ولقد علمت فيما بعد أن هذه السيدة كانت غير سعيدة مع زوجها، فهو كان ممن لا تزال تقاليد التربية القديمة تجعل لتصرفه نوعا من الخشونة والفظاظة مستترا وراء حجاب التهذب والرجولة الذي اكتسبه في أثناء وجوده في أوروبا؛ فكان يختلف من هذا القبيل اختلافا كبيرا عن زوجه التي كانت قد ربيت في محيط أوروبي، ارتفعت فيه أساليب المودة وتكلف اللطافة إلى مستوى عال.
إذن، كانت السيدة و. غير سعيدة، وكانت تتوق إلى السعادة في هذا المحيط الجديد المتراوح بين ما هو عريق في التقاليد وما هو جديد في التمدن، ولكن هذه حقيقة لم أكن أدري بها في هذا الاجتماع، على أني كنت أشعر أن لهذه السيدة ميولا غريزية قوية تملك قيادها وتتسلط على إرادتها.
وبعد مدة قصيرة فرغت السيدة ك. من مناقشة زوجها، والأصح أنها لم تفرغ قط، ولكن زوجها كان يريد الذهاب لبعض أغراضه، فاعتذر إلينا واستأذن وانصرف، وما كاد يخرج من الباب حتى تحولت السيدة ك. إلي وإلى الآنسة أسما، ولم تلتفت إلى السيدة و. وسليم، بل إنها تجاهلت وجودهما بالمرة، فأيقظ عملها هذا فطنتي، ليس لأنه غريب فلا غرابة قط فيه، بل لأن سليما لم يكن من الرجال الذين يميلون إلى التحدث، وكنت أعرف أنه يحتقر الأحاديث الاعتصابية التي لا تدور حول موضوع معين ينتظر الفراغ منه، فهو لم يكن يتحدث لمجرد قتل الوقت بتجاذب الحديث.
وبينما فكري يتراوح بين هذه الظنون والأحاديث التي كانت دائرة بيني وبين الآنسة أسما، إذا بالسيدة ك. تدعوني وهذه الآنسة لمشاهدة مجموعة الملونات التي عنيت بجمعها.
وكنت مشغوفا بالصور الملونة حتى أني كنت أقف وقتا طويلا أمام الصورة الواحدة الهامة، مطيلا النظر إليها كأني أحاول طبع ما فيها من دلائل الحياة وعظمة الفن في ذهني بحيث لا تعود تبرحه، فتبعت السيدتين إلى الغرفة المجاورة حيث كانت مجموعة الصور، فوجدتها مؤلفة من نحو عشرة أطر، تتضمن كلها صورا لملونين عصريين بينها ثلاث صور أعجبتني كثيرا: الأولى رأس قروي، والثانية برية جبلية، والثالثة منظر وردة على نور شمعة.
لا أدري كم دقيقة استغرق وجودنا في الغرفة المجاورة، ولكني أدري أننا عدنا لنرى سليما والسيدة و. كما تركناهما ورأت السيدة ك. أن تغير مجرى اجتماعنا، فأدارت الغرامفون ولم يبق عن الرقص من محيد؛ لأن عدمه يعتبر إهانة لا سبيل إلى التكفير عنها عند السيدات المتأنقات، وأشارت إلي ربة البيت أن أدعو الآنسة أسما للرقص ففعلت، أما سليم فظل في مكانه لا يتحرك، فحضته السيدة ك. على الرقص، ولكنه اعتذر بأنه لا يحسنه، فلم يلق اعتذاره القبول، وتبرعت السيدة و. بأن تعلمه قليلا، وكان سليم خجولا جدا فقبل خوفا من أن يسيء التصرف، فجعلنا نرقص والتهت السيدة ك. بتدبير بعض الشئون.
ولم ينته الرقص الأول حتى وضعت السيدة ك. قرصا آخر موسوما: «إني أحبك»، ولاحظت أثناء رقص هذا الدور أن السيدة و. جعلت ذراعها حول عنق سليم بدلا من أن تضع يدها على كتفه، وأنها كانت تضغط عنقه كلما صاح المغني: «إني أحبك.»
فلما انتهت هذه الرقصة رأيت سليما قد تبدل كثيرا، رأيته منفعلا أيما انفعال، وهو ما لبث أن التفت إلي وقال: «هلم نذهب يا صديقي؛ فإنهم ينتظروننا.»
ولم ينتظر أن أجيبه، بل إنه أسرع إلى السيدة ك. فشكرها وودعها، ثم تحول إلى السيدة و. فودعها، وودع الآنسة أسما، وخرج تاركا السيدة و. مبهوتة جدا، وفعلت أنا مثل فعله، وتبعته مهرولا، وقطعنا الطريق كلها صامتين حتى بلغنا منزل سليم، ودخلنا غرفته، فذهب سليم لتوه إلى البيانو، وشرع يوقع ألحان قطعته التي كان قد أسمعنيها، ولكنه أكسبها هذه المرة قوة مؤثرة شديدة، وقد خيل إلي أنه بدل فيها أو زاد عليها، فاقتربت من البيانو، ونظرت في وجهه، فوجدت عينيه محمرتين والدموع تجول فيهما.
كانت المرة هذه الأولى التي لاحظت فيها ظاهرة غريبة من هذا النوع، لم أكن أعهدها في صديقي سليم من قبل، وانتهت القصيدة الموسيقية، ولكن يدي سليم ظلتا ضاغطتين على المواقع الأخيرة، بينما كان هو يحدق في الأفق من النافذة، وكأني به سها عن وجودي معه في الغرفة؛ لشدة ما هو فيه، فرفع يديه عن مواقع البيانو، وأخرج من جيبه محفظة فتحها وأخذ منها صورة جعل يتأملها، ويزيد التأمل كأنه يبحث فيها عن شيء جديد، أو يتفقد شيئا قديما عزيزا، وبعد أن أطال النظر إليها أدناها إلى شفتيه، وطبع عليها قبلة طويلة، ثم أخرج من جيبه منديلا مسح به الدموع التي أخذت تتدفق من عينيه تدفقا.
Unknown page