مقدمة الطبعة الثانية
1 - أحدب النفس
2 - حصان من الحلوى
3 - أطلال دوارس
4 - فاوست في قبضة الشيطان
5 - حلم ليلة في منتصف الصيف
6 - الكاتب الظل
7 - موت في أسرة الأحدب
8 - التوائم الثلاثة
9 - شفق الغروب
Unknown page
خاتمة
مقدمة الطبعة الثانية
1 - أحدب النفس
2 - حصان من الحلوى
3 - أطلال دوارس
4 - فاوست في قبضة الشيطان
5 - حلم ليلة في منتصف الصيف
6 - الكاتب الظل
7 - موت في أسرة الأحدب
8 - التوائم الثلاثة
Unknown page
9 - شفق الغروب
خاتمة
قصة نفس
قصة نفس
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة الطبعة الثانية
صدرت «قصة نفس» في طبعتها الأولى سنة 1965، وكان الكاتب قد بناها على مبدأ فني ارتآه لنفسه إذ ذاك؛ وهو أن يروي قصة تلك النفس من الباطن لا من الظاهر؛ بمعنى أن يكون محور الاهتمام بالخلجات الداخلية قبل أن يكون بالأحداث الخارجية؛ فتلك الأحداث الخارجية على مرأى من الناس ومسمع؛ وأما التأثرات الداخلية التي استثارتها تلك الأحداث في دخيلة النفس، فتحتاج إلى بصيرة نافذة إلى العمق.
لكن لما كان جزء كبير من خلجات النفس في استجابتها للظروف والعوامل المحيطة بها، هو مما يود صاحب تلك النفس أن يخفيه عن الناس؛ فقد اضطر الكاتب إلى اللجوء إلى الرمز؛ فلا الأشخاص يذكرهم على حقائقهم وأسمائهم، ولا الأحداث نفسها يصورها دائما كما وقعت بالفعل.
غير أنه - أعني الكاتب - كان كلما أحس أن الرمز قد تكثف حتى كاد يفقد شفافيته ودلالته، تعمد أن يلقي في سياق الحديث اسما ما أو حادثة معينة بحقيقتها التاريخية الصحيحة، بغية أن يشد القارئ من عالم الوهم إلى دنيا الواقع.
Unknown page
وبعد أن صدرت «قصة نفس» وأصبحت في أيدي القراء، وتحول كاتبها نفسه إلى قارئ لها، بل إلى قارئ ناقد، لقيت إعجابا من جمهور القراء؛ ربما لما كان فيها من تفرد في البناء والصياغة؛ إلا كاتبها، فقد لمح فيها أوجه نقص، حين طالعها بعين الناقد؛ إذ خيل إليه أن الوحدة الفنية فيها لا تخلو من تفكك، كما خيل إليه كذلك أن انتقالها من خفاء الرموز إلى صراحة العلانية، كثيرا ما جاء انتقالا مفاجئا يحدث ما يشبه الصدمة عند القارئ، ذلك فضلا عن استرسال القصة في ذكر جوانب من تلك النفس لم يكن ينبغي لها أن تجاوز محابسها لتصبح طليقة في الهواء أمام الأبصار.
من أجل هذا، تردد الكاتب في أن يعيد طبع الكتاب، برغم إلحاح الأصدقاء؛ حتى إذا ما أوشكت عشرون عاما أن تنقضي على نشر الطبعة الأولى، وهي فترة لم يكن الكاتب عندما روى قصة تلك النفس أول مرة، يتصور أنها بقيت أمامها لتحياها ولتمتلئ خلالها بخبرات جديدة وخلجات وارتعاشات.
وطلب من الكاتب أن يقدم كتابه للنشر في طبعة ثانية، صادف الطلب - هذه المرة - هوى عنده، إلا أنه هم بما يوشك أن يكون تأليفا جديدا؛ فقد حذفت من الطبعة الأولى فصول، وأضيفت إليها فصول، وأدخلت على ما بقي من فصولها تعديلات كثيرة؛ أملا في أن تجيء صورتها الجديدة خلوا مما بدا لكاتبها أنه عيوب شاهت بها صورتها الأولى.
وكان من أقوى الدوافع التي مالت بالكاتب إلى إخراج قصة تلك النفس في صورة جديدة، أنه كان قد فرغ لتوه من كتابة قصة أخرى يروي بها حياة «عقل ما» كيف سارت وتطورت، وهو يعلم أن بين تلك «النفس» وهذا «العقل» شيئا من صلة القربى، يبرر أن يضعهما معا جنبا إلى جنب بين أيدي القراء.
وبالله التوفيق.
زكي نجيب محمود
ديسمبر 1982
الفصل الأول
أحدب النفس
«الحياة عبئها ثقيل على من أصابه في الحياة خذلان.» هكذا قال لي ذلك الرجل العجيب، الذي رأيته أول ما رأيته في زحمة الطريق عابسا، يلتمس لنفسه مسلكا بين مئات الناس الذين خرجوا لتوهم أفواجا من دار السينما، دون أن يمس أحدا منهم بمنكب أو قدم، يتأرجح في مشيته بعض الشيء، ولا يدق الأرض بعقبيه، نظراته تنحدر نحو الأرض أكثر مما تلتفت إلى أعلى أو أمام، كأنما أراد أن يتثبت قبل الخطو من وضع القدم. تبدو على خطواته السرعة وما هي بسريعة، وتشع من جبهته ومن فمه جهامة تصرف الناظر إلى وجهه عن رؤية ملامح عند النظرة الأولى، حتى إذا ما ثبت الناظر فيه عينيه، وأزال غلالة الجهامة عن صورته، رأى ملامح ثابتة غليظة: حاجبان قويان عريضان أسودان، وأنف طويل مليء، وشفتان مزمومتان، ولحية وشارب كثيفان، شعرهما سميك غليظ اختلط أسوده بأبيضه؛ ملامح تدل كلها على المضاء والحدة والبأس الشديد، لولا أن عينيه تفضحانه فضيحة كبرى؛ إذ تنطقان بأجلى بيان أن الرجل هادئ وادع مستسلم مستكين.
Unknown page
رأيته يمضي في مزدحم الطريق، وقد حمل على ظهره ما خيل إلي أنه ربطة كبيرة بيضاء، شبكها برباط تحت إبطيه لتظل حركة الذراعين حرة، فيطوحهما حينا، ويضع إحداهما في جيب سرواله حينا؛ إنه رجل عجيب يستوقف النظر بين جمع الناس الذين ملئوا الطريق؛ يبدو من دونهم جادا مهموما صامتا، كأنه ينطوي على شيء. ثم ما هذا الحمل الذي حمله فوق كتفيه!
تعقبته مستطلعا، فرأيته يخلص من قلب المدينة إلى طرف من أطرافها بعيد، وهنالك في مكان تغلب عليه الظلمة إلا من شعاع خافت جاءه من مصباح الطريق خلال أوراق الشجر، جلس على جدار لم يتم بناؤه، جلس والحمل على كتفيه، يتململ ويتأرق، ويرتكز على ذراعه اليمنى مرة وعلى ذراعه اليسرى مرة أخرى، والحمل ما زال قائما على كتفيه، فسعلت سعلة خفيفة لأشعره بوجودي على مقربة منه حتى لا يفزع إذا ما دنوت منه؛ ذلك أني خطوت إليه وحييته، قلت: هذا مكان هادئ يوحي بالتأمل.
قال، وقد هزته المفاجأة: نعم، تشعر بهدوئه إذا أويت إليه من قلب المدينة الصاخب.
قلت: إني لأعجب أن أراك ها هنا؛ فما كنت أحسب أحدا سواي يفكر في هذا الركن الهادئ البعيد.
قال: بل العجب عجبي أن أراك؛ فأنا أقضي في هذا الركن المعزول أكثر ساعات المساء، فما رأيتك قبل اليوم وما رأيت أحدا سواك، إنني آوي إلى هذا المكان لأستريح.
قلت: لكنك فيما أرى لا تريد لنفسك الراحة؛ فحملك ما يزال فوق كتفيك.
قال: ما يزال؟! وهل عرفت أنه من الأحمال التي لا تلقى عن الكتفين إلا إذا فاضت الروح؟ أنا قائم به وقاعد به ونائم به ومستيقظ به.
قلت: وماذا عسى هذا العبء الثقيل أن يكون ؟
قال: إنه عبء الحياة؛ أما ترى؟ هو عبء الحياة، وقد أنقض والله كتفي، إنه ثقيل على من أصابه في الحياة خذلان.
قلت: إذن فهو حمل نفيس.
Unknown page
قال: ليست نفاسة الحمل بمانعة من أن يكون ثقيلا؛ فالحمار الذي ينوء تحت أثقاله لا يعبأ أن تكون أثقاله تلك من ذهب أو من حطب.
قلت: ولكنك تستطيع أن تلقيه عن كاهلك إذا أردت.
قال: كيف أستطيع؟ إنه متصل بالروح مرتبط بالجسد؛ إن رئتي لتعلوان وتهبطان في صدري كأنهما منفاخ الحداد لا يفتر عن النفخ ليظل للنار وهجها واشتعالها، فلا مناص من أن تظل جذوة الحياة مشتعلة بين جنبي - رضيت أم كرهت - وقد أتمنى لهذه الجذوة المتأججة اللاذعة المحرقة أن تنطفئ فتصبح رمادا تذروه الأعاصير كيف شاءت على يابس أو ماء.
قلت: وما لرئتيك ولهذا الحمل الذي على كتفيك؟
قال: العلاقة بينهما وطيدة وثيقة؛ فهذا الحمل أطرافه في جوفي، وهو مشدود هناك إلى أوتاده بما هو - في الظاهر - أو هي من نسيج العنكبوت؛ ذلك أنه مشدود إليها بأنفاسي هذه التي ترددها رئتاي شهيقا وزفيرا، مشدود إليها بموجات خفية خفيفة من هواء، ولكن الويل لي من هذه الأنفاس الواهية التي تنسجها رئتاي خيوطا فتشد به هذا الحمل على كتفي لأنوء به، ووددت لو عرفت أين تكون أطراف هذا المنفاخ الذي ما ينفك يعلو في صدري ويهبط كي أمسكه عن النفخ لحظة فتخمد الأنفاس وتنحل الروابط وينفك الوثاق، وبهذا ينزاح العبء الثقيل عن كاهلي؛ إن أطرافه خفية، أمد البصر في جميع أقطاري فلا أراها، وأرهف السمع فلا يقع لها على حفيف أو رفيف، وكل ما أسمعه هو هذه النفخات تتوالى من الشهيق والزفير ما ابيض لي نهار أو احلولك ليل. إني لا أذكر الآن من هو الذي قيل عنه إنه ضاق صدرا بأنفاسه التي تتردد برغم أنفه، ثم كره أن تشعل له جذوة الحياة بهذا المنفاخ اللعين وهو راغم، فكتم أنفاسه حتى مات؛ لا أذكر اسمه الآن، لكني أكبره وأحييه، وأشعر إزاءه بالضآلة والصغر؛ لأنه رأى الرأي ففعل؛ وأما أنا فأرى ثم لا أفعل شيئا.
قلت: ما هذا الذي تراه ولا تفعله؟
قال: أرى الحكمة في التخفف من هذا العبء الثقيل، ثم لا أفعل شيئا في سبيل الخلاص منه. الحق أني لا أدري كيف يظل الإنسان مشدودا إلى ما ليس يرضيه، ثم يظل مشدودا إليه برغم أنفه، وهو عالم كل العلم أن الروابط التي تشده لا تزيد على نفخات من هواء، لو سد عليها الطريق لحظة واحدة لانتهى كل شيء.
قلت: كلا يا صاحبي؛ فالروابط التي تشدك إلى حملك هذا أقوى من هذه الأنفاس؛ فليست هي بنفخات من هواء كما ظننت، إنما هي الشعور بالواجب؛ واجب الحياة. نعم إنك تستطيع في أية لحظة شئت أن تتنكر لواجب الحياة لتظفر براحة الجسد راحة أبدية، لكنه الجحيم بعينيه أن تبث في نفسك القلق حين تتخلى عن واجب وجب عليك أداؤه بحكم وجودك.
قال: الواجب كريه أيا من كان فارضه وأيا من كان مفروضا عليه، لقد حكمت الآلهة على «أطلس» - في الأسطورة اليونانية - بأن يحمل السماء على كتفيه حتى لا ينقض بناؤها، والسماء هي السماء بأنجمها الزواهر اللوامع؛ فهل رأيت واجبا أسمى وأمجد من أن تكلف حمل السماء على كتفيك؟ وحملها «أطلس» ثم ناء بحملها، حتى إذا ما جاءه «هرقل» يسأله عن مخبأ التفاحات الذهبية التي كلف بالبحث عنها في أركان الكون وبين جنباته، والتي قيل له عنها إن مخبأها ذاك لا يعرفه إلا «أطلس» حامل السماء؛ أقول: إنه ما جاء «هرقل» إلى «أطلس» يسأله أين عساه أن يجد بغيته، حتى وثب «أطلس» إلى هذه الفرصة السانحة، ليتخلص من عبئه الذي أنقض ظهره، وقال لهرقل: لست بمستطيع أن تجدها بنفسك لأن منالها عسير، فاحمل عني هذه السماء لحظة حتى أعود إليك بها، ورضي «هرقل» مسرورا بحمل السماء حتى يحقق له «اطلس» بغيته التي لقي العناء في سبيل تحقيقها. وانطلق «أطلس» إلى حيث التفاحات الذهبية، ورآها هناك تلمع في بريق الشمس يحرسها أفعوان جبار، فتسلل وغافل الأفعوان وهو في غفوة ، وخطف التفاحات، وعاد مسرعا إلى حيث ترك «هرقل» في انتظاره يحمل السماء بدلا منه.
