135

Qiyam Min Turath

قيم من التراث

Genres

وأقول ذلك لأنني أرتب عليه واجبا ملزما للدولة في رسم سياستها في التعليم والتربية، وذلك الواجب الملزم هو أن أخطط البناء التعليمي على أساسين متوازيين، أحدهما هو أن يتعلم الجميع، وأن تتساوى الحقوق والفرص لا نميز أحدا من أحد، وأما الأساس الآخر فهو أن أبحث خلال العملية التعليمية في كل مرحلة من مراحلها، عن أصحاب المواهب، لأخصهم وحدهم برعاية تتناسب مع مواهبهم؛ لأن هؤلاء هم في نهاية الأمر الذين ستكون لهم الريادة في شتى ميادين الحياة. ولست أرى في مثل هذا الانتقاء ما يتنافى مع المساواة بين جميع المواطنين؛ لأن الموهوبين وغير الموهوبين هم مصريون على السواء، وتعرض أمامهم الفرص متساوية، فإذا كان أحد منهم موهوبا في ناحية ما، فإنه يكون إنكارا لنعمة الله، وجحودا لحق الوطن أن نطمس ذلك الموهوب ليغوص مع الآخرين إلى قاع واحد. ولست أريد هنا، ولا أرضى أن أصوغ هذه الفكرة كما صاغها أحد الفلاسفة القدماء، إذ قال إن عملية التعليم ما هي إلا البحث وسط كومة الرمل - التي هي سائر أفراد الشعب - عن بضعة جواهر خفيت في ثنايا الرمل. لا، لست أقول شيئا كهذا؛ لأنه يتضمن أن التعليم الذي يصيب حبات الرمل، إنما هو تعليم بالمصادفة، ما دامت الغاية المنشودة هي البحث عن الجواهر المختفية، فلكل فرد من الشعب الحق في أن يتعلم بقدر ما وسعت فطرته أن يتعلم، على ألا نضحي بقدرات أقوى من أجل قدرات أضعف.

ولقد ذكر لي صاحب السؤال عن «الموهبة» في رسالته، ما يدل على أنه استوحى سؤاله مما قرأه لي في مقالة كان عنوانها «قراءة في كراسة مجهولة»، وكان فيها حكاية والد ينصح ولده أن يمضي في طريق حياته دءوبا لا يبالي ما سوف يتلقاه من ضربات الآخرين. وكان في المقالة ما يوحي إلى قارئها بأننا في مجتمعنا كثيرا ما نعمل على قتل الموهبة بوأدها مع صاحبها في الظلام، مفرقا بين معنيين مع معاني العدالة - وللعدالة معان كثيرة - فعدالة من هو أقوى منصبا، غير العدالة التي مؤداها أن يوضع كل فرد في مكان من البناء الاجتماعي يناسب قدراته. فإذا ساد المعنى الأول كان الأغلب أن يعمل صاحب المنصب القوي على أن يخفي في الظلام أولئك الذين إذا ظهروا هددوه، وأحسبني لا أتجنى إذا قلت إن خبرتي تشير إلى أن مثل هذا البطش كثير الحدوث في حياتنا، مما أنتج لنا نتيجتين:

إحداهما: ارتحال الأكفاء بأعداد ملحوظة إلى حيث يستثمرون مواهبهم في غير وطنهم، فأمسك بزمام أمورنا في حالات كثيرة، أفراد ذوو قدرات محدودة! وهي النتيجة الثانية.

إن الأمة تحيا في تاريخها، وما تاريخها إلا أصحاب المواهب من أبنائها وما صنعوه ليخلدهم، فتخلد الأمة بخلودهم.

مصر هي أنت يا صديقي

عدت من سفر دام معي شهرين، ابتغيت فيه الراحة والعافية، فزارني فيمن زارني أقرباء وأصدقاء، ولم يكد يبدأ حديثنا في كل لقاء، حتى ينعرج به المتحدث نحو شكاة منه صارخة بما آلت إليه مصر، انهارت مصر، انتهت مصر. هكذا كان القول على كل لسان ممن تحدثوا، مهما يكن الموضوع الذي يبدأ به الحديث. فقد يبدأ الحديث بأطراف من حياتنا الفكرية والأدبية، أو قد يبدأ بالأسعار وكيف طارت في السماء، أو بغزو لبنان وقمة فاس، أو بما شئت مما تدور به أحاديث الناس، وهي مرسلة بغير تكلف. وكانت تلك النغمة اليائسة هي نفسها التي سمعتها على أوتار المصريين المغتربين الذين شاءت لي الصدفة أن ألتقي بهم خلال رحلة الشهرين.

