خذ مثلا ثالثا: «الضوء»، فانظر إلى شخصي ساعة كتابتي لهذه الكلمات، واضعا أمامي مصباحا مضيئا أستعين به مع ضوء النهار، فها هنا أيضا ترى ثلاثة أطراف، متصلة منفصلة، فهنالك ظاهرة الضوء نفسها، سواء جاءت على الصورة التي يجيء بها ضوء الشمس، أو جاءت كما يجيء ضوء المصباح، وإلى جوار هذه الظاهرة هنالك المستضيء بالضوء ليكتب، ثم هنالك فوق الضوء والمستضيء طرف ثالث، هو العلم الذي يسمونه «علم الضوء» أقامه أصحابه على ما درسوه من ظاهرة الضوء. ولعلك الآن تعرف بماذا ترد على من يزعم لك أن الضوء نفسه الذي تراه العين آتيا من الشمس، أو من المصباح هو «علم»، فأحسبك قد أدركت أن ظاهرة الضوء شيء ، والعلم القائم عليها شيء آخر. وقد كان يمكن لظاهرة الضوء أن توجد ولا يوجد إلى جانبها علماء يقيمون عليها علما.
خذ مثلا رابعا: «علم الاقتصاد»، تجد الأطراف الثلاثة التي حدثتك عنها؛ فطرف منها هو أولئك الذين ينتجون في مزارعهم، أو في مصانعهم، أو في مكاتبهم، أو فيما شئت من أوجه النشاط البشري، وطرف ثان يتمثل فيمن يبادل هؤلاء إنتاجا بإنتاج، أو خدمات بإنتاج. وقد كان يمكن لأسواق البيع والشراء أن تحيا بكل نشاطها دون أن يتناولها الباحثون بالبحث العلمي لاستخراج القوانين التي تستخلص من ذلك النشاط وطبيعته، لكن حدث أن أقيم ذلك «العلم» - علم الاقتصاد - ليحلل ذلك الضرب من التفاعل البشري تحليلا يستخرج ما قد انطوى عليه من قوانين. وهكذا ترى مرة أخرى، أن حقيقة الأمر الواقع في ذاتها ليست هي العلم، وإنما العلم فعل آخر يؤديه أصحابه على أساس ذلك الأمر الواقع.
وقد كان يكفيني ذكر هذه الأمثلة، لأنتقل منها إلى موضوع حديثنا، وهو المتمثل في الأطراف الثلاثة المذكورة في العنوان، والتي لحظت في رؤية الناس لها - حتى أهل التخصص منهم - شيئا من الخلط، وهي: الدين، والتدين وعلم الدين (أو علوم الدين)، أقول إنه كان يكفيني ما ذكرته من أمثلة، لأقرر على ضوئها أن «الدين» قائم في نصوصه المحددة المعينة، ثم يأتي الطرفان الآخران، طرف منهما متمثل فيمن يؤمنون بذلك الدين، وهم من يصفونهم «بالتدين»، وأما الطرف الثاني فهو «علم الدين» (أو علومه) التي تقام على تلك النصوص - وهي واقع الدين - فتستخرج منها ما تستخرجه من مبادئ وأحكام. فلو قال لنا قائل: الدين علم (كما سمعتهم يقولون) رددنا عليه بقولنا: بل الدين يقام عليه العلم، وكان يمكن أن يقوم الدين والمؤمنون به، دون أن يتولاه نفر من العلماء بالبحث العلمي، كما هو من الممكن كذلك أن يتولى غير المؤمنين بدين معين، نصوص ذلك الدين بالتحليل والاستدلال؛ وذلك لأن «العلم» المقام على نص معين، لا يشترط له أن يكون الباحث العلمي «مؤمنا» بمضمون ذلك النص.
مرة أخرى أقول إنه قد كان يكفيني ما قدمته من أمثلة لأوضح به أن «الدين» شيء، و«علم الدين» شيء آخر، والإنسان المتدين بذلك الدين شيء ثالث، لكنني أرى أن أزيد الأمر جلاء، بأن أعرض بإيجاز شديد طبيعة العلم ما هي، حتى إذا ما صادفتنا بعد ذلك عبارة «علم الدين» عرفنا المعنى المقصود، ونجونا من الخلط بينه وبين غيره من المعاني في هذا المجال.
العلامة الفاصلة بين ما يجوز له أن يكون علما وما لا يجوز له أن يكون، هي قابلية الحكم بالصواب أو بالخطأ. فإذا كان القول المعروض بين يديك، مما يمكن أن يوصف بأنه صواب أو بأنه خطأ، وذلك بعد فحصه وتمحيصه، كان مما يجوز إدراجه في مجال المعرفة العلمية، وأما إذا وجدت القول المعين مما يستحيل وصفه بالصواب أو بالخطأ، إلا على قائله، فهو وحده الذي يزعم له الصدق، دون أن يكون في مستطاع الآخرين أن يراجعوه ليتحققوا من صدق زعمه، فمثل ذلك القول لا يحمل جواز المرور الذي يدخله في عالم المعرفة العلمية، مهما كان له من أهمية في حياة الإنسان.