لكن «أطلس» حين اقترب من موضع «هرقل» تذكر بشاعة الحمل الذي حمله على كتفيه هذه القرون الطوال؛ ترى هل يفي بوعده ويعطي «هرقل» تفاحاته الذهبية ثم يعود هو إلى حيث كان تحت عبئه الباهظ؟ أو ينعم بهذه الحرية التي أتاحتها له الظروف فيتخلص من عبئه ذاك إلى الأبد؟
Unknown page
لا؛ إنه لن يعود إلى حمله ذاك، وسيحتفظ بحريته التي ظفر بها بمصادفة قد لا تعود، هكذا اعتزم «أطلس» ودنا من «هرقل» وقال له: ابق حيث أنت حاملا السماء على كتفيك، وسآخذ أنا هذه التفاحات الذهبية إلى حيث أردت أنت أخذها. فتظاهر «هرقل» بالقبول والرضا؛ أليست هي السماء بأنجمها اللوامع الزواهر؟ إذن فليحملها راضيا على كتفيه، لكنه طلب من «أطلس» أن يتفضل عليه بصنيع واحد صغير، وهو أن يحمل الحمل لحظة قصيرة، حتى يضع الوسائد على كتفيه؛ لأن ضغط الحمل شديد على كاهله، فأخذت الشهامة من «أطلس» مأخذها، وفعل ما طلب إليه «هرقل» فعله؛ وكيف يتردد في قبول العناء لحظة أخرى قصيرة، لقاء حرية يظفر بها من هذا العبء الثقيل إلى الأبد؟
ألقى «أطلس» بالتفاحات على الأرض، وحمل السماء عن «هرقل» حتى يضع «هرقل» على كتفيه الوسائد والحشايا التي تهون عليه أداء هذا الواجب الجديد الذي ألقي عليه، لكن «هرقل» لم يكد يزيح عن كاهله حمل السماء، حتى أخذ التفاحات ومضى تاركا أطلس في مكانه القديم، يشقى بأداء واجبه الذي فرض عليه بحكم وجوده.
قلت: ماذا تعني؟
قال: أعني ما قلته؛ إن عبء الحياة ثقيل، مهما تكن صورته، ولا يشدنا إليه أو يشده إلينا إلا هذه الأنفاس نتنفسها، ولو كتمها حامل العبء لاستراح من أداء هذا الواجب الثقيل.
قلت: يا صاحبي إن الحياة التي تؤرق صاحبها هي الحياة المريضة؛ فأنت لا تشعر بوجود أي جزء من أجزاء جسمك إلا إذا اعتل، إنك لا تشعر بوجود عينيك أو أذنيك أو معدتك أو قلبك إلا إذا أصابتها أو أصابته العلة ؛ أما إذا كانت هذه الأجزاء سليمة فلن تشعر بمجرد وجودها، فضلا عن أن تحس الألم من حملها. إن حياتك - فيما أرى - قد مرضت فأحسست بوجودها ثم بحملها وثقلها، كأنما هي زائدة أضيفت إليك وليست منك ولا أنت منها. ولست أعجب الآن أن أرى حياتك المريضة هذه قد برزت فوق ظهرك قتبا كبيرا.
قال: قل ما شئت فيها؛ فهي حياتي التي لا أملك سواها، وقد ضقت ذرعا بثقلها. •••
شغلني «أحدب النفس» طول الليل؛ ذلك الرجل العجيب المكتئب العابس، الذي يحمل عبء حياته قتبا بارزا على ظهره؛ شغلني طول الليل، يملأ أحلامي إذا غفوت، وتمثل صورته أمام عيني إذا صحوت، وما زلت طول ليلي بين غفوة وصحو حتى كان الصباح.
ترى لماذا يحمل هذا المسكين حياته كالدمل الكبير فوق ظهره؟ أيكون ذلك لأنه ركز انتباهه فيها فوضحت له علتها وبرز أمام عينيه سخفها؟ ولو قد تغافل عنها كما يفعل سائر الناس لسرت في دمه، وخفيت عن بصره؟ يجوز؛ كما تكرر لفظة وتركز سمعك في جرسها، فسرعان ما تنفر من صوتها المنكر، بعد أن لم تكن قد فطنت لنكره حين استخدمتها غير آبه لها ولا ملتفت إليها؛ خذ كلمة إمبراطور وكررها عدة مرات: إمبراطور، إمبراطورمبرا، طورمبرا، طورمبراطور؛ صوت عجيب منكر، ظهر نكره وشذوذه حين ألقينا إليها السمع، وكان يمكن ألا نقف عنده هذه الوقفة الفاحصة، فيظل له في النفس هيبة وجلال.
كذلك صاحبنا «أحدب النفس»؛ ربما كان الفرق بينه وبين سائر الناس أنه قد أنعم النظر في معنى حياته، فانتهى به النظر إلى أنها أنفاس فاترة واهية من هواء فاسد، لا شيء أكثر من ذلك؛ وهو لهذا يعجب كيف يجوز أن يشد وثاقه إلى الأرض بخيوط واهية كهذه على كره منه؟
وأحسست برغبة قوية في نفسي أن ألقى هذا الرجل لقاء آخر، فقصدت في المساء إلى المكان المهجور الهادئ الذي لقيته فيه أول مرة، ووقفت طويلا أرقب من بعيد، حتى رأيته يسري في غير صوت بين الظلال كأنه الشبح؛ إنك لا تخطئه من بعيد؛ فالحمل الذي على كتفيه يميزه، وله مشية خاصة يتأرجح فيها الجذع وتلتف الساقان.
Unknown page
وقفت في مكاني حتى رأيته يستقر في موضعه من الجدار الذي لم يتم بناؤه، صعد على كومة وطيئة من هشيم الصخر، ومسح جبهته بمنديل، ومال مرتكزا على ذراعه اليسرى، فدنوت منه.
قلت: السماء الليلة أكثر غماما، والدنيا أشد ظلاما من ليلة الأمس، برغم وجود القمر.
قال (ولم يرتح لرؤيتي): وماذا يصنع القمر في الدنيا إذا اسودت بظلامها وغمامها؟ إن من أراد الضوء فضيا رائعا خالصا من شوائب الظلمة، فليرتفع عن الأرض وغلافها حتى يجعل الغمام من دونه، وعندئذ لا يكون ظلام؛ لكن الإنسان مشدود إلى الأرض بأحمال وأثقال؛ لا، بل إنه لمشدود إليها بهذه الخيوط الواهية؛ مشدود إليها بنفخات من هواء؛ وإذن فلا رجاء له في ضوء أكثر مما قد يتسرب إليه خلال فتحات السحاب. العجيب في هذه الدنيا أنها بيع وشراء، فلا بد أن تدفع لكل شيء ثمنه! أتريد أن تمتد بك الحياة؟ إذن فخذ من حولك هبة من الهواء شريطة أن ترد مكانه هبة مثلها، أتريد أن تخلص من ظلام الأرض ليصفو لك الضوء؟ إذن فاصعد إلى قمة هذا الجبل العالي حتى تجاوز السحاب، عندئذ تجد الضوء وقد صفا من الشوائب، لكنك ستجد كذلك برودة الثلج.
قلت: وماذا يشقيك من غمام السماء وظلمة الليل؟ انظر إلى الدنيا بعين الفنان تر السماء الغائمة في مثل جمال السماء المقمرة، أليس ظلام الليل أحيانا أشد فتنة من ضوء النهار؟ سل العاشقين يجيبوك أيهما أفعل في نفوسهم سحرا، الليل الوسنان في ستره، أم النهار اليقظان في نشاطه وصحوه؟ سل العابدين متى تصفو لهم قلوبهم للعبادة؟ سل المفكرين متى تهدأ لهم عقولهم للتأمل؟ سل المجان متى يطيب المجون؟ سل المتآمرين لماذا يدبرون الأمر بينهم بليل؟ ... فلماذا لا تلتمس يا أخي في كل شيء وجهه الجميل؟ إن الذي ينقصك هو الخيال.
قال: الخيال الذي أهرب به من الواقع؟
قلت: ليكن ذلك، ولماذا تستعبد نفسك للواقع إذا أمكن العيش الهانئ في جو من الخيال؟ أتدري ماذا تكون المرأة الجميلة في «الواقع»؟ إنها تكون كيسا من الجلد محشوا بالقذر والبلغم ومختلف السوائل والغضاريف! أتدري ماذا تكون الصورة الجميلة في «الواقع»؟ إنها تكون خرقة من قماش صب عليها خليط من الأحمر والأصفر والأخضر أو ما شاء الله من صباغ، واهصر الوردة الجميلة بين أصابعك لترى ماذا عساها في «الواقع» أن تكون ... إن الذي ينقصك - كما قلت - هو الخيال، الخيال الذي يجعل لك من المرأة شيئا جميلا، ومن الصورة شيئا جميلا، ومن الوردة شيئا جميلا، ومن غمام السماء شيئا جميلا، ومن ظلمة الليل شيئا جميلا! لماذا تنظر إلى الأرض كما تفعل الديدان، ولا تشخص ببصرك إلى السماء كما تصنع الآلهة؟
لست أدري لماذا أخذني الاهتمام بهذا «الأحدب» فامتلأت حرارة وأنا أبادله الحديث، لقد أوحي إلي عندئذ أن هذا «الأحدب» عليل النفس، مريض القلب، كليل الحياة، وأن قوة خفية تقتضيني أن أقوم فيه ما اعوج إذا استطعت إلى تقويمه من سبيل، إنه عابس ولا بد أن يبتسم، يائس ولا بد أن ينبسط أمامه الأمل، متشكك ولا بد له أن يؤمن، أعماه «الواقع» ولا بد له أن يجاوز حدود الواقع بعين الخيال.
لكن «الأحدب» قد ضاق - فيما يظهر - صدرا بحديثي، وأخذ يعتدل في جلسته مرة، ويميل على هذه الذراع مرة وعلى تلك مرة، ويشيح بوجهه عني، كأنه يريد أن يصرف الأذن عما أقول، بيد أني لم أعد أنظر إلى موقفي منه نظرة التسلية والعبث، فلا أقل من أن أستطلع بعض سره، وأستخرج شيئا من مكنون نفسه، وسادت فترة قصيرة من سكون، ونزل عن مكانه من الجدار، وقال في صوت فيه تكلف وافتعال: أنا مضطر أن أعود وسينقطع بعودتي هذا الحديث الجميل.
قلت: الأرجح أن طريقنا واحد ولو إلى حين.
ولعله لم يطب نفسا لهذه الصحبة الثقيلة في طريق عودته، لكني تجاهلت ما يريد لنفسه من عزلة الطريق، وسرت إلى جانبه، سرنا بخطوات بطيئة خفيفة، لكن وقع أقدامنا على حصباء الرمل ومنثور الحجر. كان له رنين في ذلك الركن الهادئ البعيد.
Unknown page
قلت مستأنفا الحديث: نعم، إن الذي ينقصك هو الخيال، ينقصك مثل أعلى تعمل من أجله فينسيك الهدف مشاق الطريق.
قال (وقد ازداد تثاقلا في خطاه): أصابني مرض الخيال وعلة المثل الأعلى منذ خمسة وعشرين عاما، ولبثت آثار المرض تتراكم، حتى كان هذا النتوء الذي تراه شائها فوق كاهلي؛ في ذلك الماضي البعيد قلت لنفسي: دع عنك الواقع وخشونته وغلظته وجلافته، والتمس لنفسك سلما في دنيا الخيال تصعد على درجاته إلى أجواز السماء، إن صحبة الأصدقاء في لهوهم «واقع» فلا تأبه له، والمرأة «واقع» فلا تلق بالك إليها، والطعام والشراب «واقع» فلا تحفل بطعام أو شراب، هذا الذي حولك كله «واقع» فاخرج من نطاقه، وهناك في صومعة وقعت عليها في جوف الجبل، آثرت العيش في كنف الخيال.
ولبثت أعمر الصومعة بخيالي عاما في إثر عام، وعقدا من السنين بعد عقد من السنين، لم تكن الصومعة خالية في بصري وسمعي، كنت أرى فيها الخيال مجسما حتى لأنسى أنه من خلق أوهامي، أحدثه وأسمع لحديثه، وأتملقه ويبتسم في وجهي، وظللت في صومعتي أعبد آلهة خيالي، لا أشهد نور الشمس ولا أريد أن أشهده، ولا أرتد إلى دنيا الناس والعمران ولا أريد أن أرتد إليها، ولا أستنشق الهواء الطلق النقي ولا أريد أن أستنشقه؛ كنت على نقيض فاوست.
