أي التف أمر الدنيا بأمر الآخرة، هذا عن كلمة «الساق»، وأما كلمة «التوراة» فالتوراة من ورى الزند، فهو راجع إلى النور، وينسب إلى التوراة أن لها أربعة أوجه، فإذا كان التشبيه قائما بين «ساقيها» و«التوراة» فلا بد أن تكون الإشارة هنا إلى أربعة أوجه من النور، وإلى الأربعة الذين يحملون العرش، وهي الكتب الأربعة. أضف إلى ذلك أنه لما كنى عن ساقيها بالتوراة، احتاج إلى ما يناسب ما وقع به التشبيه من «التلاوة» و«الدرس» وذكر من أنزلت عليه التوراة، وهو موسى، أقول إن ابن عربي حين يلجأ إلى مثل هذا الشرح البعيد المتشعب للبيت المذكور، ندرك أنه إنما يكد ذهنه كدا ليجد المعنى الصوفي الباطن، الذي يوازي به المعنى الظاهر، وهو التغزل في ساقين بيضاوين مضيئتين، ينظر إليهما فكأنما هو ينظر إلى آية من آيات الجمال البشري، تتلى وتدرس في نشوة وعلى مهل . (ج)
رموز جغرافية، يستخدم فيها أسماء لأماكن معروفة، ليفيد إما من مجرد جرس اللفظة، وإما من الصفات التي عرفت بها تلك الأماكن. والأغلب في هذه الحالة أن يجيء التأويل على اعتساف وافتعال، فهو - مثلا - حين يذكر مكانا عرف بجماله الطبيعي، ليشير به إلى الجمال الذي يجذب الناظر إليه، جاء الرمز في هذه الحالة مستقيما ومباشرا، كقوله: «بذي سلم ... ظباء تريك الشمس في صورة الدمى» (ص45)، أما إذا جاء باسم مكان ليفيد من جرسه ونبرته، أو من المعنى الظاهر لذلك الاسم، غلب عليه عندئذ التكلف في التفسير، كقوله في «لمعت لنا بالأبرقين بروق» (ص37): أن الأبرقين - وهو اسم مكان - رمز إلى مشهدين للذات الإلهية، مشهد في الغيب ومشهد في الشهادة؛ إذ من الواضح أن ليس بين «الأبرقين» وهذين المشهدين علاقة ظاهرة، وإذن فالتأويل لا يرد على قارئ العبارة مهما قلب المعنى في ذهنه تقليبا يسمح به اللفظ المستخدم، إنه تأويل يقوله ابن عربي تفسيرا لشعره، ولا يقوله أحد سواه من قراء ذلك الشعر، وإذن فهو ما نصفه بالتأويل المفتعل، ومن هذا القبيل ذكره لمكان اسمه «زرود» معروف برماله، فيفسر الرمال بالمعارف المكتسبة؛ لأنها مفككة كتفكك هذه الرمال، وهو رمز لجأ إليه أكثر من مرة في ديوانه. (د)
رموز ترتكز على التداعي الصوتي بين لفظتي الرمز والمرموز له، وهي من أقوى الدلائل عندي على أن ابن عربي وجد نفسه أمام قصائده الغزلية ملتمسا لها طريقة للتأويل الصوفي، فأحيانا يجد جسر العبور من الغزل الحقيقي إلى المعنى الصوفي ممهدا عن طريق التشابه بين «المعنيين»، ولكنه أحيانا أخرى يلجأ إلى ضرب غريب من البحث عن خيوط صوتية تنقله من الرمز الذي يريد تأويله إلى ما يمكن أن يكون مرموزا له، حتى وإن جاء ذلك التأويل بعيدا عن الاتساق وسلاسة السياق، وأمثلة ذلك كثيرة، نسوق بعضها على سبيل المثال:
إذا كانت الحبيبة هي «سلمى» قال إنه اسم يرمز إلى الحالة السليمانية الواردة إليه من مقام النبوة، أما «هند» فاسمها يشير إلى الهند التي هي مهبط آدم عليه السلام، وإذن فاسم هند يرمز إلى ما يحيط به من أسرار الخلق، و«لبنى» إشارة إلى اللبانة وهي الحاجة، ثم انظر كيف يفسر بيته القائل:
واندباني بشعر قيس وليلى
وبمي والمبتلى غيلان
يقول: «واندباني بشعر المحبين مثلي في عالم الحس والشهادة كقيس ... فنبه بقيس على الشدة، فإن القيس الشدة في اللغة، والقيس أيضا الذكر، وليلى من الليل، وهو زمان المعراج والإسراء والتنزيلات الإلهية من العرش الرحماني بالألطاف الخفية إلى السماء الأقرب من القلب الأشوق، وبمي وهي الخرقاء التي لا تحسن العمل، ومن لم يحسن العمل كان العامل غيره
والله خلقكم وما تعملون
أي ما يظهر على أيديكم من الأعمال التي هي مخلوقة لله تعالى، وغيلان هو ذو الرمة، والرمة الحبل العتيق والحبل السبب الذي طولبنا بالاستمساك به والاعتصام، ونسبته إلى القديم أمر محقق، فإنه حبل الله وهو القديم الأزلي. وذكر الغيلان وهو شجر مشوك يتعلق بمن قرب منه، ويمسكه عن أن يزول عنه حبا فيه وإيثارا، وفيه من الراحة كون هذا الشجر مختصا (في النص مختص) بالفيافي التي لا نبات فيها، المهلكة بقوة رمضائها وحرها، فليس فيها ظل لسالك إلا هذه الشجرات: شجرات أم غيلان، فيجدها في ذلك المقام رحمة، فيلقي عليها ثوبه، ويستظل، فتمسكه بشوكها عن أن تمر به الرياح فينكشف لحر الشمس، فكذلك ما يجده من الألطاف الخفية الإلهية في مقام تجريد التوحيد وتنزيه التقديس، فأوقع التشبيه بالمناسب من هذا الوجه، فلهذا سألهما أن يذكرا له هؤلاء الأشخاص من المحبين ليجمع بين حال المحبة، وعلم حقائق هؤلاء المذكورين؛ لأنهم كانوا محبين» (ص83). ولو كان ابن عربي هو الذي أطلق من عنده هذه الأسماء: قيس، ليلى، مي، غيلان، لجاز لنا القول إنه أراد بهذه الأسماء ما توحي به ألفاظها، لكنها أسماء تاريخية لمحبين حقيقيين، ذكرها لما بينه وبين أصحابها من شبه وهو «الحب»، فكيف أمكن أن تجيء كلمة «قيس» رمزا للشدة، أو رمزا للذكر، وكلمة «ليلى» رمزا لليل الذي هو بدوره رمز للإسراء والمعراج، وكلمة «غيلان» رمزا لكل هذا الذي أخذ يشققه ويستخرجه من «شجر الغيلان»؟ (ه)
رموز ترتكز على تداعي المعنى، أي أن يكون بين الرمز والمرموز له رابطة معنوية، تجعلهما شبيهين في الجوهر، وهذه هي أقرب الأنواع إلى طبيعة العملية الرمزية حين تكون هذه العملية من أخص خصائص الإنسان، ففيها عمق إدراك لطبائع الأشياء، وفيها قدرة على التركيب الذي يجمع ما اختلف في ظاهره وما اتفق في باطنه، يجمعه برابطة واحدة.
Unknown page