرون إليه ولا إلى مبنى النقطة نظرة سخرية ولا شماتة، بل لعلهم قد نسوا هذه الحكاية كلها تمام النسيان.
بابا وماما
تروح الأيام وتأتي الأيام وزينب تعمل في بيت الحاج محمود، من ثلاث سنين، عندما جاءت بها أمها من العزبة، كانت كالبلبلة الصغيرة لولا أنها كانت تنط وتجري، وتعرف الكلام أيضا، لقالوا إنها لم تفطم بعد، كتلة من اللحم، في خرق مهملة، تحتاج لمن يرضعها ويطعمها ويسقيها، ومن عنده طول البال؟ قالت الحاجة بسيمة - التي زارت سيدنا النبي ووضعت يدها على شباكه - بعد أن خرجت من الصلاة: باسم الله ما شاء الله، يا شيخة البنت صغيرة.
قالت أمها بعد أن لطعت يد الحاجة: خادمتك يا ست الحاجة.
قالت الحاجة وهي تلمس رأس البنت وتكاد تقبلها لولا رائحة التراب والعفونة التي تطلع منها: والنبي إنها محتاجة لمن يخدمها.
تقول أمها: ما هي بنتك وخادمتك يا حاجة، تتربى في عزكم أنت وسيدي الحاج، ربنا يخليكم لنا، بطن وانزاحت عنا يا حاجة، والنبي ما هي راجعة ولا آخذها من عندكم إلا وهي عروسة، والحاجة تضرب كفا بكف وتضحك: اللهم صل عليك يا نبي، طيب يا ستي، رزقنا ورزقها على الله، روحي أنت بالسلامة. وتروح أمها، بعد أن تتغذى وتأخذ ما فيه القسمة وترفع كفيها بالدعاء أن يعمر الله البيت، ويطيل في عمر الحاج ولا يحرمها منه أبدا. •••
تروح الأيام وتأتي الأيام وتأخذ زينب على البيت وأهله، سميرة بنت الحاجة، التي تكبرها بعام واحد، تصبح صاحبتها الروح بالروح، إن لعبت أمام البيت لعبت معها، وإن ذهبت للسوق رجلها على رجلها، وإن جلست تقرأ الحواديت وتجمع وتطرح في البيض والملاليم جلست بوزها في بوزها، وسميرة تموت فيها ولا تتصور الحياة بدونها، صحيح أنها تنام على السرير وزينب على الأرض، ربما أيضا من غير غطاء، وصحيح أنها تأكل مع أمها وأبيها على السفرة، بينما زينب تلتقط لقمة من هنا ولقمة من هناك، ويا ما باتت من غير عشاء لأنهم نسوها أو لأن النوم كبس عليها، لكن ماذا يهم كل هذا؟ ماذا يهم أن تمشي حافية طول النهار، أن تدوخ كالنحلة بين المطبخ والسفرة وعشة الفراخ على السطوح ودكان البقال والجزار في السوق، ما دامت تستطيع في النهاية أن تلعب مع سميرة، أن تسمع ما حدث للخروف المسكين مع الذئب الطماع، وتطمئن على أن الشاطر حسن قد تزوج ست الحسن والجمال، والعصفور ضحك على دقن الثعلب المكار؟ •••
الحاجة لا تمل من سيرتها أمام الستات، شوفوا والنبي، البنت أخذت علينا خلاص، نسيت أمها وأبوها كأن عمرها ما شافتهم، آي والله يا علية هانم ويا ست زينات، البنت فاكرة إني أمها؟ - يا زينب. - نعم يا ماما. - هاتي لي أشرب. - حاضر يا ماما. - يا بنت عيب قدام الضيوف. - عيب إيه يا ماما؟ - عيب تقولي لي يا ماما.
قولي يا ستي. - حاضر يا ستي ماما. - الله يخيبك يا زينب. كسفتيني أمام الضيوف. - والنبي إن دمها شربات، يا الله يا حاجة، كلنا أولاد آدم وحوا، وسيدنا النبي - اللهم صل وبارك عليه - وصى على اليتيم والغريب، أبوها موجود؟ وأمها؟ هي على كل حال بنتكم، لأجل خاطر سميرة، وربنا يخليكم وتتربى في عزكم، والحاج أيضا فرحان بها، في كل مجلس سيرتها على لسانه، البعيد والقريب في البلد عرفوها، الباشا والبيه، الدكتور ومأمور المركز سمعوا عنها، حتى أصحاب الدكاكين والعيال التي تلعب في الشارع كلما رأوها قالوا لها: سلمي على بابا الحاج، قولي يا زينب لبابا الحاج. - نادي يا زينب على بابا الحاج. - يا بنت يا زينب! - نعم يا بابا. - قولي لستك تعمل شاي. - حاضر يا بابا. - يا بنت يا زينب. - نعم يا بابا. - هاتي لي علبة الدخان. - حاضر يا بابا. - بو يلهفك! يا بنت قولي يا سيدي. - أقول يا سيدي بابا؟ •••
تروح الأيام وتأتي الأيام والبنت لا تتعلم، كلمة بابا وماما على لسانها والكلام معها لا ينفع، لو كانت الحكاية على قد البيت كانت هانت، لكن البيت لا يخلو من الضيوف، والضيوف لا يخلون من الأغراب، والأغراب لسانهم طويل، وأين تداري وجهك من الكسوف؟ وماذا تفعلين يا حاجة في زعل الحاج، والحاج لا يقدر على زعله أحد؟ الحكاية زادت عن الحد! •••
وفي يوم من ذات الأيام والضيوف معزومون عنده، تجار من آخر الدنيا، شيخ البلد وحكيم الصحة، هاج الحاج وطلعت عفاريته.
جرى على المطبخ وزعق: يا شيخة شوفي لك طريقة! - خير إن شاء الله يا حاج. - البنت خربت دماغي قدام الناس، بابا بابا. - غلب حماري معها يا حاج. - ابعثي لأمها تأخذها، اضربيها، شوفي لك أي طريقة. - حاضر يا حاج.
وكما تأتي القطط على السيرة جاءت أمها من نفسها، لطعت يد الحاجة وحمدت ربنا على سلامتها هي والحاج وقالت: أنا جئت آخذ البنت.
قالت الحاجة: والنبي فيك الخير، كنت ناوية أبعث لك.
قالت المرأة: أبوها طلب يشوفها، أصله بعيد عنك.
قالت الحاجة: ما له كفى الله الشر.
تنهدت المرأة وأشاحت بيديها: حكم ربنا، الرجل بقى في ربع حاله.
قالت الحاجة: ربنا معه يا نبوية، يشفيه ويعافي جميع المسلمين.
بكت المرأة وقالت: ما عاد إلا منه، من ثلاثة أيام وهو يطلع في الروح.
الحاجة نادت على زينب، قالت لها: سلمي على أمك، البنت وقفت قدامها لا عرفت سلام ولا كلام. يا بنت سلمي على أمك، أمي يا ماما؟! خليها عندكم يومين يا نبوية.
بس أبوها يشوفها وترجع على طول يا حاجة، حاكم روحه فيها وما يعلم روحه إلا باريها. خليها لغاية ما تعلميها. - أعلمها بعدك يا حاجة ؟! - ولو تميز من أمها وأبوها، بدل ما طول النهار يا بابا ويا ماما. بابا وماما في عينيك قليلة الحيا، قدامي يا بنت! •••
البنت راحت مع أمها على العزبة، مشت في الوحل وأكلت العيش والمش وعاشت وسط البهائم والفلاحين.
في أول ليلة باتت مع أبيها على السرير، السرير الأسود أبو عمدان، أبوها طول الليل يقول: آه يا جنبي، آه يا ظهري، آه يا ...
وفي عز الليل تقوم مفزوعة من النوم وتنادي عليه وتسقيه: حاضر يا آبه، أنا جنبك يا آبه، عاوز حاجة يا آبه.
ولما طلع السر الإلهي والشيخ علي لتم عينيه، وشاله في الطشت وغسله مع بقية الناس عرفت أنه أبوها، ولما صوتت أمها وعددت عليه، والرجال جاءوا وشالوا النعش على أكتافهم، صرخت مع أمها وقالت: هاتوا لي أبويه عرفت أكثر وأكثر، ولما جاءت النسوان وطبطبوا على ظهرها وقالوا لها البركة فيك وربنا قادر على كل شيء، عرفت إنها محتاجة لأمها وأمها محتاجة إليها.
وتمر الأيام والمأتم ينفض، هذا هو حال الدنيا، وتعود زينب مع أمها إلى البلد، طول السكة أمها توصيها، طول السكة وهي تهز رأسها وتضغط على يد أمها - ياما تعبت من الشيل والحط والخبيز والعجين، ياما انجرحت وتشققت يداي - سميرة تقول لي: يا ست سميرة.
لكنني سألعب معها يا أمي، أليس كذلك؟
الحاجة إذا نادت عليك في حاجة أو محتاجة تقولي لها: يا ستي الحاجة.
والحاج ربنا يرزقه طول العمر ولا يحرمنا منه تكوني تحت رجليه: نعم يا سيدي الحاج، حاضر يا سيدي الحاج. •••
فتحت لهما الحاجة الباب، فظهر وجهها الهادئ المستدير يتلفع في شال أبيض نقي، الله يسلم عمرك يا ستي الحاجة، زينب تقدمت هي الأخرى وباست يد الحاجة ورفعت يدها إلى جبينها كما فعلت أمها وخفضت عينيها إلى الأرض.
وعندما رن في أذنيها صوت سميرة تنادي عليها - وكانت تلعب على السلالم الرخامية - تهلل وجهها عن ابتسامة واسعة وجرت نحوها في سرعة الريح وهي تهتف: حاضر يا ستي.
أسوار المدينة
أنا رجل ضائع في المدينة، شهادة ميلادي تؤكد أنني موجود، ثيابي رثة، طعامي قليل ، شعر رأسي أشعث، وحذائي متمزق من قديم، أما مدينتنا فهي عظيمة، واسعة الأرجاء، يحدها من الشمال جبل هائل مرتفع، ومن الشرق صحراء ممتدة إلى غير نهاية، ويجري في وسطها نهر لطيف محبوب بين صفين من أشجار النخيل، وما أكثر ما تراءت مدينتنا لعيني تنينا ضخما، ينفث الدخان من فمه، وعلى رأسه تطوف سحابات شتاء قاتمة. ربما يرجع هذا إلى أن عيني يأكلها الرمد من زمن بعيد، فلا تميزان الرؤى والمشاهد، كل ما أستطيع أن أؤكده أنني كلما سرت في شوارع مدينتنا استطالت أمامي أجساد الناس، وتضخمت أبعادها، واختلطت علي حدودها، فلا أكاد أعرف إن كانوا بشرا، وتكاد عيناي تدمعان.
مدينتنا مدينة عظيمة كما أسلفت، أعظم ما فيها هذا السور الهائل المنيع الذي لا يذكر اسمها إلا مقترنا به، يحدها من الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب، وتاريخها مذكور في الكتب، مدون في الأسفار الكبيرة، محفور في الآثار والصخور، وفي رءوس حكمائنا الشيوخ، وإن نسينا في بعض الأحيان أن مدينتنا قد هاجمتها جيوش أعداء كثيرين، على مر الدهور، فلنا العذر في ذلك، فذاكرة أمثالي من رجال أمتنا ضعيفة، وكيف تعلق بأذهاننا تفاصيل لا حصر لها؟ كان من أعدائنا من يلبسون العمائم الكبيرة والبيضاء ويحملون السيوف في أيديهم، ويقاتلون أجدادنا كالوحوش، وكان منهم من يلبسون القبعات فوق رءوسهم، ويتطاير الشرر من عيونهم الخضراء، ويرطنون بلسان غريب على أفهامنا، ولكنه رقيق، لن نستطيع أن نذكر جميع أعدائنا، كل ما نذكره هو هذا السور الهائل المنيع حول مدينتنا، تقول عجائزنا المخرفات إنهم قد بنوه منذ مئات السنين، ويقول حكماؤنا ذوو اللحى الطويلة، والرءوس الصلعاء من أثر الحكمة، إنه موجود على حاله منذ الأزل، ونحن بينهم حائرون: فتحنا أعيننا فرأينا هذا السور الهائل المنيع يطوق مدينتنا، من الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب، يكاد يخنق أنفسنا، ويكاد الحزن يغلبنا فنعتقد أننا سنموت ونتركه وراءنا.
حكاية هذا السور العظيم لا تبرح رءوسنا ولا شفاهنا، في كل بيت، في كل منتدى ، في كل شارع، في كل حي - نجد من يذكر السور وهو خائف، وأطرافه ترتعد - جدتي قالت لي - أيام أن كانت تروي لي الحواديت في ليالي الشتاء - إن هذا السور قد بناه حاكم عظيم، كأنه مارد من الجان بساعديه الغليظين.
وأمي حذرتني - وهي على فراش الموت - من أن أقربه، لكنني بقيت حائرا، والشك يطل من عيني، حرصت على أن أجمع كل خبر، وأن ألتقي بكل من أتوسم فيه المعرفة بنبأ السور العظيم، وكان أن جمعت أنباء طيبة، وإن كنت أعجب من اضطرابها، ومن تناقضها في أكثر الأحيان، فحراسنا الأشداء يقولون: إنه يحمي مدينتنا من غارة الأعداء - وهم كثيرون - والفلاحون الأتقياء يؤكدون في لهجة صادقة أنه يصد عنا رياح الشمال، التي كانت تهلك فيما مضى محاصيلنا، وتؤذي زرعنا ونباتنا، أما الحكماء فهم يقولون - وعيونهم لا تفتأ تتأمل الكتب القديمة الصفراء، وأصابعهم تتخلل لحاهم البيضاء - إن هذا السور يعصمنا من الجهل الذي عم البلاد، ومن وباء استشرى في سائر الأمم، وإننا لذلك سنبقى حكماء عاقلين ما بقي لنا هذا البناء العظيم.
هذا السور قد صحب أعمارنا، وحفظ ذكرياتنا، فنحن نخشى عليه من أن ينهدم منه حجر، أو تفتح فيه ثغرة، أجدادنا من المهندسين صبوا فيه عصارة أفكارهم، وسهروا الليالي الطويلة وهم يعدون رسومه، ويبدعون تصميمه، ويقيمون أعمدته وأبهاءه، وشبابنا من البنائين والصناع والعمال قد وضعوا فيه جهد أعضائهم وأعصابهم ودمائهم، لبثوا عشرات السنين يحفرون، ويردمون، ويحملون الطوب والحجارة فوق أكتافهم، ويتحملون لفحات شمسنا الخالدة فوق رءوسهم، مات منهم كثيرون، واختلطت عظامهم بالرماد والجير والأسمنت، وأطفالنا لعبوا حوله، ولمسوا أحجاره، وحملوا في رءوسهم الصغيرة أعز الذكريات، والعشاق لم ينسوا أن يصحبوا معشوقاتهم إلى جانب السور العظيم، فاستندوا معهم على جدرانه، وغازلوهن واعتصروا أجسادهن من الحب، ورقصوا، ورجعوا في آخر الليل وقد أضناهم العناق والضم والتقبيل، أما عجائزنا من الشيوخ والنساء فقد كان لهم في جوار السور أولياء صالحون، وقديسون طيبون، يزورونهم بين حين وحين، ويؤدون فروض العبادة في أضرحتهم، ويلثمون أطراف أكفانهم، ويرجعون إلى بيوتهم راضين مستبشرين، ولكن حدث منذ عهد قريب ما جعلنا نشفق على سورنا العظيم من أن يصيبه أذى، فقد أسفر صباح يوم سار فيه المنادي - وهو رجل أعمى يقوده صبي حافي القدمين - في شوارع المدينة، وهو يلقي بالنبأ العظيم: «لقد وجدت أمس في جدار السور ثغرة كبيرة، الحراس يبحثون عن اللصوص.» سرى النبأ في المدينة مسرى الرعب، من هم هؤلاء اللصوص؟ من أين جاءوا؟ كيف واتتهم الجرأة على أن يتسللوا إلى مدينتنا أو يهربوا منها؟ وسرعان ما تم التدبير، واحتاط حراسنا الأشداء لكل الظروف.
ووضع على مسافات متقاربة من السور رجال من الشرطة مدججين بالسلاح، وعيونهم ساهرة بالليل والنهار، ولم يمض قليل حتى ضبط اللصوص المعتدون، وأمر الحاكم العظيم بأن ينزل بهم أشد العقاب، فسار بهم رجال الشرطة في شوارع المدينة بعد أن حلقت رءوسهم، ومزقت ثيابهم، حفاة عراة إلا من خرقة تسترهم، أنا قد رأيتهم بعيني، فأنا واحد من شعب هذه المدينة، ومن حقي أن أقف على جانب الشارع لأتفرج على الموكب وهو يمر من أمامي، وشد ما كانت دهشتي إذ عرفت اللصوص الثلاثة، لا ريب أنهم من أهل مدينتنا، بل يخيل إلي أنني رأيتهم وعاملتهم، وإن كنت لا أذكر تماما أين كان ذلك، ولقد بلغت بي الشفقة عليهم حدا كبيرا، فاستغفرت لذنوبهم، وطلبت في قلبي لهم الرحمة من الله، ومن الحاكم.
كان موكبهم شيئا يبعث على الألم حقا، فلا بد أن حراسنا الأشداء قد ضربوهم على ظهورهم بالسياط حتى سالت منها الدماء في خيوط متعرجة، حفرت عليها آثارا عميقة كامدة، ولقد بلغني بعد رؤية هذا المشهد بيومين أن الحاكم الكبير لم يكتف بهذا الجزاء بل طلب أن يوضع الثلاثة في السجن، ولما لم تكن في مدينتنا سجون، فقد أمر فبنيت لهم على عجل زنزانة ضيقة، منعزلة في قلب الجبل - قيل لي: إنها قد كلفت ميزانية الحاكم أموالا طائلة - فلما قيل له: إنه لا بد للمسجونين من حارس، صار يدمدم يومين كاملين، فالنفقات لم تكن تخطر على باله، ولقد سمعنا ونحن في المدينة - فقد صار نبأ هؤلاء المساجين أهم ما يشغلنا ويجذب انتباهنا - أن اللصوص الثلاثة قد صافحوا حارسهم في حرارة وهم يدخلون في الزنزانة، وأن واحدا منهم راح يؤكد حين أغلقت عليهم الزنزانة، أنه هو الذي صنع البوابة الحديدية والقفل الكبير بيديه، مما سر الحارس وجعله يغرق في الضحك، وكان زميلاه في السجن كذلك في غاية الانشراح، أما أحدهما فهو فلاح بسيط، كان يعيش على قطعة صغيرة من الأرض، يزرعها بقليل من القمح والخضر ويعيش سعيدا مع أبويه العجوزين وأولاده الأربعة، وأما الآخر فكان شابا يشع من عينيه الذكاء والقلق، لم يكد الحارس يغلق عليه باب الزنزانة حتى طلب أوراقا وقلما، وهكذا سارت الأمور على خير ما يرام، فالسجناء الثلاثة فرحون مستبشرون لسبب لا ندريه، بل لقد زادت شهيتهم للطعام (حتى طلب أحدهم أن يؤتى له بفخذ خروف محمر، وثلاثة أرطال من اللحم المشوي، وأقتين من التفاح والكمثرى)، وهم لا يكفون عن الضحك والتهليل كأنهم قد دخلوا حانة أو مشربا، ثم إنهم ينامون نوما هادئا، وعلى الأخص ذلك الحداد الذي لا يكاد يصحو من نومه، حتى يطلب الطعام من حارسه ثم يعود إلى النوم في هدوء، ولقد سارت أمور المسجونين الثلاثة على النحو التالي: كانوا يزدادون سمنة يوما بعد يوم، ونتيجة لذلك زادت نفقات إيوائهم على الحاكم - حتى كان يوم استشاط فيه غضبا - أرسل إلى مدير ديوانه ليقول له وعيناه ترسلان الشرر: لا بد من الخلاص من هؤلاء الملاعين. - وكيف يا مولاي؟ - اقطعوا رقابهم. - لا نستطيع يا مولاي. - وماذا يمنعكم؟ - نخاف على سور المدينة. - وما شأن السور في هذا؟ - ستزداد فيه الثغرات، ويهجم شعبك الأمين عليه فيهدم أحجاره. - إذن فافتحوا أبواب السجن. - ومتى كانت السجون مفتوحة الأبواب؟ - افعلوا أي شيء، فقد ضاقت نفسي بهذه التكاليف.
وأذعن مدير الديوان لهذا الأمر، فأمر حارس الزنزانة أن يترك بابها مفتوحا، ولكن هذه الوسيلة لم تجد إزاء عنادهم، فقد كانوا يخرجون للطعام أو للنزهة ثم يعودون إلى السجن فيغلقونه في إحكام، وسارت الأمور على هذا النحو أياما، المساجين ينفذون العقوبة المفروضة عليهم بأمانة وإخلاص، والحارس يستولي عليه الملل ويغط في نوم لا يفيق منه، وبلغت أنباء الثلاثة أسماع أهل المدينة، إنهم يستطيعون - بمجرد فتح ثغرة في السور العظيم - أن ينعموا بسجن هادئ مريح، وأن يناموا ملء جفونهم، ويستسلموا لأحلام صافية، وكان أن تسلل الكثيرون إلى السور في الليل، وكل من فتح ثغرة أو نقل حجرا عن موضعه، أسرع إليه الحارس فقبض عليه وأسلمه لرجال الأمن، وتعددت هذه الحوادث حتى ألفت آذاننا صوت المنادي العجوز وهو يطوف بالطرقات ليعلن نبأ القبض على اللصوص. ووجد العاطلون من أهل المدينة عملا مربحا في بناء السجون الجديدة المحكمة، وأطمعت هذه الثروة المفاجئة الكثيرين فتركوا أعمالهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وشاركوا في البناء الجديد في همة ونشاط، ولكن الأمر الذي لم يكن يتوقعه أحد أن عددا من الصبية والنساء قد تسللوا ذات ليلة إلى السور العظيم - في غفلة من الحراس - فقلبوا أحجارا كثيرة عن مواضعها، وفتحوا فيه ثغرات لا يقوى عليها إلا الرجال. وكان أهل المدينة كراما مع هؤلاء المذنبين، فقد أثارتهم المروءة والوفاء، وهزهم الشحوب البادي على وجوههم، فدلوا رجال الأمن عليهم، لم يكن بد إزاء هذه الأحداث من أن تقام المحاكم، وأن يجعل لها قضاة مهيبو الطلعة، طوال اللحى، يتلفعون في مسوح سوداء فضفاضة كمسوح الرهبان، وكثر عدد هذه المحاكم فيما بعد حتى دخلت كل حي، ومن لا يحاكم يتفرج، وتوافد الفلاحون الأتقياء من القرى البعيدة ليشهدوا، ويروا المدينة التي تقيدها سلاسل من الحجارة.
أما الحاكم فلم يكن يفهم مما يدور حوله شيئا، كان يعجب لأهل المدينة الذين يسيرون إلى السجن بمحض اختيارهم، وكان أكثر ما يزيده غيظا أن يسمع أناشيدهم حين تسوقهم الشرطة إليها، وكان أشد ما عجب له أن الحراس الذين وضعهم على مسافات متقاربة من السور العظيم، قد تفشى بينهم مرض النوم (لقد رآهم بنفسه يتثاءبون)، وراع الحاكم ما سمع وما رأى، فأسرع يستدعي كبير قضاته، وحين مثل هذا بين يديه .
وانحنى أمامه حتى كادت جبهته أن تلمس الأرض صاح فيه: أرأيت؟ أرأيت؟ - أنا أيضا لا أكاد أصدق يا مولاي. - وماذا يريدون؟ - السجن! - أيعاقبون أنفسهم بأنفسهم؟ ويطلبون المزيد من العقاب. - المدينة امتلأت بالسجون، ليس بوسعي أن أفعل أكثر من هذا. - نحن أيضا قد يئسنا يا مولاي، لقد تعطلت وظيفتنا. - لم يعد لأمثالنا من القضاة ضرورة، إن الجميع يتمنون العقاب الذي نفرضه عليهم. - احكموا عليهم بعقاب أشد. - الحكم في يدك يا مولاي. - في يدي؟ - نعم، هناك حكم واحد يريحنا من هذا العذاب. - تكلم، تكلم، هل نسجنهم إلى الأبد؟ - لقد جربنا هذا. - إذن نقطع رقابهم. - ولا هذا ... - ويحك، بأي حكم إذن؟! - احكم عليهم بالحرية؟ - الحرية؟ وكيف؟ - اهدم السور العظيم.
قال كبير القضاة ذلك واحمر وجهه كفتاة عذراء، ثم انحنى حتى كادت جبهته تلمس الأرض، وخرج وهو يتعثر في أطراف ثوبه الفضفاض، وعاد القاضي من فوره إلى المحكمة، وسارت الأمور سيرها الطبيعي، النساء يلدن، والصغار يكبرون، والعجائز يموتون، والثيران تدور في الطواحين، وأمواج الفلاحين تترى على مدينتنا من القرى البعيدة، كل شيء يجري على ما يرام، كان ذلك منذ زمان قديم، سحيق في القدم، ولم تزل أسوار مدينتنا كما هي، عالية، مرتفعة، تحجب عنا رياح الشمال، وتكاد تحجب النور، وما برح أهل مدينتنا يتسللون إليها في ظلمات الليل، يغافلون حراسها، ويحفرون فيها ثغرة جديدة، أدرك أهل المدينة أن مدينتهم قد باتت وهي سجن كبير، ولم يكن الحاكم يدري أن السجن الصغير يمكن أن يتسع ويتسع حتى يضم كل هذا العدد من الناس.
أما أنا - وإن كنت رجلا مسكينا من أهل هذه المدينة، فثيابي رثة، وقدماي حافيتان، وطعامي قليل - فقد فهمت ما يريدون، لمعت هذه الفكرة في رأسي فجأة وعلى غير انتظار: سوف لا يهدأ لهم بال حتى يهدموا السور العظيم، وينقضوه حجرا بعد حجر.