فقد اتفق الشيطان مع فاوست أن يمهله ردحا من الزمن، يعمل فيه فاوست ما يشاء، شريطة أن يأتيه الشيطان بعد ذلك فيتقاضى أجر إمهاله، وليس أجره بأقل من روح فاوست، وكان فاوست عند أول اتفاقه مع الشيطان يظن أنه الكاسب في هذه الصفقة، فماذا يهمه من نفسه إذا ما ترك له الحبل على الغارب عشرين سنة أو ثلاثين؟ لكن السنين انقضت، وصبر الشيطان جميل لا ينفد، وجاء الشيطان ليستل من فاوست حياته، وعندئذ فقط أدرك فاوست أنه خسر في اتفاقه مع الشيطان خسرانا مبينا؛ إذ كيف يبيع روحه بعشرين عاما أو ثلاثين، مهما يكن ما يملأ هذه الأعوام؟
وأما موقفي من شيطاني فعلى نقيض ذلك، عقدت معه اتفاقا أن أبيعه حياتي ردحا من الزمن، على أن يردها إلي بعد ذلك خصبة مليئة قوية، وذهبت إلى صومعتي تلك، لا أعرف فيها الحياة ولا أخالط الأحياء، أعلل النفس طوال السنين بأن حياتي السلبية مردودة إلي بعد حين، بعد أن تكون كل حبة فيها قد أنبتت مائة سنبلة، وفي كل سنبلة مائة حبة، فلما انقضى على غربتي عهد طويل، طلبت من الشيطان أن يفي بوعده كما وفيت له بعهدي؛ وفعل، فإذا ما يعطينيه نفخات من هواء، هي هذه الأنفاس أرددها في صدري، ثم لا شيء غير ذاك، وضحك مني الشيطان ضحكة قوية حسبت الأرض ترتج لها تحت قدمي، وها هنا ابتسمت ابتسامة من زالت عنه غشاوة الخيال لأول مرة، وأبصر حقيقة الواقع لأول مرة، وقلت لنفسي: إذن أستريح بعد هذا العناء الطويل، إن الصومعة التي عمرها لي الخيال قد باتت خاوية إلا من أصداء أنفاسي.
لكن مضجعي لم يستقم تحت ظهري حين أردت الراحة؛ لأن عهد الصومعة كان قد خلف لي هذا الورم الأليم الذي تراه بارزا عند كتفي، إنه ورم نسجته لي الأعوام طبقة فوق طبقة، كما يفعل مر الأعوام في جذوع الشجر حين يرتسم عليها حلقة وراء حلقة.
وكنا قد بلغنا العمران، وأراد «الأحدب» أن ينصرف إلى سبيله، فقلت له مودعا: إن لي معك حديثا آخر. •••
حسب صاحبي «الأحدب» حين افترقنا أني أدبرت عنه كما أدبر عني، لكني تعقبته لأرقبه وهو يلتمس لنفسه الطريق في زحمة الناس التماس الحيي الذي يخشى أن تلتقي بعينيه عينان، إنه على وعي شديد بنفسه، إن ذراعيه تحيرانه وتربكانه، فأين يضعهما؟ وذلك وحده دليل على حيرة نفسه وارتباكها، ألا إن الذراعين لتخبرانك بمكنون النفس كما تخبرك العيون والشفاه، إنه لا يمشي في ضوء المصباح إذا وجد الظلام، ولا يقصد إلى مزدحم الطريق إذا رأى الفضاء المهجور، عيناه مصوبتان نحو الأرض دائما، وقدماه تحفان الأرض حفا خفيفا.
عبر الطريق في موضع كثر فيه العابرون، إنه في العابرين بارز واضح ؛ فهو لا يفنى في الزحام، ولا يذوب في الناس، إنه فيهم كملعقة من الزيت صبت في قدح من الماء تحركها إلى أعلى وأسفل، وإلى يمين وشمال، فما تزال شيئا متميزا من الماء الذي حولها، إنه في أمواج الناس على طول الشارع لم يفقد معالمه، أخذ يعلو تلك الأمواج البشرية حينا؛ أعني أنه كان يظهر لي حينا ويختفي حينا آخر، حتى انتهى إلى شارع هادئ متباعد المصابيح.
كان ظله مروعا مخيفا، يقصر ويطول، ثم يقصر ويطول، هو الآن مطروح أمامه، وهو الآن إلى جانب، وهو الآن ممدود وراءه يتابعه ويلاحقه، وهو في كل أوضاعه أبعد ما يكون الظل عن صورة البشر، وما هو إلا أن دخل «الأحدب» دارا، بخطوات سريعة، كأنه الأرنب المذعور يأوي إلى جحره ليستكن فيه آمنا من طراد الصائدين.
Unknown page
فوقفت بغتة، ثم سرت مسرعا نحو الباب الذي قذف «الأحدب» بنفسه فيه، لم أر شيئا هناك إلا مصباحا كهربائيا خافت الضوء في الركن الأعلى من بهو السلم، إنه بناء عال من ستة طوابق أو سبعة، وحين صعدت بصري في لمحة سريعة إلى أعلاه، لم أر إلا نوافذ وشرفات، أكثرها معتم وأقلها مضيء.
من عسى هذا «الأحدب» أن يكون؟ أينطوي جنباه على سر دفين، أم أنه لا سر في الأمر، وأن كل ما في جوفه قد برز ورما على ظهره؟ لكنه شاذ غريب بغير شك، إنه قطعة منثورة وحدها، والويل كل الويل، ثم الخير كل الخير، من هذه القطع التي تنثرها عجلة الحياة بعيدا عن مركزها وإطارها، فتظل دائرة في فلك وحدها؛ فمن هؤلاء يكون الثائرون الساخطون، ومنهم يكون العظماء المصلحون، ويكون الأنبياء والأولياء، ويكون المجرمون النوابغ في إجرامهم، ويكون الفنانون المبدعون في فنهم، فما أقرب الشبه بين هؤلاء جميعا على بعد ما بينهم من تفاوت واختلاف، كسيل الماء العرم، هو الذي يصلح الزرع، وهو الذي يفسده، على حسب ما يحيط به من ظروف.
و«الأحدب» - فيما يظهر لي - قطعة بشرية منثورة وحدها، تدور في فلك وحدها، ترى من ذا يكون وماذا يكون؟ لقد بت ليلتي أفكر فيه وأفرض في أمره الفروض، وعاودني الشعور الخفي أن أصلح ما فسد، فأقيم في هذا المسكين ما التوى، وأقوم ما مال واعوج، أو قل إن حبي لاستطلاع أمره قد غلبني، فسترت نفسي وراء هذا الشعور الخفي، وتذرعت بهذا السلاح، ومضيت عصر اليوم التالي إلى الدار التي دخلها «الأحدب» ليلة الأمس، مضيت لا ألوي على شيء، وأخذت أسرع الخطو حتى لا يصرفني التردد عن غايتي.
لم أجد عند الباب أحدا، وتلفت ها هنا وها هنا، وتحركت خطوتين هنا وخطوتين هناك، ثم دخلت وصعدت الدرج مبطئا غاية الإبطاء، شاخصا ببصري إلى أعلى؛ الأبواب كلها مغلقة، صعدت الدرج حتى نهايته، ونهايته سطح نظيف، وقفت قليلا وقلبي ينبض نبضا شديدا من الصعود ومن الخوف معا، الخوف من هذا البناء المهجور الذي لا يعمره إنس ولا جن، لكني رأيت الضوء منبعثا من نوافذه ليلة الأمس، وهممت بالنزول، لولا أني بلفتة غريزية لويت عنقي ونظرت إلى نافذة مغلقة الزجاج في ركن السطح؛ إن وجها يطل من خلف الزجاج، إنه هو «الأحدب».
لم يعد بيني وبين كشف الغطاء إلا خطوات خطوتها نحو غرفة «الأحدب»؛ وفتح لي الباب قبل أن أقرعه؛ إن روعي ليهدأ قليلا قليلا، إن الخوف لينزاح عني إزاء هذا الوجه الباسم الذي فتح لي الباب ليتقبلني مسرورا مرحبا، ليس الوجه العابس في الطريق عابسا هنا، والصدر الضيق على الجدار الذي لم يتم بناؤه رحيب واسع هنا، ولولا نتوء الورم فوق ظهره لقلت إنه إنسان آخر، لقد استدر وهو في الطريق إشفاقي، لكنه في داره استثار حبي، إنه ها هنا يمزج في حديثه الجد بالفكاهة، ويقول النكتة في إثر النكتة، ويضحك من كل قلبه، ألا سبحانك اللهم، تضع الرجلين - بل تضع جمهورا من الرجال - في إهاب واحد.
إن مشكلة «الهوية» التي تحير الفلاسفة لم تعد تحيرني؛ فالفلاسفة يصدعون رءوسهم تصديعا في محاولة الجواب عن هذا السؤال: كيف يحتفظ الشخص الواحد بهوية واحدة مع اختلاف ظروفه؟ إنه يكون صحيحا ويكون مريضا، ويكون طفلا ويكون رجلا، ويكون شبعان ويكون جائعا، ويكون غضبان ويكون راضيا، ويكون يقظان ويكون نائما، ومع هذا الاختلاف الشديد الذي يطرأ على حالاته يظل إنسانا واحدا، فما الذي فيه يخلع عليه تلك الوحدانية مع تعدد حالاته وأوضاعه؟ كلا، لم تعد تحيرني المشكلة التي تحير الفلاسفة بعد أن رأيت «الأحدب» في الطريق وفي داره، فلا وحدانية هناك، ليس الرجل رجلا واحدا، ولكنه عدة رجال، هو في كل حالة رجل غير الرجل الذي يكونه في الحالة الأخرى؛ فمحال أن يكون «الأحدب» العابس الجاد المهموم الحزين الذي رأيته وتحدثت إليه وهو جالس على الجدار الذي لم يتم بناؤه، هو نفسه «الأحدب» الضاحك المرح المرحب بي وهو في داره.
أدخلني «الأحدب»، فعبر بي ردهة لاحظت خلاءها من الأثاث تقريبا، وانتهينا إلى غرفة هي مأواه، فيها كل شيء، فيها السرير وصوان الملابس ومكتب ومكتبة ومنضدة ومقاعد ومرآة؛ أثاثها هزيل لكنه نظيف، وتنسدل على النافذة ستارة رقيقة فيها خروق ممزقة، لكنك تشعر في غرفته بالطمأنينة وراحة النفس؛ وليست ديار الناس في ذلك سواء؛ فقد أزور الدار وأحس أثناء زيارتي أني أتقلب على الشوك دون أن يكون بيني وبين صاحب الدار ما يدعو إلى النفور، ثم قد أزور الدار فينبسط صدري وتطيب نفسي، وأتمنى لو بقيت فيه اليوم كله؛ وقد قلت ذلك لصاحبي «الأحدب» فور جلوسي على مقعده المريح، الذي كان - فيما يظهر - جالسا عليه لتوه؛ لأن الحشية كانت ما تزال دافئة بحرارته.
قلت: إن النفس لتحس بالطمأنينة في غرفتك هذه، والمنظر الذي يطالعك من نافذتك رائع جذاب.
قال: إذن لا أحسب الفجوة بين نفسينا عميقة كما يبدو للوهلة الأولى؛ فقد أعجبك مأواي هنا، كما أعجبك ملاذي الهادئ الذي ألوذ به خارج المدينة من صخب الحياة، إن النفوس الإنسانية لتشعر بالتقارب والتداني في حالات هدوئها، حتى إذا ما عج بها عجيج الحياة ألفيتها متنافرة متعاركة، لا عجب أن يكون الناس جميعا سواء وهم نيام، ثم يأتي الموت - وهو نوم طويل بغير آخر - فيسوي بينهم إلى الأبد.
وخشيت أن ينتقل صاحبي بذكر الموت إلى حالة من حالاته الكئيبة السوداء، فغيرت موضوع الحديث، وجعلت موضوعه أقرب ما وقعت عليه يدي فوق المنضدة الصغيرة الوطيئة التي كانت أمام مقعدي.
Unknown page
قلت: ما هذه المكعبات الخشبية الملونة المصورة؟
قال (وكان ورائي مشتغلا بإخراج الفناجين والأكواب من خزانة خشبية صغيرة في ركن غرفته): تلك لعبة من لعب الأطفال اشتريتها لألهو بها، إنها مكعبات ترص فتكون صورا لا نهاية لعددها.
ودنا مني «الأحدب» وأشار بأصبعه إلى اللعبة وقد رص ما يقرب من نصفها، فإذا هي صورة حصان عليه راكبه، ولم يبق من الصورة إلا أرجل الحصان.
قلت: أحسبك كنت في سبيل إتمام الحصان بأرجله؟
قال: هذا ما حرت فيه، حاولت عبثا منذ ساعة الغداء. فلم تستقم للحصان أرجل، حتى لقد مللت فوقفت أنظر من نافذتي حين رأيتك قادما.
قلت: وما فائدة الحصان بغير أرجله؟ إن راكبه المسكين سيظل مشلول الحركة حتى تتم لحصانه الأرجل فيسير.
هنا وضع «الأحدب» قدحين كانا في يده، وضعهما على ظهر مكتبه، وجلس، إنه ساعتئذ هو نفسه «الأحدب» الذي رأيته هناك على الجدار، وهو نفسه «الأحدب» الذي رأيته في الطريق، وليس هو «الأحدب» الذي تلقاني بالبشر والترحاب؛ لقد عبس وجهه وتجهم، ثم استرخى استرخاء من فقد القدرة على الوقوف والحركة، وابتسم لكنها ابتسامة غير التي لقيني بها؛ فهي ابتسامة صاحب النفس المريضة المعبأة بالهموم؛ ألا ما أسرع التغير في سماء هذا الرجل؛ صفو في لحظة وغمام كثيف في اللحظة التي تليها.