قارن - مثلا - بين رجل يقول لك عن بقعة من الأرض إنها محببة إلى قلبه، ورجل آخر يقول عن تلك البقعة من الأرض، إنها تحتوي في جوفها على بترول، فبينما القول الأول معتمد كل الاعتماد على صدق قائله، بحيث لا يجد الآخرون وسيلة أمامهم للتحقق بأنفسهم من ذلك الصدق، نجد القول الثاني مما يمكن إخضاعه لوسائل البحث التي تنتهي بنا إلى قبوله أو رفضه، فالقول الأول يشير به صاحبه إلى حالة شعورية باطنية يحسها هو في دخيلة نفسه، وأما القول الثاني فيتحدث به صاحبه عن أمر واقع خارج نفسه، والطريق إلى مراجعته، للتحقق من صدقه، مفتوح أمام كل إنسان تؤهله دراسته للقيام بتلك المراجعة.
ولئن كانت العلامة الفاصلة بين ما يصح إدراجه في المعرفة العلمية وما لا يصح، هي قابلية القول المعين لأن يتحقق الآخرون - غير قائله - من أنه حق، أو من أنه باطل، فلقد حدث في عصرنا هذا تعديل في هذا المعيار، قد يبدو طفيفا، لكنه في حقيقته ذو أهمية كبرى، وهو أن قابلية القول المعين للحكم عليه بالبطلان، لها الأولوية على قابليته لأن يحكم عليه بأنه حق؛ وذلك لأنه قد تتكاثر بين أيدينا الشواهد الدالة على صدق قول معين، فيغرينا ذلك بالاطمئنان لذلك القول، وفجأة تظهر بينة جديدة تقلب لنا ذلك الحكم رأسا على عقب. فكم من رجل يظل يعطيك من شواهد إخلاصه لصداقتك، حتى لتتوهم أنت بأنه لا بد أن يكون صادقا؛ لكثرة الشواهد الدالة على ذلك، وفجأة يظهر لك الخبيء، فإذا حقيقة الأمر أنه كان يلبس لك قناع الصداقة المخلصة، لكنه كان في الوقت نفسه يخفي عنك ما يخفيه، انتظارا للحظة المناسبة، فيقذف ذلك الخبيء في وجهك وأنت منه على غرة غافلة.
فالفيصل الحاسم في قبول الفكرة المعينة عضوا في الأسرة العلمية، هو - إذن - قابليتها للبطلان، بمعنى أن يحاول الباحثون إبطالها بكل ما في وسعهم من تجارب. فإذا صمدت لهذه المحاولات، كانت فكرة صحيحة - مؤقتا - إلى أن يظهر في مستقبل قريب أو بعيد ما يبين بطلانها.
لكننا لكي نحكم على فكرة، أو قول، بأنها فكرة صحيحة أو خاطئة، فذلك لا يكون إلا بالرجوع بها إلى مقياس قائم خارجها، فإذا قلت عن الجدار إن طوله أربعة أمتار، فلا بد أن يكون هنالك مقياس «المتر» في وجود مستقل عن وجود الجدار. وها هنا نتقدم بأساس هو من أهم الأسس المنهجية في التفكير العلمي وخصائصه، وذلك أن للعلم طريقين مختلفين باختلاف نوع المادة المعروضة للفكر، ولكل طريق من الطريقين ضرب من المقاييس التي يرجع إليها في تقرير الصواب والخطأ. أما أحد الطريقين فخاص بالتفكير العلمي عندما يكون الموضوع المطروح للبحث ظاهرة من ظواهر الواقع الطبيعي، وأما الطريق الآخر فمجاله عندما يكون الموضوع المطروح للنظر العلمي توليدا لأفكار من أفكار، أو توليدا لنتائج تترتب على نصوص معينة، ففي هذه الحالة لا يكون لظواهر الواقع الطبيعي دخل في سير الباحث العلمي.
ونعيد ما قلناه عن الطريقين المختلفين في التفكير العلمي، نعيده بصورة أخرى ابتغاء مزيد من التوضيح، فنقول إن هنالك مجموعتين من العلوم، وذلك إذا قسمنا العلوم على أساس «المنهج »؛ فهنالك مجموعة العلوم الطبيعية، بما فيها العلوم الإنسانية إذا نحن أخذنا الإنسان من ظاهر سلوكه، ثم هنالك مجموعة العلوم الرياضية، بما في ذلك كل علم ينهج نهج الرياضة في اتخاذ مقدمات مسلم بها لتكون هي السند الذي يرجع إليه في إثبات صدق النتائج. أما مجموعة العلوم الطبيعية فنقطة البدء في طريق سيرها معلومات أولية نستمدها من مشاهدات الحواس وتجاربها، وأما مجموعة العلوم الرياضية (أو ما يدور مدارها في المنهج)، فنقطة البدء في طريق سيرها مقدمات لفظية مسلم بصوابها مقدما.
Unknown page