أنا قد لمحت هذا في عيونهم.
لا ...
لأن الحادثة التي وقعت في البلدة الريفية القريبة من البحر قبل أكثر من ثلاثين سنة كانت غريبة وفظيعة، ولأن الحادثة التي جرت وقائعها في نفس البلدة قبل شهور قليلة لا تقل عنها غرابة وفظاعة، فقد آثر الراوي أن يخفي شخصه وعقله ولسانه وراء الأطراف الثلاثة الذين كان لهم الدور الأكبر فيها؛ لذلك يترك لهم الحديث مكتفيا بتدوين ما قالوه:
1
قالت لطيفة هانم زوجة العالم الفلكي الدكتور محمود نجم - المشهور في الدوائر العلمية في مصر والخارج - وأم أبنائه الثلاثة:
لم يكد محمود يعبر مرحلة الخطر بعد أيام وليال، لم يغمض لي فيها جفن حتى صممت على البحث عنه وإحضاره بأي وسيلة، كان زوجي قد تلفظ باسمه مرتين أثناء غيبوبته وهذيانه بعد إسعافه وإجراء غسيل المعدة له: تعال يا أستاذ علام، يا مرصد حلوان ثبت منظارك القديم علي، تعال، تعال، تعال!
وضعت يدي على جبهته واطمأننت على انخفاض درجة الحرارة على الرغم من استمرار الحمى والهذيان والغيبوبة، وتذكرت الاسم الذي التقطته أذني قبل ذلك، وإن لم أهتم به أو أسأل عنه، لعله حكى لي عن تعلقه به في المدرسة، وربما حدثني، وهو يطلق ضحكته الظافرة المجلجلة التي كان يعلم كم تضايقني؛ لأنها لا تناسب وقاره ومكانته العلمية، عن المنظار الكبير الذي كان يجذبه لزيارته في بيته وملازمته ساعات يتأمل فيها النجوم في قبة السماء كلما دعاه وسمح له بذلك، لم أكترث بمعرفة شيء آخر عن معلمه وعلاقته به، فقد أحس قلب الزوجة والأم أن هذا المعلم العجوز - إن كان لا يزال حيا - هو الوحيد الذي سيرد الحياة لزوجي وينتشله من محنته ومحنتنا المباغتة، سألت وسألت حتى عرفت من الأستاذ محمد - شقيق زوجي الأصغر الذي نزلنا عنده والمدرس في المعهد التجاري - أنه لا يزال حيا، وإن كان لكبر سنه وثقل سمعه في حكم الميت الحي أو الحي الميت.
وخرجت من باب البيت وأغلقته خلفي دون أن يشعر أحد بي ولا بتصميمي على العثور عليه مهما كان الثمن. •••
مشيت مسرعة حتى وصلت إلى أول الشارع الرئيسي على أطراف المزارع، ووقفت على الصف الذي يوجد فيه مبنى المحكمة والمعهد الديني القريب منها، وأشرت إلى حنطور عابر فتوقف السائق الشاب، وسألني في أدب عن وجهتي.
قلت له إنني أبحث عن عنوان الأستاذ محمد علام مدرس العلوم والرياضة العجوز، قطب حاجبيه وفرك تجاعيد جبهته بأصابعه بحثا عن علامة مميزة، حتى ذكرت له المرصد فخرجت منه صيحة أشبه بصيحة ديك منتصر على جحافل الليل المنهزم:
آه، مرصد حلوان! لماذا لم تقولي هذا من الصبح؟ حالا يا هانم، دقائق ونكون أمام بيته، إنه على المعاش من سنين ولكن لا يشبع! قلت ضاحكة: تقصد لا يسمع؟! قال: وهذا أيضا، لكنه رجل طيب ولا يتأخر عن فعل الخير، قلت في نفسي وأنا أدعو الله أن يستجيب لي: ولهذا قصدته في أمر ضروري.
مرت العربة بشوارع وحواري متربة تراصت فيها البيوت الطينية، كما تراص الذباب والأطفال والنساء في ثيابهن السود على أبوابها، وأكوام السباخ والقش والقمامة على جانبيها، حتى وقف فجأة أمام بيت ذي شرفة واسعة وسور من الطوب الأحمر لم يتم طلاؤه، وكأنه فيلا ناصعة البياض وسط العشش والأكواخ والجدران الرمادية الكالحة، شكرت السائق ونقدته أجرته وطلبت منه أن ينتظر، دعا لي بالستر، وطلب مني أن أبلغ سلام مغاوري للمرصد فوعدته خيرا، وفتحت الباب الحديدي الذي لم يبد مقاومة وأسرعت بارتقاء درجات السلم والطرق على الباب الخشبي العريض.
أطلت من ورائه امرأة سبقها صوتها الرفيع الحاد، لم تكد تفتح الشراعة حتى استفسرت عن طلبي، ولم تكد توارب ضلفة الباب حتى بادرتها في لهفة، وأنا أحاول أن أستجمع أنفاسي اللاهثة: أرجوك، أريد الأستاذ علام، أقصد المرصد، أقصد مرصد حلوان، أرجوك أسرعي، ولم يطل ارتباك «سيدة» التي تجمعت أمامي من الذهول، إذ سرعان ما فتح باب جانبي في القاعة الواسعة المتواضعة الأثاث، وخرج المرصد نفسه بجلبابه الأبيض الطويل والطاقية الحريرية المحبوكة على رأسه، وهو يسند جسده الطويل السمين على عصا، ويطرقع بالقباب في قدميه ويقول بصوت ممدود: من يا سيدة ... •••
قبل أن يحجل بساقه التي يبسها الروماتيزم، ويستقر في داخل الحنطور كالصيد العجوز الذي سقط في حفرة وطوقته الشبكة كنت قد استطعت أن أذكره بتلميذه القديم وأبين له مقدار حاجته إلى مساعدته. انهمرت كلماتي الملهوفة كزخات المطر المتساقط في حفرة غائرة منسية، وكان علي أن أسرج ألف شمعة في ظلام الزمن والذاكرة التي كادت أن تنطفئ، راحت كلماتي وتنهداتي ودموعي تتدافع بغير ترتيب وهي تتصادم كالعصافير المذعورة على أبواب أذنيه ورأسه العجوز الخرب، لم أنتظر منه ردا ولا استفسارا، ولم أبال إن كان قد سمع أو لم يسمع وفهم أو لم يفهم، فقد اتضح لي بما لا يقبل الشك أن سمعه ثقيل كما قال لي شقيق زوجي وكما أكد سائق الحنطور، ولكن لهفتي على سرد وقائع المحنة بكل تفاصيلها كانت أقوى من كل رغبة في الانتظار أو الإشفاق عليه: •••
تلميذك العزيز يا سيدي اشتاق للعودة إلى البلد، بعد أن صعد إلى النجوم ولمع اسمه في سماء الشهرة وكرمته الجهات العلمية في كندا والولايات المتحدة بالأوسمة والنياشين والجوائز صمم أن يلمس تراب البلد، حذرته من الوحل والذباب والناموس فلم يكترث، قلت له: ماذا تنتظر هناك ومن تنتظر؟ قال: هناك تراب أبي وأمي وزهرة - وكذلك أخي الأكبر الذي لم أره من سنين - لم أفطن لاسم زهرة ولم أعلق عليه، ظننته نوعا من الخلط الذي كان يهذي به أحيانا كالطفل أو المراهق الشقي الذي أعرفه وأحبه ولا أتوقف كثيرا عند كل كلمة يقولها، وذكر اسمك أيضا يا سيدي، ألست أنت المرصد، مرصد حلوان؟ ألم ترعه وتشجعه وتفتح أبواب السماء أمام عينه وعقله القلق؟ نعم، أنت الأستاذ علام مدرس العلوم والرياضة الذي احتضنه، وأخذ بيده ربما أكثر من أبيه العجوز المشغول بالعبادة والتجارة، قال لي مرة إنك كنت تسميه الولد «لا»، ولكنني لم أسأله عن سر هذه التسمية، وعندما كان يتذكرك وهو يتنهد معبرا عن حيرته وشوقه إلى لقائك، كنت أكتفي بأن أقول له: لا يا دكتور لا! عندك الآن ما هو أهم، لكنك بقيت دائما في باله، في حبة قلبه وعينه، هل هو الوفاء أم الحنين المرضي أم الارتباط بالجذور كما يقال؟ أهناك داع أن أحكي لك عن إنجازاته العلمية وكشوفه الفلكية؟ سمعت عن هذا؟! قرأت عنه أيضا في الصحف والمجلات؟! كان مشغولا بإحدى مهامه العلمية عندما صرح برغبته الأثيرة التي ظلت تتحرك في صدره كالشوكة في الجرح القديم. غضبت وقلت له: إننا تركنا كندا التي تعلمت فيها وتفوقت ورزقت باثنين من أولادك، ولم نكد نصل إليها وتنال التكريم من الجمعية الفلكية حتى عادت ريمة إلى عادتها القديمة، ماذا بك؟ هل تحولت إلى ندابة لا يحلو لها العديد إلا في العرس؟ أكلما استقر بنا المقام في بلد وقلنا سنمد فيه الجذور تحن إلى جذورك في وحل بلدك؟ المهم رجعنا إلى مصر برغم الإلحاح والعروض والإغراءات السخية التي انهالت عليه، وفي مصر انهالت عليه عروض أخرى من الكلية والجمعية الفلكية والمرصد الجديد، وغرق في العمل وسبح في بحار التكريم، وعندما رجعنا إلى شقتنا في المعادي بعد تسلم الجائزة من الوزير ومعها وسام العلوم الذهبي، تحركت الشوكة كما قلت في الجرح القديم، ورجعنا يا سيدي للوحل والتراب والذباب والناموس وللنكبة التي كانت تنتظرنا. •••
ماذا أقول لك يا عم علام؟ كيف أفهم ما حدث له وكيف أفسره؟ لست طبيبة نفسية حتى أحلله وأعرف مشاكله وعقده المكبوتة، كما يقولون. إنني زوجته وأم أولاده، مجرد ربة أسرة عاجزة أمام رياح الماضي والحاضر والمستقبل.
وأنت الذي عرفته في صباه وكنت أحن عليه من أبيه، ربما تكون أقدر على معرفة الداء ولمس جذوره، آه! لعنة الله على الجذور الدفينة التي لا تترك فروع الشجرة في حالها!
هل تعلم ماذا فعلنا في أول يوم وصلنا فيه إلى البلد؟ أخذنا حنطورا قبل الغروب وذهبنا إلى المدرسة المهجورة، أجل أجل، نفس المدرسة التي علمته فيها ورعيته وضربته أيضا علقة ساخنة على قدميه! هل تذكر الآن؟! لم يقل لي سبب ضربه، اكتفى بالضحكة التي أعرفها من الولد الشقي، وقال: من يومها وهم يسمونني الولد «لا»، ألست كذلك حتى اليوم يا لطيفة؟! وجلجلت ضحكته وهو يطوف بحوش المدرسة الخالية، ويريني المكان الذي شدت فيه قدمه في الفلقة أمام التلاميذ والناظر والمدرسين ، بينما أخذ يعلو صياحه كجرو صغير ينتزعون أسنانه أو هدهد ينتفون ريشه: لا! لا! لا!
أجل يا سيدي المرصد، شيء مضحك بلا أدنى شك، والمضحك أيضا أنك لم تنس ال «لا» أبدا، بدليل أنك سمعتها تماما وضحكت حتى دمعت عيناك الصغيرتان الضيقتان، وتركنا المدرسة بعد أن مررنا على الفصول البائسة التي كان يجلس فيها، والسبورات المتآكلة التي كان يكتب عليها، والسور الحجري المتهدم الذي كان يقفز أحيانا من عليه، وحيينا البواب الصعيدي العجوز الذي لم يتذكره أبدا، وركبنا الحنطور في طريقنا إلى بيت شقيقه الذي ينتظرنا على العشاء هو وأولاده. كانت سحب المساء قد تجمعت في صفحة الأفق، وراحت تلف البلدة في عباءتها السوداء، واخترقت العربة والحصان الهزيل صفوف المارة والفلاحين العائدين من حقولهم بصعوبة. لا أخفي عليك أنني لم أستطع أن أكتم ضيقي وتأففي من المشوار كله، لكن أي ألم لا تكتمه الزوجة المحبة لأجل خاطر زوجها وأب عيالها، خصوصا إذا كان موهوبا ومشهورا مثل زوجي ومشاكسا وشقيا لم ينضج مثله؟ عبرنا الجسر الخشبي الذي يتوسط البلد، وتتراكم على جانبيه أعداد غفيرة من باعة الفاكهة والخضروات، الذين كانوا يلمون قففهم ومقاطفهم ويستعدون للرجوع إلى بيوتهم، وسرحت قليلا فلم أتابع شيئا ولا أحدا ممن حولي، ولم أنتبه للشوارع والحواري التي اجتازتها العربة الحنطور، حتى أفقت على صوت محمود يقول لي: اذهبي أنت الآن. سأرجع بعد قليل، لا لن أتأخر، مغاوري وحصانه يعرفان الطريق خيرا مني ومنك. •••
وقفز من العربة وغاب عن بصري، رأيته وهو ينعطف يمينا ثم يسارا بالقرب من كنيسة عتيقة، بدت في الظلام كنافورة أثرية ضخمة، وتابعت قامته النحيلة المستقيمة العود، وهو يسير مسرعا بجانب السور الأبيض الذي زرعت فوقه قوائم وقضبان حديدية مدببة الأطراف حتى اختفى من دائرة الرؤية، ربما تساءلت ماذا يجعله يسرع هكذا، وكأنه على موعد سابق، ومن يا ترى الذي ينتظره؟ لكنني انصرفت عن التفكير في شيء لن أفوز منه بشيء، وبدأت أعاين الطريق المتجه إلى الطرف الجنوبي للبلدة، وأتسلى بالتفرج على البيوت الجميلة والفيلل المطلية الجدران والأسوار بألوان فاقعة، واستمعت وأنا صامتة إلى تعليقات مغاوري الذي تقمص دور المرشد السياحي، وأخذ يحدثني عن أصحابها الذين رجعوا من السعودية والخليج ومعهم زكائب الذهب وفتحوا التوكيلات والسوبر ماركات، وكانوا قبلها لا يجدون اللقمة والهدمة.
ها نحن نمر بنفس الشارع ونرى نفس الفيلل والعمارات والمحلات المضاءة بأنوار النيون، ولا بد أن أحكي لك باختصار ما حدث. كنا جالسين أمام مسلسل في التلفزيون عندما دخل من الباب، لم يدرك أحد غيري مدى ذهوله وغيابه، عينان تائهتان، شعر مهوش، ملامح منطفئة كملامح عجوز يطارده شبح النهاية، واليأس والكمد الفظيع يطل من نظراته وإشاراته وصمته الذي لم يخرج منه، كنت متعودة على نوبات الاكتئاب التي تفاجئه وتفاجئني من حين إلى حين، ولا تتعجب إذا قلت إنها تفاجئنا في مناسبات الفرح والابتهاج أكثر من أي وقت آخر، ولكن ما وجدته أمامي كان شيئا مختلفا، كان الموت نفسه قد ألقى ظلاله السوداء عليه وأخذه في قبضته، سألته ضاحكة عن نزهته الليلية بين الأطلال، نظر إلي في غضب هائل حتى خيل إلي أنه يضمر لي كراهية قاتلة، لم يفصح عنها وجهه الطيب قبل ذلك أبدا، وعندما اقتربت منه وعاتبته، اعتذر بأنه متعب وليس له نفس للعشاء. أردت أن أغلق الباب لأنفرد به فردني بإشارة عصبية من يده، وقال إنه يحس بمغص شديد ويريد أن ينام، تركته يفعل ما يريد وأكملت المسلسل وسط العائلة الصغيرة، التي لم تبخل علينا بكرم ضيافتها، وعندما استبد بي القلق ونظرت إلى شقيقه حامد ولمحت على وجهه نفس القلق قمت أبحث عنه، لم يكن في غرفة النوم، طرقت باب الحمام فلم يرد إلا الصدى، أقبل حامد وزوجته وأخذا يضربان الباب بقوة حتى خفت أن ينكسر. وسمعنا من الداخل أصواتا مرتبكة ورنين علب صفيحية وصوت انكسار زجاج على الأرض، وفتح الباب أخيرا وأطل علينا الوجه الممتقع وعليه ابتسامة مغتصبة شاحبة. لا شيء، لا شيء. ألم تسمعوا عن أحد مصاب بالمغص؟ فتشت نظرتي المكان الضيق بسرعة، كل شيء في مكانه ، أدوات الحلاقة وزجاجات الشامبو وعلب الدهان والمراهم مضطربة قليلا، لكن لا شيء يثير الريبة، والبشكير الأبيض الكبير ملوي وملقى في البانيو، هل يمكن أن يخطر على باله؟ لا لا، ما هذا يا دكتور، هل يمكن أن يؤثر مغص بسيط على بطل مثلك؟ نحن متنا من الجوع، تعال إكراما لخاطر الناس إن لم يكن لخاطري.
أخذت أثرثر فصرخ في وجهي: أرجوك، أرجوك يا لطيفة!
ولم يكمل صيحته التي رنت في سمعي أغرب من أي صيحة سمعتها منه طوال عشرتنا، شد يده على بطنه ودخل حجرة النوم، واستلقى على السرير دون أن يخلع ملابسه، لن أطيل عليك، كان من الممكن أن يضيع من أيدينا، لولا أن أسرع شقيقه مع ابنه الأكبر بإحضار الطبيب، ماذا أقول عن ارتباكي وذهولي؟ وكيف أصور يأسي وفزعي وخيبة أملي؟ والحيرة التي انقضت علي قبضتها الحديدية كيف أعبر لك عنها؟ لا تنزعجوا، حالة اكتئاب شديد ستزول بإذن الله، مصحوبة بحالة إحساس فظيع بالذنب، هل هذه أول مرة؟ لا لا، إن شاء الله يصبح على خير. المهم لا تتركوه وحده، ثم همس لي: أبعدي عنه علب الأسبرين في الحال، فتشي جيوبه وتخلصي منها، لاحظي عدم وجود حبال أو فوط حمام كبيرة في متناول يده، أرجوك، كل شيء ممكن، لا تبعدوا عيونكم عنه، النوبة يمكن أن تعاوده. أنا تحت تصرفكم في أي وقت، افتحوا عيونكم جيدا، كلها ساعات ويرجع لوعيه. البكاء الشديد وربما الهيجان محتمل، تصبحون على خير، ولم نصبح على خير عشرة أيام.
ظل غائبا عن الوعي حتى بعد أن تقيأ كل ما في بطنه، ومع أني لم أغفل عنه لحظة واحدة إلا أنه عاود الكرة بعد ذلك، لا أدري من أين حصل على الأقراص ولا أي شيء ابتلعه حتى رجعت إليه الغيبوبة مرة أخرى، وأخذ يهذي ويبكي بكاء لا ينقطع، سبعة أيام بلياليها أشد علينا من السنين العجاف، ذاهل ومصمم على الموت كما لم أره من قبل، لسانه يهذي بكلام لا أعرفه، ترددت فيه كلمة زهرة أكثر من مرة، أرجوك يا مرصد حلوان، أرجوك يا أستاذ علام أن تساعدني، ساعدني أرجوك وأنقذ زوجي وتلميذك المحبوب، لماذا ربطت يداه وساقاه بالسرير؟ لأنه يمكن أن يرمي نفسه في أي لحظة، يمكن أن يغافلنا في أي لحظة، أنت الدواء للجرح الذي لا أعرفه، أسرع يا أستاذ قبل أن يضيع! هل تعلم مدى حجم المسئوليات التي تنتظره؟ هل تعرف أن ثلاثة اجتماعات في الجامعة والأكاديمية ومع الوزير نفسه يمكن أن يتغيب عنها؟ وأولاده الذين ينتظرون في القاهرة؟ هل يمكن أن يصدقوا؟ وأنا؟ ماذا أفعل وكيف أتصرف؟ أرجوك يا أستاذ ادخل عليه بأقصى سرعة، أنقذه أتوسل إليك، أنقذ زوجي وأب أولادي، ماذا أقول وماذا أفعل يا ربي؟ أرجوك، أرجوك.
2
وقال مدرس العلوم والرياضة العجوز، وهو يمسح بشدة على جبهته ليتذكر: دفعتني دفعا في الحنطور فلم أعرف ماذا أقول ولم أفهم شيئا مما يجري. لم أكن قد أفقت تماما من نوم القيلولة، ولا فرغت من التهام طبق الفطائر والفواكه الذي اعتدت أن أتسلى به مع الشاي، وكوب الشاي ظل دافئا يتصاعد منه البخار، ولم تمسه يدي المرتشعة بحكم السن والتخمة، وانحشرت بجسدي السمين وكرشي المتورم في الحنطور بجوارها، وملت بأذني ورأسي وكياني كله نحو فمها الذي يتفجر منه شلال الكلمات التي لا أسمع ولا أعي معظمها. حالة اكتئاب فظيعة، ورجل طريح الفراش تستنجد بي زوجته، ولا يرد على خاطري إلا كالطيف الشاحب، الذي يعبر في الحلم في صمت وهدوء. ماذا تنتظرين يا سيدتي ولست طبيبا ولا ساحرا ولا صاحب سلطة من أي نوع، والذاكرة - لو تعلمين - مدينة مهجورة تتصادم الأشباح في خرائبها.
آه؟ ما أثقل عبء الشيخوخة بعد أن تعديت الستين وكدت أن أتم السبعين! وما أحوج الشيخ لراحة البال والجلوس على الكنبة الطرية، في انتظار الزائر المحتوم دون طرق مزعج على الأبواب!
التقطت أذني الثقيلة اسمه فلم تستطع الحروف أن تحوله إلى صورة في ذهني، تمهلي يا سيدتي! فالأسماء التي ناديتها في حياتي مع التعليم مئات ومئات، ونفذت في سمعي كلمات العلقة الساخنة على القدمين في حوش المدرسة، فعجزت كذلك عن تحديد شكل التلميذ أو صفته، وكيف أستطيع والأقدام التي كانت تشد إلى الفلقة أكثر من أن تحصى؟ وبدأت الغيوم تنزاح قليلا من سماء ذهني الراكد عندما التقطت كلمة المرصد والمنظار المكبر. تذكرت السطوح في بيتنا القديم، والطموح الذي تخليت عنه وتخلى عني من زمن أقدم، ومع تدفق سيل الكلمات والدموع والنشيج من الشلال المتفجر، لمعت صورة الولد الشقي الذي ضربته بالسوط ثم احتضنته ورعيته، واتضحت الصورة الضئيلة الباهتة وحركت مشاعري، التي بدأت تهتز وتبرز من طبقات الأعماق المظلمة كالمياه الجوفية التي يحركها زلزال مفاجئ، وأحسست بنغزة في قلبي فقلت لنفسي: هي شكة قلب الأب الذي تعاوده ذكرى الابن الضائع، الذي خرج من سنين طويلة من الباب ولم يرجع، فما بالي الآن أسمع أن النجم الصغير كما كنت أسميه قد رجع إلى بلده، بعد أن سطع كوكبه في سماء الشهرة والعلم العالمي؟
أجل! أجل! ها هو ينفض تراب النسيان وأيام العمر الميتة، ويخرج للنور كالخلد النشيط الذي أطل برأسه من الجحر، واستقبل شمس الوطن ودفئه وصدر معلمه وأبيه الروحي! أجل هو محمود نجم الذي بدأت صرخاته يوم العلقة المشهود تنداح في بحيرتي الآسنة. لكم تألمت يا ولدي من اللسعات التي حفرت خيوطها الغائرة الدامية على قدميك الصغيرتين وساقيك وفخذك أيضا، ولكم تعبت حتى عالجت التقرحات وطهرتها من آثار الدم والقيح والصديد كما عالجت عقلك الطائش بالنصائح والمواعظ المكررة.
وعرفتك عن قرب وحاولت أن أكون المرفأ الذي يرسو قاربك على شاطئه لينجو من عنف الأمواج التي تعصف بهيكله، والحق أنها كانت عواصف عاتية، وأن قاربك قد تحداها في طيش لا يتوقع من يافع مثلك، لم يكن فيما أذكر قد تجاوز الثالثة عشرة من عمره على كوكبنا الأرضي الصغير، لماذا فعلت ما فعلته يا ولدي؟ وإذا كنا لا نستطيع أن نفهم حمقك وطيشك، فكيف نبرره للناظر الثائر ومأمور المركز المصمم على العقاب الرادع، ورئيس المجلس البلدي الذي طالب بإدخالك الإصلاحية في عاصمة الإقليم، وعشرات التجار وأصحاب الورش والحرف والدكاكين الصغيرة، بل وشيخ الكتاب الكفيف الذي قرأ له الأولاد الحروف التي نقشتها على كتابه العتيق، فملأ البلد بصياحه عن الكافر الفاجر العربيد؟ حتى أبوك الطيب التقي الذي يسلم المارة عليه ويتبركون بلثم يده وطلب الدعاء منه ضرب كفا بكف، وقال ابني وأنا بريء منه إلى يوم الدين؟ نعم تذكرت الواقعة، ذكرني بها الحرفان الملعونان اللذان لطخت بهما الجدران في كل مكان، ولم ترحم جدارا واحدا في البلدة الآمنة المغمضة العيون على بؤسها وحزنها الثقيل، حتى القبور الهاجعة في المدافن كاد الناس يشكون في أنك بصمت عليها الحرفين الشريرين بفرشاتك الشريرة ومدادها الأسود الشرير.