كنت أحيانا أحس الإخلاص والصدق في تلك الأحاديث، كما كنت - أحيانا أخرى - أحس الكذب والزور والبهتان؛ فلقد كنت لا أملك إلا أن أصدق مريضا وجد المهارة في الطبيب المصري مقرونة بإهمال التمريض وقذارة المستشفى، ولا أملك إلا أن أصدق باحثا وجد الذكاء في الدارس المصري مقرونا بألغام متفجرة من روح اللامبالاة والتخريب. نعم كنت لا أملك إلا أن أصدق أشياء كثيرة سمعتها؛ لأنني عشتها وعرفتها، لكنني في الوقت نفسه كنت لا أملك إلا أن أتهم المتحدث بالتجني على الحق، حين أجد التناقض في موقفه صارخا، كأن يكون المتحدث أستاذا أو طبيبا أو مهندسا، ممن ارتحلوا للعمل في أقطار شقيقة لمصر أو غير شقيقة، وطفحت جيوبهم بآلاف الدنانير هناك ومئات الآلاف من الدراهم هنالك، وبرغم أنه هو الذي يمسك لتلك الأقطار بمصباح العلم الذي أخذه من مصر، أو هو الذي يطب للمرضى هناك، أو يخطط المدن ويقيم العمران، بطب أو هندسة ذهبت معه في حقائبه، تراه يفاخر بما وجده هناك، ويخجل مما يراه هنا.

وكانت إحدى هذه الحالات العجيبة فيمن تحدثوا إلي، هي التي أثارت غيظي، فانفجرت في المتحدث قائلا: يا صديقي إن مصر هي أنت وهي أنا، وهي كل فرد مصري تراه، فإذا أردت الحديث عن مصر حديثا صادقا منزها عن الهوى، فخذ مصر بمجموعها، خذها هنا على أرضها، ثم تعقبها حيثما اتجهت، وأينما جلت في أقطار الأرض، تعقبها في أشخاص المصريين الذين يعلمون ويطبون ويهندسون ويعمرون الخراب، تعقبها في شخصك أنت، فالذي تصنعه حيث أنت، وتفاخرنا بصنعه، إنما هو مصر تجسدت فيك بعلمها وأدبها ودماثة طباعها.

لقد انطلقت بحديثك - يا صديقي - ترسم لنا أبشع الصور عن تدهور مصر في هذا، وانهيارها في ذاك، فهل سمعت الأسطورة التي تروى عن مارد جبار كيف عاش دهرا، ثم انطفأت جذوته وتحولت رمادا، فظن أصحاب الظنون أن زمان المارد الجبار قد ولى، وإذا به - من الرماد نفسه - تشتعل جذوته من جديد. وتلك - يا صديقي - هي بعينها قصة مصر في انهيارها وتدهورها؛ ففي ميدان التعليم - مثلا - وهو من أكثر الأمثلة دورانا على ألسنة الناقدين، هل سمعت قبل اليوم في تاريخ التعليم المصري أن عشرات الألوف من طلبة الثانوية العامة يظفرون بدرجات تزيد نسبتها على التسعين في المائة كل عام ؟

قف يا سيدي هنا متمهلا متأملا، ومتعقبا بخيالك مصير هذه الألوف التي امتازت على هذا النحو النادر حدوثه في ميادين التعليم أينما كان. إنك مهما بلغت من التشاؤم فلن يسعك إلا أن تقر بأن عددا ضخما من تلك الألوف المتفوقة سيظل لها تفوقها إلى ما بعد الجامعة، فمن أنقاض التدهور ذاتها، صحا الأفراد صحوة لم يسبق لها نظير، ثم ماذا؟ ثم يخرج المارد في بعثه الجديد، فيجد الطريق على أرض بلاده مسدودا إلى حين، فيسافر ليضطلع بما ذكرته لك من تعليم وطب وهندسة وغيرها، لتعمر بجهوده الأرض اليباب. ومن هؤلاء البناة كنت أنت يا أخي، فهل نسيت؟ إنني أعلم أنك بعد أيام قليلة ستعود إلى مهجرك، فأرجوك أن تتلفت حولك فاحصا، لترى مصر في أبنائها ماذا تصنع، وكيف تصنعه.

Unknown page