قال: لعل ذلك بعينه هو ما أعجزني عن إقامة الحصان على قوائمه، وإذن فما أشبه جد حياتي بلعبها! كأني بك يا صديقي قد أتيتني لتستطلع شيئا من أمري؛ فهذا هو أمري قد انكشف لك في لحظة واحدة؛ ففي هذا الحصان المقعد تتلخص قصة حياتي، ولكل امرئ جواده، ومن الجياد ما يستقيم على قوائمه فيسرع الجري، ومنها ما تعوزه الأرجل فيقبع؛ وجواده كسيح، فجسمه هنا وأرجله هناك، لكن بصري يقصر دون أن يلتمس للأرجل مكانها من البدن، وليس النقص في الأجزاء ولكن النقص في المهارة التي تقيم بناءها، إن الذي يرى أحرف الهجاء أمامه ولا يستطيع أن ينشئ منها قصة أو قصيدة يكون العجز فيه ولا يكون العيب في الأحرف.
قلت: دع عنك الآن هذا الحصان ولعبته، وانظر ماذا أردت أن تضع في هذين القدحين من شراب ...
لكنني صممت أن أستطلع قصة «الأحدب» لعلي أرد هذا الحدب الذي تورم به ظهره إلى عناصره.
Unknown page
الفصل الثاني
حصان من الحلوى
أخذت أحفر تحت هذه النبتة الملتوية لأتعقبها إلى جذورها العميقة الدفينة في تربة الأرض، لعلي بذلك أصل الخيوط بين الأول والآخر، بين البداية والنهاية، بين البذرة والثمرة، بين الجرثومة والمرض، بين ظروف النشأة الأولى وهذا القتب فوق كتفي صديقنا الأحدب المسكين.
فربطت أواصر الصداقة بيني وبينه، أزوره كلما واتتني الظروف، ويأنس لزيارتي ولصحبتي، ولم تكن الصحبة إلا إلى ذلك الملاذ الهادئ، خارج المدينة بعد الغروب، وتركت الحديث بيني وبينه يجري مجراه الطبيعي ليخرج لي بعض المعالم التي كنت أستند إليها في متابعة بحثي بعيدا عنه: فأين كان مولده، وأين نشأ وتربى، ومن هما والداه، ومن هم الذين أحاطوا به في مراحل حياته؟ وكنت خلال ذلك كله أتلمس اللحظات التي ظننتها تكون من حياته معالمها.
فليست اللحظات في حياة الإنسان كلها سواء من حيث فعلها في توجيه الأحداث؛ فمنها ما قد يمضي ولا أثر له، ومنها ما يكون له من بعد الأثر وعمقه ما يظل يؤثر في مجرى الحياة إلى ختامها، وإن النظر إلى حياة الإنسان بمجموعة أحداثها لكالنظر إلى مشهد طبيعي أو إلى صورة فنية؛ فالعين لا تبدأ النظر من حافة الإطار اليمنى ثم تسير في خط أفقي مستقيم حتى تنتهي إلى حافة الإطار اليسرى، بل إنها لتقع أولا على نقطة بارزة هنا أو هناك، كشجرة على يمين الصورة أو جبل على يسارها، أو قمر ساطع في وسطها، ثم من هذه النقطة ينساب البصر في مختلف الاتجاهات؛ فكأنما هذه النقطة البارزة ينبوع تفجرت منه بقية الأجزاء، وهكذا يكون النظر إلى حياة إنسان بمجموعة أحداثها، فعندئذ أيضا يتجه الانتباه إلى لحظات بارزات. كانت حاسمة في توجيهها، ومن تلك اللحظات ينساب البصر إلى سهول تلك الحياة ووديانها.
ولم تكن لحظة الميلاد - بالنسبة لصاحبنا الأحدب - واحدة من لحظاته الحواسم، فكأنما هي جزء من حياة غيره أكثر منها جزءا من حياته، إنه يحددها بشهادة الميلاد، مفترضا الصدق فيمن كتبها ومن أملاها؛ لأنه لا يملك في دخيلة نفسه دليلا على صدقها أو على كذبها، ولو احتكم إلى حياته الباطنية لما وجد فرقا بين أن يكون قد عاش على ظهر الأرض خمسين عاما أو خمسة آلاف عام، فكل الشواهد التي يستدل بها على مدى ما قد عاشه من سنين، شواهد خارجية ليس فيها شاهد باطني واحد؛ إن ذاكرته لا تقفل راجعة إلى ساعة ميلاده.
وإذن فالأمر كله مرهون بشهادة غيره، فهكذا يقول الوالدان، وهكذا تثبت دفاتر الحكومة. •••
إن ساعة الميلاد الحقيقية هي أول ما تستطيع الذاكرة أن ترتد إليه، ولقد جعلت «الأحدب» يكد الذاكرة كدا راجعا القهقرى، لعله يظفر بأولى لحظات خبرته الحية، فوقفت به عند ليلة مظلمة شديدة الظلمة، حين عاد به أبوه من القاهرة إلى بلده في الريف، وهو بلد يقع في شمالي الدلتا بالقرب من البحر، وكان المسافر إليه يركب القطار إلى أقرب محطة في البر الغربي من فرع دمياط، ثم يستقل مركبا يعبر به النيل إلى ضفته الشرقية منحرفا بعض الشيء إلى جنوب، حتى إذا ما رسا أمام القرية المطلة على النيل صعد جسرا، وفي صعود صديقنا الأحدب ذلك الجسر مع أبيه في تلك الساعة المعتمة من جوف الليل. كان الطفل - وهو عندئذ في الرابعة من عمره - يحمل ربطة فيها حصان من حلوى المولد النبوي، اشتراه له أبوه أثناء الطريق، صعد الصبي الجسر مع أبيه، حلواه في يسراه وأبوه يجذبه من يمناه، وكلاهما يتعثر في الصعود وتنغرس قدماه في الحصى والتراب، فقال له أبوه - وهما في طريق الصعود يتعثران ويلهثان - كأنما أراد بقوله أن يخفف من حدة الصمت ومن شدة المجهود: «أريد أن أراك رجلا عظيما»، ولم يكد ينطق بحرف الميم في آخر عبارته حتى سقط الصبي على وجهه، فانفلتت يده اليمنى من قبضة أبيه، وانفلتت ربطة الحلوى من يده اليسرى وتهشم ما فيها، فأنهضه أبوه والتقط له الحلوى المهشمة التي كان غلافها الورقي قد تمزق من بعض جوانبه، فتسرب شيء من التراب والحصى إلى داخل، وتسرب شيء من الحلوى إلى خارج.
قص علي «الأحدب» هذه القصة، وأردف يقول: «لست أدري ما الذي دار في رأسي عندئذ، لكنني حتى هذه الساعة لا أقرن الكثير الذي رجوته لنفسي أيام الصبا، بالقليل الذي حققته منه في الواقع، إلا وأذكر على الفور تلك الحادثة، ترى هل كان هذا هو الخاطر الذي طرأ لي عندئذ - ولو بصورة مبهمة غامضة - أعني هذه المفارقة المؤسفة بين الأمل الذي عبر عنه والدي، وهو رغبته في أن يراني رجلا عظيما، والخيبة العاجلة التي جاءت كالإجابة الهازئة من قدر ساخر، أقول: ترى هل كانت هذه المفارقة الحادة بين الرجاء المأمول والخيبة الواقعة هي البذرة الأولى التي منها انبثقت على مدى حياتي هذه الرغبة الملحة في الوصول ثم هذا الشعور القوي بأنني لم أصل؟»
قلت للأحدب: ليست هذه حالة خاصة بك أنت وحدك، برغم هذه القصة التي قصصتها، فمن خصائص الطبيعة الإنسانية كلها هذا التطلع الذي يتشوف وراء الكائن الفعلي المحصل إلى ما هو غائب مجهول مرتقب، نعم إن من خصائص الطبيعة الإنسانية كلها هذا القفز من المتحقق بالفعل إلى ما يجب أن يتحقق، هذا القفز من الواقع إلى الممكن، من المكسوب إلى المأمول؛ فهذا التطلع من الإنسان، تطلعا يجاوز به دائما حدود الواقع إلى عالم الممكن، هو الذي يدفع به من حالة النقص إلى حالة الكمال.
Unknown page
قال: لكني ما زلت أتساءل: لماذا كلما رأيت الفرق شاسعا بين ما رجوته لنفسي وبين ما حققته، وثبت إلى ذاكرتي عبارة أبي في تلك الليلة التي طمست بظلامها معالم الأشياء على مرتقى الجسر، مصحوبة بعثرتي التي عفرت وجهي وهشمت حلواي؟
كنت عندئذ في زيارة «الأحدب » عصر يوم من أيام الجمعة، ولما كانت نافذة غرفته مطلة تجاه الغرب، فإن أشعة الشمس قد سبقتني إلى غرفته، وفرشت له الأرض بمستطيل من ضوئها، دخلها خلال الستارة الرقيقة فكان رمادي اللون إلا عند بقع صغيرة تقابل خروق الستارة، وكان الشهر في أوائل الصيف، فلم تكن حرارة الشمس من الضعف بحيث تحتمل الجلوس في مستطيل الضوء، كما لم يكن في الغرفة إلا تلك النافذة الغربية فكان لا بد من تركها مفتوحة؛ ولذلك فقد جلسنا على كرسيين متباعدين بعض الشيء، يقع مستطيل الضوء بينها، فكان وهو يقص علي قصة الحصان المهشم، يميل على كرسيه أحيانا ويشير بذراعيه، فيحدث ظلا على مستطيل الضوء كثيرا ما كان يتخذ أشكالا غريبة، حتى لقد جعلت أنصت إليه بنصف انتباهي، وأتتبع تلك الأشكال الغريبة بالنصف الآخر؛ فالظل أحيانا على شكل بجعة تمط عنقها الطويل، وأحيانا أخرى على شكل أرنب مقع، وأحيانا ثالثة يصبح كالطائر الذي نشر جناحيه.
ولعلي قد تعمدت أن ألهو بهذا الظل وأشكاله حتى لا أربكه بتركيز انتباهي كله فيما يقول، فينطلق مر العبارة، ناضحا ذكرياته البعيدة من أعماق نفسه، ولقد اعتقدت أني بهذه القصة الصغيرة التي رواها، وقعت على مفتاح شخصيته التي أردت فتح مغاليقها والكشف عن أسرارها.
كان عند «الأحدب» جهاز صغير يصنع فيه الشاي وهو في غرفته، وهو إناء ذو قابس كهربائي، يضع فيه الماء فلا يلبث أن يغلي بحرارة الكهرباء، ولم يكد ينتهي من قصة الحصان، حتى نهض فملأ الإناء من صنبور في البهو، ووضع القابس في مقبسه من الحائط، وراح يخرج فنجاني الشاي من خزانتهما الصغيرة، ومعهما سائر الأدوات، حتى إذا ما أعد كل شيء وجلس على مقعده، نظر إلي فكأنما راعه صمتي وتصويب نظري إلى مستطيل الضوء لا أتحول عنه؛ لأنني كنت لا أزل أراقب ظل الأحدب وهو يعبر الغرفة، لأستخرج منه بخيالي كل ما استطعت من صنوف الحيوان.
ناولني فنجاني، وراح يقول استئنافا لحديثه السابق: إني لأذكر الآن موقفا آخر في طفولتي، وكنت عندئذ في الخامسة من عمري ...
قلت في هدوء: وكيف عرفت أنك كنت في الخامسة؟
قال وهو يبتسم: إنني أعتمد في تحديد مراحل عمري بالنسبة إلى الحوادث الباكرة في حياتي على المساكن التي سكناها؛ فالحادث الفلاني قد حدث ونحن في المنزل الفلاني، والحادث الآخر قد حدث ونحن في المنزل الفلاني، وهكذا، ثم أحدد تواريخ سكنانا في هذا المنزل أو ذاك مستعينا بشواهد معينة من تاريخ أسرتنا.
فقد كنا - وأنا في نحو الخامسة - نسكن منزلا في حي المنيرة بالقاهرة، أذكره الآن جيدا، وأذكر «خالتي أم محمد» - صاحبة المنزل وصديقة الأسرة - وهي تسكن منزلا على السطح، وأمام منزلها مسطح كبير مفتوح إلى السماء، فيه ينشر الغسيل، وفيه دكة خشبية كبيرة مشققة الألواح من لفحة الشمس، وتحتها تربض سلحفاة كبيرة، ولكم دخلت تحت هذه الدكة أمد ذراعي بين إقدام وإحجام حتى ألمس ظهر السلحفاة لمسة خفيفة ثم أسرع خارجا وأنا أقهقه قهقهة الغازي المنتصر.