أجل يا بني الطائش المسكين، كانت الشكوى منك قد صعدت إلى السماء نفسها، وأوشك الصوت أن يتنزل علينا مطالبا بالقصاص الرادع، وكنت أنت - كما اعترفت لي بعد ذلك تحت قبة السماء المرصعة بآلاف النجوم، وأمام المنظار الذي دعوتك لمراقبتها منه - كنت أنت المسئول عن الإزعاج الذي سببته للمدرسة والبلد وربما للأموات أيضا، وإن لم أتأكد من هذا بنفسي لخوفي المزمن من زيارة القبور، كنت أنت الذي غافل الجميع أياما وأسابيع طويلة، وراح يطبع اللا على كل الحوائط والجدران، مبتدئا بالمدرسة التي تصطف فيها كل يوم في طابور الصباح، وتدخل الفصول وتخرج منها كالحمل البريء، كل المدرسين اشتكوا من هذه اللا التي يجدونها في الصباح مرسومة بالطباشير على السبورة، كأنها سيقان عقرب متربص باللدغة القاتلة لليد التي تمحوها، وتحيرنا في مجلس المدرسة وفسرنا الأمر بمختلف التفسيرات، وعللنا الجريمة بآلاف الحجج والتعلات، ونسبناها لشقاوة الأولاد وقسوة بعض الآباء والمدرسين، والتراخي في الحفاظ على النظام والانضباط داخل أسوار المدرسة وخارجها وغير ذلك مما هو مألوف ومعتاد، لكن الأمر تجاوز المألوف والمعتاد عندما جاءت الإشارة من المركز، وفيها اسمك الواضح واسم عائلتك وسنك ورقم فصلك. كان فلاح راجع من السهرة في الغرزة مع صديقه النجار قد لمحاك وأنت تجري من حائط إلى حائط، وفي يدك دلو صغير وفرشاة يتساقط منها الحبر الأسود، واشترك معهما حلاق الصحة الحاج مبروك، رحمة الله عليه، الذي لم أنس اسمه حتى الآن لكثرة ما غرز في جلدي من الإبر، وكثرة ما فتح ونظف من الجروح، وطاهر من أولادي وأولاد الأقارب والجيران. ونادوني على عجل فأسرعت إلى المركز مع العسكري الذي دق على بابي في عز الليل، كنت أنت الذي ذكر اسمي، وطلب أن لا يحضر أحد غيري ولا تبلغ الحادثة لأبيك. وذهبت ورأيتك وتشفعت لك عند البيك المأمور.
علمت بما ارتكبت يداك ووعدت بأن تجد جزاءك من المدرسة، وتوسلت أن لا تكبر المسألة، وكانت العلقة أمام المدرسة كلها ثم كان ما كان بعد ذلك، قربتك مني وحاولت أن أكون لك الأب والراعي والمعلم، ودعوتك للتطلع من المنظار على سطح بيتي، وكنت أيامها العزب الطموح الذي لا يزال يحلم الأحلام السخيفة ويلهث لارتقاء سلم المجد.
آه! لم يكن الواقع قد حاصرني بعد! لم تكن مسئوليات تربية الأخوة الصغار وتزويج الأخوات، قد ألقيت على كتفي بعد الوفاة المفاجئة للأب الفقير المطحون، ولم تكن جذوة الأمل في متابعة الدراسات في العاصمة، والحصول على الماجستير والدكتوراه في الفلك قد انطفأت في صدري، حتى الأمل في القناعة بالعمل في مرصد حلوان اختفى من حياتي تحت وقع الضربات التي انهالت علي، والتبعات التي لم يكن منها مفر، وقنعت من أحلام الطموح القديم بالمنظار الصغير، الذي أطل منه على النجوم كلما صفت السماء في ليالي الصيف، وشراء بعض كتب الفلك التي أتوصل إليها من زميل أو صديق قادم من العاصمة، قبل أن ألقي بالمنظار وسط كراكيب السندرة مع كراتين الكتب والأوراق والأنابيب والدوارق والأدوات والأجهزة، التي ترقد الآن منذ أكثر من ربع قرن في سباتها الطويل.
نعم يا ولدي نجم، يا من لم تنطفئ كما انطفأت ولم تخمد فيك شرارة المجد والطموح، ها أنا ذا أرى وجهك الصغير المستدير الذي كنت أصفه بملاكي الصغير، لماذا يشتعل بالألم والعذاب كنجم مرتعش في السماء يتقلب في دمه؟ ألا تعلم خيرا مني ألف مرة أن ضوءه لم يصلنا إلا بعد ملايين أو بلايين السنوات الضوئية، وأنه يمكن - مثل كل النجوم - أن يحتضر ويموت؟ أشفق على نفسك يا ولدي الحبيب الذي رجع لبلده ولصدر معلمه بعد غياب السنين، وأشفق على السيدة التي تحبك، وأولادك الذين ينتظرونك، واسمك وسمعتك وشهرتك.
كنت قد دخلت الحجرة التي يرقد فيها على سرير سفري صغير، كأنه مصنوع من عظام حيوان بحري منقرض، وكنا قد نزلنا من الحنطور على عجل، وسلمنا على شقيقه الأكبر حامد الذي يعرفني وأعرفه، ونلتقي دائما في صلاة الجمعة أو في الأعياد والمواسم والمناسبات والجنازات. رأيته ممددا على الفراش وتمليته قليلا، قبل أن أفاجأ به يرمي رأسه على صدري ويحتضنني ويجهش بالبكاء، التفت لزوجته التي بقيت خارج الحجرة، وهي تطل علينا جزعة متلهفة فأغلقت الباب، واحتضنته وبللت خده دموعي كما بلل خدي، منعتني المفاجأة من تأمل وجهه على مهل.
وكدت أتحاشى النظر في عينيه الباكيتين حتى أتمكن من القيام بدور الراعي القديم، كان الوجه صغيرا كما عهدته من قبل ربع قرن أو يزيد، لم يكبر إلا كما يكبر وجه الأرنب الوليد، الذي يحتفظ بخطوطه وملامحه في وجه الأرنب العجوز. أما اليدان المعروقتان والجسد النحيل الطويل، فما زالا عصبيين متوترين وما زالا مصرين على رفض التحنيط القديم أو الحديث!
قلت له: أنت بخير يا نجم، أنت بخير، لم أنسك يا ولدي أبدا، لكنها الأيام والأعمال وتحولات السنين، اطمئن يا ولدي فالدنيا بخير، ولا تتغير كثيرا كما تظن أنت وأمثالك، هل يخفى هذا على عالم الفلك الكبير؟ وهل غيرت شيئا من مسار الكون وقوانينه، أم اقتصر جهدك وجهد العلماء على معرفتها وفهم أسرارها؟ لا تقلق يا بني، لا تظلم نفسك بالحزن ولا تعذبها بالرعشة والبكاء، هذا شيء لا يليق بنجم متألق، يخضع ككل الكواكب والنجوم للسنن الأزلية.
ماذا؟ بالطبع سمعت قبل سنوات عن كشوفك الرائعة، وإن كنت بصراحة قد عجزت عن فهم أسرارها؛ لأني تركت العلم وتركني منذ أن غادرت البلد وهاجرت، وقرأت أخيرا عن تكريمك في بلدك فسعدت، وإن لم تسعفني الذاكرة ولا قصر النظر على التحقق من النجم المحتفى به، أو التثبت من صوره المنشورة في الجرائد، نعم يا ولدي! ضعف البصر وكلت الصحة وزال حتى طموح قراءة الأخبار في الصحف والمجلات. لا أكتمك أن اليأس تسرب إلى دمي وخلايا مخي البليد، منذ أن يئست وترهلت وأصبحت كما ترى، ولكن حدثني أنت عن نفسك! نعم نعم، هكذا أنتظر من نجم العزيز الحبيب. اعتدل وضع هذه المخدة خلف ظهرك، فضفض عن نفسك وتكلم يا بني، أنا أيضا لم أكن أحلم بهذا اللقاء، لم أكن أتصوره ولا في الأحلام. •••
انهمرت نافورة الأحزان القديمة فأخرجت كل ما فيها، تلقيتها في حنان كما يتلقى الوادي الرحب المنبسط سيول الحمم المتفجرة، التي تتساقط من فوهة البركان العالية المتأججة بالخطر والرعب، رجع بي إلى الأيام الأولى التي كنت قد رميتها خلف ظهري وردمت عليها التراب، وأخذ يحدثني عن كل شيء في حياته منذ أن أكل العلقة الساخنة على قدميه؛ أمسياتنا فوق السطوح وأحاديثنا الطويلة عن الفلك والتنجيم والجاذبية والتصوف والعلماء القدامى والمحدثين، فتح لي الأبواب والنوافذ التي أقفلتها إلى غير رجعة بعد أن سلمت رأسي وطموحي لقبضة لقمة العيش، حتى صرت زكيبة لحم متورمة يهددها التعفن والدفن! وعرفت كل شيء عن هجرته إلى كندا ودراسته الطويلة وتفوقه وتكريم العلماء والجمعيات العلمية له، وفرحت لأن بلده تذكرته وأرادت أن تشارك في الحفاوة والتكريم وكلمته عن أهمية العودة للجذور، وبعد أن توهج نجمه فجأة وراح يتكلم عن جولته في حواري البلد وشوارعها، أدركت أن الجذور كانت لا تزال تئز وتغلي باللهب الراقد فيها منذ صباه، خفت أن ترجع النوبة وتنفجر أفظع مما فعلت، فجعلت أصرفه عن ذكرياته الدفينة، وأصب فوقها مياه الدعابة والمرح، وأسرد له القصص والحكايات عن تبلدي واستسلامي للظروف، ونشاطي العظيم في جمع المال والفدادين والعقار من تربية الخيول والعجول والأغنام والمواشي والدجاج والحمام واليمام، وبدأت الضحكة تغزو سحب الغم المتبلدة على وجهه، وهو يرى كرشي المتورم ويتفرس في كتل اللحم والشحم المتدلية من وجهي، حتى أوشكت أن تمنعني من التنفس . •••
هون عليك يا ولدي، هون عليك، تعلم من أستاذك القديم الذي أصبح حجرا صامتا أخرس، حتى لا تحترق بنيران ذكائك وثورتك وطموحك، اطمئن يا ولدي في حضن الكون الذي جبت أبعاده، وغصت في أعماق ثقوبه ودروبه ومجراته، ضع روحك بين يدي الخالق واطمئن. ها هو الإمام في مسجد أبو السعود يقول آمين، والمصلون من أهلك يرددون وراءه بصوت واحد: آمين.
اطمئن يا ولدي واهدأ! عد لزوجك وبنيك وعلمك وكشوفك وردد ورائي: آمين، آمين.
3
وقال عالم الفلك محمود نجم بعد أن ودعه معلمه العجوز محمد علام: لا أدري كيف حدث ما حدث ولا متى ولا كم استغرق من الوقت، كل ما أذكره أنني بكيت كما لم أبك في حياتي، واحترقت كالنيزك الذي يهوي في غيبوبة الخلاء قبل أن يرتطم بالأرض ويتفحم، لا أدري أيضا كيف أمكن أن يظهر أمامي وجهك الأبيض المستدير، كأنه وجه بدر أطل على بئري المظلم، ومد إلي من ضوئه الناعم العذب حبل النجاة، فطفوت على السطح وفتحت عيني وتنفست وتكلمت وضحكت أيضا معك، ربما هتفت باسمك المطور في أغوار الشعور وما تحت الشعور، فسمعته زوجتي الوفية وسألت عنك حتى وجدتك، وربما تذكرت في ساعات محنتي أنني نطقت باسمك كثيرا، ورويت لها أحاديثنا الطويلة ونحن نجرب حظنا مع المنظار العتيق، ونطل منه على حقول السماء المتلألئة بآلاف الزهور، ونحلم بالعمل في مرصد حلوان، وبالتحليق أيضا مع سفن الفضاء، لقد وقعت المفاجأة ورأيتك أمامي، بل تمت المعجزة وألقيت رأسي المدوي كخلية النحل على صدرك، وأطلقت الدموع من محبسها كما أطلقت النكات والصيحات!
من كان يصدق أنني سألقاك أو أنك ستنتشلني من الغرق بعد هذه السنين؟ هل كان من الممكن أن أتصورك حيا ترزق، بعد أن علمت بهجرك للتعليم وانشغالك بلقمة العيش وضياعك وسط الزحام وإحباط أحلامك وسقوطها في وحل الركود واليأس والاستسلام؟ وها أنت تنتزع الضحكة من فمي الفاغر من الدهشة، وأنا أتخيلك تراقب وجوه العجول والثيران والأبقار والأغنام بدلا من رصد الكواكب والنجوم والأفلاك، وتتحدث عن ثروتك وأملاكك ومأدبتك العامرة في الإفطار والغداء والعشاء. وأحدثك عن ليالينا مع المنظار العتيق وحكايتك عن إيكاروس وعباس بن فرناس وموسيقى الأفلاك التي سمعها فيثاغورس وأشعار شكسبير عن غناء الكواكب، كأنها جوقة الملائكة التي تصدح بألحان التناغم الكوني، وتتغنى بها أرواح النجوم في السماء، ويمنعنا من سماعها الثوب الترابي الذي يطوق نفوسنا حتى تغيب في التراب. •••
وضحكت ضحكت كثيرا، حتى دقت زوجتي الباب وأطلت برأسها الصغير وشعرها القصير، ورأتني وسمعتني فاختلجت قسمات وجهها بالفرح الغامر، وأغلقت الباب بسرعة وهي تعتذر!
أقول ضحكت كثيرا عندما ذكرتني بالعلقة الساخنة أمام زملائي التلاميذ، وتحت بصر الناظر السمين القصير العابس الوجه على الدوام. ضحكت على بكاء الصبي النحيل وصراخه من لسعات السوط الذي ضربته به لتوقظه من سباته وعبثه الشيطاني، وكنت محقا في غضبك؛ لأنهم جرجروك إلى المركز في عز الليل وصدعوا دماغك بالتحقيق في واقعة تافهة، على الرغم من غرابتها وذهول الناس منها في البلد الصغير، لكن هل تصورت يا معلمي مدى الألم الذي كان يكمن وراءها؟ هل شعرت به من بعيد أو من قريب، فأقبلت على رعايتي وتهذيبي وتدليلي أيضا كالأب الحنون؟ أجل كان ألما لا يطاق ولا يوصف، فالصبي الطائش الذي لطخ جدران البلد بالحرفين اللعينين، كما تصفهما كان يحمل كما يقال عبئا تنوء به الجبال، ويحس أنه منبوذ ومرفوض من العالم والناس والأرض والسماء والماضي والحاضر والمستقبل، وكان يرى أمه كل يوم وهي تذبل وتنكمش على نفسها، وتنزوي واضعة يدها على قلبها في ركن قصي من البيت أو في حجرة مظلمة، وبدأ يدرك قسوة أبيه عليها وتجهمه وعبوسه، كلما أبصرها أمامه وكلما حاولت أن ترضيه، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يمر بباب حجرتهما فيسمعه وهو يسبها ويلعنها ويتوعدها بنار جهنم، وأمي تبكي وتدعو الله ليل نهار أن يريحها من وجهه، وتحتضنني أحيانا وتهتف دامعة: ماذا ستفعل بعدي يا مسكين؟
وحضرت من المدرسة عصر يوم ممطر، فسمعت صراخ أختي الكبيرة وبكاء أخي الأزهري، الذي وصل قبل أيام من عاصمة المركز، بعد أن اشتد عليها المرض وطلبت من أختي أن تكتب له ليكون بجانبها ويتلو الآيات الكريمة على رأسها، ويغمض عينيها بيديه ويوسدها المقر الأخير. لم أكن قد رأيت ميتا قبل ذلك، ولا جربت التغيير الذي يطرأ على البيت وأهله وأثاثه ورائحته، عندما يموت فيه إنسان ويجهز للسفر الطويل، ويتوافد المعزون وتنوح النساء ويتعالى صوت المقرئ ليلا في الصوان. وكان أبي وأخي حريصين على إبعادي عن البيت فسلماني للجيران، ولما شعرت بخروج النعش للصلاة عليها في الجامع تسللت وراء المعزين، وبقيت وحيدا كالقط المحتضر مستندا إلى جدار بعيد، وأنا أفكر في معنى الموت ومعنى أن تذهب أمي ولا تعود، لا أذكر إن كنت قد فهمت شيئا أو لم أفهم.
كل ما يحضرني الآن أنني بكيت وأخفيت بكائي عن الجميع، واستطعت أن أختصر الطريق وأسبق موكب الجنازة إلى المقبرة، وأزحف خفية كالكلب الضال حتى وصلت إلى المكان الذي تجمعوا فيه، كان أصدقاء أخي يسندونه عن يمين ويسار، وأبي في الخلف تتمتم شفتاه وتتحرك باستمرار، وأيدي الرجال تشد على يده في طابور طويل، وحانت لحظة الدفن والتفت الأجساد حول القبر، وعلت الأصوات بالتكبير والدعاء، ووجدوني وسطهم كأنما خرجت من فجوة تحت أقدامهم، رحت أزاحم وأزيح الكتل المتراصة لأجد منفذا منها، وسددت فوهة التربة بجسدي المرتجف الضئيل وأنا أصرخ: لا، لا، لا، جذبني القارئ والتربي مع أحد المعزين الذين لا أعرفهم بعيدا عن الفم الأسود المفتوح، وأسرع أخي يحتضنني ويمسح رأسي المشتعل بالغضب والهياج وهو يردد: استغفر الله العظيم، قل إنا لله وإنا إليه راجعون، قل، قل! صرخت فيه: لا، لا، صحت بالوجوه التي التفت حولي: لا، لا، رفعت رأسي للسماء وأنا أتشنج مرتجفا: لا، لا، انحنيت على الأرض وجرفت حفنة من التراب، نثرتها على وجهي وعلى الوجوه التي كانت تحدق بي وتحملق في بعيون مسترخية كابية كعيون الغربان، وأخذت أصيح: لا يا أبي لا، لا يا أمي لا، لم أدر ماذا جرى لي بعد ذلك؟ إلا عندما أفقت على سريري وأخي بجانبي يمسك بيدي ويربت على صدري وهو يقول: وحد الله، أنت عاقل وهذا أمر الله، عاودتني نوبة البكاء والصراخ، فصحت في غضب: لا، لا، وأطل وجه أبي المتجهم وهو يردد: وحد الله، فعلا صياحي كأنه إصبع اتهام غارق في الدم: لا، لا، لا. •••
لم تكد تمر الأربعون على وفاة أمي حتى سمعت أن أبي يستعد للزواج، لم أصدق أبدا حتى فوجئت ذات صباح بسيارة تقف أمام باب البيت وتنزل منها امرأة ضخمة بيضاء الجبهة والذراعين، تلف جسدها في ملاءة سوداء، وتغطي عينيها وأسفل وجهها بحجاب أسود. أخذني أخي من يدي وهمس في أذني: هذه زوجة أبيك على سنة الله ورسوله، هي في مقام أمك، صرخت فيه: لا، وجريت خارجا إلى الشارع وأنا أصيح: لا، لا، لا.
ومرت أيام وأنا أهذي بصراخي في كل مكان، كان العالم هو السجن الذي يضيق علي، والبلد هو قبري الكبير الذي أعيش فيه وحيدا، كما ترقد أمي وحيدة في قبرها الصغير، ومع أن زوجة أبي كانت امرأة طيبة ولم تقصر لحظة في إرضائي، إلا أنني كنت أشعر مع الأيام بأن أنفاسي تختنق في القبر الواسع الكبير، ولزمت الصمت في البيت والمدرسة حتى تصور الجميع أنني فقدت القدرة على الكلام، لكنني كنت قد فكرت في طريقة أخرى للصراخ، وهكذا اهتديت إلى تلطيخ الجدران بالحرفين اللعينين، وتمنيت لو أستطيع أن أكتبهما على جدران الكون الشاسع الرهيب، وهكذا عثر النجار والحلاق والفلاح ذات ليلة علي وسلموني للمركز، وتدخلت أنت لإخراجي منه وتعهدت بأن تضمنني وتوقع علي العقاب. •••
هل تعلم أن سكين الألم غارت في قلبي منذ ذلك الحين، على الرغم من عطفك علي، ومن أمسياتنا التي قضيناها أمام المنظار؟ لقد حفرت ال «لا» على جدران قلبي وراحت خطوطها تكبر وتمتد وتتعاظم حتى انطبعت على كل شيء، خيل إلي أنني أكبر أيضا وأتعاظم وأتضخم كمارد أو شيطان يتلفع في عباءة كبيرة سوداء، ويحرك ذراعيه ويديه الهائلتين وهو يختم الحرفين بالسواد على كل شيء في الأرض والسماء. ولم يستطع كلامك عن أنغام الكوكب وتناغم الأكوان أن يغير من موقف النفي المطلق لكل شيء على الإطلاق، كنت أستمع إليك باهتمام، وأتطلع من فتحة المنظار إلى كواكب ونجوم وطريق لبني متعرج ومختنق بالضباب في سماء رفضتها كما رفضت الأرض بما فيها بلدتي، التي تحولت كما قلت لك إلى قبر صغير داخل القبر الكبير.
لا أدري كم سنة لبثت على هذه الحال ولا إلى متى بقيت سجين الفكرة المتسلطة. فلا بد من الاعتراف بأن زهرة، التي لم أذكر لك اسمها أبدا، هي التي أخرجتني من السجن الكبير.
زهرة! زهرة! لماذا ظهرت لي بعد كل هذه السنين؟ لماذا خرجت من تربتك المجهولة في مقابر الصدقات، وعبرت أمام عيني وأنت مشتعلة بالنار وشعرك وثيابك ولحمك يحترق؟ ألم نتفق أن تصبحي زهرة متوهجة في السماء تضيء لي طريق العالم المظلم حتى ألقاك وأتوهج بجوارك إلى الأبد؟ لماذا اخترت هذا الوقت وهذا المكان بالذات؟ أكنت يا حبيبتي تنتظرين عودتي لترمي علي نظرتك المنداة بالحنان والوعود برغم النار التي تلتهمك شيئا فشيئا؟ آه! لماذا ظهرت لي بعد كل هذه السنين؟ اعذرني يا معلمي العزيز، تقول رجعت النوبة القاتلة؟ لا لا، فقد ظهر وجهك الطيب الحبيب ومسح الدموع ومر كالبلسم على الجرح القديم، لكن الجرح الغائر في طبقات الماضي يمكن أن يتحرك فتنز منه الدماء، فاسمح له أن ينزف قليلا، ولا تخف علي من الجنون أو الانتحار. •••
كنا قد تربينا في شارع واحد وبيتين متجاورين. وكم لعبنا لعبة العروس والعريس وتقاذفنا الحصا والرمل ونتف القطن وحفنات القمح، قبل أن ينبض قلبانا بالوجيب الغامض الوليد، وتكثر لقاءاتنا ومناجياتنا من النوافذ، وكان أبوها النحيل الصامت على الدوام عاملا بسيطا عند صاحب مخزن الفراشة القريب من محطة السكة الحديد، يحيي أبي عندما يراه خارجا من باب البيت أو من باب الجامع القريب، ويقبل يده في خشوع ويسأله البركة والدعاء، وأمها كانت تزورنا خلسة وتشكو لأمي من عناء الحياة مع رجل خائب مذهول كما تقول، وتخرج من عندنا وهي تحمل صرة منتفخة تخفيها تحت ملاءتها، مع الأمل في مئونة الزكاة التي تصلها خفية عن الأعين حين يحل العيد الكبير، وكنت أجري إليها وأحملها السلام إلى زهرة التي أشم عطرها في أمها، فتقف أمامي ساكنة رافعة يديها إلى السماء كأنها تؤدي الصلاة: ربنا يا ابني يكتب لها ابن الحلال.
وأشير بأصبعي إلى السماء وأنا أقول: سيحصل يا أم زهرة، سيحصل، انظري بالليل إلى السماء تريني أنا وزهرة كالكوكبات! وتضحك المرأة المتعبة القسمات وهي تحكم ملاءتها السوداء حول وجهها وجسدها، وتغلق الباب وراءها في هدوء: ربنا يا ابني ينور لكم طريقكم على الأرض قبل السما!
ونور ربنا طريقنا على الأرض وملأه بالزهور والعطور والوعود، كنت قد كبرت واخشوشن صوتي ونبت زغب شعرات دقيقة في ذقني وشاربي، كما كبرت زهرة وبدأ وجهها يحمر وتبرز في صدرها تفاحتان صغيرتان، وكان رأسي قد امتلأ بحكايات العلماء وعجائب الأفلاك، وأشعار التناغم الأزلي التي ظللت أسمعها منك ونحن على السطوح في الليالي الصافية، نطل من مرصد حلوان الصغير، ونلتقي أنا وزهرة بعيدا عن الأعين المتطفلة عند الطاحونة المهجورة على أطراف المزارع، أو في الساحة الموحشة القريبة من المقابر، وأحيانا نجازف بالتجول في المقابر ونزرع ممراتها الضيقة الغنية بشجر الصبار، كشبحين هائمين في بستان الأموات، لا، لا، كنا في الواقع نتجول في بستان السماء، ولا نشعر بأقدامنا تسير على الأرض، ولا بالأرض التي نقف عليها أو نسير. وتنطلق الأفكار التي اختزنتها كالحمام الزاجل من برج الرأس الحالمة، فترفرف فوقنا قبل أن تحلق وتختفي في السماء، وتموت على نفسها من الضحك وهي تسمع مني أسماء العلماء، وتفتش عبثا عن مدارات الأفلاك وقوانين الجاذبية والفجوات والثقوب السوداء والأشعة القادمة إلينا من بلايين السنين، فأحذرها من غضب الأموات، وأنذرها بأنني سأسبح في السماء وأصبح واحدا من أولئك العلماء اللامعين، وتضحك في طيش: أنت وحدك؟ فأقول وأنا أزم شفتي: هل ترين هذه الزهرة فينوس؟ سنكون مثلها زهرتين مشتعلتين في السماء! وتميل في صمت على زهرتين صفراوين نبتتا على فرع شجرة شوكي وهي تقول: أنا أفضل أن نكون هنا أولا على الأرض، متجاورين ولو على فرع شجيرة صبار ! وأضع يدي على كتفها وأضمها إلى صدري، وأطبع على فمها أول زهرة في بستاننا الذي ازدهرت فيه بعد ذلك عشرات الزهور.
