ومن أمثلة هذه الرموز: أن تكون «الغديرة» - الضفيرة - رمزا للبراهين التي تقام على صحة فكرة بعينها؛ لأن هذه البراهين تجري في مقدمات يتداخل بعضها في بعض كتداخل الجدائل في الغديرة (وهذا يذكرنا بالناقد الحديث إدموند ولسن حين فسر نسيج بنلوبي في شعر هومر على أنه رمز لخطوات الاستدلال القياسي بما في قضاياه من تداخل وتسلسل).
ومن هذا القبيل كذلك أن يرمز ابن عربي «بالدمقس» إلى حالة التنزيه؛ لأن الدمقس هو الحرير الذي لم يصطبغ بلون، فهو إذن في جوهره شبيه بالتنزيه الذي لا تشوبه شائبة من رغبة أو شهوة، وأن يرمز بالكائنات المجنحة كالحمامات والطواويس لعالم الروح، لما بين الاثنين من رابطة جوهرية هي التنقل بين الأرض والسماء، وعدم التقيد بأغلال الأرض، وأن يرمز بالقباب للامتناهي بسبب شكلها الكروي الذي لا بداية له ولا نهاية. ومن هذا القبيل نفسه أن يرمز إلى الطبيعة الجسدية من الإنسان «بالصخرات» للصوقها بالأرض وعجزها عن الصعود والطيران. والحق أن ديوان ترجمان الأشواق مليء بهذه الرموز التي ترتكز على أساس الرابطة المعنوية بين الرمز وما يشير إليه، من أهمها رموز النور والحجب والقفر والبستان، التي سنفرد لها أقساما لأهميتها عنده. (و)
رموز الأنوار والحجب. ولعل هذه أن تكون من أشد رموزه صلة بمذهبه الصوفي في المعرفة: «فالمعرفة الصوفية تتخذ أسماء مختلفة بحسب الأشكال أو المراحل أو الأحوال التي تتحقق فيها في النفس. وابن عربي يذكر ثلاثة أنواع منها، متبعا التقسيم التقليدي لدى الصوفية المسلمين، وهي: المكاشفة والتجلي والمشاهدة ... ويدخل في تفسيرها الرموز الأفلاطونية والمسيحية للنور والمرآة والحجب.»
3
فالنفس يحجبها عن إدراك الجلال الإلهي حجب المخلوقات؛ لأن كل مخلوق هو بمثابة حجاب يحول بين الأنفس وبين النفوذ إلى سر الحقائق الإلهية، ولا تستطيع النفس المحجوبة هذه أن تصل إلى الله إلا بالمجاهدة والتجرد، فذلك قد يؤدي إلى تبديد هذه الحجب، والكشف عن الأسرار الروحية الإلهية. وتلك هي «المكاشفة» التي بها ندرك المعاني الممثلة للحقائق الإلهية، لا ماهية تلك الحقائق؛ لأن إدراك الماهية الموضوعية للحقائق الإلهية هو ما نعنيه ب «المشاهدة»، فالكشف عملية استدلالية، نستدل فيها بشيء ما على إحدى الحقائق الإلهية، وأما المشاهدة فرؤية مباشرة لتلك الحقائق، ولا استدلال فيها.
4
وبين المكاشفة والمشاهدة يكون «التجلي» الذي هو ظهور نوراني للذات الإلهية وصفاتها، لا يلبث أن يزول.
والمهم لموضوعنا من هذا كله هو أن المكاشفة تستخدم لها رموز «الحجب»، و«التجلي» تستخدم له رموز النور الذي يظهر ويختفي، و«المشاهدة» تستخدم لها رموز النور الثابت، والمرآة التي ينعكس عليها ذلك النور. (1)
فمن رموز الحجب «القباب الحمر» و«الخيام البيض» وكلتاهما للمستتر من الحقائق. ومنها «ظلام الليل» الذي يرمز إلى حجاب الغيب، ومنها «الضحرات» التي ترمز إلى الأجساد حين تخفي الأرواح، ومنها «العين في الخام» إشارة إلى حقائق العلوم الربانية التي هي بطبعها كاشفات كالحسان الفاتكات باللحظ، لكنها محجوبة عن الإدراك، ومنها «الغرب» - بالقياس إلى «الشرق»؛ لأن الغرب رمز للغيب. ومنها «الخدور» و«راقد الليل» ومنها «حاجر» وهو اسم مكان، لكنه يتخذ رمزا للحدود التي لا يستطيع الإنسان اجتيازها لإدراك ما يطلبه، ومنها «الأغوار» - بالقياس إلى «الجبال»؛ لأنها تشير إلى المواضع الغيبية، و«الظبي المبرقع» الذي يشير إلى الحقيقة محجوبة بحالة نفسية. (2)
ومن رموز النور الذي يظهر ويختفي - وهي لحظات التجلي - «البرق» الذي يقول عنه ابن عربي في شرحه: «البرق أبدا عند صاحب هذا القول - أي عند ابن عربي نفسه - مشهد ذاتي يذهب بالأبصار لا يكاد يتحقق» (ص90). فالبرق لا يريك إلا لمعانه، فيكون اللمعان حجابا عليه، فكما أننا - كما يقول ابن عربي - لا نرى البرق، وإنما نرى سناه، فكذلك نحن لا نرى الذات الإلهية إنما نرى ما يدل عليها.
Unknown page