وفي شقة من ذلك البناء كانت تسكن الأسرة، وقد حدث ذات يوم أن زارنا رجلان من الأهل أو من الأصدقاء لا أدري، لكن أحدهما ما تزال صورة شاربيه عالقة بذاكرتي، لا لكبر فيهما، ولكن لاهتزاز في أطرافهما غريب كلما حرك الرجل شفتيه بالكلام أو بالضحك، ودعاني أبي من الداخل لأحيي، وكان قد حفظني عن ظهر قلب ماذا أقول عند التحية وبماذا أرد التحية، وكثيرا ما كنت أخطئ فألقى اللوم إما ساعتها أو على انفراد، كما حدث يوما حين ناولني أحد أصدقائه شيئا قائلا: تفضل، فأجبته بكلمة «العفو»، وأعاد الرجل قوله «تفضل» وهو يضحك، فأعدت جوابي بكلمة «العفو»، فأمهلني أبي حتى انفرد بي وأخذ يقرعني على هذا الخلط المعيب الذي خلطت به كلمة «العفو» بكلمة «متشكر».
دعاني أبي يومئذ من داخل البيت لأحيي ذينك الرجلين، وحييتهما بما حفظت من عبارات التحية.
Unknown page
فقال صاحب الشارب الراقص: هل تذهب إلى المدرسة؟
قلت: نعم.
قال: اتهج اسمك.
قلت: ر ي ا ض: رياض.
قال: ما شاء الله.
فأراد أبي أن يزيد الصورة جلاء، وسألني سؤالا في الحساب، لكني لم أسرع له بالجواب، فضربني بكتاب ضخم على رأسي، فقال صاحب الشارب الراقص وهو يضحك: «أهكذا تضربه بالدنيا كلها على رأسه؟» ولم أفهم لهذه العبارة معنى ساعتئذ، لكني أذكر كيف عز على نفسي أن أضرب بالدنيا كلها على رأسي، فانفجرت باكيا، كما يحدث كثيرا للطفل أن يبكي مؤخرا؛ فقد يصاب ويجرح وهو لا يدري، حتى إذا ما نبهوه أن دماءه تسيل، أخذ في البكاء؛ ودارت الأيام، وجاء يوم كنت فيه تلميذا بالمدرسة الابتدائية، وتسلمت الأطلس الجغرافي بين ما تسلمته من الكتب أول العام الدراسي، وأخذت أقلب صفحاته وأدير فيها البصر معجبا بألوانها، فإذا جاري يهمس لي: «هذه هي الدنيا كلها في هذا الكتاب بين يديك»، فعندئذ فقط فهمت الجملة التي قالها صاحب الشارب الراقص. انفجرت باكيا لتلك الجملة ولم أفهمها، فطلب مني والدي أن أكف عن البكاء، ولما عجزت عن طاعته، صفعني وأعاد لي أمره بأن أكف عن البكاء، ولست أدري الآن كيف استطعت أن أقف البكاء، لكني فعلت، وأعاد والدي سؤاله الحسابي من جديد وأراد الجواب السريع، لكني كنت في هذه المرة أعجز عن الجواب مني في المرة الأولى، فحملني بين ذراعيه حملا، وقذف بي خارج الغرفة كما يقذف اللاعب بالكرة، وقال متجها نحو صاحب الشارب الراقص في نغمة هادئة: لن يعيش لي ولد خائب، فإما أن يفلح أو يموت.
كنت والأحدب يقص علي هذه القصة الثانية أشخص له ببصري، وأتتبع انفعالاته على وجهه، والابتسامة الخفيفة لم تزل على شفتيه، لكنه كان يروي ويمثل الأحداث بيديه وذراعيه ولفتات وجهه، وفنجان الشاي في يدي، وفنجان الشاي في يده، فلا شربت ولا شرب، حتى فرغ، وضحكنا معا، وأخذنا نشرب لا أتكلم ولا يتكلم، وأبصارنا مرسلة خلال النافذة، ووجهانا مبتسمان، وكان مستطيل الضوء قد امتد حتى أخذ طرفه الداخلي يصعد على الجدار المقابل، وزحزحنا كرسيينا قليلا لنكون في الظل، فبعدت المسافة بيني وبينه، لا أدري ماذا كان في رأسه عندئذ؛ وأما أنا فقد ازددت يقينا أنني وقعت على المفتاح، فها هو ذا رجل قد شد بصره منذ الطفولة نحو الممكن لا نحو الواقع، فكلما حدث واقع وتحقق، توقع ما وراءه وهو يائس، وكلما قصرت قدرته مرة دون بلوغ الممكن - ولا بد أن تقصر؛ إذ «الممكن» ما ينفك يتراجع أفقه خطوة فخطوة إلى الوراء - تكونت على ظهره طبقة رقيقة من الهم؛ ولبثت الطبقات تتراكم على مر السنين، فإذا هذا القتب الذي يحمله فوق ظهره، مشحونا بهموم حياته كلها، لا يخفف منه ما يصيبه من نجاح؛ لأن عينيه لا تنظران أبدا إلى ما قد تحقق، إنما تمتدان إلى ما لم يتحقق والذي كان من الممكن أن يكون. •••
كانت الشمس قد دنت من الغروب، وزيارتي قد طالت عند الأحدب أكثر مما قد عودته وتعودت، لكني وجدتها فرصة سانحة أن يستطرد في ذكريات طفولته، فتذرعت بذريعة الشمس الغاربة ورغبتي في أن أرى الشفق من سطحه ذاك الذي تقع فيه غرفته، فسألته هلا أذن لي في أن أقف معه قليلا خارج الغرفة حتى نشهد غياب الشمس وراء الأفق؟ وخرجنا معه من غرفته، فحانت مني التفاتة إلى جلدة كتاب ملقاة كما اتفق، كتب عليها «رياض عطا» فعرفت بذلك اسمه كاملا؛ إذ لم يتبرع هو قبل ذاك أن يذكر لي اسمه ولا طلب مني أن يعرف اسمي، كأنما نحن فكرتان مجردتان التقتا في ذهن إنسان، أو كأننا شبحان من الأشباح التي تذكر بنوعها لا بأفرادها التي تعينها الأسماء، وحتى تلك الساعة لم أكن قد عرفت ماذا يعمل هذا الأحدب، ومم يكسب قوته وأين يقضي بياض نهاره.
وما كدنا نقف على السطح المكشوف متكئين على حافته التي تعلو إلى نصف إنسان واقف، حتى أثرت حديث طفولته من جديد، حافزا له أن ينطلق في ذكرياته، بأن أخذت أمدح فيه هذه الذاكرة التي ما زالت تعي حوادث كهذه قد طال عليها الأمد، مع أنني مهما كددت الذاكرة إلى ذلك العهد البعيد فما تعود إلي بشيء ذي بال.
فأحس بشيء من الزهو بنفسه، واستطرد يقول: إن من الأحداث التي وقعت لي وأنا في نحو الخامسة - وأستطيع تحديد هذه السن بتاريخ سكنانا عند مدخل درب الجماميز من ناحية قسم بوليس السيدة زينب - حادث سرقة، اشتركت فيه معي ابنة عمي - وكانت في مثل سني - فقد كان أبي وعمي وأسرتاهما يسكنان شقة واحدة، ولبثا حريصين على هذه المشاركة في السكن الواحد أعواما طويلة، وساعدتهما ظروف الحياة على أن ينتقلا معا كلما انتقلا، وأن يستقرا في بلد واحد كلما استقرا.
Unknown page
كان على ناصية الشارع والميدان بقال يرص أكياس الحلوى على نضد رخامي سميك يمتد ما امتدت فتحة الدكان إلا منفذا صغيرا على يمين الداخل، ولو وقف الصغير ذو الأعوام الخمسة ملصقا جسده بالنضد الرخامي من جانبه الخارجي في الطريق، لما رآه صاحب الدكان من داخل، ثم لو رفع مثل هذا الصبي ذراعه، ومد أصابعه وشب على أطراف قدميه، استطاع أن يمسك كيسا من أكياس الحلوى المرصوصة عند حافة النضد، فيجذبه ولا يراه صاحب الدكان، خصوصا إذا أحسن الصغير اختيار اللحظة الملائمة.
ولست أدري كم مرة وقع منا هذا الاختلاس، لكن المرة الواحدة التي أذكرها ذكرا ناصعا، قد كانت ذات صباح - ولا بد أن قد كان الوقت صيفا؛ لأن خلفية الصورة التي أذكرها الآن مليئة برجال الشرطة وقد لبسوا بدلاتهم البيضاء، وقوفا أو سائرين في حركته بطيئة عند مدخل قسم البوليس القريب من ذلك الدكان، فما كدنا في تلك المرة نجذب الكيسين بأصابعنا كما كنا نفعل، حتى نزلت عليها يدان كل يد منهما تمسك بواحد منا، وقبضتا على أعناقنا قبضا وأخذتا ترجاننا رجا، ونصعد بوجهينا إلى أعلى لنرى ما الخبر وكيف حم هذا القضاء، فإذا عينان تلفظان الشرر وشاربان يهتزان على شفة راجفة من شدة الغضب، وفي أحرف متقطعة من شدة الانفعال، قال الرجل - وهو صاحب الدكان - إنه لبث أياما طويلة يعجب بأي أيد خفية تختفي أكياس حلواه، حتى قبض علينا متلبسين، فأخذنا نستعطف الرجل ونعده بالثمن، زاعمين له أن لم يسبق تلك المرة مرات ماضية، وأننا كنا نأخذ ما نأخذه عندئذ شراء لا سرقة، فأطلق سراحنا متوعدا أن يبلغ الأمر إلى والدينا، وقد كان بيتنا مجاورا لدكانه، فكان يرى الوالدين وهما يخرجان من البيت ويدخلان فيه.
إذن فقد قضي الأمر ونزلت الصاعقة! فما الفرق بين أن يعلم أبي بالأمر وبين الموت؟ تسللت إلى البيت خفية كأني الظل، وزحفت تحت السرير حيث قبعت هناك من الصباح إلى ساعة متأخرة من الليل. كانت الشقة التي نسكنها مظلمة، وكانت غرفة السرير أشد ظلاما، ثم كان ما تحت السرير كأنه الليل الدامس، وحسبت أني قد أصبحت من الخطر في مأمن، وإذا كنت أذكر جيدا، فإني أذكر أنني في مخبئي ذاك لم أشعر بخوف، كأنما الطامة قد بلغت بهذا الملاذ ختامها، لكن لم يمض طويل وقت حتى سمعت أصوات المتحدثين في غرف الدار وفي بهوها، من أب وأم، إلى عم وامرأة عم، يسألون: أين رياض؟ ثم يتوجهون بالسؤال إلى ابنة عمي مرة بعد مرة بعد مرة، كأنما المرة الواحدة أو المرتان لا تكفيهم سؤالا: لقد كان رياض معك في الصباح فأين ذهب؟ فتجيب ابنة عمي قائلة في كل مرة يوجهون إليها السؤال: تركته أمام الباب في الشارع، ولا أدري بعد ذلك شيئا.
إنني لا أزال أذكر حتى هذه الساعة، أذكر كيف أخذ الفزع يزداد بهم شيئا فشيئا، فتارة تسكت الأصوات كلها وتخلو الدار من ساكنيها جميعا؛ لأنهم خرجوا يبحثون عني في مظاني، كل يذهب في طريق، وتارة تعود الدار فتعج بأصواتهم يتساءلون في فزع جازعين، وجاء الليل واشتدت عتمته واشتد معها خوفهم، حتى شاء الله لذراع أن تمتد تحت السرير لتجر قفصا صغيرا مخزونا هناك، وراحت الذراع الممدودة تتحسس حتى أحست حركة خفيفة، هي حركة جسمي يزحزح نفسه قليلا إلى ناحية الجدار، فرفعت الذراع ملاءة السرير المدلاة، وإذا بالشارد الضال مختبئ هناك في كهف! فصرخت صاحبة الذراع - ولا أذكر من هي - صرخة امتزجت فيها الفرحة بالدهشة بالترحيب بالوعيد بكل العواطف الإنسانية حين تمتزج في خليط واحد، وأخرجت من مكمني جرا إلى البهو، يسألونني ولا أجيب، وأخيرا جاء أبي من دورة بحثه عني ، فإذا هو يلقاني فيدهش فيسأل، ولا جواب إلى هذه الساعة.
وضحك الأحدب ضحكة صافية من كل شوائب السخرية التي كثيرا ما يمزج بها ضحكاته، وقال: أحسب أن صاحب الدكان لم يقل شيئا لوالدينا، وأن ابنة العم كتمت أمرها وأمري، فلم يزد أهلي عندئذ على أن أضافوا هذا «الفصل» إلى فصول أخرى كانوا يحصونها علي ولم أكن أدري من أمرها شيئا، مما كانوا يتخذونه دليلا على زعم لهم عني ثبت عندهم ورسخ، وهو أني «عبيط»، وها هو ذا شاهد على «عبطي» جديد، فكان مما يتندرون به دائما أني وأنا صغير - الظاهر أن سن الخامسة عندهم كانت سنا كبيرة - كنت آخذ منهم خمسة القروش أو عشرة القروش، لأشتري لهم شيئا من الطريق، فأغيب عنهم قليلا ثم أعود لأقول: لقد أكل الحمار قطعة النقود، فيذهب منهم ذاهب ليجد قطعة النقود موضوعة في فجوة كانت بين أحجار الحائط عند مدخل البيت.
فرغ رياض عطا من ذكرياته، وهو منبسط النفس، منشرح الصدر، معتدل القامة، حتى كدت لا أرى على ظهره قتبا، وكأنما النشوة التي شاعت في أساريره قد قللت من عمره فجأة عشرة أعوام كاملة، وكانت الشمس قد غابت وبقايا الشفق القرمزي منتثرة في الأفق، حين حييته وانصرفت إلى مدخل الدرج، ونزلت أتحسس الطريق بقدمي درجة درجة حتى كنت في الطريق أسير الهوينا من عمق انشغالي بالأحدب وقصته.