ومرت الأيام والشهور والسنوات فندرت لقاءاتنا حتى انعدمت، وأصبح عزاؤنا الوحيد بالتناجي من النوافذ المتجاورة أمرا مستحيلا، بعد أن أغلق أبوها الصامت الشرس كل الشبابيك بالخشب والمسامير، وحرم عليها فتح الأبواب والإطلال على الشارع، وذهبت إلى المدرسة في عاصمة الإقليم لأعيش مع شقيقي الأكبر حامد، وبقي شعاع الأمل الوحيد في الأوراق الصغيرة التي كانت توصلها شقيقتي إليها أو إلي. كانت تذكرني في كل ورقة بالزهرتين من شجيرة الصبار، فأرد عليها مذكرا بالزهرتين المشتعلتين في السماء، وقلت الرسائل بعد زواج أختي وانتقالها إلى بيتها الجديد، واصطدمت محاولاتي رؤيتها - ولو مرة واحدة للحظة خاطفة، وعند حضوري في الإجازة الصيفية - بأبواب المستحيل وجدرانه وسدوده، على الرغم من التصاق الحائط بالحائط، واستماع القلب إلى دقات ساعة القلب التي تنفذ من الجدران، واستقر بي المقام في القاهرة عند أحد أخوالي بعد التحاقي بكلية العلوم، وغرقت في بحور الفلك والرياضيات، وسبحت على أجنحة الطموح لمنافسة كبلر وجاليليو ومشرفة وآينشتين نفسه الذي عارضت بعد ذلك نظريته عن تمدد الكون بنظرية مضادة عن انكماشه وانطفائه، برغم المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية الذي افترضت معادلات أخرى تخالفه.
عندما رجعت في ثاني أو ثالث إجازة صيفية وأنا على أبواب التخرج فاجأتني شقيقتي التي حضرت للسلام علي بقولها: البقية في حياتك، فهمت أنها تقصد زوجة أبي التي توفيت فجأة قبل شهور وتركت أبي مستندا على عكازين أو قانعا بالجلوس وأداء الصلاة على الكرسي المتحرك. قلت لها وأنا أكسو وجهي بعلامات الرضا والصبر: هذه حال الدنيا، الحمد لله على كل ما يأمر به الله. قالت: تعال. وانفردت بي في الحجرة الصغيرة التي كانت تنزوي فيها أمي، وقالت وهي تخرج ورقة من جيب تنورتها الطويلة: فكرت كثيرا أن أبلغك ولكن حسن نصحني بأن أتركك لعلومك. قلت وأنا أتوجس شيئا مباغتا: لقد اكتفيت بالبرقية كما أخبرني أخونا حامد. قالت: أف من الفلك وسنينه! هذه الورقة من زهرة، تركتها لك قبل ... سألت ملهوفا: قبل ماذا؟ أرجوك تكلمي. قالت وهي تخفض رأسها إلى الأرض لكي تتحاشى النظر في وجهي: تركت لك طول العمر، ادع لها بالرحمة.
اشتعلت كل زهور البساتين في رأسي: ماذا تقولين؟ ماذا حدث وكيف ومتى؟
ولماذا لم ... قاطعتني وهي تربت بيدها الصغيرة الدافئة على وجهي وصدري: قلت لك ادع لها بالرحمة، واخفض صوتك حتى لا تزعج أباك، لقد احترقت زهرة، صبت الغاز على رأسها وصدرها فاشتعلت فيها النار، وخرجت تجري إلى الشارع قبل أن يهرع الناس إليها، ويلفوها بالبطاطين ويحملوها إلى بيتها، ثلاثة أيام وليال ثم خرج السر الإلهي، قلت لك ادع لها بالرحمة. انتابتني حالة من الجنون أو التحجر، شعرت بأنني بركان تغلي صخوره الباطنة بسيول الحمم، ولكن وقت انفجاره في علم الغيب. وخرجت صامتا إلى القاعة التي استسلم فيها أبي للنوم فوق عربته المتحركة، وجلست على الكنبة في مواجهته وأنا أتمتم لنفسي: أنا المشلول لا أبي، وسأبقى مشلولا مثله ما بقيت في هذا البلد، هذا البلد الذي لن يتغير حتى يمنع احتراق الزهور. •••
لا تسألني ماذا فعلت بعد ذلك، فأنت تعرف كل ما يمكنني قوله، صممت في تلك الليلة على الهجرة، وتحددت أمام عيني مسيرة حياتي وهدفها، كما تتحدد مدارات الكواكب والنجوم وقوانينها، لا تضحك إذا قلت لك إنني صممت منذ تلك اللحظة، والورقة لا تزال مطوية في يدي، على مواصلة دراستي للفلك وبحثي عن زهرتي المشتعلة في السماء، وفي كل المجرات التي نعرفها والنظم التي يأتينا رنين إشعاعاتها وأطيافها، شيء مخبول اختلط فيه العلم بالتنجيم بالتصوف بالسحر، أعلم هذا تماما، لكنني مضيت فيه وجعلته صراط حياتي المنصوب كما تعلم بين النار والأعراف، يحدوني اعتقاد ربما لا يقل تخليطا وخبالا: أن حياتنا لا تعرف الموت أبدا، قد تتحلل وتفسد وتتحول إلى أشكال أخرى من الطاقة، لكن الموت نفسه كذبة وخرافة، رحت باختصار أعلل نفسي بأن النفس كذلك طاقة، وأنها طاقة خالدة وإن كنا لم نكشف بعد عن أسرارها، ولازمني اليقين منذ ذلك الحين بأن نفوسنا التي نتعهدها بالمعرفة والوعي لا يمكن أيضا أن يجوز عليها الفناء، كما لازمني اليقين الذي لم تخمد شرارته أبدا بأن نفس زهرة خالدة، وأنها قد تكون هناك في مكان ما فوق رأسي، في نفس أحد النجوم التي أحسب حساباتها وأتابع دورات ميلادها وحياتها وموتها، وأكرر بيني وبين نفسي ما تصوره كهنة الإغريق وفلاسفتهم عن أرواحها المقدسة، وما تصورته وآمنت به من وجود زهرة واشتعالها في نقطة بعيدة من الكون، وانتظارها أن ألحق بها وأشتعل بجوارها، كما اشتعلت زهرتا الصبار الضئيلتان في مقبرة البلدة أثناء نزهتنا العجيبة. •••
آه يا معلمي الحبيب! ماذا بقي أن أقوله أو أسكت عنه بعد أن عرفت ما عرفته من زوجتي عن نوبة البكاء والجنون والانتحار التي هاجمتني في الأيام الأخيرة؟ أأكرر عليك أنني نزلت من الحنطور بعد زيارة المدرسة، وجست في شوارع البلدة وحاراتها، حتى وصلت إلى الشارع الضيق الصغير، الذي احترقت زهرة عليه؟ أأقول إنني وجدت الجامع القديم والكنيسة ذات السور الحجري التي تشبه النافورة البيضاء المستديرة، ولم أجد لا بيتنا ولا بيت زهرة؟
ومع ذلك جلست هناك على حجر أجرد وظللت ساعات أحدق في الأرض، وأنتظر كأن زهرة ستخرج إلى الشارع مشتعلة بالنيران، أو تتوهج فوق رأسي في السماء الصافية، التي تسبح فيها الغمامات البيضاء على مهل كأجنحة الحمام.
كان المارة القليلون يتفرسون في وجهي، ثم يعبرون صامتين أو محركين رءوسهم أسفا، واقترب مني رجل يرتدي بدلة داكنة حائلة اللون، وفي يده حقيبة سوداء، ظننته حلاق الصحة القديم وتبين أنه شخص آخر ككل من أراهم، وقال: أي خدمة يا سيدنا البيه؟ اعتذرت له شاكرا، وقلت: إنني أستريح قليلا وأريح مفاصلي من التعب. كان كل شيء قد تغير في الشارع والشوارع المجاورة، ومع ذلك لم يتغير شيء، ما زال الوحل والبرك الصغيرة والبؤس وأكوام القمامة والذباب كما هي، ما زال الركود والهمود والجمود واليأس والتسليم يطوق كل شيء وكل حي، وشعرت بالنوبة تتحرك في أغوار البئر القديمة وحجارة ثقيلة تسقط فيها تباعا وتلطم أمواجها، وتدافعت الأمواج ولكن البكاء امتنع، وعصفت الأعاصير ولكن الصرخات اصطدمت بالسدود من كل نوع وحجم وشكل، ونهضت ذاهلا زائغ العينين من مجلسي بعد وقت لا أستطيع تحديده، وحضرت إلى البيت فكان ما كان وتفجر البركان. •••
هل كلمتك عن الورقة المطوية التي تركتها زهرة وسلمتها لي أختي؟ ها هي ذي، احتفظت بها مع بطاقتي وأوراقي الشخصية طوال ربع قرن أو يزيد. اقرأ بنفسك ما كتبته بخطها الذي يشبه النبش في التراب بأقدام الدجاج أو العصافير، أبلغوها بالزواج من التربي الذي كان يعرفه أبوها، ورحب به طلبا للستر؛ لأنه ميسور الرزق وسيكون زيتنا في دقيقنا، واستنجدت زهرة بالعالم السابح مع الأفلاك، فلم يعلم بشيء إلا بعد أن دفنت بقايا لحمها المتفحم هناك في المقبرة القديمة، وربما بالقرب من شجيرة الصبار، أقول المقبرة القديمة؛ لأنني ذهبت أبحث عنها، فقالوا إنها سويت بالأرض ونقلت العظام بأمر المجلس البلدي إلى المقبرة الجديدة، وحلت محلها محطة بنزين ومجزر آلي وسوق كبير لبيع المواشي والأغنام. هل تغير شيء يا معلمي العزيز؟ أنت سلمت بأن شيئا لن يتغير فصرت إلى ما صرت إليه، وأنا سلمت بأن شيئا لم يتغير وصممت على الرجوع إلى المهجر، واستئناف حياتي مع البحث في السماء، نعم، نعم.
لا تخش شيئا علي، تلميذك «الولد لا» تعلم أن يقول نعم، وسيرجع حتما إلى الجذور ويوصي بدفن عظامه مع عظام أهله في التراب نفسه، الذي انغرست فيه الجذور، طبعا ... طبعا.
انصرف أنت الآن مطمئنا وطمئنهم علي، وأرجوك أن توصيهم بفك قيودي، فلا داعي الآن لهذه القيود.
نقل دم
(1)
كيف يمكنه أن ينسى تلك الليلة عندما كان يتمشى على شاطئ النيل؟ لم تكن كغيرها من الليالي التي شهدت مسيرته المعتادة على الجسر التاريخي العتيق بحثا عن الراحة من تعب النهار وضوضائه، وتلهفا على شيء من السكون الذي أصبح في حكم المستحيلات، وتهيؤا للنوم الذي يعز عليه دائما ويسرق منه، وتطلعا لشعاع من الأمل يستقبل به مهام اليوم التالي وواجباته. لم يكن الشيء الذي ميز الليلة وحفر ذكراها في صدره كالجرح الغائر هو الضباب الخانق الذي لف خيمته الداكنة الكثيفة على السماء والأرض، وغشي الأطياف القليلة التي كانت تعبر به، وربما تأخذها الدهشة من رؤيتها له، وهو يتنزه في الجو الخانق المنذر بالمطر.
لا لم تكن ليلة عادية بل تحولا في المصير، نقلة مباغتة من خارج قطر الدائرة إلى مركزها، ثقبا في الضمير ظل يتسع منذ تأكد له أن الإلهات الثلاث المكلفات بنسج خيوط أقدار البشر على مغازلهن لن يستطعن أن يرتقنه مهما حاولن.
كان قد عبر الجسر في اتجاه الجزيرة الهادئة، التي يقع فيها مسكنه عندما سمع صرخة، دوت في أذنيه كاستغاثة غريق، تصلب في مكانه وفقد القدرة على الحركة، وأحس أن قوة طاغية قد تسلطت على أعضائه، وشلت ساقيه وقدميه، تلفت حوله في كل الاتجاهات فلم يشعر بشيء غير عادي، وخطر له أنه مر أثناء عبوره للجسر بأكثر من شبح يميل على سوره ولم يكلف نفسه حتى بالنظر إليها، وهو لا يذكر الآن هل كانت أشباح نساء أو رجال، شبان أو عجائز، ودوت الصرخة مرة أخرى ثلاث مرات في اتجاه الجنوب، وكأن صاحبها يرفع رأسه في كل مرة فوق الماء؛ بحثا عن اليد التي تنقذ الغريق، الأرض رمال ساخت فيها قدماه، جسده ينتفض ويرتج من داخله وخارجه العرق يتصبب من جبينه، بالرغم من زخات المطر المتلاحقة، توغلت الرعشة كالحمى في كيانه، وأخذت تحرك رأسه وأطرافه يمينا ويسارا، فتصور أنه ساعة مسمرة فوق حائط ولها أكثر من بندول يترنح كالمجنون، وماذا يفعل وهو لا يعرف العوم؟ هل هناك وقت للنداء والاستغاثة والصياح؟ وأين شرطة النجدة المخصصة للمساحات المائية، والمفروض أنها لا تتوقف عن التجول بقواربها في النهر، وفي هذا الوقت الذي تكثر فيه حوادث الانتحار أو الغرق أو الإغراق؟ توقف مكانه كالجثة المدلاة من حبل مشنقة، وتوقفت ساعته الجسدية وخرس كالحائط الذي التصقت به.
لم يدر هل يتقدم أو يتأخر، هل يصرخ أو يصمت، هل يجري إلى اليمين أم اليسار، وإلى الشمال أم الجنوب ، شعر أنه جذع شجرة يابسة يغوص بقوة قاهرة في كومة طين بلا حدود ولا أعماق، فاتت لحظات لم يسمع فيها أي صوت، خيل إليه أن ساعته بدأت تدق من جديد، وتحركت قدماه نحو بيته وهو من الخجل والعجز واليأس في غاية. إنه لم ير أحدا، وربما لم يره كذلك أحد، صحيح أنه سمع صوت الاستغاثة يخرق أذنيه ويخترق لحمه كالسكين الحادة، لكن من يضمن له أن هذا الصوت لم يكن وهما؟ وما الذي يؤكد أنه كان صوت استغاثة غريق أو غريقة، ولم يكن من عبث الصبية الفقراء الذين كثيرا ما رآهم يتجردون من ملابسهم البائسة، ويتنافسون على السباق ضد التيار في عرض النيل؟ من يضمن له أي شيء أو يؤكد له أي شيء؟ إنه لا يدري ولا يستطيع بعقله أن يحكم أو يثبت أو ينفي، لكن لماذا نفذت الصرخة إلى قلبه؟ ولماذا اتسع الخرق في ضميره يوما بعد يوم وسنة بعد سنة؟
وإذا برأه العالم كله من ذنبه، فمن الذي يعفيه من محاسبة نفسه، واتهامها مع طلعة كل شمس وغروبها؟ من الذي يملك القدرة على إسكات تلك الاستغاثة الحادة، التي لا تتوقف عن التردد في سمعه، والطرق بوحشية على كل بوابات وجوده؟ (2)
لم يتبق أمامه سوى ساعات معدودة قبل أن يستقل الطائرة عائدا إلى البلد النفطي الذي يعمل فيه، فإجازته لا تتعدى اثنين وسبعين ساعة يسلم نفسه بعدها في الموعد المحدد ويوقع في دفتر العائدين، وقد قضى معظمها مع زوجته في مشاوير لا تنتهي لتجهيز الشقة الجديدة التي كادت تبتلع كل مدخراته للزمن العصيب. استأذن في قضاء ليلة الخميس مع أصدقاء العمر الذين تعودوا على اللقاء منذ أول الشباب، بشرط أن يستأذن مبكرا للقيام بالمشاوير المتبقية في صباح اليوم التالي قبل رجوعه إلى مقر عمله، وعندما عبر الممر الشاحب الضوء ووقف أمام باب الكهف - كما سماه الأصدقاء - وضغط على جرس الباب، تساءل عمن تراه يكون بالداخل من الأصحاب، الذين تفرق معظمهم في البلاد، وغاص بعضهم تحت الماء، أو استطاع أن يطفو على سطحه ويتحدى ويصنع الأمجاد، هل سيجدهم يتحدثون كما هي العادة عن محنة الأدب وأزمة الثقافة والحرب الأهلية الخفية أو المعلنة بين الكتاب والشعراء؟ أم سيجرفهم التيار إلى فضائح الفساد والانفتاح وسماسرة العصر الذين لم تنج منهم سوق الأدب والفن التي ترتفع فيها أصوات الشطار، ويغطي الصوت المرتفع على الأصوات الهامسة، التي آثر أصحابها أن يلزموا كهوفهم ويعملوا في صمت، أو يستسلموا للصمت اليائس المترفع عن فتح فمه بكلمة أو آهة واحدة؟ لا بد أنهم يجلسون الآن في البار أو في سجن المرايا، كما كان يحب ضاحكا أن يسميه.
بعضهم أمامه زجاجة كوكا كولا والبعض يرتشف من الكأس المشعة والمشتعلة في الزجاج وفي الأحشاء على مهل، والأنا المتضخمة أو المنسحقة تنظر إلى نفسها في بقية المرايا، فتنتشي أو تتحسر على حسب الأحوال.
هلل الصديق وأخذه بالأحضان، ومن الباب أعلن للجميع مفاجأة حضوره، وخطا إلى الداخل على مهل وألقى نفسه على صدور الحاضرين، قبله البعض في شوق وسلم عليه البعض دون أن يعرفوه أو يسمعوا عنه.
ولم يلبث الجميع أن انصرفوا عنه إلى الصديق الجليل، الذي توسط الحلقة وبدأ يستأنف حديثه، الذي يبدو أنه أسر الجميع داخل دائرته السحرية، وأزال المرايا المعهودة من الوجود: تصوروا الدوخة والهم الأزلي، كل يوم ومن صبيحة ربنا عليه أن يدبر مائتين وخمسين جنيها، مائتين وخمسين على أقل تقدير، وأين؟ في القصر العيني لا في المستشفيات الاستثمارية.
قال الروائي الذي بدأ يلمع نجمه: الاستثمار هو الغول الذي يقبض الآن على كل شيء.
قال الصديق الجليل وهو يمسح رأسه الثلجي بيده القوية: حتى الدم، تصوروا! يدوخ الرجل طول النهار بحثا عن أكياس البلازما المطلوبة، يقف في الطوابير أمام أبواب المؤسسة فيقولون له: نفدت الحصة الموجودة وعليك بالسوق.
وفي السوق إذا ساعده الحظ يشتري الكيس الواحد ب...
قاطعه زميل طويل القامة أبيض الوجه، لم يكن قد رآه من قبل، وتكهن أنه طبيب: الكيس لا يقل ثمنه عن خمسين جنيها ، وهو غير مضمون.
سأل صديق قديم وهو يتفرسه بعينين أرهقهما تحقيق المخطوطات: ألا يحصل عليها من بنوك الدم؟ قهقه الذي تصور أنه طبيب وقال: يجب أن تضيف: بنوك الدم الخاصة، السمسرة هنا أيضا على أشدها، والأهم أن الدم في الغالب ملوث، أو على الأقل لم يخضع للرقابة الواجبة والتحليلات الضرورية للتأكد من صلاحيته.
قال صديق شاعر معروف بسخريته اللاذعة وطفولته الرعناء التي لا يرحم لسانها: البركة في الخصخصة وفي الثراء الفاجر والفقر الأشد فجرا الذي جلبته علينا.
تساءل بصوته الهادئ الذي ألفوا وداعته وغباءه معا: هل تقصد أن الفقراء هم الذين يتطوعون اليوم بدمائهم؟!
ضحك الشاعر قائلا: وليتهم كانوا أصحاء، لكنهم مضطرون لبيع دمائهم لكي يعيشوا، الدكتور معه حق.
وتدخل الصديق الجليل الذي حفر الألم والسخط على وجهه علامات بارزة: تجارة حقيرة، حتى الدم يتاجرون فيه، والضحية من؟ رجل لا يزيد معاشه على المائتين وخمسين جنيها، أي ثمن الدم الذي يحتاجه ابنه الوحيد في اليوم الواحد.
تكلم زميل يعمل أستاذا على المعاش في جامعة إقليمية: لو كان مثقفا عصريا ما وجد مشكلة، كان من الممكن وكان من الممكن.
ضرب الصديق الجليل منصة البار بيده، فمال كأسه على جنبه، وكان لحسن الحظ قد أفرغه قبل ذلك في جرعة واحدة: ملعون أبو الثقافة والمثقفين، ونحن وأنا أولكم، والله هذا كفر، كفر وجنون وجحيم. تساءل محقق المخطوطات أملا في تهدئته: الظاهر يا دكتور أنه صديق أو قريب عزيز. قال الصديق الجليل محاولا أن يخرج عن الصمت الذي خيم عليه وعلى الجميع لحظات طويلة، ولم يجد بدا من اللجوء إليه بعد أن لم يبق أمامه غيره: بل زميل من أيام الابتدائي والثانوي، باع كل ما يملك وضحى بكل شيء، أي والله بكل شيء في سبيل البلد الذي يقتله هو وابنه الوحيد، الثقافة، لعنة الله عليها إذا لم يكن وراءها إلا الموت والجوع.
رنت ضحكة الشاعر الخفيف الدم: وأحيانا يكون وراءها الكراسي والمناصب والنجومية والرقصات الجديدة على البطون والرءوس في الزفات الميري التي تنصب خيامها في كل مكان.
تدخل رب الدار ووجه دفة الحديث إلى موضوعات أخرى، وبدأ بسؤالي عن أحوال الإعارة، فلم تلبث سيول الشكوى أن تدفقت من شفاه صديقين آخرين، وشعرت أن الكهف قد رجع إلى طبيعته، وأن المرايا بدأت تملأ الحوائط أمامي ووراء ظهري ومن حولي، وانطلق أكثر من واحد يتكلم عن عمله الأدبي الجديد، فيثني عليه واحد وينتقده آخر، ويعتذر ثالث عن عدم الاطلاع عليه، مع وعد أكيد وحازم كالقسم بقراءته في أول فرصة تسنح له.
وقبل أن ننسى أنفسنا في السباحة فوق بحور الإبداع والغرق في هموم النشر وتياراته السفلية، والتحليق بأجنحة الخيال السعيد أو الخيال المحبط إلى سماوات الأحلام الخاصة والعامة، يضع الصديق الجليل يده على كتفي وهو يقول: أنت في سكتي، تعال أوصلك. (3)
وهما في الطريق إلى حيهما البعيد في الشمال الأقصى من العاصمة، راح يتطلع للوجه الصارم النبيل، الذي ذكره فجأة بوجه أغريقي أو مصارع روماني قديم، التف حول جسده ثعبان ضخم، جعله يتلوى من الألم الفظيع، ولكنه يتحمله بقوة خارقة، ولا تند عنه إلا آهة مكتومة خرجت من بين شفتيه، ولم يستطع الحجر نفسه أن يمنعها من الانطلاق في الفضاء كصيحة نسر عظيم، وتأمل الشعر الأبيض الذي يتوج الرأس الجليل، وهو يتعجب كيف تستقر القمة الثلجية فوق بركان يغلي ويفور، وسرعان ما يتفجر بالحمم النارية: هذا البلد لا يقتل إلا أبناءه المخلصين.
قال محاولا تهدئته: يبدو أن الإخلاص أصبح ذنبا يستحق أشد العقاب.
انفجر في غيظ ملتهب: المصيبة أنه مثقف ثوري، لو كان من إياهم.
قال ليخفي رعشة الخجل التي غمرته بقشعريرة برد مفاجئة: وربما كان السجن هو أهون عقاب. أمن على كلامه وهو يلعن زحام المرور في آخر الليل: منذ أن عرفه وهو لا يخرج من السجن إلا ليرجع إليه، وكلما سمعت الشرطة عن مؤامرة على نظام الحكم أو قبضت على تنظيم جديد، كان في طليعة المقبوض عليهم، كم حذرته بغير فائدة، سأل في حذر: حتى بعد السقوط والانهيار الفظيع؟
رد بضحكة مترجرجة في صدره كالنشيج: حتى صورة ماركس لم يرفعها من مكانها في صالة بيته، وفي آخر زيارة له قبل أن يحدث ما حدث لابنه قلت له: يا أخي ماذا يعجبك في هذه اللحية الفظيعة، والعيون المخيفة التي يطق منها شرار الغضب والاستبداد؟ أتريد أن نتركها هنا حتى يسقط البيت على رأسك أنت وابنك؟ ألا تصدق أنه سقط إلى الأبد هو ومذهبه اللعين؟ ضحك كطفل عجوز عنيد: وهل سمعت عن نبي سقط تحت الأنقاض؟ ما بقيت الأرض وبقي الفقراء فلن يسقط نبي الأرض والفقراء.
قال في أسف يخالطه رنة الإعجاب والإشفاق: أراهن على أنه لم يرفعها حتى بعد العقاب الذي حل به.
قال الصديق بعد أن اجتاز إشارة المرور التي طالت وقفته أمامها: وأي عقاب؟ لقد باع كل ما وراءه وقدامه، حتى الأثاث والكتب والفرش الذي ينام عليه، والسجاد الذي تبقى من أيام الزواج، والذهب الذي تركته زوجته بعد وفاتها، باعه قبل ذلك للإنفاق على تعليم ابنه الوحيد، حتى البيت القديم الذي ورثه عن أبيه لم يتردد عن بيعه لمواجهة المحنة الأخيرة. وبالطبع بأبخس الأسعار لأخس التجار، حاول أن يستبدل المعاش، فقالوا: المعاش هزيل ومدة الخدمة لا تسمح، وحاول أن يقترض سلفة من البنك الذي يقبضه منه فطالبوه بضمانات مستحيلة، لم يجد أمامه إلا الأصدقاء الذين جاع وعذب معهم في السجن، ولكن أين هم الأصدقاء؟
هل تظن أن كلمة الصداقة تحتفظ اليوم بأي معنى؟
قال وهو يتأمل وجهه ويبتسم: أظن طبعا ما دمت موجودا بحمد الله!
