41

ذهب المناول وعاد ومعه القهوة ويصحبه رجل آخر لعله صاحب المقهى، وحاول الاثنان حمل صاحبنا على العدول عن الجلوس في تلك الغرفة الخاصة، قائلين له إنه لا مانع من أن يشرب قهوته هناك، أما بعد ذلك فالأفضل له أن يجلس حيث الناس كثيرون.

لم يلق لهما بالا، وأخرج من جيب سترته كتابا صغيرا، وراح يقرأ كأن لم يكن واقفا إلى جانبه أحد.

ولبث هناك نحو ساعة، والباب مغلق عليه وحده، وإذا بالباب يفتح فجأة وبعنف شديد بيد رجل ضخم دخل الغرفة وهو يضحك بأعلى صوت تستطيع أن تخرجه حنجرة بشرية، ووراءه اثنان يضحكان معه في صوت خفيض كأنهما أرادا أن يكونا بمثابة البطانة الضاحكة التي تحيط بضحك الزعيم لتبرزه؛ لكن ذلك العجل البشري الهادر المنقض على الهواء أمامه كأنه يريد أن يبتلعه كله في جوفه الكبير، ما كاد يخطو بإحدى قدميه داخل الغرفة حتى رأى صديقنا الأحدب يفرد منظاره على عينه اليسرى، وقد جلس في ركن الغرفة يقرأ، لا يحرك ساقا ولا ذراعا، ولا يخرج عينه من وراء صفحات الكتاب.

وقف الثلاثة لحظة، راح العجل البري خلالها يلفظ من فمه خوارا غير مفهوم، ثم صفق بكفيه تصفيقا مدويا، جاء على إثره المناول اليوناني يهرول. - ما هذا؟ أيباح للجمهور استخدام غرفتنا؟

المناول :

يا سعادة البك المأمور، أتعبنا أنفسنا معه فلم يخرج.

المأمور :

إذا جاءت بقية الإخوان فقل لهم: إننا مجتمعون في منزل البك وكيل النيابة.

وخرج الثلاثة ولم يعودوا، ومنذ تلك الليلة أصبحت الغرفة الخاصة غرفة للمدرسين؛ فقد سمعوا بالخبر وهم في بهو المقهى، وجاءوا فجلسوا مع الأحدب يشدون أزره ويؤيدونه؛ أما الأحدب فلم يكن يعنيه ذلك؛ لأن ارتياد المقهى لم يكن جزءا من حياته؛ وأما رجال «الحكومة» فلم يعد أحد يراهم هناك، وقيل إنهم اتفقوا على أن يجعلوا من بيت وكيل النيابة الأعزب مقرا جديدا لهم. •••

سمعت هذه الرواية عن الأحدب أيام شبابه، فكنت كمن يصحو من حلم، يختلط عليه الأمر بين ما يراه ويسمعه في دنيا الواقع من قوله، وبين أشياء مرت به في الحلم! وذلك أني كنت وأنا أنصت في القطار لما يقص علي صديقي فريد، أحس إحساسا غامضا بأن تلك الأحداث كلها وتلك الأحاديث كلها إنما حدث لي مثلها وتحدثت بما يشبهها، وإن في ذلك لسرا غامضا لم أتبين حقيقته إلى يومي هذا.

Unknown page