13
موضوعا لمأساته الرائعة التي دبرت فيها كليتمنسترا زوجة أجاممنون غيلة زوجها بعد أوبته من طروادة وذلك بمعاونة عشيقها إيجيستوس، ثم تتسلسل ثلاثية إسخيلوس المشجية «الأورستية» على هذا الغرار.
ومن المشاهد المؤلمة التي ينقم فيها القارئ على أجاممنون، ذلك المشهد الذي يقص علينا فيه هوميروس ما شجر من الخلاف بينه وبين البطل أخيل. إنه مشهد يثير السخط على أجاممنون، كما أثاره تسليم رأس ابنته للجلاد قربانا للآلهة حتى تثير الرياح كي يقلع الأسطول، وبمثل هذه المشاهد التي سنضع بين يدي القارئ صورا رائعة منها وضع هوميروس أساس المأساة اليونانية ومهد السبيل لمن جاء بعده من الشعراء فخلقوا الدرامة وخلقوا المسرح وتركوا للذهن البشري ثروة لا يزال يستغلها ولا يزال يروي ظمأه منها.
وقد ورد ذكر أجاممنون في الأوديسة كما أسلفنا وذلك عندما لقي أودسيوس الكاهن تيريزياس في العالم الثاني وأخذ يقص عليه ما آل إليه أمر أبطال الإلياذة بعد أوبتهم إلى أوطانهم، وقد ذكر له من أمر أجاممنون ما دبرته له زوجه.
وللبطل ديوميد منزلة رفيعة في الإلياذة، ويكاد بشجاعته النادرة يتفرد بالإعجاب بعد إذ هجر المعركة أخيل. ففي الكتاب الخامس الذي قصره هوميروس على هذا البطل لا تقتصر شجاعته على التفوق على الآدميين الذي خاضوا الحلبة، بل تتعداها إلى الآلهة، وحسبه فخرا أنه جرح فينوس ربة الجمال التي كانت تتفانى في مساعدة جيوش طروادة، ثم مارس إله الحرب الجبار المدله بهوى فينوس، وكلما حاق بأحد اليونانيين كرب في المعمعة كان ديوميد أسرع الفرسان إلى نجدته بل إنقاذه، وقد ذهب في الكتاب العاشر في صحبة أودسيوس إلى معسكر الطرواديين في حلك الليل حيث اغتالا ريسوس بعد أن اجتازا ساحة تعج بالمنايا وتضطرب بألوان المهلكات.
أما أودسيوس فله شخصية فذة؛ إنه بطل مخاطر لا يبالي الردى ولا يرهب المنايا، إلا أنه يمتاز بناحية أخرى أظرف وألطف؛ ناحية تثير المرح وتبعث الضحك، ضحك الجد الصارم لا ضحك المشعبذين ورجال المساخر، إنه كان من عشاق هيلين قبل أن تنشب هذه الحرب، فلما فاز منلوس بهيلين حزن وتولاه الكمد، لكنه تزوج من إحدى قريباتها «بنلوب» التي لم تكن تقل عنها جمالا ونضرة وطلاوة، والتي استطاعت أن تحتل من قلبه فراغ هيلين كله، فلما نشبت الحرب بسبب هيلين وعلم أودسيوس أنه مدعو إلى خوض غمارها فيمن دعي من ملوك هيلاس وأمرائها آثر السلامة، فادعى العته وذهب إلى شاطئ البحر بمحراث عظيم يجره ثور وجواد، وجعل يحرث الأرض ويبذر فيها الملح كما يفعل المجانين، ولم تنطل هذه الحيلة على بالاميدز رسول منلوس فقد عمد إلى تزييفها بوضعه الطفل تليماك بن أودسيوس في طريق المحراث. فكان أودسيوس يتفادى ولده في مهارة أشد الناس وعيا وأكثرهم إدراكا. وفي الإلياذة كثير من المشاهد التي تدل على براعة أودسيوس وجمال حيلته وعمده إلى الخدعة في الحرب أكثر من الاتكال على الشجاعة المجردة. كما كان يصنع ديوميد أو أجاكس أو أخيل. وخدعة الحصان الخشبي التي فتحت طروادة هي من تدبير أودسيوس، أما الأوديسة فإنها غاصة بحيل هذا الرجل العجيب، وهي حيل خلابة لا يمكن استيعابها في هذه المقدمة المقتضبة عن هوميروس. وننتهز هذه المناسبة فنشير إلى ما تسرب إلى قصص ألف ليلة وليلة من خدع أودسيوس. فأكثرنا قد قرأ رحلات السندباد البحري، وأكثرنا يذكر المارد الذي حبس السندباد ورجاله في كهفه، وراح يسمنهم ويتغذى بهم واحدا بعد واحد حتى دبر السندباد حيلة سمل عيني المارد بالسيخ (السفود) المحمى وما تم بعد ذلك من هرب السندباد ورجاله إلى زورقهم ونجاتهم بأنفسهم في البحر. هذه صورة كاملة من صور الأوديسة اقتبسها الراوية العربي وكساها هذا الرواء القشيب مباعدا بينها وبين الأصل غير مشير إلى مصدرها. ونحسب نحن أن قصة السندباد كلها لم تكتب إلا بعد العصر الذي فشت فيه الترجمة عن اليونانية، واشتدت فيه أواصر الصداقة بين هارون عاهل بغداد وشرلمان عاهل الفرنك، وما تبع ذلك من وفود تجار القسطنطينية إلى بغداد، ووفود تجار بغداد إلى العاصمة الرومية، وما كان يصحب هذه الرحلات من تبادل القصص وسرد الأخبار، وليس يبعد كذلك أن يكون لاختلاط العرب بأهل الإسكندرية من مصريين ويونانيين أثر فيما نلحظه من تلقيح القصص العربي بطرائف القصص اليوناني.