أي مفتاح تريد لشخصيته أجلى وأوضح من هذا الذي ذكره الآن؟ إن اختفاءه في الظلام اتقاء لشر مرتقب، ثم إرهاف الحس ليتتبع مجرى الحوادث من حوله دون أن يغادر مخبأه، فيهما محور حياته كلها؛ انطواء من ناحية، وتسلل بالسمع والبصر في الخفاء إلى ما يدور في العالم من وقائع وأحداث من ناحية أخرى، إنه كمن يريد أن ينظر إلى العالم من ثقب الباب، يريد أن يرى ولا يرى، إنه ليخيل إلي أن شخصيته نسيج من ثلاثة خيوط، يأس أكثر من الرجاء، وانطواء أكثر من الظهور، ورغبة في إقامة البرهان على قدراته ليمحو به تهمة «العبط» والتي اتهموه بها وهو صغير؛ أما اليأس فقد كانت بداية خيطه حادثة الحصان المهشم، وهي الحادثة التي تلاحق فيها الأمل والخيبة تلاحقا مباشرا؛ وأما الانطواء فقد كانت بداية خيطه حادثة كيس الحلوى حين أحس الطمأنينة في مخبئه تحت السرير؛ وأما تهمة «العبط» فقد بدأت قبل أن تعي ذاكرته أولى الحوادث التي كانت تسوغها.
وبالإضافة إلى هذه الأضواء التي بدأت تكشف لي عن سره الدفين، فكأنما انفتحت لي طاقة في السماء ليلة القدر حين نظر إلي بعين فيها النفاذ وفيها طيبة القلب، وقال مبتسما: كأني بك تريد عني مزيدا من علم! ونهض بحركة سريعة واستخرج لي من خزانة ملابسه كراسة ممزقة وقال: هاك مذكرات كنت كتبتها من سنين وهممت بتمزيقها، ثم عدت فأبقيت على ما بقي منها، فلعلها تشفي عنك غليلا.
الفصل الثالث
أطلال دوارس
Unknown page
أخذت كراسة المذكرات في لهفة شديدة؛ لأنني اعتقدت أني واقع فيها على كنز ثمين؛ ففي صفحاتها سأشاهد الأحدب وجها لوجه، فيعفيني مشقة البحث والتنقيب، ولكني وجدتها ممزقة منقوصة الصفحات مطموسة الفقرات، مما أكد لي أن كاتبها ربما أحس بعبث الجهد في الكتابة عن نفسه، فكتب ما كتبه ثم هم بتمزيقه، كما يفعل كثير من الأدباء والشعراء حين يقرنون حيواتهم الفانية بالأبدية فيرونها أقل شأنا من أن تشغل الوقت بالكتابة عنها.
ومهما تكن الحال فقد أسرعت العودة إلى منزلي في تلك الليلة، نافد الصبر مشوقا إلى استطلاع المنثورات التي بقيت مما كتبه الأحدب، ولم أنم حتى أتيت عليها تمحيصا وضما لما يمكن ضمه في أجزائها، وها أنا ذا أثبت ما ظفرت به من فقرات مرتبة بحسب ترقيم الصفحات:
ليست لحظات الزمن في حياة الإنسان سواسية كلها من حيث قوتها في توجيه الأحداث، وأثرها في تكوين الشخصية وتشكيلها؛ فمنها ما قد يمضي ولا أثر له، ومنها ما يكون له من بعد الأثر وعمقه ما يظل يؤثر في مجرى الحياة إلى ختامها، ولا عجب أن تجيء حيوات الأفراد متفاوتة الوزن والقيمة، متباينة الخصوبة والثمر؛ فمنها ما تتابع فيه اللحظات على وتيرة واحدة، حتى لكأنها في نهاية الأمر لحظة واحدة مكررة معادة، فضلا عما تتصف به هذه اللحظة الواحدة من حواء؛ ولذلك فهي حياة تمضي وكأنها لم تكن شيئا، ولكن منها كذلك حياة تجيء لحظاتها ثقالا بأحمالها، فتمضي تاركة وراءها أثرا يبقى على وجه الدهر أمدا طويلا، وبأمثال هذه اللحظات الحبالى تصنع الحضارات وتبنى.
إن النظر إلى حياة بمجموعة أحداثها، لكالنظر إلى صورة فنية لا يسير عليها البصر في خط مستقيم بادئا من حافة الإطار هنا إلى حافة الإطار هناك، بل إنه ليقع أول ما يقع على نقطة مركزية فيها، كشجرة فارعة على يمينها، أو قمة شامخة على يسارها، أو بقعة لونية في أي موضع منها تلفت النظر إليها لتكون له نقطة ابتداء، ثم ينساب البصر في مختلف الاتجاهات، عائدا آنا بعد آن إلى نقطة البدء، فكأنما هذه النقطة المركزية ينبوع تفجرت منه سائر النقاط، وكذلك قل عند النظر إلى حياة فرد من الأفراد بمجموعة أحداثها، فها هناك كذلك يتجه الانتباه إلى لحظات أمهات كانت حاسمة في توجيه صاحب تلك الحياة.
فما هي تلك اللحظات الأمهات في حياتي؟
ليس منها ساعة الميلاد؛ لأن تلك اللحظة جزء من حياة سواي أكثر منها جزءا من حياتي؛ فقد فرضت علي ولم أردها، ولم يكن لي حيلة في إلغائها أو في إرجائها أو في تغيرها، إنني أحددها بشهادة الميلاد، مفترضا صدق أولئك الذين أملوها والذين كتبوها؛ لأنني لا أملك في دخيلة نفسي شاهدا على صدقها أو على كذبها؛ إذ لو احتكمت إلى حياتي من باطن لما وجدت فرقا بين أن أكون قد عشت على ظهر الدنيا خمسين عاما أو خمسة آلاف عام؛ فكل الدلائل التي يستدل بها على مدى ما عشته من سنين، دلائل خارجية عني، وليس فيها شاهد باطني واحد؛ لأنني إذا ركنت في الشهادة على ما تسجله الذاكرة، ألفيت الذاكرة لا تقفل راجعة إلى ساعة الميلاد، وقصاراها أن ترتد إلى السنوات الأولى بعد الميلاد، ثم يكتنف الضباب كل شيء فيطمسه، وإذن فالأمر كله - بالنسبة إلى ساعة ميلادي - مرهون بشهادة غيري، فهكذا يقول الوالدان، وهكذا تسجل دفاتر الحكومة، أليس عجيبا بعد هذا كله أن يتمنى إنسان لو استطاع أن يمد له في الأجل مائة أو مائتين أو ألفا من السنين؟ إنه لا يحمل في جوفه دليلا على أنه لم يعش هذا الأمد الذي يتمناه لنفسه، لو كان متوحدا معزولا فلم يجد أحدا من حوله يروي له نبأ مولده ونشأته الأولى، لما كان في وسعه أن يعلم متى ولد وكم عاش.
لا، ليست لحظة ميلادي من اللحظات الأمهات التي أعنيها؛ لأنني لا أعلم عنها شيئا من باطن نفسي، وكل علمي بها آت من سواي؛ فهي إذن أقرب إلى أن تكون جزءا من حياتي؛ ففي أول صفحة مقروءة، بعد عدة صفحات ممحوة لا تبين، قرأت العبارة الآتية:
من بين ما يروونه لي أني ولدت في منزل من قرية، زرته فوجدته بيتا نصفه الأسفل من حجر ونصفه الأعلى من قش وطين، لكنهم إذ يحكون لي أني في هذه الغرفة التحتانية المعتمة ولدت، وفي تلك الغرفة الفوقانية المضيئة ختنت، أحس كما لو كانوا يحكون لي تاريخ طفل لا شأن لي به الآن؛ فليس في جسدي اليوم خلية واحدة من خلاياه التي ولد بها، ولم تكن في رأسه عند ولادته فكرة واحدة مما هو في رأسي اليوم.
إنه لوهم غريب هذا الوهم الذي يوهم الإنسان باتصال شخصه من لحظة الميلاد إلى لحظته الراهنة، نعم إنها وسيلة نافعة لغيري من الناس أن يعدوني فردا واحدا متصل الحياة، بدأ في اللحظة الفلانية ولبث ينتقل هنا وهناك حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن؛ أقول: إنها وسيلة نافعة للناس لكي يسهل عليهم عد الأفراد عند الإحصاء، ولكن ما لي أنا وما ينفع الناس عند العد والحساب؟ المرجع عندي هو خبرتي كما أحياها واعيا بها، وليس ذلك الطفل الذي يروون لي عن زمان مولده ومكانه جزءا من تلك الخبرة الحية الواعية ...
ثم استقامت معي صفحات الكراسة، فقرأت فيها ما يلي:
Unknown page
العجيب أني حينما أعود بالذاكرة إلى سني الطفولة الأولى، فسرعان ما اصطدم بشخصية أبي تملأ مسرح الحوادث، ولكن مهما حاولت فلا أعثر على صورة أمي عندئذ، فأين كانت؟ هل كانت من الخفاء والانطواء بحيث تنمحي من صفحة الذاكرة فلا يسمع لها صوت ولا يظهر لها أثر؟
والحق أن اختلاف الخصال كان بعيدا بين أبي وأمي؛ فهو منبسط لا يكاد يخفي من نفسه شيئا، وهي منطوية لا تكاد تظهر من نفسها شيئا، هو لا يخشى الناس ولا يفر منهم، وهي تخشاهم وتفر، هو حريص على إثبات وجوده، وهي أحرص على إنكار وجودها، هو لا يضحي بنفسه إلا قليلا، وهي تضحي بنفسها بحيث لا تبقي لنفسها إلا قليلا، يغلب عليه المرح الصاخب إلا في ساعات قليلة تراه قد سكن وكأنما هو غارق في فكر عميق، ويغلب عليها الهدوء الصامت في غير جهامة وعبوس، إلا في ساعات قليلة تراها قد أخذت تصبح زاعقة في هذا أو في هذه، كأنما تنفس عن طاقة مكبوتة، كلاهما يتعبد ويؤدي الشعائر كلها، لكني طالما أحسست أن تعبده موجات على السطح، وأما تعبدها فخفقات من القلب، يثور على الناس فتهدئه ملتمسة لهم الأعذار، حتى أطلق عليها أبي اسم «الهلباوي» مشيرا بهذا إلى نهوضها للدفاع دائما؛ وأما هي فإذا ثارت على أحد من الناس فإنه ينفخ لها في النار لتزداد اشتعالا ... نعم لقد كان اختلاف الخصال فيهما بعيد المدى، ولكن هل بلغ ما بينهما من حدة التباين أن حفظت ذاكرتي كثيرا عن أبي وأوشكت ألا تحفظ شيئا عن أمي؟ إنه مهما تكن حقيقة الأمر، فيقيني هو أني عن أبي أخذت الذكاء وعن أمي أخذت الخلق، عنه أخذت النفس القلقة الطامحة في عجز، وعنها أخذت الرغبة في الخفي عن قناعة ورضى، ومن مزج النقيضين وقع الصراع. ... التشاؤم والانطواء صفتان في حياتي بارزتان، فمن شأن المتشائم اعتقاده بأن نتائج الأشياء وأواخر الأحداث عبث كلها في عبث، اعتقاده بأن الحياة عملية معقدة من جمع وطرح وضرب وقسمة، فيها أعداد صحيحة وفيها كسور، وفيها ربح وفيها خسارة ، لكن الناتج النهائي صفر دائما؛ لأن الناتج النهائي عدم محتوم، إنه سيجيء اليوم الذي تبرد فيه الشمس، وعندئذ تتعادل حرارة الكون شمسا وأرضا، وعندئذ تكف الأرض عن دورانها ويسكن كل شيء في مكانه، فلا نماء ولا دثور، ولا حياة ولا موت، ولا ليل ولا نهار، ولا صيف ولا شتاء، ولا ريح ولا مطر؛ فأين عندئذ يكون فرد من الناس بكل ما قد بذل من جهود وما قد حقق من نجاح؟
وهكذا تراني أنظر إلى الأشياء وإلى الأحياء وإلى المواقف وإلى الحوادث، ولكنها نظرة لا تمنع عندي جهاد الحياة ولا تحول دون السعي نحو التقدم، بنفسي وبغيري عن الناس، برغم كوني أحس في أعماق نفسي أنه جهاد وأنه سعى تمليهما ضرورة الحياة ما دامت الحياة قائمة؛ وأما الحياة نفسها فهي - كما قال المعري - عبث، لكني لا أعجب - كما يعجب المعري - من راغب في ازدياد من ذلك العبث؛ لأني أعلم أن «الرغبات» شأنها شأن العقل في كونها من صميم الحياة ولبها؛ فليس من حق العقل أن تكون له وحده الكلمة فيما يعمل وما لا يعمل؛ لأن «للرغبة» اللاعقلية مجالها، وها هو ذا المعري قد أملى عليه عقله أن الحياة عبث كلها، وأنه إنما يعجب من راغب في ازدياد من ذلك العبث، فهل كف المعري نفسه عن «الرغبة» في الزيادة؟
على أن نظرتي المتشائمة هذه كثيرا ما تقتضيني أن أسارع إلى استحضار الضد الأسود أمام ذهني كلما مر بخاطري ضده الأبيض، وأمور أخرى؛ أنظر إلى المرأة الجميلة فأقول: ولكن جوفها يحمل العفن، وأنظر إلى الطير الصاعد فأقول: إنه لا بد بعد صعوده هابط؛ واختصارا فإني أنظر إلى كل إناء مليء إلى نصفه فأقول: لكنه كذلك فارغ في نصفه الآخر؛ وهي بغير شك نظرة معوقة لصاحبها في ركب الحياة، لكنها هي نظرتي.