قال بغير أن تنقشع سحابة الغضب التي تظلل ملامحه القوية: وماذا أفعل أنا وعشرات مثلي أمام هذه المصيبة؟ يعلم الله أنني لم أبخل بأي شيء، حتى آخر قرش جاءني من المحصول أعطيته له، وهو كل ما أملكه من الدنيا غير المعاش الذي تعلم مدى تفاهته.
قال له وهو يغتصب ضحكة تهشمت على فمه: وهل كنت أبقى في الإعارة لولا علمي بحقارته؟
قال وهو يقترب من الشارع الذي تعود أن يوقف السيارة على ناصيته: معذرة لإزعاجك بمأساة إنسان لا تعرفه.
رد عليه وهو يبحث عن مقبض الباب : وكيف لا أعرفه وهو صديقك؟ لست حجرا على كل حال.
قال مواصلا اعتذاره: وماذا نفعل أنا وأنت لإيقاف نزيف الدم؟
أليس هذا هو معنى المرض اللعين الذي يسمونه، حتى الاسم نسيته، المهم، متى تسافر بإذن الله؟
قال وهو يفتح الباب وينظر من الزجاج ليخفي ارتباكه: غدا في مثل هذا الوقت أكون هناك في فراشي، لكنني سأتصل في أقرب وقت.
مد له يده مودعا، وهو يقول بصوته القوي الحنون: لا تشغل بالك، تسافر وترجع بالسلامة. (4)
بعد منتصف الليل بساعات انتبهت فجأة على وجوده بجانبها، أحست أنه قد أسند ظهره إلى جدار السرير وراح كعادته يحملق في الظلام، قالت شبه مذعورة: خير كفى الله الشر، لماذا لا تنام؟
أجاب بسرعة خاطفة: خير بإذن الله، استريحي أنت.
قالت وهي لا تزال تتوجس شرا: ألا تستريح قليلا قبل السفر.
قال في محاولة فاشلة للدعابة: الهدوء الشامل هناك سيساعدني على النوم الذي يحسدني عليه أهل الكهف.
قالت ضاحكة: وهنا أيضا، هل نسيت أن وراءنا؟
قال بحزم ليصد الأبواب: وهل النسيان ممكن؟ قلت لك استريحي أنت من تعب النهار.
لم ينس بطبيعة الحال أن غده سيكون من أشق الأيام، سيدور معها في معارض النجف والسجاد الصغير لغرفتي الأولاد وحجرتي المعيشة والمكتب، وسوف يضطر كذلك للمرور على المعلم المراوغ في ورشة النجارة لاستعجال غرفة السفرة التي احتاجت منهما لأكثر من مشوار، سيكون يوما مرهقا. ولكن متى خلت حياته من المتاعب؟
رجع يلف مع الدوامة التي جرفته دوائرها السوداء، أحس أن جسده ما زال ينتفض من البرد، وأن العرق ما يزال يتصبب من كل خلية في جسده، تساءل هل يمكن اللجوء إلى الاستعارة والقول بأن العرق هو دموع الجسد المنهك أو المنتهك على الدوام؟ وكيف يصف دموع النفس المضناة والمحبطة في سجن البدن أو قبره؟ أين الاستعارة أو الكناية أو التشبيه أو الرمز الذي يعبر عن بكائها الأخرس في قاع البئر المصابة بالجفاف؟ لو أنه، لو استطاع، لو تجرأ وفعلها ، وألف لو لا توقفت زخات العرق البارد ولا دفقات الدمع الكظيم، لماذا شلت يده فلم تمتد إلى الجيب المكدس بآلاف الدولارات والجنيهات؟ أيكون الوقت قد فات كما فعل معه أو بسببه آلاف المرات؟
أخذ يهدئ نفسه بالعزاء المعتاد، قال لها: أبدا لا يفوت الوقت إلا لمن يتركه يفوت.
وبدأ يستعيد كلام صديقه الجليل معه في السيارة وهناك مع الأصدقاء. حاول أن يجمع الكلمات المتناثرة في لوحة واحدة تكون صورة الوجه الذي لا يعرفه ولم يره أبدا وربما لن يراه، أليست إعادة التركيب والبناء شيئا مألوفا في العلم كما في الحياة؟ ألا يثرثر الجميع وهو واحد منهم عن قدراته وأسراره ومعجزاته في كل مجال؟ فليقف على شاطئ المجهول ويركب البيت أو القصر أو حتى الكوخ من نثار الحصى والقواقع والأصداف والرمال، فليحاول أن يتخيله طويلا نحيلا محني الظهر والعينين أو متوسط القامة مهددا على الدوام والانهيار والسقوط، وليحاول أن ينظر في عينيه طويلا ويتشرب الكلمات التي تنهمر كالدموع السوداء من بين شفتيه. (5)
آه يا ولدي المسكين، بعد تعب العمر يخذلني فيك المرض والحياة والناس والأصدقاء والأعداء، كدت أقول يخذلني القدر لولا أنني عشت مؤمنا بالثورة الدائمة، وبأن الإنسان هو صانع التاريخ، وما يسميه الجهلاء المهزمون بالقدر أو النصيب.
أي انتقام هذا يا ولدي؟ أأسلم - وأنا الصخر العنيد - في النهاية بتلك القوى الغيبية السخيفة التي أنكرتها طول العمر؟ أأركع وأسجد على أقدامها في خشوع وأنا أقول: ها أنا قد سلمت ورجعت إليك رجعة الابن الضال، الذي يعود تائبا إلى حظيرة أبيه وراعيه؟ وكيف أفعل وأنا لم أتعود الركوع ولا السجود؟ أجل يا ولدي، ها أنت تراني أقع فيما هو أسوأ من الركوع والسجود، وأي شيء أسوأ من مد اليد المرتجفة الخالية لمن يساوي ولا يساوي؟ أبوك الذي لم يكن يصحو أو ينام إلا على وجه الثورة والمستقبل، والحلم الحتمي بالعدل المطلق والفجر الباهر الجديد، صار الآن يدق أبواب أصدقاء الشباب ورفاق السجون والمعتقلات والزنزانات، وزملاء الكفاح والجوع والحرمان والجلد والتعذيب، لكن الأبواب لا تفتح يا ولدي، كل الأبواب موصدة، كل العناوين قد تغيرت بقدرة ساحر أو حاو عربيد. الذين كانوا مثلي لا يجدون قوت يومهم ولا يفكرون فيه لفرط انشغالهم بالغد الثوري، أصبحوا رؤساء وأعضاء مجالس إدارات، لمعت نجومهم في سماء المجتمع وبقدرة قادر غيروا الجلد والقلب والعقل والضمير، مع تغير الأحوال وألوان الرمال التي يزحفون عليها، النادر منهم هو الذي اكترث بمقابلتي ومد لي يده ببضع جنيهات، وعيناه تنطقان بفصاحة تغني عن كلام وبيان: حظ طيب، أرجوك ألا تشبهني مرة أخرى، لقد تركت كل شيء وأريد أن أعيش في هدوء، وأربي أولادي في الأيام الباقية.
وبعت كل شيء يمكن يا ولدي أن يباع، حتى صورة أمك الحبيبة أخرجتها من الإطار المذهب؛ لأبتاع بثمنه كيس دم جديد، والبيت القديم الذي تربيت فيه على الستر والمبادئ التي لم تشاركني دائما فيها، البيت الذي بقي لي من الدنيا ومن تراث أبي الفقير بعته للجار، والجار هو العطار الجشع الذي طالما أبديت إعجابك بنجاحه وحسه العملي والتجاري الذي فطر عليه. قلت لك: الفطرة لا تكفي، ولا بد من أن نؤمن بالعلم ليكون هو الفطرة الثانية، وصدقتني في هذا الأمر وحده، وتابعت طريق العلم حتى أوشكت على الوصول، فلماذا تتوقف يا ولدي فجأة؟ ومن أين جاءك هذا النزيف اللعين؟
أين هو وجه العدو الذي يمكن أن أفضح قناعه وأحرق جلده، وأشوهه بكل الغيظ والغبن والغدر الذي ترسب في كياني أو ما تبقى من كياني من أنقاض وأطلال؟
ها أنا ذا أهيم في الشوارع وأضيع فوق الجسور، وأظل الليل بطوله بحثا عن المعنى وصراخا في وجه اللامعنى الوقح الجبار، لكن ماذا يفيدني هذا أو يفيدك؟ ودمي يتسرب في دهاليز اليأس كما يتسرب دمك من كل فتحاتك، وأحاول أن أوقفه مع بقية الطيبين.
آه يا سندي في الكهولة والشيخوخة، يا نبتتي الوحيدة التي تبقت من حقل حياتي الجرداء، يا عكازتي التي تتكسر يوما بعد يوم ولحظة بعد لحظة، وتتحول في يد البؤس والحاجة إلى أفعى مسمومة تلتهمك يا وحيدي وتلتهمني؟ هل يجدي الآن أن أهتف معك أيها الطيب العميق الإيمان، وأدعو إلهك الذي لم أتوجه إليه أبدا بالدعاء: ساعدني يا ربي؟ استجب لوحيدي إن كنت ترفض أن تستجيب لي. ارحمه يا رحمن يا رحيم من المرض المعلون.
وعاقبني إذا أرادت مشيئتك أشد عقاب. (6)
في الخامسة من مساء الجمعة يجلس في مقعده بجوف الحوت الحديدي العملاق، الذي يشق كالحربة الخرافية جبال السحب المتراكمة، كأمواج الزبد على ارتفاع يزيد على العشرين ألف متر أو كيلومتر، لا يدري، فقد أعلنت المذيعة الرقم من داخل غرفة القيادة، بينما كان رأسه يميل على صدره للإغفاء لحظات، وصحا على لكزة خفيفة من جاره السمين المتشح الرأس بالغطرة والعقال ليجيب على سؤال المضيفة الآسيوية الوديعة الوجه والعيون والابتسامة عن نوع العشاء الذي يحبه، أجابها بالإنجليزية باختصار وتناول من يدها كوب الليمون وهو يكرر الشكر والاعتذار، ثم مال رأسه على صدره بعد أن شرب العصير ليحمي عينيه المحمرتين من المشاهد المضحكة المبكية على شاشة التلفاز، ويحمي رأسه الثقيل من مطارق الثرثرة مع الجيران. أخذت صورة الراقد على فراش المرض الملعون تتركب في رأسه وتجمع خطوطها وظلالها وألوانها الداكنة، وتكلمه أيضا وهو يهبط بين اليقظة والنوم إلى عالمه السفلي: أكلمك يا أبي فاسمعني وإن عجزت عن النطق بعبارة واحدة، ومن غيرك يفهم لغة الوجه المصفر الشاحب والعيون التي انطفأ فيها سراج الأمل الذي كان يتوهج بالوعود قبل أيام معدودة؟ من غيرك يلمس أيضا جرح القلب وعثرة الساقين والقدمين على أول خطوات الطريق؟ آه يا أبي، يا أبي الحبيب، أتعلم الآن أنك أقرب إلي مما كنت في أي يوم مضى من حياتنا البائسة، التي كانت مستورة ثم كشفت يد مجهولة عن وجهها التعس، وحجبت عنه إلى الأبد نور الشمس والأمل المؤجل في شيء من الراحة والأمان؟ في كل يوم أراك فوق فراشي ولا أنخدع بابتسامتك التي تمر على وجهي وصدري وشعر رأسي، وهي ترتعش من الخوف والخجل والذل والهوان، وما زلت تحمل معك أكياس الدم وتخفي عني الحقيقة التي لم تغب عني لحظة واحدة، هل شعرت أنني أشفق عليك أكثر مما أشفق على نفسي؟ وما قيمة حياتي أو موتي وأنا أرى شجرتك العجوز المصفرة الأوراق تطقطق في الريح ويتماسك في داخلها الخواء أمام ضربات المطر والسوس والظلام المطبق الذي يتردد فيه عواء كلاب الموت المتوثبة؟ أعرف ما تتعرض له كل يوم وكل ساعة، أتساءل عن قيمة بقائي أو ذهابي مع ما تلقاه من جحود الأصدقاء وتنكر الأقرباء وانغلاق الأبواب وقلة الحيلة، أود أن أقول وأنا ألمح أمارات الذل والقنوط على ملامحك: الحالة ميئوس منها يا أبي، أنا وأنت ونحن وهم، أليس هذا هو الحصاد الحتمي للزمن الرديء؟ لقد عشت تتحدى كل الأخطار وتواجه كل الذئاب والكلاب المسعورة، حتى النسور التي تنهش كبدك كل يوم، كما حدثتني عن ذلك البطل الأسطوري الذي نسيت اسمه، لكن أسراب النسور التي انهالت عليك كانت أبشع من كل ما قدرت، وحتى التحدي الذي جربته مني وتحملته لم يكن أقل قسوة عليك، كنا نتصادم ونتلاطم ويرتطم كل منا بالآخر، ثم لا نلبث أن نتصالح ونتلاقى في منتصف الطريق، أؤدي الصلوات في أوقاتها، وأزدري السياسة وأسخر من ساس يسوس؛ لأتوج العلم على رأس الزمن القادم، فتبتسم في النهاية وتقول: المهم يا ولدي هو أن تؤمن بصدق وبعمق، حتى الإيمان بالخرافات والأحلام، وبما كان يبدو كالأوهام قد ولد العجائب والمعجزات، آمن بما تشاء، ولكن آمن، وآمنت بالله وبالعلم وجعلتهما سيدي مصيري وقائدي عربتي الضعيفة المرتعشة الأطراف، تابعت معي طريق الأمل وأعنتني على عبور حفره المفاجئة، وشجعتني حين حكيت عن زاد العمر الذي أعطيته حبيبة القلب وزميلة الدراسة، لم تخف تذمرك واستنكارك عندما عرفت أنها ابنة برجوازي ورجعي عريق، وطمأنتك أن قنديل حبها الساطع كسف شموع ظنوني وهواجسي، بل إن أباها الذي عرفتني به قد ذكرك باحترام شديد، وأبدى رغبته في لقاء لم يتم، ولم يكن غضبك لكرامتك ليسمح بأن يتم أبدا، لكنك لم تقف عقبة في الطريق، وكررت علي خطبتك المعتادة عن الحرية والكرامة والضمير واحترام النفس، وسائر الكلمات التي داست عليها أقدام العصر الغليظة. آه يا أبي. وهي تزورني كل يوم وتحاول أن تضع البكاوي في يدي أو تحت مخدتي، فأصرخ في وجهها الحنون الذي أطفأ اليأس المتزايد أضواء مرآته الشفافة، وأنا الحائر بين أب يهيم على وجهه بحثا عن كيس واحد من الدم وبين الآلاف التي تقدمها لؤلؤة القلب فأفضل عليها الغرق في قاع القاع، وبينكما أتساءل كل يوم بل كل لحظة بينما يجثم فوق صدري الكابوس الزاحف على ذبالة العمر المرتجفة: متى يا رب أغرق في القاع؟ متى يا أرحم الراحمين ترتفع بالسيف ذراع الكابوس، فتطيح برأس المهندس الموعود وتضع نهاية لشقاء الأب المنكود؟ (7)
حمدا لله أن يدا طرقت باب كهفه بقوة، فانتشلته من الموت الأصغر قبل أن ينتصف النهار ويفوت أوان التوقيع. نفض صوت زوجته النوم من عينيه وجلجل كأجراس الخطر في وديان ذاكرته الضعيفة: هيه. حمدا لله على السلامة، حذار أن ترجع للنوم ويفوتك. - لا تخافي، سأذهب في الحال. - في الحال، وإلا خصموا اليوم من الراتب والمكافأة النهائية، لا تنس ... - وماذا أيضا؟ - قسط غرفة النوم يحل أول الشهر، وشهادات الأولاد، والقسط الأخير للسيارة، أنا نفسي كنت نسيت. - العدوى أصابتك مني، كيف حال الأولاد؟! - بخير بخير، المهم ترسل المبلغ في أول فرصة ممكنة، خذ بالك أيضا. - إنني متزوج وعندي أولاد وعلي مسئوليات. - نسيتني كالعادة، أردت أن أقول خذ بالك من نفسك. - حاضر حاضر، بوسي الأولاد حتى أراكم في أقرب وقت. - ولماذا المصاريف؟ هل نسيت أننا ... - ربك يقدم ما فيه الخير، مع السلامة، مع السلامة. (8)
شرب كوب الشاي على عجل وأسرع إلى الكلية، سلم على الزملاء والطلاب الذين وجدهم في طريقه، وفوجئ بالساعي البنجلاديشي القصير يجري نحوه ويأخذه بين أحضانه، ووقع عند السكرتير على دفتر الحضور، وسأل كل من رآه عن الصحة والأحوال، وبينما كان يشرب القهوة التي حملها إليه الساعي الطيب القلب، أخذ يستمع إلى مسلسل المهام التي تنتظره في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة: محاضرة الموسم الثقافي، الندوة التي سيرأسها والندوة التي سيعلق عليها عن أزمة المنهج في نفس الموسم ، اللجان الخمس أو السبع التي سيخطره السكرتير بمواعيدها المحددة، ورقة العمل التي شارك بها في ندوة مجلة الكلية عن غياب بعد المستقبل عن الفكر العربي، ثم هناك التحضير المتواصل للمادتين الجديدتين اللتين كلف بهما في هذا الفصل الدراسي، تذكر العبيد المقيدين بالسلاسل في قاع السفينة المظلم في مسلسل الجذور، الذي كان يحرص على متابعته، وتساءل وهو يرتشف آخر جرعة من قهوته: ما المخرج من هذا الملل الأزلي؟ هل ثمة شيء أو شخص ينقذه منه، وهو الذي لا يفتأ يحلم بالمنقذ والإنقاذ؟ ومتى تأتي لحظة التجلي وتكشف عن وجهها الذي احتجب خلف ستائر الأيام والأعمال، وفر هاربا من ضجيج عجلة التعذيب العقيم؟
ودارت عجلة التعذيب وهو لا يملك أن يدافع عن نفسه، وأخذ يقاوم في صمت حتى لا يغوص في دوامة الرمال، التي تسحب قدميه وتهدد بأن تغمر رأسه ببعض الأعمال الجانبية، التي كان يكلف بها بين الحين والحين، وفكر أن يسارع بإرسال مبلغ لا بأس به إلى صديقه الجليل، ولكنه تذكر أن الذاكرة قد خذلته كعادتها، وأنه نسي حتى أن يحصل منه على رقم الهاتف ورقم حسابه في البنك، أو أن يتأكد من اسم الشارع الذي طالما سارت فيه قدماه بحكم الفطرة والشوق، دون أن يخطر على باله أن يتحقق منه: هل هو شارع ابن حنبل أم ابن مالك، أم ابن باجة أم ابن ... وابتسم حين طافت بذهنه صورة الحمار الأبيض النشيط الذي كان أبوه يرسله من الحقل أو من المحل إلى البيت، فيجده واقفا أمام البوابة الكبيرة في ثقة وأمان.
غير أن هذه الابتسامة وأمثالها كانت تتوارى خجلا وراء وجهي الابن والأب اللذين لم يرهما أبدا، وصمم بينه وبين نفسه أن ينتظر أول الشهر ويستأذن في زيارة خاطفة، ولو أدى الأمر ألا تزيد عن ثمان وأربعين ساعة لسبب طارئ لا يحتمل التأجيل. (9)
هاتف الصديق فور وصوله بعد أن تأكد من الرقم المنسي واستأذنه في زيارة عاجلة، رحب به الرجل النبيل واعتذر بسبب مشوار إلى البلد لا يحتمل التأجيل. - خير إن شاء الله، هل أراك بعد رجوعي مساء غد؟ - سأكون في الطائرة التي تقلني في رحلة العودة، خطفت خروجية لمدة ثمان وأربعين ساعة وليتني أراك. - وأنا أيضا، خسارة، إن شاء الله. - لا أدري كيف أعتذر عن التقصير، لعنة الله على الظروف والتطلعات، المهم أنني جمعت مبلغا لا بأس به ويسعدني أن أساهم. - لا أفهم شيئا! - يعز علي أن تكون وحدك، أقصد صديقك وابنه شفاه الله. - «خلي فلوسك في جيبك.» - ماذا تقصد؟! - الابن رحمه الله من عذابه بعد سفرك بيومين، والأب لحق به بعد أيام. - لا إله إلا الله، بهذه السرعة!
الدنيا لله، كنت في البلد ولم أتمكن حتى من المشي في الجنازة، توالت الأحداث أسرع من الخيال، ربما لم تسمح الظروف حتى بإقامة الجنازة. - كل هذا النحس يا ربي! هل تأكدت بنفسك من المستشفى؟! - طبعا طبعا، ذهبت بمجرد حضوري من البلد ومعي مبلغ كبير، قالوا البقية في حياتك، الأب أيضا أحضرته عربة إسعاف ومات في نفس الليلة، قلت لهم: من الذي جهزه وليس له أحد؟! ضحكوا وقالوا: هذه شغلتنا، ليس هو أو ابنه أول ولا آخر من تحملهم عربة المستشفى إلى مقابر الصدقات، أتعرف ماذا تمنيت على الله في هذه اللحظة؟! - وهل بقي شيء تتمناه؟! - أن يكونوا دفنوه بجوار ابنه.
كانت هذه هي أمنيته الوحيدة. (10)
غادر مسكنه بسرعة دون أن ينظر في عيون طفليه، التي أطلت منها الدهشة والتعجب الشديد من حاله، لم يجب كذلك على أسئلة زوجته التي انهمرت فوق رأسه كقطرات المطر، وراحت تتسرب إلى مقبرة الذاكرة وتنبش فيها، واستقل عربة أجرة حملته إلى نفس المكان الذي وقف فيه قبل أسابيع على كورنيش النيل، كان وجوم المساء الشتوي يجلل المكان وما فيه، ويغطيه بغشاوة داكنة من السأم والاكتئاب والغيبوبة، وخيل إليه أن الغياب قد ابتلع كل ما هو حاضر أمام عينيه. حتى العابرين على الجسر والعشاق القليلين على السور الحجري المنخفض، وبائعي الترمس والذرة المشوية، والمصابيح المتوهجة وأكوام القمامة المتراكمة بروائحها الكريهة، لم تشعره إلا بالتوغل مع كل خطوة في نفق الغياب. أخذ يذرع الكورنيش جيئة وذهابا، ويمد بصره إلى البواخر السياحية العابرة ومراكب الصيادين الفقراء، في الهلاهيل التي تكشف عن عري أجسادهم النحيلة ولا تسترها، تمنى أن يجد مقهى يجلس فيه ويسكت مطارق الصداع الوحشي بفنجان من الشاي أو القهوة، وأذن الليل بالانتصاف ففكر في الرجوع حتى لا يتعرض للشبهات أو للأسئلة الخرساء التي تهدد بالانقضاض عليه، وخيل إليه لحظة ابتعاده عن الشاطئ أنه يسمع صوت الاستغاثة التي تشق صفحة الماء، تتلوها صرخات استغاثات مكتومة تخرج من جوف الأرض، وتنفذ من فتحات النوافذ في العمائر المطلة على الشاطئ، وتتصاعد من الأشجار الهامدة في الظلام، وألقى نظرة أخيرة على جسد النيل الراكد كبطن حوت أبدي يحتضر، فهالته حشود الأيدي التي تشق المياه الآسنة وهي تزحف وتتلوى وتتكاثر، كأيدي الغرقى أو الجنود المهزومين.
توقف في مكانه وعاودته الرعشة التي ترج جسده كالزلزال، وتساءل في همس تشوبه رنة السخرية: بمن يستغيثون وقد مات الضمير؟!
الزلزال1
كان من الضروري، بل من الحتمي، أن يكتب غريب محمد غريب هذا الخطاب إلى صديقه العزيز شفيق السيد، الذي لم يره منذ وقت طويل، الغريب في أمر غريب أنه لم يكتف بأن يوقع عليه باسمه، بل أضاف إليه أسماء أخرى كان صديقه أو بعض أصحابه ومعارفه يطلقونها عليه في ليالي السمر الطويلة، بينما تطل من عيني صديقه ومن عيون الأصحاب نظرات تلمع وتخبو، وتمتزج فيها السخرية بالحب والإشفاق: الحكيم والمسيح والظل الباهت والصوت الخافت، والبومة والعنكبوت والفقمة وأسماء وصفات أخرى لم يجد داعيا لذكرها، ووجه الضرورة التي دفعته لكتابة الخطاب أنه رأى صديقه الحبيب في الحلم، وأخذ يعاتبه ويجادله جدالا أشد مما فعل في لقائهما الأخير، الذي لا يذكر إن كان قد تم قبل أسابيع أو شهور أو سنين، وسنصرف النظر الآن عن هذا اللقاء الأخير وموعده البعيد أو القريب، ونقتصر على الإشارة الموجودة للجدل الذي اشتبكا فيه بالأفكار والكلمات، بأعنف مما يشتبك اليوم أبطال أفلام العنف والكاراتيه وغيره من فنون الصراع، أكد غريب لصديقه أن الزلزال قادم لا شك عنده في ذلك، وشرح الأسباب والمبررات شرحا مستفيضا سنجده يكرره في خطابه؛ لذلك ينبغي علينا أن نبدأ بقراءة الخطاب نفسه، قبل أن نعرف شيئا عن مصيره:
لا أملك إلا أن أكتب إليك يا شفيق بعد أن تعذر علي لقاؤك والاتصال بك، أصبح هذا أمرا حتميا بعد أن صور لي الوهم الذي ظللت أجتره حتى كاد أن يبلغ مبلغ اليقين - أنك غاضب علي أو في نفسك شيء مني - أجل أجل، منذ تلك الليلة التي تحدثنا فيها عن الزلزال والكوارث والبراكين، قلت إن الموت قادم لا مفر منه، وكل الدلائل تؤكد أننا سنلقى مصير الفيران التي تهرب من السفينة الغارقة لتغرق في قاع البحر، أو سنموت ميتة النائمين الذين يدخل عليهم اللصوص في الليل ويذبحونهم بالسكاكين، صرخت بأن الزلزال قادم، وأنني أحس بعلاماته ونذره وإشاراته، وإذا كان الموت هو المصير المحتوم فلنمت مفتوحي الأعين بشرف وكبرياء، ضحكت طويلا واتهمتني بالرومانسية المريضة والتمسح بالمتنبي وعداوة البشر، وكأن الزلزال الذي روع مدينتنا الكبرى وبعض المدن الصغيرة والقرى البائسة لم يكفني، فراح خيالي السقيم يتوهم أفظع ألوان الدمار، أكدت لك، وأنت تنظر إلي مذهولا لأنني رفعت صوتي عاليا، وضربت مائدة العشاء الذي دعوتني إليه بكفي ضربة مدوية، كيف أصدق أن صديقي لا يفهمني؟ أنا أقصد الزلزال الآخر، الزلزال الذي يرج العقول لا الأجسام، يهز الوعي النائم لا البيوت الآيلة للسقوط، يخرج المخلصين والصادقين من تحت رماد الجحود والإهمال والتجاهل، حتى الكذابين والأدعياء والأبطال الجوف وسائر المعذبين في الأرض - كما تعودت أن تسميهم - لا أتمنى أن تسقط على رءوسهم ذرة تراب ولا غبار واحدة - إنه زلزال آخر يا صديقي - قلت وأنت تلوي فمك بامتعاض وتنفث دخان سيجارتك في وجهي: نريد النور والأمل ونريد البناء والعمل، بينما تتكلم أنت وغيرك عن الزلزال؟ وضعت وجهي بين كفي لأكتم صوتي الذي ارتفع فجأة: ومن منا لا يريد النور والأمل والإنسان الجديد؟ من منا لا يعمل له ؟ هل عشنا وشقينا إلا من أجله؟ وكيف تنتظر أن يأتي بغير زلزال؟ لنختلف حول طبيعته، لكن كيف نختلف حول ضرورته؟ سكت وأدرت وجهك للحائط ورحت تحدق في لوحة راهب بوذي مستغرق في التأمل والصمت.