هذه بعض شخصيات المعسكر اليوناني تقابلها شخصيات أخرى في معسكر طروادة، ولسنا ندري بأيها نبدأ؟ إن باريس الذي كان سبب هذه الحرب الضروس شخصية هزيلة مريضة شاحبة، وليس يستطيع الإنسان أن يفهم كيف جاز أن تنشب هذه المجزرة الشنيعة المروعة بين هذين الحلفين الكبيرين من أجل أن هذا الفتى باريس ينزل ضيفا على منلوس فيكرمه ويحتفي به، ثم لا يلبث الضيف أن يغازل زوج مضيفه، ثم ما هو إلا أن يفر بها بعد تدبير هو أسفل ما عرف في تاريخ الهمجية والقحة! حقا؛ لقد وعدته فينوس قبل أن يقضي لها بالتفاحة المشئومة أن تمنحه أجمل زوجة وأفتن امرأة. أفلم يكن هذا النذر الإلهي يقضى إلا على هذا النحو؟! والغامض الذي لم يفسره علم الأساطير هو كيف أنه قد ساغ صنع باريس في ذهن أبيه ملك طروادة؟ وكيف رضي بطل عظيم مثل هكتور عن هذه الدعارة التي أثار بها أخوه الحرب بين هذين العالمين؟ قد نلتمس العصبية الجنسية عذرا واهيا بهذا الرضى، بيد أنه يكون عذرا متهدما على كل حال.
يدرس الإنسان شخصية بريام الملك فيعجب لنبالة الرجل وفطرته التي فطره الله عليها من محبة للعدل وميل إلى الإنصاف وإشفاق على الرعية، فكيف وزن عمل ولده حين أبى أن يأمره برد هيلين إلى زوجها حقنا لكل تلك الدماء؟! أين المرض إذن؟ أفي رأس بريام وملئه؟ أم هو في رأس هوميروس؟ هنا موضع الضعف في عقدة الإلياذة، وهو ضعف يشبه الضعف في عقدة الأوديسة، حين يجتمع عشاق بنلوب في قصر أودسيوس، وحين تمر عليهم السنون الطوال منتظرين أن تختار منهم ربة الدار بعلا لها، فهم بذلك يشبهون القطط. ويحاكون الديكة حين تقتتل على الأنثى. هذا ضرب حيواني من تفكير هوميروس يشوه جمال ملحمتيه، ولعل للوثنية نصيبا كبيرا في توجيه شاعر الخلود هذه الوجهة، ولعل المصريين القدماء لم يكونوا متجنين حين قالوا عن ملاحم اليونان إنها نتاج صبياني؛ ولذا لم يأبهوا لها ولم يعنوا بها برغم ما مدحها لهم صولون.
والعجيب في هوميروس أنه لم يبال أن ينحط بالمرأة اليونانية إلى مستوى دون مستوى المرأة الطروادية بمراحل هائلة، لقد جعل المرأة اليونانية متاعا شائعا وغرضا تتحيفه لبانات الرجال؛ فهيلين زوجة منلوس ملك أسبرطة تفر مع باريس إلى طروادة دون أن تتأبى أو تتمنع. ثم تشب الحرب بسببها فلا تحاول مرة أن تفر إلى معسكر اليونانيين. بل تظل طوال السنوات العشر متعة حلالا لباريس، وتنتهي الحرب وتضطرم النار في طروادة وتعود هيلين إلى أسبرطة فلا تثور نخوة منلوس ولا يضطرب قلبه بقليل من غيرة الرجال.
أما بنلوب فقد ضربت المثل الأعلى لحفاظ المرأة ووفاء الزوجة، لكنها مع ذلك عوملت من أمراء هيلاس معاملة عجيبة مضحكة تدعو إلى السخرية التي فاجأ بها المصريون القدماء المشترع صولون، وإلا فما هذه العصبة من العشاق لمعاميد تحتل منزل أودسيوس؛ فتريغ خيره وتأكل زاده وترتع في شرفه وتستبيح عرضه ؟! أكانت منزلة المرأة عند اليونانيين - ولو في عصر هوميروس - بهذه الدرجة من الهوان؟! زوجة ملك إيثاكا تكون بطلة هذه المأساة الغرامية الوضيعة، وقد قدم هوميروس من خيوس لينشد ملحمته في المدائن اليونانية ليسمع أهلوها كيف كان أسلافهم يعاملون زوجة بطل أبطالهم؟!
Unknown page