وأما انطوائي فهيهات أن يرى منه الرائي بمقدار ما أحسه في باطني؛ لأن فيما يراه مني الرائي تكلفا وتصنعا قد يخفيان إلا على الخبير بطبائع الناس، إنني كلما عدت إلى داري بعد عمل اليوم أحسست - وأنا أغلق الباب من دوني - بنشوة العائد إلى مكمنه بعد أن تعرض لأهوال الغابة، ولست أعرف كيف يحس الأرنب المطارد حين يلوذ بجحره، ولكنني كلما عدت إلى داري بعد عمل اليوم، ارتسمت في ذهني صورة لأرنب راجف، عادت إليه الطمأنينة بعد أن لاذ بمأواه، إنني لأخاف الخروج من مكمني كما يخاف العليل برئتيه أن يعرض نفسه للفحة برد.
وقد أتشجع فأواجه الناس، لكنني وحدي أعلم الناس بما يرتجف من نفسي عندئذ؛ فمثل هذه الشجاعة الظاهرة كثيرا ما تكون خجلا معكوسا، قل إنه ضعف، وقل إنه مرض، لكن هو الواقع على حقيقته، ومرة أخرى أقول: إنها طبيعة معوقة لصاحبها عن السير السريع في ركب الحياة، لكنها هي طبيعتي.
ماذا تظنني أسرح إليه حين أسترسل في أحلام يقظتي، لا أقول مرة في الشهر، ولا مرة في الأسبوع، بل أقول مرة أو عدة مرات كل يوم؟ إنني في أحلام يقظتي أسرح باحثا عن مكان ملائم ألوذ به لأعيش هناك في عزلة الرهبان: هل أختبئ في غرفة من مكان مجهول على شاطئ البحر - لأني أضيق بالحر ضيقا شديدا؟ أو هل يكون مخبئي في موضع من الصحراء؟ ولكن أين؟ أيكون في دير من أديرة الرهبان النصارى، وهل يجوز يا ترى للمسلم أن يعيش مع رهبان المسيحية في أديرتهم دون أن يشاب إسلامه بشائبة؟ ... صور من هذا القبيل تتلاحق، وأظل في كل صورة منها أعيش مع الخيال برهة لأحس حسناتها وعيوبها قبل أن أنتقل إلى الصورة التي تليها، لكنها أحلام يقظة لا ألبث بعدها أن أمارس عملي كأنني مقبل على الحياة مع المقبلين.
إنه لا تناقض بين أن يميل المرء بوجدانه إلى شيء، وأن يخضعه بعد ذلك لتحليل العقل فلا يجده على ما كان الوجدان قد صوره، وعلى ذلك فلا تناقض بين أن أختار لنفسي - بالوجدان - أن أعيش منطويا على ذاتي، غاضا نظري عن الدنيا التي حولي، وبين أن أرى بعقلي بعدئذ أن دفعة الحياة تقتضي أن نخرج من ذواتنا إلى حيث الأشياء المادية المحسوسة، فكأنما أريد الحالة الوجدانية الأولى لنفسي، وأريد الحياة العقلية الثانية للناس.
ها أنا ذا أشهد الله والناس أني ما قرأت مرة عن المتصوفة في صدورهم عن عرض الحياة الدنيا، وفي ازدرائهم لشهوات الجسد وإشباعها، إلا ووجدت لهم في أغوار نفسي صدى عميقا، كأن هذه النفس قد أعدت وهيئت لمثل هذه الحياة العزوف، ومع ذلك فإني أتمنى أي شيء لقومي إلا أن يسود فيهم العزوف عن تيار الحياة الحسية المادية العملية العقلية العلمية، والتي تعنى كل العناية بتطبيقات العلوم على الزراعة والصناعة، وباصطناع القوة المادية في شتى مظاهرها؛ وهكذا ترى وجداني على هوى وعقلي على هوى آخر، ولا تناقض بينهما ما داما يجيئان على تعاقب. ••• ... إنني حتى الخامسة من عمري لم أكن - فيما تعيه الذاكرة - قد شعرت بأني عضو من أسرة، تربطني بأفرادها علاقات تختلف باختلاف مواقفي من أفرادها، فكلما تذكرت نفسي في الخامسة أو قبلها، تذكرت كيانا مستقلا بذاته، يرتبط بغيره من الأفراد ارتباطا خارجيا لا ارتباطا باطنيا.
أما حين أنتقل بالذاكرة إلى عامي السادس وعامي السابع، فإنني أتذكر على الفور أنني جزء من جماعة؛ فقد كان أبي قبل ذلك هو الشخص «الآخر» الوحيد الذي يكون مع وجودي محورا أدور حوله أو أسير بإزائه عن خوف أو عن رضا؛ أما الآن - في العام السادس وما بعده - فأمي قد أخذت تظهر بوضوح، وكذلك أخي، وكذلك عمي وامرأة عمي وأبناء عمي، وكذلك نفر من ذوي القربى كانوا يعاودون زيارة بيتنا زيارة تقصر حينا وتدوم عدة أيام حينا آخر.
Unknown page
وإنما يعين الذاكرة على انتقالها هذا بين المرحلتين المتعاقبتين: مرحلة الكائن المفرد، ومرحلة الكائن الاجتماعي، انتقالنا المادي عندئذ من بيت إلى بيت؛ فقد انتقلت الأسرة - والأسرة إلى ذلك الحين معناها أبي وعمي ومن يتبعهما - انتقلت إلى مسكن آخر في حارة السناجرة، أو ما كان يسمى بهذا الاسم حينئذ بالقرب من مسجد السيدة زينب؛ لأن القاهرة قد تبدلت في يومها عن أمسها، فاتسعت شوارع لتبتلع ما كان يصب من فيها الحواري؛ انتقلت الأسرة إلى مسكن آخر، وفي هذا المسكن الجديد تحددت الروابط بيني وبين أبي - وقد كان لها بدايات سابقة - وبيني وبين أمي، وبيني وبين أخي بصفة خاصة؛ فلأول مرة أشعر بوجود أمي معي، تحميني دون أن تقتضيني مقابل هذه الحماية خوفا، فلم أكن أبدا لأخشى بأسها مهما يكن ما أقترفه جسيما، وذلك برغم صرامتها في معاملتي ضربا و«قرصا» وشتما وزجرا، لكن هذا كله منها كان كالموج الذي يطمئن السابح على حياته بدفعه إلى شاطئ الأمان ولا يهدده بالغرق، ولقد لبث هذا هو الفارق الواضح بين علاقتي بأمي وعلاقتي بأبي؛ كلاهما يحمي، لكنه - دونها - يتوقع مقابلا لحمايته: فزعا منه وخشية لبأسه مما كان يسميه «أدبا».
وكذلك تحددت عندئذ علاقتي بأخي على نحو لم يتغير قط مع تقدم السنين، فكأنما نحن منذ تلك السن الباكرة قد تعاقدنا تعاقدا صامتا غير منطوق ولا مكتوب، أن يكون كل منا حليفا للآخر فيما عسى أن تفاجئنا به الأيام من هجمات المهاجمين؛ والمهاجم الخارجي قد يتغير نوعه، لكن موقفنا في التحالف ثابت؛ فكل منا يطلع أولا فأولا على ما يقترفه الآخر من زلات العصيان، لكن أحدا منا لا يشي بالآخر عند الوالدين أو عند غيرهما ممن يعنيه الأمر، فإذا سئل أي منا عن خطأ وقع: من فعل هذا؟ أجاب: لا أعرف، وتكون النتيجة دائما أن يضرب كلانا؛ فقد كان أخي مغرما بكشط قطع الأثاث بالمبراة، لا يردعه عن فعل ذلك توعد ولا وعيد، لكنه كلما كشط وسئلت: من؟ أجبت: لا أعرف. وكذلك حدث مرة أن اشتروا له معطفا جديدا ولم يشتروا لي نظيره لجدة معطفي، فقصصت معطفي بالمقص شرائط شرائط، حتى أرغمهم على شراء معطف آخر، وسئل وسئلت: من؟ وكان الجواب من كلينا: لا أعرف. فنال العقاب منا على السواء، على الرغم من أنهم يعلمون أتم العلم أنه هو كاشط الأثاث، وأنني أنا الذي قص المعطف.
هكذا تآزرنا على الخير وعلى الشر منذ تلك السن البعيدة، كما يتآزر المعرضون لخطر مشترك، وتلازمنا قياما وقعودا ومشيا وجريا وخروجا ورجوعا ولعبا وجدا، حتى تلازم اسمانا على الأفواه، فلا ينطق أحد باسم أحد غير مقرون باسم الآخر، فيقال «رياض وعماد»، لا ينفصل شق فيه عن شق إلا إذا نودي أحدنا بحرف النداء.
ولعل حارة السناجرة التي سكناها عندئذ أن تكون الحارة الوحيدة في حياتنا التي نزلنا بها لنلعب مع أطفال الجيران، وحتى عندئذ فقليلا ما فعلنا. ومن طريف ما أذكره في هذا الصدد أن أفراد الأسرة جميعا قد ذهبوا لبعض شأنهم ذات عصر، وتركوا معنا مفتاح البيت، على أن نلعب في الحارة مع الأولاد إلى أن يعودوا، ولست أدري أي فكرة مجنونة طافت برأسينا عندئذ، أن نقيس مقدار شجاعتنا بأن نعري جسدينا ونسير هكذا في مواجهة الأولاد لنرى ماذا في وسعهم أن يصنعوا، لكننا وجدنا من سخريتهم ما لم نحتمله، فصممنا أن نسارع إلى العودة إلى دارنا، ونبحث عن المفتاح فإذا المفتاح مفقود، فوقعنا بين نارين: حملة السخرية التي أخذت تشتد كلما ازددنا أمامها ضعفا، والقلق الشديد المهموم المغموم على هذا المفتاح الضائع، وربما كان ذلك من أول الدروس التي لقنتنا إياها الحياة الاجتماعية فيما ينبغي أن تكون عليه علاقة الفرد بالمجتمع، فإما أن تكون متجانسا مع الآخرين إذا أعوزتك قوة المقاومة، وإما أن تتصف بالجرأة المتبوعة بصفاقة الوجه إذا أردت أن تتفرد وحدك بسلوك خاص؛ أما أن تتحدى المجتمع بالعصيان الذي يأبى التجانس دون أن تكون مزودا بما يلزم هذا من سلاح المقاومة، فذلك إنما يؤدي بك حتما إلى اختلال في اتزان عناصر النفس، ومن ثم إلى صراع داخلي فانطواء، وما هي إلا أن عادت طلائع الأسرة الغائبة لتصدم بهذا الموقف الغريب، وراحت عيونهم تلفظ أوار الغيظ الكظيم، تمهيدا لما هو لاحق بنا حتما إذا ما انفتح الباب ودخلنا، وجيء بنجار، وكسر الباب، ودخلنا، وكان ما كان من عصي تهوي على جسدينا العاريين.
وفي تلك الفترة من عمري دخلت المدرسة الأولية، وكان اسمها مدرسة السلطان مصطفى، عند مدخل حارة الكاشف بجوار المدرسة السنية للبنات، وهي دار أثرية قديمة، ولا أذكر منها شيئا إلا سلالمها التي كانت تبدأ من الباب الخارجي مباشرة؛ فليس للمدرسة فناء. وكان التلاميذ الصغار يتجمعون في حارة الكاشف، المحظوظ منهم يأكل البليلة، وغير المحظوظ تأخذه العزة فيبعد، أو لا تأخذه فيقترب سائلا. وكانت السلالم عالية الدرجات على من كان في مثل عمرنا، وكذلك أذكر شعاعا من الشمس ساعة العصر ينفذ من جهة الغرب خلال النافذة ذات الزجاج الملون، كنت أرتقب سقوط هذا الشعاع على درجي كل عصر فارغ الصبر، ولا أدري هل كان ذلك بسبب الألوان الجميلة التي كان يلقيها ذلك الشعاع أمامي، أو كان ذلك علامة على دنو ساعة الانصراف.
وعلى أي حال فقد كان ارتفاعي في درجة الوعي عندئذ بما يشبه القفز والطيران؛ ففي عام واحد أو عامين، انتقلت انتقالا كالمفاجئ من طفل لا يعي إلى صبي تفتحت حواسه؛ ولا أدل على ذلك من متابعتي لما كان يقوله ابن عم لي وابن عمة يكبراني بخمسة أعوام، وكان عندئذ تلميذين في مدرسة محمد علي الابتدائية، فكانا يفخران أمامي بما يعلمانه مما لست أعلم: كلمات إنجليزية وعبارات، فكنت أسارع إلى حفظها عنهما لأسايرهما فيما يعلمان.