رحت أؤكد لك أن الزلزال قادم لا محالة، وأخذت أتلو عليك الحجج والبراهين، كأي محام يرفع صوته أمام قضاة مصابين بالصمم والخرس والعمى: عندما تتربع الذئاب على عروش الغابة، وتصبح الأسود طعاما للنمل والذباب والضباع، فلا بد أن يحدث الزلزال. - وعندما يعظ اللص بالأمانة، ويمتد الفاجر الفضيلة، ويدعو الخائن إلى الوفاء، ويمجد القاتل البراءة والشرف، ويثرثر الكذاب عن الصدق، والمزور عن النزاهة، ويصبح الكل عدوا للكل والجميع مسلطين على الجميع، والكلاب تتصارع على الغنيمة التعسة العاجزة، فكيف لا يأتي الزلزال؟! - وحين يبشر الجراد بالخضرة والربيع.
ويرتدي المسخ زي البطل والقديس، ويخطب الأبكم ويغني الأخرس، وتسيل أنهار العلم والحكمة من أفواه الجهلاء والحمقى والبلهاء، فحتم أن يحدث الزلزال.
وكلما عم الضجيج واستشرت الضوضاء حتى صمت الآذان وعطلت العقول، وجعلت الأعلى صوتا هو السيد المسموع، ومن لا يظهر في الإعلان والإعلام فهو غير موجود، هل تتوقع نبوءة أصدق على اقتراب الزلزال؟ - وعندما تنعق الغربان وتنق الضفادع وتنهق الحمير، ويهلل السفهاء ويصفقون ويهتفون متشنجين للفن الجديد والنغم الجديد. - وبعد أن أخذ المارد الأعمى يحطم مصابيح العقل، ويطفئ منارات الوعي، ويدمر ويكفر ويفجر، وهو يسوق الملايين إلى كهف الماضي الذي لن يعود، ويضع أقنعة الظلام على وجه المستقبل الموعود، ويهدد إرادة التغيير بالذبح والخنق والحرق والتصفية، فهل تنتظر ألا يسقط البيت وتنتفض الأرض والسماء بالزلزال؟ - وعندما تنكفئ البديهيات على وجوهها في الوحل، ويسحلها الشطار الأوغاد في الشوارع والحواري والأسواق، بينما تطل عيون الآخرين من النوافذ وتضحك في شماتة، وهي تجهز المقبرة الجماعية لأصحاب الكهف والرقيم، فهل يمكن أن يتأخر الزلزال؟ - وأخيرا حين يغيب العصفور عن زيارة السجين الوحيد، فيفتقد وقفته على حافة الكوة الضيقة في زنزانته، ويأكله الجوع لحبات الأمل التي كان يلقيها إليه منقاره الذهبي، ألا ينبئ كل هذا بزحف الزلزال الذي يروع السجن بكل من فيه؟ ألا يدفعك للتأهب والاستعداد بدلا من الضحك والسخرية والتشكك؟!
آه يا صديقي: اكتشفت أنني أكلم نفسي كالعادة ووجهي إلى الجدار، كأني محكوم عليه بنوع جديد من أحكام الإعدام، هو عدم التوقف عن الكلام والكلام والكلام، كنت قد غادرت الحجرة التي جلسنا فيها للسمر والعشاء، وكان الراهب البوذي لا يزال جالسا القرفصاء، مسترخي الذراعين واليدين على ركبتيه، رافضا النظر إلي لانشغاله بالتأمل في العدم الذي احتواه معه، ثم رجعت بعد لحظات طالت كأنها الدهور، وحاصرني فيها الحرج والغضب والندم والاختناق، نهضت واقفا للانصراف، بينما كنت تضع صينية الشاي على المائدة، فقلت رافعا حاجبيك من الدهشة: معذرة يا غريب.
ألا تجلس لنشرب الشاي ونكمل الحديث؟ قاطعتك وأنا أتكلف الضحك: لا أريد أن يزيد شعوري بالذنب ورغبتي التي تعرفها في تعذيب الذات. رنت ضحكتك المجلجلة ووضعت يدك على كتفي: صدقني يا غريب، أنت أحوج الناس إلى هذا الزلزال، سألتك في هدوء وأنا أتجه في تصميم نحو باب الخروج: ماذا تعني يا شفيق؟ وأنت تشير إلى الراهب وتتوقف عنده: ألم أقل لك إنك اسم على مسمى، ولما سكت دليلا على عدم الفهم عدت تقول: غريب عن العالم والعالم غريب عنك، تمتمت وأنا أخطو نحو الباب دون أن أنظر إليك أو إلى الراهب الأصلع النحيل: ربما، ربما.
وذهبت يا صديقي دون أن تقول وداعا أو تحدد موعد اللقاء الجديد، وانصرفت لكتاباتك ومقالاتك الصحفية ورعاية أرضك ومصالحك في الصعيد، وسافرت أنا إلى بلاد الصحارى والخيام والنفط، لأواصل الصياح والنباح في حجرات وقاعات التعليم العقيم، وحين رجع غريب الذي تضاعفت غربته لزم بيته القديم الكئيب الذي تعرفه، وانزوى في غرفة صغيرة بالبدروم تشبه جحور الأرانب والفيران، تاركا بقية البيت للزوجة والأولاد ليتحركوا فيه معظم النهار والليل، فلا تؤذيهم أشواك الصبارة العجوز. كان يمضي سحابة نهاره وساعات ليله في مغارته الصغيرة كالحي الميت، محاطا بالكتب التي ألفها أحبابه الأموات/الأحياء. يظل يحاورهم ويجادلهم ويوافقهم ويخالفهم، ويزين له الوهم أنه صار عضوا في المجتمع الوحيد الذي ينتمي إليه، الأهل تخلوا عنه، والصديق طعنه طعنة الإهانة، والتلاميذ رجموه بالحجارة، والأقزام المتعملقون أهالوا على رأسه أكوام التراب، وكلما خرج من مغارته الصغيرة ليتمشى قليلا، أو دفعه الضعف وحب الاستطلاع إلى أحد المجالس اتسعت حدقات الأعين، وهي ترى الشبح الخارج من مقبرته أو الخلد الذي غادر جحره. ولم تلبث البومة أن رجعت لصمتها واكتفت بحديثها الخافت النبرات مع أولئك الخالدين، الذين توهم أنهم قبلوه صاحبا لهم أو خادما لمحرابهم أو صبيا يتعلم الألف باء من جديد على أيديهم، وأصبح الجحر الصغير ملاذه من ضجيج العالم ومكبرات الصوت التي ارتفعت ضوضاؤها، ودوت طبولها أكثر بكثير مما وصف لك في لقائكما الأخير، صار كهفه الذي يغلقه على نفسه ليحتمي من الذئاب والكلاب والغربان والضفادع والمسوخ والأقزام والعمالقة، والأدعياء والمتآمرين والمتكالبين وصناع الجحيم اليومي في الأرض البور، وكان على صديقك يا شفيق أن يراجع كل شيء فيه وحوله وأمامه ووراءه. أن يجتر أشواك ذكرياته كالجمل العجوز، أن ينظر في المرآة ويسأل نفسه: كيف صرت إلى ما صرت إليه؟ أن يستعيد اللغة والهوية ويحاكم الماضي والحاضر، ويسأل نفسه إن كان قد بقي له مستقبل آخر غير الإلقاء في مزبلة الإهمال؟ آلاف الصفحات التي كتبها بدم القلب وكد العقل وسهر العين وعرق العمر صارت مدادا أخرس، أكوام كلام لم ينفع أحدا ولم يغير شيئا ولم يحرك حجرا ولم يقدم خطوة ولم يؤخر، ليت الشجاعة تواتيه فيحرقها كما فعل الكثيرون قبله، أليس هذا الحريق المجنون هو الشط الأخير للملاح الفاشل والرحالة الخائب؟ وعانى صديقك يا شفيق من قلة النوم، وثورات الأحشاء المتشنجة، وانطفاءات الوعي والذاكرة والفهم والإدراك، صرخ كل شيء ينتفض ويرتج في داخله بقرب أوان الزلزال، وكم اشتقت يا شفيق في تلك الأيام القلقة والليالي الأرقة إلى يد حنانك، التي طالما ربت بها على كتفي الذي انحنى ورأسي الذي كساه الثلج. كم تطلعت إلى عينيك الواسعتين المضيئتين، وإلى سلاسل ضحكتك الفضية، التي كان رنينها أعذب وأحلى ما تسمعه أذناي ، وسط أمواج النشاز والخلط والتخليط والفوضى التي تلطمنا ليل نهار.
كانت زوجتي قد ذهبت مع الأولاد إلى المصيف فرارا من الحر والرطوبة في المدينة والحي، والبيت الغربي الذي ازورت عنه كل الأنسام، ورحت أعالج الصداع والقلق والأرق بالأدوية المهدئة والأقراص المنومة التي وصفها الطبيب. كنت أنام كأهل الكهف لا أميز الليل من النهار، ولا أخرج من حلم إلا لأدخل في كابوس، ومع التخبط في متاهة بعد متاهة، والغرق في بئر بعد بئر، والانحدار إلى هاوية تبتلعها هاوية، سلمت بأنني أصبت بنوع جديد من الشلل أو التحجر، أو ربما بنوع غير مسبوق من عدم الوجود، لم ينج من ذلك قلمي وأوراقي وكتبي، التي تصورت أنها حجارة ستسقط حتما على رأسي، عندما يرتج الزلزال القادم ويرج كل شيء، لعلي قد ارتجفت كثيرا في نومي أو صحوي المختلطين، ولعلي انتفضت ونفضت من الظاهر والباطن أكثر من مرة، ولكن لطمة مروعة من قبضة مخيفة فاجأتني ذات لحظة، فتخيلت أن روحي وجسمي وبيتي ومدينتي والعالم القبيح القديم كله قد تحول إلى أنقاض، وما أدري إلا والباب يدق دقات تدوي كالرعد، وأصوات حناجر وأيد وأقدام تتداخل وتتدافع وتضطرب. قلت لعلها الشرطة أو المطافئ أو النجدة جاءت تفتش عن الأحياء الباقين تحت التراب، وفتحت الباب فإذا هم أمامي يشيرون إلي ضاحكين، أطفال كأنهم ملائكة بغير أجنحة، يتوسطهم شيخ وقور مضيء الوجه طويل اللحية، يرتدي ثوبا فضفاضا لم أتبين لونه يغطيه كمسوح الرهبان، اندفعوا داخلين وهم يتصايحون ويغنون كأنهم زفة عرس أو جوقة تمثيل وغناء وتهليل، ودخل الشيخ المضيء وراءهم وربت على كتفي كصديق قديم، شلني الذهول في مكاني وأنا أراهم يتحسسون الجدران والكراسي والأرائك والستائر المسدلة، ويتجهون برغم الظلام السائد إلى غرفتي المنزوية كالجحر في ركن بعيد من البدروم، وقبل أن أتمكن من السؤال شعرت بيد طرية تأخذ بيدي وصوت متهدج يقول: ألم تكن تنتظر الزلزال؟ سألت في غيظ وغضب: ومن أنتم؟ ما أدراكم؟ من أذن لكم بدخول بيتي بغير استئذان؟
قال الصوت وصاحبه يشدد قبضته على يدي: جئنا لنهنئ أنفسنا بنجاتك. صحت وقد ازداد غضبي : تهنئني والمدينة تحت الأنقاض؟
رنت ضحكته مثل كرة نحاسية سقطت وتدحرجت على البلاط: المدينة بخير، الناس أيضا بخير، والعالم على حاله كما كان وسوف يكون، قلت وقد بلغ بي الاستياء من عبث الأطفال مداه: لم تجب على سؤالي! من أنت؟ ومن أنتم؟ كيف ... قاطعني وهو ينقل يده من يدي إلى كتفي: وماذا تهم الأسماء؟ المهم أن زلزالك وقع وما زلت بخير. أصررت على تكرار السؤال بعد أن رأيت الصغار يتزاحمون على حجرتي الصغيرة، ويوشكون أن ينتهكوا حرمة أسرارها وأسراري، سبقني الشيخ خطوات ونفذ من صفوف الصغار، وجلس على الكنبة التي شهدت أحلامي وكوابيسي، وتابعت عينيه وهما تطوفان بالرفوف الخشبية والصور والأقلام والكتب والتماثيل الصغيرة، وتتفرسان في اللوحات الصغيرة المثبتة فوق مكتبي وعلى الجدار المواجه له، قال كأنه يألف المكان وما فيه: القديم جديد في نفس الوقت. والنهاية تحتضن البداية على الدوام، أما زلت تلح على السؤال؟ قلت بنبرة لم يزايلها الغضب والاندهاش، وأنا أقلب عيني بين وجهه ووجوه الأطفال المبتسمين، الذين وقفوا في نصف دائرة كباقة من الزهور: أليس هذا أبسط حقوقي؟
قال الشيخ وهو يبادل الأطفال الذين تشابكت أيديهم ابتساما بابتسام: جئنا نسجل البداية الجديدة، نضيف ريشة جديدة إلى كفة الميزان.
تلاحقت ضربات قلبي عندما رأيت الأطفال يرفع كل منهم في يسراه سجلا أسود مزخرف الحوافي بالذهب، وفي يمناه ميزانا من النحاس البراق الذي استقرت ريشة زاهية الألوان على سطح كفته. قلت وقد استثار المشهد عجبي وضاعف من سخطي وغضبي: سجلات وموازين وأطفال وشيخ غريب؟
بيتي ولا أعرف.
قاطعني بصوته الهادئ الذي تبلله الدعابة الهادئة: هل نحن نقتحم كهفك أيها الراعي الوحيد؟
قلت وأنا أطرق برأسي إلى الأرض يأسا وغيظا: حتى الكلب الوفي حرمت منه.
ضحك الشيخ على الفور وأشار إلى الأطفال: أرأيتم؟!
مع أن زميليه انطلقا في زحام المدينة وتمسكا بالحياة، ظل أحدهما يبحث عن زوجته وأولاده، والآخر يتشبث بالحب المستحيل.
قال محتدا لأنهي هذا الاستطراد السخيف: حتى أكلهما الزمن فأسرعا إلى الكهف يائسين.
ضحك الشيخ وردد الأطفال المبتسمون أصداء ضحكته: نحن كذلك ...
قاطعته وأنا أشير للأطفال إشارة قاطعة بالسكوت: أنتم أنتم، من أنتم؟!
قال الشيخ بهدوء كأنما يشعر بالذنب عن الكتمان الطويل: قلت لك ما قيمة الأسماء؟ سمنا روح الأرض، قلب البشرية، ذاكرة التاريخ، وعي الحاضر منذ الأزل إلى أبد الدهر.
قلت لك: ما قيمة الأسماء؟!
سألت وأنا أحاول أن أجد منفذا يخرجني من كفن يلتف حولي أو تابوت يغلق علي: وهذه السجلات السوداء، هذه الموازين، هل مت في الزلزال وجئتم تقيمون الحساب؟
قلب عينيه قليلا بين الصور واللوحات الصغيرة: يا للجاحد المتسرع، بل بعثت للبدء من جديد.
ثم منطلقا في ضحك صاخب وهو يتأمل الصور المعلقة على الحائط كأنه يكلم نفسه: على الرغم من الطفل الذي وقف أبوه وأمه بجانب فراش موته في ثياب الحداد، ومن العذراء الجميلة الناصعة الوجه التي أسندت رأسها على كفها اليسرى، وراحت تتأمل جمجمة بشرية موضوعة أمامها، وبالرغم أيضا من وجوه الشعراء الأموات الذين أحطت نفسك بهم.
قلت محتجا: هم أكثر حياة مني ومنك ومن كل من تظن أنهم أحياء.
قال وهو يمد يده ويربت رأسي وكتفي، كأنما ينفض الغبار المتراكم من سنين: صدقت، كل هذا في السجل، كله في كفة الميزان.
رفعت وجهي إليه مستفهما وأنا أردد بصري بينه وبين الأطفال، قال في تؤدة كأنه يناجي الزمن نفسه: كل كلمة صدق في هذا السجل، كل كلمة حق.
سألت متهكما: والميزان؟ أتراكم تزنون القلوب والأرواح؟
استمر في مناجاته: هل تصورتم أننا لا نسجل ولا نزن شيئا؟ النيات والأحلام والأعمال كلها هنا أو هناك، ما من شيء يضيع يا صديقي، ما من كلمة صادقة تنسى أو تذهب هباء.
قلت وأنا أهز رأسي مستنكرا: حتى المتواضعين المنكورين تذكرونهم؟ حتى الذين افترستهم ذئاب العصر وداستهم أقدامه؟
قال مؤكدا على كل حرف كأنه يتلو نصا مقدسا أو يرتل نشيدا موروثا: هؤلاء قبل غيرهم، ثم وهو ينهض على قدميه ويقلب طرفه في الوجوه الحزينة والسعيدة، والعيون المتحدية والعيون الكسيرة، وتماثيل الحكماء والمهرجين والقرود التي وضعت أكفها على الأفواه والآذان والأعين، والزهريات والشمعدانات الصغيرة التي طالما سهرت على شموعها: كل شيء يقول إن اللحظة بين يديك، وكل لحظة تدعوك للبدء من جديد.
كنت قد تابعت عينيه وشردت ببصري لأتأكد من وجود البيوت من حولي، وأعاين المآذن والقباب والنوافذ والشرفات والهوائيات المشرعة للسماء.
رحت أردد البصر بينه وبين الأطفال، وأسأل نفسي إن كنت قد رأيت هذا الوجه الطيب قبل ذلك، وبينما كنت على شرودي وحيرتي وتساؤلي المستمر، سحبت طرفي من النافذة وتلفت لأجيب عليه فلم أجد أحدا حولي، كانت أصداء صوته ما تزال تتردد في فضاء الحجرة الضيقة الخافتة الضوء، وأنا أحاول أن أتذكر أين رأيت هذا الوجه الضاحك السمح، وسمعت هذا الصوت الخشن الوقور: كل شيء يدعوك للبدء من جديد.
أتراك يا صديقي شفيق قد زرتني في المنام أو الكابوس؟ أم تراك تصوفت ووصلت وأصبحت من أصحاب الكرامات؟
لتكن الإجابة ما تكون، ولتعلم أخيرا أنني اشتقت إليك وإلى وجهك وعينيك وصوتك وضحكتك وشفقتك أيها الطفل الشفوق العجوز على صديقك المغترب الغريب، صديقك الذي رأى ما رأى وكتب إليك ليقول إنه يحاول أن يبدأ من جديد، هكذا ختم غريب خطابه الذي لا يقل عنه غرابة، والأغرب من ذلك أيضا أنه فوجئ بعد أيام - أو على الأصح فوجئت زوجته التي رجعت من المصيف مع الأولاد - بأن الخطاب المسجل قد رجع به ساعي البريد، وعليه هذه التأشيرة بخط مضطرب، لا يفك أسراره إلا خبير في الخطوط.
القبلة الأخيرة
1
كأني ما زلت أراك يا حبيبتي وأنت واقفة هناك وراء الباب الموارب، تنتظرين أن يرجع الابن الجاحد الذي خرج مسرعا ليستقل العربة التي ستقله للعاصمة، وحرمك وحرم نفسه من قبلة لم يكن أحد منكما يدري أنها ستكون القبلة الأخيرة.
2
في ضحى يوم شتوي بارد قبل ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمان قلت لنفسك: أزور بيتنا في البلد زيارة خاطفة قبل أن ينفذ فيه حكم الإزالة الذي أصدره أخي الأكبر مع مجلس المدينة ، كانت أصوات الهدم والردم والخبط وضربات المعاول والمطارق والفئوس قد تناهت إلى سمعي عند هبوط العربة من المزلقان، واستدارتها إلى اليسار لتقف أمام عتبة البيت مباشرة، خلصت نفسي من زحام العربة التي كنت قد انحشرت فيها وسط مجموعة كبيرة من الفلاحين الطيبين، الذين لا يملون الشكوى من الحكومة وإلقاء الذنب في كل المصائب على رءوس المسئولين، وضعت قدمي على الأرض بعد جهد جهيد، ووقفت أمام عتبة البيت وفي يدي حقيبة صغيرة بها بعض الأوراق، التي توهمت أنني سأستطيع النظر فيها أثناء السفر، ومعها الخطاب الذي أرسله إلي أخي ورجاني فيه أن أقف بجانبه وأتنازل عن حقي في البيت تقديرا لظروفه، لم أشأ أن أكلمه في الهاتف أو أرد عليه بخطاب آخر، صممت على السفر والرجوع في نفس اليوم بعد رؤية البيت، وبعث الحياة في أجساد الذكريات الميتة.
لم أجد حاجة لطرق الباب بالسقاطة الحديدية العتيقة المثبتة عليه منذ سنين طويلة كقبضة يد نحيلة، كان الباب مفتوحا ورائحة الغبار الخانق تهب من الداخل، ومن أكوام الهديم والرديم المتراكمة على شكل مساطب أو أهرامات صغيرة، سواء في مدخل البيت أو خارجه. وقفت أنظر حولي وأتلفت في كل اتجاه، هذا هو نفس الباب الذي كانت تفتحه لي أمي عند عودتي في إجازة الصيف، وتقف وراءه لتطل علي قبل ركوبي العربة التي تعيدني إلى الدراسة الثانوية أو الجامعية، أو إلى العمل الذي التحقت به قبل رحيلها بسنوات قليلة. ما كان أطيبها وأحنها علي أنا آخر العنقود، الوحيد الذي رفض حتى الآن أن يتخلى عن وحدته، هل أنسى كيف كانت تفتح ذراعيها بمجرد دخولي من الباب وتضمني إلى صدرها في حضن طويل، وتغمر وجهي بالقبلات وهي تنهنه قائلة: يا نضري يا حبيبي، يعني كان لا بد من الغربة، وحرقة الدم في الكتب والعلوم؟ يا ليتك تقعد معنا يا ابني على طول، وربك هو الرزاق للعالم والجاهل الذي لا يعرف الألف من كوز الذرة، وتأخذ يدها تربت على ظهري وتتحسس عظامي، وهي تقول بصوت كالأنين: يا عيني عليك يا ابني! كوم عظم يا ناس؟ هات الشنطة واسبقني على فوق، فيها هدوم للغسيل، طيب وما له، ياما جاب الغراب لأمه، في هذه الأثناء يكون صديقي بستان القط الأسود قد حضر على صوت كلامي وضحكاتي، وأخذ يشب ويتمسح في رجلي وثيابي وأمي ترمقه بغضب وهي تهدده بيدها المتوعدة: والله لولا معزتك عنده لكنا وضعناك من زمان في جوال، ورميناك في الترعة، غدار ابن غدار، يأكل الأرانب المولودة ويسطو على صواني السمك في الفرن، تقول بستان، غير اسمه يا حبيبي، سمه خرابة بدل بستان، نمر أو وحش صحيح!
وأضحك على الذكرى وأنا أنظر إلى المنضرة على يميني، ويقطع علي خيوط ذكرياتي صوت مجلجل أعرفه على الفور: الدكتور وصل يا أولاد، نادوا على الحاج يا جماعة. - تفضل يا دكتور، تفضل في المنضرة وابعد عن التراب.
