إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا (سورة الأعراف) فيقول أبو علي الفارسي إن الإشارة هنا إلى «العبادة» لا إلى من «صاغ عجلا، أو نجره، أو عمله بضرب من الأعمال.» وعلى هذا الغرار ينبغي أن نفهم الحديث الشريف: «يعذب المصورون يوم القيامة.» فالمقصود هو أولئك الذين يضعون الله (تعالى) في صورة يعبدونها، لا الذين يصورون كائنا ما، دون أن تكون فكرة العبادة واردة في الأذهان.
وإذن فلا بأس في أن يكون للمسلم فن تشكيلي. وخلاصة ما أردنا أن نثبته عن الفن العربي والإسلامي في هذا المجال، هو أنه فن «فكرة» قبل أن يكون فنا مراده أن يعكس الكائنات على الخامة التي يستخدمها، بكل تفصيلاتها أو ببعضها، على سبيل المحاكاة للمحاكاة ذاتها. وإذا قلنا إنه فن «فكرة»، فقد قلنا بالتالي إنه فن للمبادئ المجردة، لا للمخلوقات المجسدة.
5
هذه صور من مجالات الفكر والفن في تراثنا العربي والإسلامي، سقناها لنبين بها ما قد زعمناه، من أن اتجاه العقل العربي، إذ هو ينتج فكرا أو يبدع أدبا وفنا، هو أن يسير من مبدأ عام يأخذه منذ البداية مأخذ التسليم، نزولا إلى ما يترتب عليه من تفصيلات الحياة العملية. وأهمية هذه الطريقة في النظر والعمل، هي أن يدخل الإنسان خضم الحياة مزودا ببوصلة تهديه سواء السبيل.
وواضح أنها طريقة تختلف كثيرا عما يقتضيه المنهج العلمي في هذا العصر الذي استحدث له منهجه مع النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر؛ فمنهج العلم - إذا كان علما طبيعيا (أعني الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ... إلخ) - يقتضينا أن نبدأ بالمعطيات الجزئية صعودا إلى المبدأ العام أو القانون العلمي.
على أن الاقتصار على أحد هذين المنهجين دون الآخر في جميع ميادين الفكر والفن، له خطورته البالغة في حياة الناس. فإذا كان لأبناء الحضارة الغربية القائمة من شكاة يصرخون بها في ألم وحسرة، فهي أن طغيان العلم ومنهجه على الإنسان، قد قضى على شعور الفرد بذاته المستقلة المتميزة؛ لأن ما هو خاضع للعلم، مشترك وموحد بين الناس أجمعين، فماذا يصنع الفرد المتميز بشخصيته، بجوانبه الفريدة التي تميز بها، ويريد أن يفصح عنها في حياته الجارية.
وكذلك إذا كانت لنا أبناء الأمة العربية من شكاة نصرخ بها في خشية وقلق، فتلك هي أننا لو أسلمنا كل جوانب حياتنا لمبادئ صاغها لنا الآباء الأولون، فماذا نصنع بتفصيلات الحياة العصرية المليئة بالعلوم والصناعات، إذا رأينا أن تلك التفصيلات تأبى أن تنصاع للمبادئ المأخوذة بادئ ذي بدء مأخذ التسليم؟
وهنا ينشأ السؤال الهام، وهو: أمن الحتم أن يكون إما الحياة كلها للعلم ومنهجه الاستقرائي، وإما حياة كلها للانضواء تحت مبادئ مقبولة سلفا؟ أهو مستحيل على الإنسان أن يحيا في ساحة من قسمين، لكل منهما منهجه الذي يلائمه؛ فقسم للعلوم وما يتفرع عنها من صناعات؛ ويكون له منهجه القائم على تقصي الوقائع قبل صياغة القوانين، وقسم آخر لحياة القيم الخلقية والجمالية، وفيها يكون السير مهتديا بمبادئ مسبقة.
على أننا حتى في هذا القسم الثاني، لا بد من مرونة التكيف كلما ارتد إلينا سلوكنا العملي بنتائج ليست هي التي أردناها، ففي حالات كهذه لا مناص من مراجعة المبادئ، لنحل غيرها مكانها، وفي هذه المراجعة المستمرة، والسائرة مع الأحداث، يكون تطور الحياة وتجددها نحو ما هو أصلح وأرقى.
وعودا بنا على ما بدأنا به في عنوان هذا المقال، ففي تراثنا الفكري والفني قيمة سارية، هي النزوع نحو الاهتداء بمبادئ أولية قبل الخوض فيما نهم بالخوض فيه، ونحن هنا نقول إنها قيمة تستحق منا أن نبقي عليها في ميادين الحياة الخلقية والفنية، ولا نستثني إلا ميدان العلوم؛ لأنه ميدان لا حيلة للإنسان فيه إلا أن يلتزم منهج التفكير العلمي، وبالتالي فلا اختلاف فيه بين شعب وشعب من حيث الخصائص القومية. على أننا نعود إلى الإشارة بأن القيمة الموروثة في جوانب الحياة اللاعلمية، وإن تكن حقيقة منا بالبقاء، لما تحمله في طيها من ملامح مميزة، إلا أنه لا مندوحة لنا عن تعديلها هنا وهناك، آنا بعد آن، كلما جاءتنا الدنيا بمشكلات يستعصي حلها بذلك الجانب الموروث.
Unknown page