كان هو صوت جارنا عطية الحلاق الذي لا أدري كيف ولا متى لمحني فأسرع إلي وأخذني بالأحضان. دخلت المنضرة فوجدت كل شيء فيها كما كان، الكنب نظيف ومرتب، والحصيرة الملونة مفروشة على الأرض كأنها سجادة كبيرة للصلاة، هنا كم صلينا خلف أبي، وكم جلسنا نستمع إلى الدرس الديني الذي كان يتلوه علينا شقيقي الأزهري، بينما تتابعه عينا أبي من وراء النظارة السميكة بكل الفخر والاعتزاز، وهل أنسى الرعب الذي كان ينفضني ويرجف قلبي وأعضائي، وهو يحدثنا عن عذاب القبر أو عن أهوال يوم القيامة؟ (لا أذكر أبدا أنه تطرق مرة للكلام عن الجنة ونعيم الفردوس!) في هذه المنضرة نفسها، كم كان يحلو السهر في رمضان، وكم كانت تعمر بالجيران والأحباب والأعيان والفلاحين والفقراء المجهولين، الذين يأتون للسمر ويستمتعون بفنجان القهوة أو القرفة أو طبق الخشاف، والكنبة المقابلة، كيف أنسى جلسة أمي عليها بجوار النافذة المواربة، ترى الدنيا وتطل على الناس أو تنتظر عودة شقيقي - الذي أنتظره الآن - من غربته في المدينة التي هرب إليها من وجه أبي، وبعث له ولشقيقه الأكبر بأكثر من خطاب يهدد فيه بالانتحار، إن لم تتحقق مطالبه بالاستقلال بنفسه بمحل تجاري خاص به وحده، والأم تنتظر بجانب الشباك وهي تجفف دموعها بين الحين والحين، وتتحسس الأساور والمباريم التي أعلنت للجميع أكثر من مرة بأنها مستعدة أن تعطيها له بمجرد رجوعه بالسلامة وتقبيل يد أبيه التقي المسامح بالرغم من غضبه الجبار، وفي داخل المنضرة من هذا الباب الصغير كانت الخزانة الصغيرة التي ...
ويحضر شقيقي معفر الشعر والملابس كأنه خارج من قلب عاصفة ترابية، مرحبا مرحبا وهلت الأنوار، أهلا بالحكمة والعلم والأدب والناس الطيبين، العصفورة قالت لي إنك ستحضر بنفسك، أنت دائما لا تخيب عشمي فيك، سلامات سلامات، إن شاء الله تقعد معنا يومين، بالحضن يا رجل، بالأحضان.
قلت محاولا أن أقطع السيل المتدفق: يومين؟ أنت متفائل جدا يا أخي، لا بد من الرجوع عصر اليوم، قال مستنكرا: قبل ما الأولاد يشوفوك ويسلموا عليك؟
قبل ما تذوق أكل الحاجة وتسلم عليها؟ أنا أرسلت لها بالفعل لتجهز الغذاء، سنذهب إلى الشقة التي استأجرناها ووضعنا فيها العزال الضروري حتى ننتهي من البناء، أنا كنت على ثقة من حضورك، ومتأكد من وقوفك بجانبي أنا وأولادي.
قلت ساهما وأنا سارح على أجنحة الذكريات: أولادك هم أولادي يا حاج، هل هذا كلام؟ المهم ترضي أخواتك البنات وأولاد المرحوم أخيك الكبير.
قال مؤكدا: الجميع راضون والحمد لله، ولمن أتعب وأبني إلا لكم؟ أليس هو بيت العائلة في البداية وفي النهاية؟ ألا يقدر الجميع أنني أمثلكم هنا في البلد وأنوب عنكم في المناسبات؟ ثم إنكم ...
أشرت إليه قائلا: لا تكمل، أنت بخير والحمد لله، أولادك سيعوضون كل شيء ويحصلون على أعلى الشهادات، ثم إن ربنا أراحك من العلم وتعبه، لقد اغتنمت فرصة خلو اليوم من المحاضرات وقلت أخطف رجلي على البلد، غدا صباحا عندي اجتماع للقسم، ومساء اليوم نفسه مناقشة رسالة علمية، لا يمكنك أن تقدر مدى التعب والمسئوليات و...
قال أخي مقاطعا ومستدركا: وجرنا الكلام في ذيوله فلا شربنا ولا أكلنا، زمانك على لحم بطنك من الصبح، يا ولد، يا ولد يا عدوي، الشاي يا ولد، اخطف رجلك على البيت وهات الكعك والقرص وبقية الإفطار، قل لهم يستعجلوا في تحضير الغذاء؛ لأن الدكتور مستعجل، قلت معترضا: قلت لك وقتي محدود ولا داعي لغذاء ولا عشاء، وإلى أن يأتي الشاي سأصعد السلالم وألقي نظرة على المقاعد القديمة وعلى حجرة نومي أنا وصديقي بستان. ضحك أخي وقال: صديقك راح وراحت أيامه، المهم تأخذ بالك وأنت طالع السلم؛ لأنهم الآن يفكون السقف المسلح وربما ... قلت: لا تخف، المهم عندي أن أطل على مرابع الطفولة والصبا والشباب، وأن أقبل ذا الجدار وذا الجدار كما يقول ... هتف أخي ضاحكا: المجنون! قيس المجنون!
3
أصعد السلم الذي طالما طلعت ونزلت عليه وأنا طفل وصبي وشاب، ها أنا ذا ألتقط أنفاسي بصعوبة، بعد أن بدأ الشعر يشيب وامتلأت الرأس بالحكمة والحمق، بالجدل والدجل وملاحم الثرثرة في كل شيء، وأجلس على البسطة أمام الفجوة الكبيرة التي ثقبوها أثناء الهدم، لما كان من قبل سقفا تقفين يا أمي وتتحركين عليه، في الصباح الباكر وقبل صلاة الفجر تقفين هناك وأنت ترفعين ذراعيك إلى السماء وتدعين: أصبحنا وأصبح الملك لله، يا رب يا علام الغيوب استرها مع أولادي، أصلح أحوالهم يا ربي وأوقف لهم أولاد الحلال في كل طريق، يا رب يا عالما بكل شيء ولا يخفى عليك شيء، أحسن يا رب ختامنا كما أحسنت بدايتنا، وارزقنا الحمد لك والشكر لك يا قادر يا كريم. وتبدئين رحلة العذاب والشقاء بعد أن تصلي الفجر وتتلي الآيات القليلة من قصار السور التي استطعنا - أخوتي وأنا - أن نحفظك إياها بالتكرار المستمر على مدار الشهور والسنين. تطلعين للاطمئنان على الدجاج والبط والحمام في السطوح، وترفعين يدك بالدعاء لله أن يحميها من العرس والقطط والثعابين، تجددين لها العلف والماء، ثم تنزلين إلى السطح مرة أخرى وتنهمكين في العجين والخبيز والغسيل وتحضير الفطور ثم الغداء، وتجرين يا حبيبتي من حجرة الخزين إلى حجرة الفرن والكانون، من تجهيز الشاي والجبن والفول والعسل، إلى تحضير صواني السمك أو البطاطس أو المكرونة مع السلاطة للغداء، وتظلين طوال اليوم تعملين وتعملين وتنبحين صوتك على النائم واليقظ وعلى القريب والبعيد، دون أن تفتر لك همة، أو يرتخي جفن أو تهمد يد أو قدم أو ذراع، وفي آخر المطاف يا حبيبتي لا تجدين غير الزمجرة والبرطمة والتبطر على نعم الله، ما أندر ما تلقيت كلمة شكر أو حمد من إنسان، حتى يخيم الليل ويأتي العشاء فتصلين، ورأسك تهتز وتميل على صدرك فترفعين صوتك بالتكبير؛ لكي لا تغفلي أو تنامي أمام من لا يغفل ولا ينام. ويذهب الجميع إلى أعمالهم باستثنائي أنا المدلل وثالث التوأمين اللذين آثرا العقل وذهبا إلى بارئهما بعد ولادتهما بشهور، وتركاني لحياة يقول عنها المغني المصري القديم مع المنشد في الكورس الإغريقي في «أنتيجونا»: ليتني ما ولدت أبدا، أو ليتني رجعت بمجرد ولادتي إلى رحم العدم الذي خرجت منه. نعم أنا الوحش الثقافي الصغير الذي لم يعرف الراحة، ولا الاستقرار حتى كتابة هذه السطور، معتكف أنا كالعادة في غرفتي الصغيرة ذات السرير الصغير والمكتب الضئيل، الذي ثبتت فوقه على الحائط لمبة نمرة عشرة تسمح بأن أقرأ عليها وأكتب، وأقوم وأنظر في الحجرة التي كانت موضع سري وحياتي وعالمي الخاص، ما زالت على ما هي عليه، لولا أن التراب قد علا كل شيء: ملاءة السرير والجريدة والكتب والدوريات القليلة على المكتب، وحتى زجاج اللمبة كاد أن يصبح قطعة من الطين أو من سواد الليل، في هذه الحجرة كم ذاكرت وقرأت وحاولت أن أكتب تصاريف الأفعال الإنجليزية والفرنسية، كم حفظتها وسمعتها، أفلاطون ومحاوراته التي اطلعت عليها صدفة وبغير سابق إنذار، فصرت من محبي الحوار ومجربيه في محاوراتي الساذجة ومسرحياتي الرديئة. هل أذكر أيضا كيف رحت، من الابتدائي والثانوي حتى الجامعة، أنظم الشعر السيئ حتى أقلعت عنه تماما، بعد أن تأكد لي فقري في الأصالة والخيال المجدد والتفرد الحقيقي في الأسلوب والرؤية والتعبير؟ في كل المناسبات تقريبا كتبت قصائد خلصتني أمي منها - كما قلت بعد ذلك في مقدمة أحد كتبي الذي ارتبط اسمه باسمي - خلصتني منها وحمت بها الفرن أكثر من مرة بدلا من عذاب الحطب والقش والجاز والكبريت، كنت أيام الثانوي أعشق مجلة الرسالة وأهيم بأسلوب صاحبها، تعلمت كذلك من زملاء شقيقي الأزهري كيف أصبر على قراءة الرافعي، وأفك طلاسم تركيباته المصطنعة بلا مضمون فكري وراءها، حتى أعارني بقال صغير وصديق لابن شقيقي كتابا أو اثنين لصاحب «النبي» و«الأرواح المتمردة» و«الأجنحة المتكسرة» و«المواكب»، فزلزلني وأشعل الحرائق في كياني بصوره الثائرة اللاهبة، وبعد سنين في قراءة صاحب «الأيام» و«على هامش السيرة» و«قادة الفكر» وغيرها وغيرها، وقعت صدفة أيضا على «أهل الكهف» و«زهرة العمر» و«شهر زاد» و«سليمان الحكيم»، الحكيم الذي فك أسري من سلاسل البلاغيين والإنشائيين، وعلمني أن أقلع للأبد عن معارضة شوقي والمعري أو التفكير أصلا في نظم الشعر، وما أعظم هذا الدرس في الأدب والمسرح الفلسفي، وفي البناء الحواري والجدلي المدهش الذكي، وبدأت محاولات أخرى لم تزل مستمرة في الكتابة للمسرح الأدبي، الذي لم تكد تعبأ به الفرق والخشبات الرسمية والشعبية، وها أنا ذا الوحش الثقافي الذي لم يبرأ من توحشه ونهمه ولهفته على الحرف المكتوب في معظم حقول المعرفة، من هنا ومن تعدد الاهتمامات إلى حد التشتت والضياع لم يكد أحد يعترف بقصصي ومسرحياتي، ربما حازت بعض دراساتي ومقالاتي، لا سيما بعد أن سافرت في منحة للخارج وجنيت على نفسي ب «الدكترة» التي صرت مع الزمن ضحية لها وحق علي حتى اليوم الضلال في متاهاتها ودروبها المسدودة أو المفضية إلى صحار، أتجول فيها وأتنقل من سراب إلى سراب، لكن حسرتي الحقيقية يا أمي، كانت منذ ذلك اليوم الذي أتذكره الآن، قبل أن يهدم هذا البيت وتردم فيه حتى الذكريات، ذلك اليوم الذي كان آخر يوم أراك فيه وحرمت نفسي وحرمتك، لكن لأبدأ ذلك اليوم من أوله؛ لأحرق قلبي مرة أخرى بالسهم القاتل الذي نفذ فيه بيدي لا بيد غيري.
4
كان يوما غريبا وعجيبا، أشعر كلما فكرت فيه منذ رحيلك أن كياني كله يرتجف من جذوره، هل أحسست لحظة واحدة بأنه سيكون يوم الفراق الأبدي المحتوم؟ هل دب في قلبي هاجس الخوف من أن أرجع في الزيارة التالية فلا أراك، بل أذهب إلى المدفن العتيق وأركع أمام قبرك، وأنا أتزلزل بالألم وأرتعش في قبضة الإحساس الموجع بالندم، وأبكي بكاء مرا لا أظن أنني جربته قبل ذلك أو بعده؟ حتى بستان، صديقي ورفيقي القط الأسود، كان أيضا في ذلك اليوم في غاية الاضطراب، أخذ ينونو منذ فتحت عيني في الصباح وكأنه يريد أن يعاتبني: أحقا ستتركنا وتغادر وربما لا أراك بعد ذلك؟ وراح يتبعني في كل خطوة، يتعثر بين رجلي ويجعلني أتعثر في جريي من حجرة المكتب إلى حجرة البوفيه، مهموما بتجميع الكتب والأوراق والمسودات التي دونتها أثناء وجودي في الإجازة القصيرة، التي كانت مشحونة بالاطلاع والكتابة والتحضير للندوة المنتظرة مع الأصدقاء، حاولت أن أهدئه وتصورت لحظات أنه ربما يكون مفجوعا كعادته، وذهبت لأمي المشغولة هي الأخرى في غرفة الفرن وأعددت له طبقا، وضعت فيه اللبن والجبن والخبز فشمه ممتعضا، وانطلق في أنينه ونواحه، آه! كيف لم يلهمني الحدس المعتاد بأن اللحظات الباقية من ذلك اليوم هي اللحظات الفارقة والفاصلة، هل اعتقدت حينئذ - معتمدا على الكسل العقلي الدائم - أن كل شيء سيبقى على ما هو عليه، أو أنني سأرجع يوما - بعد شهور أو حتى أسابيع قليلة - فأجد أمي وأبي وإخوتي وأخواتي وكأن التغير لم يعد هو قانون الطبيعة والحياة، أو كأن العبارة التي تقول إن دوام الحال من المحال قد فقدت مصداقيتها في بلدنا العصي على التغيير؟!
كنت قد صحوت من نومي مبكرا وفكرة السفر والتبعات، التي تنتظرني في القاهرة تطاردني وتلاحقني، منذ أن نمت نوما مضطربا واستيقظت على الآلام المبرحة في الرأس والمعدة، نعم! كانت تبعات ثقيلة كلفني بها الأصدقاء في جمعيتنا الأدبية، ولكنها كانت خفيفة على قلبي وحبيبة، وكنا قد ألفنا هذه الجمعية ورحنا نجتمع كل مرة في مسكن أحد أساتذتنا أو في مسكن واحد منا، نتناقش في الأحوال الثقافية والسياسية ونستمع لقراءات متنوعة: قصائد وقصص ومقالات ومشروعات كتب موعودة، كان كل واحد منا يكلف من قبل الأعضاء أو من ذات نفسه بالمشاركة في هذه اللقاءات، التي كنا نعتبرها المظهر الوحيد لحريتنا بعد أن صادرت الثورة - التي قامت قبل ذلك بسنوات قليلة - جميع الحريات وحلت الأحزاب وأعلنت قوانين الطوارئ، وأحكمت قبضة الاستبداد العسكري على كل شيء وكل إنسان، لم نكن خلية سرية بأي معنى، ولم نكن نعمل تحت الأرض أو نصدر المنشورات، وباستثناء بيان قصير في الصحف أعلنا فيه مطالبتنا بالحرية والديمقراطية، وعودة الأحزاب وحق التعبير الحر، لم يكن لنا أي نشاط سياسي محدد. قنعنا بإثبات حريتنا المحدودة في تجاربنا الشعرية والقصصية والمسرحية والبحثية والتزمنا - في وقت كان فيه الالتزام على كل لسان! - بأن الأدب حرية وأنه للحياة.
كنت قد استطعت في تلك الإجازة القصيرة من عملي الممل بالقاهرة أن أكتب قصتين وأترجم قصتين أخريين عن الإيطالية، التي كنت قد بدأت في تعلمها مع الألمانية وقطعت فيها شوطا معقولا، وكان الأصدقاء - حين شعروا بميولي الاشتراكية المثالية التي يشاركني بعضهم فيها - قد كلفوني بأن أعرض عليهم نبذة عن تيارات الاشتراكية الطوباوية ومدنها الفاضلة ومشروعاتها الخيالية في أواخر القرن التاسع عشر، ثم كلفت نفسي فضلا عن ذلك بأن أتحدث إليهم عن الوجه الإنساني الحر لماركس كما يتجلى في كتابات شبابه، لا سيما في مخطوطاته الاقتصادية الفلسفية التي كنت قد عكفت على الاطلاع عليها في إطار اهتمامي بمشكلة الاغتراب. «كم كنا مغتربين في تلك السنين! كم حاولنا أن نؤكد انتماءنا للحرية وللإنسان العادي الذي كنا على يقين بأنه لا شعر بنا، وربما لن يحس أبدا بوجودنا.»
بدأت على عجل في ترتيب حقيبة ملابسي وكتبي، كل شيء في ذلك اليوم كان ملهوفا ومتسرعا، كأنما يتم مع آخر الأنفاس، رحت أجري بين حجرة مكتبي الصغيرة التي تكدست فيها الأوراق والمسودات وبين حجرة البوفيه بشمعدانها الأثري الجليل الجميل! التي كنا - شقيقي الأزهري وأنا - قد ملأنا رفوف الدولاب الثقيل فيها وأدراج البوفيه نفسه بكتبنا ومجلاتنا المتباينة المشارب والاتجاهات والاهتمامات، انهمكت في اختيار بعض الكتب وبعض أعداد الرسالة التي قدرت أنني ربما أحتاج للرجوع إليها سواء في كتابة مقالاتي أو ترسيخ ميولي القصصية والمسرحية والفلسفية أو لمجرد الرغبة في الاطلاع حبا في الاستمتاع بالقراءة لذاتها لا لأي غرض آخر. رحت أجري، و«بستان» دائم التعثر في رجلي، دائم الشكوى والاستغاثة والأنين بين الحجرتين، أحمل صفوفا من الكتب وأقف لمراجعتها قبل وضعها في الحقيبة، وأستبقي منها أشياء وأستبعد أو أؤجل أشياء لوقت آخر أو فرصة أخرى، كنت لجهلي وغفلتي وغبائي، أعتقد بيقين أنهما حتما قادمان، نادتني أمي من على السطوح، وطلبت مني أن أحضر لأكل لقمة قبل سفري.
قلت لها: إنني مشغول وليس لي نفس، ألحت وكادت بحة صوتها أن تنقلب إلى البكاء، فجريت والتقطت كوب الشاي بالحليب مع ملعقتين من العسل وقطعة من القرص، التي كانت منهمكة منذ الفجر في إعدادها مع الكماج والفطير المشلتت، الذي كنت قد أوصيتها عليه قبل ذلك أكثر من مرة حبا وكرامة لأصدقائي وزملائي، لم أكن في حال تسمح لي بأن أنتبه للعناء الذي بذلته، من قبل أن أصحو أنا من النوم بساعات، في طلوع السلم إلى السطوح لاختيار بطة ودجاجة آخذهما معي مع الجبن والزبد والخبز الصابح والفطائر المتنوعة، بجانب كم لا بأس به من كعك العيد الذي كانت قد ادخرته لي، ذبحت ونظفت وحمرت، عجنت وخبزت وستفت كل شيء في العلب والأكياس، تصبب العرق على جبينها وسالت الدموع الكثيرة من عينيها، وهي تنفخ في نار الفرن والكانون وتعالج وابور الغاز، وتستحثه على التقاط الأنفاس، ولا بد أنها قد تحملت الألم الذي لا يطاق، وأرهقت القلب المرهق الذي أعلن عن احتجاجه قبل ذلك بشهور، عندما لاحظت ولاحظ الجميع تورم قدميها وساقيها، وضرورة الابتعاد عن الإجهاد والتزام الراحة بقدر الإمكان، لكن من أين تأتي الراحة في هذا البيت وهذا العالم، وهي وحدها ولا يسعفها أو يساعدها أحد سوى شغالة صغيرة وجارة عجوز، قد تود عليها من حين إلى حين لتساعدها في الخبيز أو الغسيل، وإن تكن على الدوام غير مضمونة وليس لها عهد ولا أمان، لم أفطن لشيء من هذا كله لأنني كنت مشغولا عنها وعن كل شيء بأفكاري المتسلطة علي والمحاصرة لي حصارا أشد من ذلك الذي كان يضرب في العصور الوسيطة حول المدن التي يجتاحها الطاعون.
5
واقتربت لحظة الفراق والرحيل، أتممت إعداد حقيبتي ووضعت فيها الملابس والكتب والأوراق الضرورية. ألقيت على حجرتي الصغيرة نظرة وداع وحملت الحقيبة، و«بستان» لا يزال يتعثر بين رجلي ولا يكف عن التساؤل والأنين، ووقفت قليلا على بسطة السلم الخشبي المواجه للسطح المسلح، وأنا أنادي: أماه، أنا ماشي، سمعت صوتي وخرجت مزرودة الوجه منتفخة الوجنات من الحر والصهد، وهي تقول ضاحكة مستنكرة: ماشي؟ والسبت الذي أحضره، للعفاريت! أستغفر الله العظيم؟ قلت متعجبا: سبت؟ أنا لم أطلب شيئا يا أمي، هل تصورت أن مصر فيها مجاعة؟ قالت وهي تقترب والشغالة الصغيرة تسحب السبت على الأرض بعد أن تعذر عليها حمله: مجاعة إيه لا سمح الله؟ ربنا يعمر مصر دائما بأهلها، لكن أنت يا ابني وحداني، من يا ترى يغسل لك هدومك وينظف مطرحك ويسوي لقمتك؟ قلت مقهقها: لا تخافي على ابنك، أنا آكل وأشرب والمرتب كاف والحمد لله. سيدة بنت أختك ترسل لي شغالتها مرتين في الأسبوع، تنظف وتغسل وتطبخ وتضع الأكل في الثلاجة، المهم لا تقلقي أنت يا أمي. قالت بعد أن ثبتت نظرتها الصامتة الحزينة على وجهي: يا ترى يا ابني، هل سأعيش حتى أشيل ابنك أو بنتك على صدري؟ أغرقت في الضحك وأنا أقترب منها وأربت صدرها: وتشيلي أولادهم أيضا، لكن بعد أن أنجح في الدكتوراه، صمتت قليلا كأنها تحاول أن تفهم وسألت: وتصبح مثل الحكما؟ ألم تتخرج من الجامعة وتأخذ الشهادة الكبيرة؟! والدكتوراه لإيه يا ابني، قلت وأنا أربت ظهرها: دكتوراه في الآداب يا أمي، يعني دكتور في الجامعة لا في الطب، أنا وزملائي نعمل ليل مع نهار يا أمي، جيلنا والأجيال التي بعدنا لن تستريح حتى تتحقق الثورة الشاملة، فغرت فاها مندهشة وعقدت غضون وجهها وجبينها، كأنما تتذكر شيئا تعرفه أو سمعت عنه، ثورة إيه يا ابني؟ والثورة التي حصلت من سنتين ثلاثة، قلت مؤكدا كأنني أخطب في جمع غفير: ثورة العسكر منعت الثورة الحقيقية، الثورة الإنسانية الشاملة تبدأ من الجذور وتغير كل شيء، جيلنا والأجيال التي بعدنا لا بد أن نحقق هذه الثورة التي تخلصنا من الفقر والتخلف والمرض والتعاسة. قالت بعد أن هزت رأسها وتلفتت حولها في حيرة: ربنا يقدم ما فيه الخير يا ابني، ويصلح الأحوال ويوقف لك ولأصحابك أولاد الحلال يا قادر يا كريم، يالله يا بنتي ننزل السبت على تحت.
تقدمت من السبت الجاثم كالوحش الثقيل على الأرض، قلبت فيه قليلا وأنا أقول محتجا: كل هذا للجائع المحروم؟ ماذا فيه بالضبط؟ وكيف أحمله وأوصله إلى البيت؟
قالت وهي ترفع السبت وأساعدها على وضعه على رأس سنية الصغيرة: لقمة تقوتك يا ابني يومين ثلاثة، فرخة وبطة وقرص وفطير لك ولأصحابك، توكل على الله يا ابني وأي عربة أجرة توصلك للبيت بالسلامة.
نزلت وراء الشغالة وأنا أنفخ من الغيظ، حقيبتي في يدي والوحش الذي لا أستطيع أن أنقله بيد واحدة على دماغ الصغيرة، وبينما نحن ننزل درجات السلم إذا بدق شديد على الباب، فتحت وإذا بجارنا عطية الحلاق يهتف مستنكرا: العربة تنتظرك من مدة والناس ركبها القلق، اترك لي السبت وسأضعه في الدواسة وفي مصر يوصلك التاكسي إلى البيت، يالله يا دكتور توكل على الله. ضربت لخمة شديدة ووجدتني في ربكة وحيرة بين السبت والحقيبة والشغالة والحلاق. وكنت أنت قد سرت حتى الباب المفتوح على الشارع، ووقفت وراء ضلفته المغلقة حتى لا تراك العيون في الطريق.
وتحركت خلف الصغيرة والحلاق وأنا أهتف: على مهلكم، أشوفك بعافية يا أمه. ثم وأنا أنزل سلالم العتبة الثلاثة، وبغير أن ألتفت ورائي أو أنتبه إلى ذراعيك المفتوحتين: مع السلامة، مع السلامة يا أمه.
6
وكنت أنت يا حبيبتي متوارية عن الأنظار وراء الباب الموارب، آه! كيف غاب عني أن أجري نحوك وأضمك وتضميني بين ذراعيك، وأقبلك القبلة التي لم أكن أعرف أو أشعر بأنها ستكون هي القبلة الأخيرة؟
7
ومرت يا حبيبتي أكثر من أربعة عقود من الزمان على ذلك اليوم الغريب، رحلت أنت بعده بشهور قليلة وصرت في قبرك الفقير كومة عظم ورماد، وهدم البيت وبني مكانه بيت كبير من ثلاثة طوابق ومحلات على الشارعين، وسافرت أنا إلى الخارج و«تدكترت»، ورجعت وفي رأسي آلاف خلايا النحل التي لا تكف عن لسعي لأقرأ وأعلم وأكتب وأكتب، آلاف الصفحات كما أعرف اليوم، ربما كانت - باستثناءات نادرة - هباء وهشيما أو كانت غرسا في غير أرضه، وأتلفت إلى الوراء وأسأل نفسي: هل كان كل ما فعلته في تلك الأيام وفي سنين طوال بعدها، هل كان يا حبيبتي يساوي أن أحرمك وأحرم نفسي من قبلة لم يدر بخاطري أبدا أنها ستكون هي القبلة الأخيرة؟!
إيكاروس1
رأيتك يا «إيكاروس» عندما سقطت في الماء، رأيت رأسك الصغير كحجر بلا ملامح أو وجه فأر عجوز يحتضر، وسمعت - نعم سمعت - شهقة الموجة التي جاشت على سطح البحر الإيجي، بعد أن ارتطم جسدك الشاب بسطح العنصر الأبدي السيال. سألت نفسي إن كنت قد شهقت أيضا أو تأوهت، وتفحصت لوحة الفنان لعلي أتبين دموعا تسقط من عينيك اللتين بللهما الرذاذ المتناثر حولك، أو ألمح النورس الأبيض الصغير الذي اختل توازنه لحظة، وارتجف جناحاه المرتبكان في الهواء ثم استأنف الطيران. هل اقترب منك ولامس جبهتك؟ هل شعر بمغامرتك الجسورة فطاف حولك وربما هبط على رأسك لكي يقبلك على طريقته، أو يهمس في أذنك بأغنية تمجد معجزتك، وتقول لك بلغة الطير المحب الغيور: أنت يا أول إنسان يطير، أنت يا أشجع الشجعان! وسيد النسور والنوارس والصقور والعصافير والعقبان! مرحبا بك في مملكة السماء يا ابن الأرض والإنسان، لكن من يدري؟ ربما أدرك على نحو غامض أنك لا تتحرك ولا تصدر عنك إشارة، ولا تحرك يدا ولا رجلا. وربما أنتبه إلى أنك بدأت تهوي إلى القاع. - كل هذا رأيته وسمعته في لوحة الفنان، تكلم، تكلم! - وأكثر منه بكثير، وسأحكي لك بعد قليل. - وهل ستحكي قصتي أنا وأبي مع السجن والسجان ؟ هل عرفت شيئا عن الطاغية الجبار الذي افترسه الجحود والنكران ؟ - الأسطورة معروفة يا إيكاروس، وأبوك المهندس والفنان معروف ومشهور. - والجزاء الذي لقيه على فنه العظيم؟ وحقد الجبار على أبي لأنه بنى المتاهة العجيبة؛ ليقيم فيها الثور المقدس الذي عشقته زوجته باسيفاي وهامت به إلى حد الجنون؟ - والبقرة الخشبية التي صنعها أبوك أو صنعتها تحفة فريدة زادته جنونا على جنون، وخيط أريادنه. - حتى هذا الخيط أشعل نيران غضبه، لم يستطع أبي أن يرد طلبا لابنة الملكة التي أحبت بطل الأبطال «ثيسيوس»، ولم يطاوعها قلبها أن تتركه للثور المقدس المخبول، كان ثيسيوس قد صمم على الهبوط إليه في المتاهة ومعه سيفه ودرعه وعدته، وأرادت حبيبته أن يخرج حبيبها وهو بطل الأبطال، وحبيب أثينا وشعبها وملكها المتوج الذي ستجلس على يمينه، فهل كان لأبي أن يتركه للتيه في المتاهة؟ هل يستحق العقاب من أراد الإحسان؟ - وأمر بوضعكما في السجن. - قل السجن المخيف كأنه جب أو كهف للمجرمين والمنفيين، لا تدري كم تعذبنا أنا وأبي، وكم تحملنا شماتة الجلادين وهم يمرون على الأبواب، وينظرون من خلال القضبان مكشرين أنيابهم كالذئاب، ومن العذاب والسجن الخانق جاءت الفكرة. - فكرة الجناحين الشمعيين، أليس كذلك؟! - لنحلق فوق السجون والمنافي، فوق الطغاة والجلادين، فوق الأرض والبشر أجمعين. - ووقف أبوك يتابع تحليقك في الهواء وصعودك إلى السماء، كان يضع يده على جبهته ليذود عنها ضوء الشمس ولهيبها، لكنك لم تفطن لمغزى الإشارة والتحذير. اندفعت. - طار هو إلى صقلية ليعيش في رعاية ملكها الذي سمع عن معجزاته في البناء، واندفعت أنا كما تقول كنسر فتي متهور، حلقت وحلقت أريد أن أصل إلى منبع الدفء والضوء، إلى مصدر الطاقة المهلكة المميتة، تحديت الشمس وتحدتني، وها أنت تراني ممددا فوق سطح الماء، أغرق فيه وأنحدر إلى الأعماق بعد أن صهرت الشمس جناحي، نعم أراك، ويتمزق قلبي حزنا عليك وعلى العالم والناس، ولماذا العالم والناس؟ ألم يشعروا بصدمة السقوط فيأسوا علي؟ ألم يتعاطفوا مع أول طائر بشري يسقط من عليائه كنسر متعب عجوز، خذله جناحاه فسقط في البحر الهادر، بدلا من أن يموت على مهل في عشه المنيع على قمة الجبل؟ - لا شيء من ذلك يا «إيكاروس»، فالعالم حولك لم يتحرك، لم يشعر بك والناس في البر وفي البحر؟ والصيادون والملاحون والفلاحون، ليتك تشهد معي اللوحة يا إيكاروس، ليتك تعرف ما حدث وما كان من الممكن أن يحدث. - قل لي ماذا حدث؟ وماذا فعلوا حين رأوني؟ - وهل رآك أحد حتى يفعل شيئا؟ - هل شعر بك أحد حتى يدخل حزن أو غضب في قلب واحد؟ آه يا إيكاروس! لم يحدث شيء، لم يحدث شيء. تكلم، كيف استقبلوا موت الطائر الأول؟ كيف أحسوا به؟ لم يحس أحد بشيء والعالم بقي على حاله، لا ينقصه شيء، لا يزعجه شيء. - تكلم، صف ما تراه، ماذا أصف؟ وماذا أدع؟ إن اللوحة تنطق يا إيكاروس، تفصح عن صمت العالم، عن نسيانه، دع الصمت يتكلم، دع النسيان يتذكر، اشرح لي ما تراه فلم يبق من الوقت إلا القليل، نعم ما زلت أراك في جانب اللوحة ورأسك الأسود الصغير يرتجف، وساقاك البيضاوان تثيران دوامة صغيرة سرعان ما تهدأ وتلتئم، وذراعاك الهامدتان مع جناحي الشمع الممتدين المصهورين، قد رقدا كريشتين كبيرتين على سطح الماء بلا حراك، كل شيء يقول: إن المغامر الجسور يحتضر. - أسرع إذا ولا تتردد. - لا أدري بمن أبدأ يا إيكاروس، ولا أريد أن أزيد ألمك! - لا يؤلمني إلا أن تسكت وتتركني أموت. - دون أن تعرف أن الذين مت من أجلهم لم يحسوا بك؟ إنهم أداروا ظهورهم لك؟ إنهم واصلوا حياتهم الرتيبة ولم يلتفتوا إليك. - لا أصدق ما تقول، كيف؟ كيف؟ - ها هو الفلاح البارز في اللوحة يسير خلف محراثه وحصانه. هادئ هو وعاكف على عمله وكدحه اليومي، يمشي متأنيا في سترته البيضاء النظيفة ذات الثنيات المرتبة الدقيقة، لا شيء في حركته يدل على أنه سمع شيئا أو لاحظ أي شيء، والأرض المحروثة تحته بخطوطها البارزة المتوازية، تبدو مستقرة لم تشعر بزلزال سقوطك في الماء، ولم تهتز فيها ذرة تراب واحدة ، والفلاح المجد يواصل عمله ويحلم بالحساء الدافئ مع العشاء، والفراش الدافئ بعد السهر مع الزوجة والأبناء. - انظر أيضا، أليس في البحر أو على الشاطئ صياد؟ ماذا فعل عندما رآني؟! - بقي على الصخرة التي يجلس عليها ويمد سنارته في الماء، ربما ارتعشت السنارة قليلا في يده، بعد أن غمرتها الأمواج المنداحة من موقع الصدمة والسقوط، وربما تأوه الطائر الصغير الواقف على غصن الشجرة القريبة، وهو يتربص بالسنارة والصياد وينتظر أن تفلت من الصيد الثمين سمكة ينقض عليها، لكن الصياد في مكانه لا يريم، لا يبدو عليه أنه يرى شيئا أو يشعر بشيء. - والسفن والمراكب العابرة، ألم يتوقف أحدها ليسأل أو ينظر أو يمد طوق النجاة للغريق؟ - هي سفينة واحدة تتجلى أشرعتها البيضاء التي تنفخها الريح، ربما أحسسنا من الجبال الممتدة والمتشابكة، أن هناك من يشدها ويحركها ليمتلئ الشراع بالهواء، وتنطلق في رحلتها البحرية إلى ميناء بعيد أو قريب، لكن الملاحين لا يظهرون على ظهر السفينة ولا في الزوايا والأركان. - وماذا تنتظر من ملاحين تتشابك أحلامهم كما تتشابك الحبال في أيديهم؟ إنهم يحلمون بالميناء الذي سيصلون إليه، والحانات التي سيسرعون إليها ليعبوا النبيذ والبيرة والروم، والبنات الصغيرات اللاتي سيرقصون معهن، وربما يزفون إليهن في عرس الليلة الواحدة أو اليوم الواحد، وفي الزواج المؤجل للزيارة القادمة. أعرف شأن الملاحين وأعذرهم، لكن ماذا فعل الرعاة فوق التلال المشرفة على البحر؟ هل نظروا فتعجبوا وذهلوا؟ وهل ارتبك قطيع الأغنام وتوقف عن الثغاء والتهام العشب؟ - الراعي العجوز أو الشاب ظاهر في الصورة وسط قطيعه المتناثر من حوله. إنه يستند إلى عصاه ويتابع الشياه المنكبة على الكلأ أو الخراف اللاعبة والمتناطحة في سلام، وهو يرفع رأسه إلى أعلى، وربما يكون قد بلغ أذنيه صوت ارتطامك بالماء أو صوت انطفاء الجذوة المشتعلة عند سقوط الجناحين الشمعيين في لجة اليم المتدفق الجياش، لكنه لم يفعل أكثر من ذلك يا إيكاروس، ورأسه التي ارتفعت قليلا سرعان ما أطرقت إلى الأرض، وراحت تتابع أفراد القطيع الطيب الأليف. والناس، الناس في القرية وفي الكنيسة المجاورة، في الشوارع وفي النوافذ المطلة على البحر ، أمام الأبواب وفوق الأسطح وعلى متون الخيل والحمير. - الناس هم الناس يا إيكاروس، يتابعون أيامهم الرتيبة المملة دون أن يحسوا بالرتابة والملل، إنهم يعملون، ويأكلون، وينظرون من النوافذ، ويتكلمون ويسكتون وينامون ويتكاثرون، دون أن يتوقفوا لحظة ليسألوا أنفسهم: إلى متى؟ وماذا بعد؟ ربة البيت تواصل عملها الذي لا ينتهي، ولم يبلغ إلى سمعها شيء. - والقسيس في الكنيسة الصغيرة التي يظللها شجر السرو وأشجار الصفصاف، يواصل تراتيله من الكتاب بلا توقف. - هل كان يؤدي مراسيم الزواج أو طقوس الدفن أو شعائر التعميد أو الميلاد؟ وحتى لو كان قد سمع شيئا فهل كان سيوقف تلاوته، ويمشي إلى الباب ليطل على الخارج؟
لا يا إيكاروس، الكل مشغول ولا أحد لديه الوقت. - وأنا الذي طرت في السماء ليتعلموا مني الطيران، حلقت بجناحي فوق كل السجون لكي يسخروا من كل السجون، أردت أن أثبت لهم أن الإنسان يمكن أن يتحول إلى نسر أو صقر، أو حتى عصفور يعلو فوق الطغاة والمعذبين والجلادين، يبدل أرضا بأرض، وسماء بسماء، ويرفرف فوق القرى والمدن والغابات، فوق الأنهار والبحيرات والسهول والوديان والجبال والهضاب والتلال؛ ليحط في المكان الذي لم تطأه من قبل قدمان، ويهبط على الأرض التي لم ترجها أقدام العتاة والمتجبرين. - وها أنت تسقط كالجذوة المتفحمة في ماء البحر الذي سيسمى باسمك يا إيكاروس، وسيعلو ذكرك في أمكنة أخرى وبين أناس آخرين، لا تبتئس لمصيرك ولا تكترث بمن لم يكترثوا بك، إن كانت مغامرتي قد فشلت فلن تفشل من بعدي كل المغامرات. - إذا كنت قد سقطت كورقة شجر منزوعة في مهب الريح والعواصف، فقد طرت فوق البشر والأشياء والكلمات، والمعارك الكبيرة والصغيرة، والبيوت والقرى والمدن والأبراج والحصون، تحديت الملك الطاغية وسخرت من سجونه، لكنني لم أقو على تحدي العقرب الأزلية، فنفثت السم في عروقي، وصهرت شمع جناحي وضحكت من غروري وجنوني، لكنني أموت غير نادم على شيء، سيأتي بعدي من يحلق أبعد مما حلقت، من يغامر ويخاطر أروع مما غامرت وخاطرت. - لم أكن أتصور أن المغامر الأول حكيم أيضا، ولم أكن أتوقع أن تتحول مرارة السقوط إلى شهد ورحيق للآتين، لكني أتجرأ وأسألك سؤالي الأخير. - أسرع فالطائر يسلم أنفاسه ويستعد للتحليق في دوامة القاع السحيق. - التبس علي الأمر ولا أدري هل يجدي القول أو المكتوب، واحترت فلا أعرف هل أسميك أشجع الشجعان، أم أتذكر جفاء العالم والبشر، فأناديك يا أغبى الأغبياء يا إيكاروس!
الصبي الذي كان يحمل اسمي1
زارني الصبي الذي كان يوما يحمل اسمي، وقف أمامي على حين فجأة، واستند إلى جدار المكتبة صامتا شاحب الوجه، لم أدر كيف تسلل إلى حجرة مكتبي بينما كنت أقرأ أو أكتب بحثا أو أترجم نصا، أو أحاول أن أعد كلمة أقولها في ندوة أو مؤتمر، لكنني وجدته أمامي ولم يكن هناك مفر من المواجهة، راح كل منا يتأمل الآخر دون أن يقوى على التلفظ بكلمة، نعم هذا هو وجهه، نفس الوجه البريء المتعب، نفس العينين الشاردتين التائهتين، نفس الانكسار والإحباط وخيبة الأمل تكسو الملامح وتنسكب من النظرات الحزينة، كان هو أيضا يتطلع إلي في دهشة من لا يصدق، ربما أذهله الشعر الأبيض الذي يغمر رأسي كالثلج المتجمد، أو كلال العينين اللتين بدأ نور شمعتهما في الخفوت والخمود، أو التجاعيد التي حفرتها السنون على الوجه الذابل الذي غادرته نضارة الشباب من أمد طويل. وكان لا بد أن يبدأ أحدنا الكلام، فأردت أن أحييه وأرحب به في مسكني وبين كتبي المتراكمة من حولي، لكن وهج الغضب الذي كان يتأجج من عينيه ويلهب وجنيته، وينبئ عن اتهام وشيك لم يسعفني بكلمة واحدة، وما هي إلا لحظات حتى سمعت رنين أصوات تخترق أذني، كأنها تلطمها وتهزها بعنف وقسوة: ماذا فعلت بي؟
رفعت حاجبي وأنا أسأل ببراءة: ماذا تقصد؟
رفع يده يسدد إبهامه نحوي: كنت شاعرا في صباي، فإلى أين وصلت بي؟
قلت وأنا أحاول أن أرسم ابتسامة على فمي: أما أنك كنت شاعرا فهذا حق، ما زلت أذكر أنك عارضت «غير مجد في ملتي واعتقادي»، و«يا نائح الطلح أشباه عوادينا»، وما زلت أذكر أيضا أنك كنت تدون قصائدك الأولى في كتيبات صغيرة، تضع عليها اسمك، وتذكر أنها صدرت عن مطبعتك، لكنها انتهت جميعا إلى الفرن.
قال مندهشا: الفرن؟
قلت ضاحكا: نعم، جمعتها أمي مع مسودات قصص أخرى سخيفة ومسرحيات ساذجة وألقتها في الفرن.
كانت حجتها أنها تعطلني عن المذاكرة، وأن الفائدة الوحيدة منها هي أن تشعل بها النار، وأن تصير إلى الرماد وتتحول إلى التراب الذي جئنا منه وإليه نعود، سأل وهو يفتح عينيه على اتساعهما: هل معنى هذا أنك لم تواصل قول الشعر؟
قلت كأنني أحكي قصة خطيئة كبرى: أنا لم أتخل عنه إلا بعد أن تخلى عني، لكن الشعر كما تعلم لا يغادر العظم واللحم الذي سكنه ذات يوم، بقيت منه الشاعرية التي كانت وراء ترجماتي ودراساتي التي لا آخر لها للشعر، لقد عجزت مع بلوغي العشرين عن كتابة قصيدة واحدة بعد أن تهت وتورطت في المتاهة.
قال وهو يقترب مني مستطلعا: تهت؟ ومتاهة؟ ماذا تقصد؟
قلت كأنني أتذكر أو كأني أعترف: نعم، شدتني الحكمة من يدي، فتهت منذ شبابي الباكر في صحراء العقل المجرد. راح الحكماء من الغرب والشرق يجذبونني إليهم واحدا بعد الآخر، فأنساق وراءهم وأدخل بيوتهم وصوامعهم، وأعيش مع أفكارهم وتجاربهم، وأكتب وأكتب أو أترجم عنهم، كنت أغوص في الصحراء اللافحة فيزداد عطشي مع كل خطوة، وكلما لاح سراب من بعيد، جريت نحوه وتصورت أنه واحة أستظل بها، وأستريح من وهج القيظ ومرارة الحرمان، فأحاول أن أرجع إلى النبع المنسي.
سأل مندهشا: النبع المنسي؟
قلت: أجل، النبع الأصلي الذي كانت تشغلني عنه المهنة التي تورطت فيها، ولقمة العيش التي لم يكن منها مفر، وزحام المعرفة والثقافة الذي كنت مضطرا للمشاركة في أسواقه الخائبة الصاخبة.
هل فهمت يا عزيزي الغائب الحاضر؟
هز رأسه آسفا وقال: وماذا كنت تريد من ذلك النبع؟!
قلت متعجبا: وماذا يطلب المرء من النبع الطاهر النقي؟ أن ينهل منه ويغتسل من رماد العالم، ويجد ذاته الضائعة.
ضحك فجأة وقال: ما زلت لا أفهم، نبع ورماد وذات ، ماذا تريد أن تقول؟
قلت: كنت في تلك اللحظات السرابية القليلة، أجد نفسي في قصة أو مسرحية أو خاطرة أكتبها وأستمتع بها، قبل أن أكتشف أن السراب هو السراب، وأن قيظ الصحراء وضياع المتاهة لن يلبثا أن يجراني كالعبد المغلول بالسلاسل والقيود.
قال وعلى فمه بسمة ساخرة:
وصرت قصاصا وكاتبا مسرحيا يتحدث عنه ...
قاطعته وأنا أشير بيدي ساخطا: النقاد؟ باستثناء اثنين أو ثلاثة يذكر القصاصون فلا يذكر اسمي، ويعد كتاب المسرح فلا يتذكرني ناقد ولا مسرحي، وإذا ذكرني أحد فأنا عنده مترجم الشعر وشارحه، أو معلم الحكمة الذي قضى شبابه على أبوابها، وهكذا تراني الآن أيها الصبي الطيب الحبيب، تراني شيخا هده المرض والغدر والتجاهل وخيبة الأمل، اقترب مني وثبت عينيه في عيني: ألست أنت الذي تجاهلت نفسك وانشغلت عن نبعك، لا تلم إذن إلا نفسك!
قلت: معك الحق، لا يصح أن ألوم إلا نفسي، ولا ينبغي علي إلا أن أتدارك ما فاتني، هل تتصور أن البقية الباقية؟!
لم أكد أقول هذه الكلمات حتى خيل إلي كأن الصبي قد كبر فجأة في السن، وطالت قامته ووقف أمامي متحديا ومحذرا، مد يده في جنب صداره، فأخرج ساعة كبيرة مستديرة تشبه الساعة العتيقة، التي كان أبي يضعها في جيب جلبابه ويخرجها منه كلما أراد أن يعرف مواقيت الصلاة، وبدأ الرجل الطويل الشامخ القامة، الذي كان قبل قليل صبيا غريرا دائم الحزن والشرود، بدأ يهتف بصوت مرتفع: الحياة وقت، ولكل وقت قلب، أي له مركز ومنتصف.
من أراد الحقيقة وصمم عليها استجاب لنبض هذا القلب، لزم المركز ولم ينحرف عنه، ألا يقاس الوقت بالسنين والشهور والأيام واللحظات؟ الحياة سنة ومركزها وقلبها هو أجمل شهورها، لكنك ضيعت على نفسك هذا الشهر، والحياة يوم له مركزه وقلبه ومنتصفه، لكنك ضيعت اليوم ورحت تحلم مفتوح العينين، والحياة آن أو لحظة لها مركزها وقلبها ومنتصفها، لكنك فوت على نفسك الفرصة فلم تعشها ولم تتذوقها ولم تغترف كما ينبغي من نبعها، لكن انس هذا الآن، انسه وامنع أسنانك أن تعض لحمك، فها هي الحياة ما زالت تقدم لك قلبها ومركزها ونبعها المتدفق من أعماقها.
قم ولا تضيع هذه اللحظة كما ضيعت غيرها ...
نظرت إليه مذهولا من هيئته وكلامه، ويبدو أن الدموع التي ملأت عيني منعتني من أن أنتبه لاختفائه المفاجئ كمجيئه المفاجئ.
لم أجد أمامي ولا حولي إلا الكتب التي تنظر إلي صامتة خرساء من فوق الرفوف، ومع ذلك فربما ناديت الشبح المتلاشي وأنا أسأله بصوت هامس: وهل بقيت في العمر بقية؟!
قرطبتي وحيدة وبعيدة1
سمعت وقرأت عنها في صباي، عرفت أن سماءها زرقاء، والقمر الذي يطلع فيها أخضر، وأن أبراجها العالية تطل على أهلها في صمت وحنان، وناسها طيبون وسعداء وحكماء، والطريق إليها خطر وطويل، سمعت وقرأت أيضا أن فيها قبابا ومآذن وبقايا جوامع وأعمدة وحدائق ونوافير، وكم كان اسمها المنغم يطربني، وتاريخها المفعم بالبطولات والأحزان والأشجان يشجيني.
عندما كبرت قليلا، حلمت أن أرتدي ملابس الفرسان وأعتلي صهوة فرس أسود صغير، وأنطلق إليها وأسأل كل من ألقاه عن قرطبته الوحيدة البعيدة، لكنني كنت مجرد حالم بائس لا يملك فرسا، ولا يستطيع أن يحصل على ملابس الفرسان، ولا يعرف طريق البر ولا طريق البحر إليها، مع ذلك لم أيأس من الوصول، وإن بقيت عزيمتي وإيماني مجرد أحلام تراودني في الصحو وفي المنام، ثم كبرت أكثر ورحت أقرأ عن المدن المثالية الفاضلة، التي يقال كذبا إنها لا توجد إلا في الأحلام والأوهام، وبدأت أكتب وأكتب وقرطبة الوحيدة البعيدة تتجلى كوجه محبوبة جميلة، ومستحيلة وراء أقنعة الحروف والكلمات والعبارات، أراها في قصائد الشعراء، وأحس ريحها المعطرة بالذكريات والأشواق تلفح وجهي أثناء انكبابي على قراءة الفلاسفة، ومن بين السطور والصفحات الطويلة التي أسودها عنهم، وأبلغ صحراء الكهولة ثم أوغل في متاهة الشيخوخة والحلم بقرطبتي الوحيدة والبعيدة لا يزال يلح علي، كأنه الملاك الذي ينقذني في المحن الكثيرة، وينتشلني من مستنقع البلادة والملل والخسة والغدر والظلم والتجاهل والمرارة، الذي طالما أوشكت أن أغرق فيه، ومن بعيد تتخايل أمامي قرطبتي الحبيبة الغامضة البعيدة. أتجول بين ناسها الطيبين السعداء، أبتهج بالمشي في حدائقها الغناء، والتطلع لأبراجها الشماء، أفرح بالجمال والنظافة والانسجام والوئام، الذي تكاد تنطق به الأحجار الصماء، وكم يبهرني ويدهشني أن تطل شمسها الربيعية الدافئة في النهار، وقمرها الأخضر كالكرمة المتوهجة في الليل على شوارع وميادين وقصور وبيوت، تغمرها السعادة والسكينة والسلام، ويعمرها العدل والتراحم والحنان.
أحيانا ينتابني الإحساس بأن الموت يحدق في من أبراج قرطبة، وأنه سيخطفني حتما قبل أن أبلغ قرطبة، لكنني أعزي نفسي بأن أناسا غيري ربما بلغوها وعاشوا فيها، وتنعموا بخيراتها وثمارها وأنوارها وكنوز الحكمة والسعادة، والحقيقة التي ستصبح في متناول أجيال أخرى تأتي من بعدي، أو أبناء أو أحفاد أحفاد ربما يساعدهم الحظ والتاريخ وحكمة العقل والبصيرة، أن يصلوا إليها ويحققوا حلمي وحلمهم بالعيش فيها، وأظل أحلم بقرطبة الحرة العادلة الجميلة، وتظل قرطبتي وحيدة وغامضة وبعيدة.
Unknown page