لكن الذي لم أستطع قط أن أسايرهما فيه، هو ما كانا يسميانه «مطارحة» بالشعر، فيقول أحدهما بيتا من الشعر، ليرد عليه الآخر ببيت يبدأ بالحرف الذي انتهى به البيت السابق، فمن أين لهما بهذا الكلام؟ أين يجدانه وكيف يحفظانه؟ وقد مضيت الآن منذ ذلك العهد عشرون عاما، وما زلت أذكر بيتا قاله أحدهما في المطارحة وأعجبني لفظه فحفظته عنه لساعته، فرسخ في الذاكرة - وذاكرتي يغلب عليها الضعف - لسبب لا أدريه، وهو:
نونان نونان لم تكتبهما قلم
وفي كل نون من النونين عينان
حفظته ولم أعلم ماذا عساه يعني، بل لا أظن أن قائله كان يعلم.
Unknown page
كذلك تحددت في تلك الفترة من العمر علاقتي بالجنس الآخر؛ بمعنى أنني أدركت إدراكا واضحا ماذا يكون بين الجنسين في تستر وخفاء؛ فلست أنسى ذات مساء والبيت يعج بزواره، كيف اتفقت مع طفلة من الأسرة الزائرة أن نلعب زوجا وزوجة، وانثنينا إلى غرفة بعيدة عن الأعين، وأغلقنا من دوننا بابها، ولم أكن أعلم الطفلة من قواعد اللعبة أكثر مما علمتني، ولم تكن تعلمني أكثر مما علمتها؛ فالطفل والطفلة كلاهما - وهما في السابعة أو نحوها - كان يعلمان ما يكفي. كما حدث في هذه السن نفسها أن سافرت مع أهلي إلى القرية لنقضي إجازتنا بها، وكنت في الضحى ذات يوم ألعب على سطح الدار مع طفلة ريفية من الجيران، فما هو إلا أن تفاهمنا، وكان إلى جوارنا «سحارة» كبيرة عميقة، بابها مربع خشبي صغير يغطي فتحة على وجهها الأعلى، فقفزنا إلى سطح السحارة، ورفعنا بابها وهبطنا واثبين إلى جوفها، ولكن كيف الخروج والسحارة عميقة كأنها البئر؟ وعبثا حاولنا، فكان لا بد للسر أن يفتضح، فأخذنا ندق جوانب السحارة بقبضات أيدينا، ونركلها بأقدامنا، ونصيح في بكاء الفزع، حتى سمعنا من سمعنا، وانتشلنا، وما كادت القصة تسري حتى كانت الضحكات من هذه «الشقاوة»، ولكن هل أدرك الراشدون مدى ما قد ذهب إليه لهو الطفلين؟! لا أظن ذلك؛ وهذه هي براءة الأطفال، وهذه هي طهارة الريف، وتلك هي سذاجة الراشدين.
هكذا كملت جوانب الشخصية الاجتماعية بين السادسة والسابعة، وتحددت لها طرائف مختلفة في ردود الأفعال لمختلف البواعث، أو قل هكذا نشأت مجموعة الأشخاص التي تكون جوانب نفسي «الواحدة»، وما كان على الأيام بعد ذلك إلا أن تطور هذا الذي بدأ؛ فموقفي إزاء أبي هو هو نفسه موقفي إزاء كل سلطان متحكم، أثور عليه في داخلي تارة، وأنفجر بالثورة العلنية تارة، وأكتب لأهدم ما أراه طغيانا - سواء في ذلك الأشخاص أو النظم - فتجيء الكلمات كأنها شواظ وشرر، وكثيرا ما دهش من لم يكن يعرفني ثم رآني، فرأى شخصا تغلب عليه الوداعة والهدوء، فكيف يمكن أن تجيء تلك الثورة من هذا المستكين؟
وموقفي إزاء أمي هو موقفي من الصديق أحبه حبا خالصا غير ممزوج بالحذر والخوف، وهو الموقف الذي أقفه ممن تربطني بهم علاقة الود وأصطفيهم دون سائر المعارف، وموقفي من أخي هو نفسه موقفي من نفسي، أسر إليه بما لم أكن أسر به إلى أب أو أم أو صديق، أطلب منه النصح جادا، وأعتصم به آمنا. وموقفي من أقربائي الذين كانوا يكبرونني ويسبقونني في مراحل التعليم، هو موقفي من كل سابق في طريق العلم؛ أجد السير لألحق به. وأما موقفي من الجنس الآخر، فبرغم العبث الطفلي الذي عبثت به مع الطفلتين إلا أنه سيتحدد بفعل شيطانة من الجن في سن المراهقة.
إنهم يصدقون حين يقولون عن الأسرة: إنها نواة المجتمع؛ لأنها هي المجتمع الصغير الذي يتعامل الطفل مع أفراده، فيعامل كلا منهم بما يحقق له صالحه كما يتصوره، يحب هذا ويخشى ذاك، ويخلص الود هنا ويمكر بالحذر هناك، حتى إذا ما خرج إلى المجتمع الكبير، جسد في مواقفه وفي ناسه ما كان قد لقيه في المجتمع الأسري الصغير، فكم ثائر ثار على الدنيا حتى غير وجهها، تراه - إذا ما رددت ثورته هذه إلى أصولها - إنما يثور في الحقيقة على أب طغى به وهو صغير، فانتقم منه في سواه حين استطاع، وقد يجيء هذا الانتقام المقنع خيرا فيكون صاحبه من الأبطال المصلحين، أو قد يجيء شرا فيكون من المفسدين، وكم ملحد أنكر وجود الله إذا ما رددت إلحاده هذا وإنكاره إلى أصولهما، تبين كذلك أنه في الحقيقة يريد أن يكفر بالوالد أو بالمعلم الذي أغلظ له القسوة وهو ضعيف، وهكذا حلل حب المحبين وكراهية الكارهين وعبادة العابدين وزهد الزاهدين، وحلل نشاط العالم في معمله، والرحالة في ارتياده للمجهول، تجد كل ذلك امتدادا لأصول نشأت في النفس وهي ناشئة بين رعاتها ولداتها، فكان ما كان بعدئذ من خسة هنا ومجد هناك؛ أتقول لي: لكن هذه نظرة متشائم إلى القيم الإنسانية العليا؟ لكن كانت كذلك، فلا حيلة لي في نظرتي المتشائمة؛ لأنها وليدة حياتي التي عشتها حتى بلغت السابعة أو نحوها. •••
انتقلت الأسرة إلى السودان والصبي في تاسعته. كان له ما كان من أحداث الحياة، لكنه ذهب والأحداث مكنونة في جوفه لم يظهر بعد منها شيء على ظهره، ذهب والظهر معتدل وعاد والظهر مقوس معوج، لقد طفح الداخل إلى خارج وتكور.
الشمس فوق رأسي كأنها عين فتحت في جهنم! ذلك هو أول انطباع تلقيته في الطريق من المحطة إلى المنزل؛ إذ جلست فوق الحقائب المحملة على عربة لأحرسها، ولست أذكر بعد ذلك شيئا سوى أنني أرقد مصابا بضربة الشمس تحرسني عناية الأبوين نهارا وليلا لبضعة أيام، صحوت بعدها وجلت قليلا، فتبينت أننا قد انتقلنا من الظل إلى الوهج، ومن رطب إلى يابس، ومن حركة إلى سكون، ومن غزارة حياة وصلات إلى تخلخل وتفرق؛ فالمسافة بين بيت وبيت هنا أبعد، وبين دكان ودكان أطول، والناس قليلون، والأفراد متناثرون، والشارع ميدان، والميدان فلاة، والمشي كأنه وقوف، والجلوس كأنه رقاد، وشدة الحر تزيد الناس بعثرة بعضهم عن بعض؛ لأنهم لائذون بالسقائف، حتى ليتعذر على الخيال أن يتصورهم «جمهورا» بمعنى الحشد المتجمع في مكان، كما يتعذر على العقل أن يتصور قيام رأي عام ينتقل بين الأفراد بطريق العدوى، وفي ظني أن ظروفا للعيش كهذه من شأنها أن تزيد من اعتداد الفرد بنفسه وبفرديته، لقلة صلته الطبيعية القريبة بسائر الأفراد، وبالتالي فهي تقلل من استعداده للتفاهم السهل مع سواه، فعوامل تكوين «الرأي» الواحد هنا مفرقة مبعثرة، وحوافز التفكير واهنة؛ لأنه لا تفكير بغير مشكلات، وإذا قربت الحياة من البساطة فلا مشكلات.
أنا لا أتحدث عن السودان الآن، لكنني أتحدث عن موقف الصبي الذي ذهب إليه وهو في التاسعة، وكان ذلك منذ أمد بعيد، ذهب إليه وإحدى قدميه ما تزال مغروسة في أرض الطفولة، والأخرى أخذت تخطو نحو نضج الشباب الباكر، وقد بدأت خبرات الصبي هناك بموقفين متضادين في آن واحد. كان في أحدهما طفلا لاهيا وكان في الآخر إنسانا مسئولا.
فأما أولهما ففي الكتاب الذي أرسلنا إليه لنقضي بعض أشهر حتى يبدأ العام الدراسي في كلية غوردون، وفي الكتاب عرفت ما «الفلقة» وعذابها؛ فالكتاب كله غرفة واحدة لا أذكر أن لها نوافذ، يفتح بابها على سقيفة مفروشة بالحصير؛ ولذلك فهي - أعني السقيفة - مضيئة وللهواء فيها حركة، إذا قيست إلى الغرفة في ظلمتها وسكون هوائها، وتحت السقيفة كان يجلس الشيخ الدرديري - صاحب الكتاب والقائم فيه بالتعليم كله - وإلى جانب مقعده منضدة وطيئة عليها قلتان، وحدث ذات صباح أن وجدت المقعد خاليا من شيخه، ورأيت القلتين تلمعان بما يبلل سطحيهما من ماء، فأخرجت من جيبي قلما من أقلام «الكوبيا» وطفقت أخط به على القلتين، ولم أكن أتوقع أن أجد هذه المتعة كلها في التخطيط بالقلم «الكوبيا» على سطح مبتل، فانطلقت أرسم الأشكال وأكتب الأحرف، فتسيح الخطوط وتتشابك في زخرف جميل، وهنا «طب» الشيخ فجأة، فأخذته صاعقة لما رأى، وأمر فمدت «الفلقة» وربطت فيها قدماي، وطرحت على الأرض ظهرا، ورفعت القدمان مزمومتين في شقي الفلقة، والفلقة يحملها ولدان أمسكها كل منهما بطرف، والشيخ الدرديري يهوي علي بالسوط في غير رحمة كأنما نسي أنهما متصلتان بكائن حي، وعدت إلى البيت مورم القدمين؛ وغير هذا الحادث لا أذكر من هذا الكتاب شيئا، إلا أن زائرين كثيرين كانوا يزورونه، فإذا دخل الزائر انتفضنا وقفين واضعين أكفنا الصغيرة على جباهنا «تعظيم سلام»، مرددين في صوت عال بيتين حفظناهما لهذه المناسبات، أظنهما يجريان هكذا:
من نال العلم وذاكره
حسنت دنياه وآخرته
Unknown page
فحياة العلم مذاكرة
وحياة العلم مذاكرته
نمط الهاء في آخر الشطر الأول مطا منغما موصولا بالشطر الثاني، وكذلك نقف قليلا عند التنوين في آخر الشطر الثالث وأخيرا نجعل الوقف على الهاء الأخيرة كضربة الطبل معلنة ختام التحية، وعندئذ نؤمر بالجلوس.
وأما الموقف الثاني الذي وقفت فيه موقف رجل مسئول؛ فهو أن لصوص المنازل قد كثروا خلال ذلك العام كثرة قيل إنها لم تعهد من قبل، وكان مرد الأمر إلى قلة في المطر وقحط في المحصول، وما يتبع ذلك من عوز وجوع، وقد رأى الموظفون - ومنهم أبي - أن يساعدوا رجال الشرطة بأن يكونوا من أنفسهم دوريات تجوب الشوارع أثناء الليل، لتفزع اللصوص كما تفزع العصافير من فوق الغصون بقرعات خفيفة على الصفيح، فلصوص ذلك العام لم يكونوا لصوصا محترفين لهم جرأة وتدبير، بل كانوا لصوصا تدفعهم الحاجة الماسة العاجلة إلى أي شيء يؤكل أو يلبس أو يباع، إلى أقل شيء، إلى رغيف يأكلونه، إلى قميص يلبسونه، إلى إناء يخطفونه ليبيعوه في السوق برغيف أو قميص، وإذن فتخويفهم أمر ميسور تكفي له هذه «الدورية» من الموظفين تجوب شوارع المدينة ليلا.
لكن كان لا بد للبيوت كذلك من حراسة بالليل، فعلى كل أسرة أن يتناوب أفرادها في اليقظة لتكون هنالك العين الساهرة دائما، والشاخصة نحو الأسطح وحوافي الجدران الخارجية؛ فاللص إما أن يهبط إلى فناء الدار من سطح الغرفات - والدور كلها من طابق واحد يتوسط غرفه فناء يحيط به السور الخارجي - وإما أن يهبط إليه واثبا فوق السور المحيط به، وكان يقال لنا إن أقل صوت يصيح به الحارس اليقظان إذا رأى لصا يهم بالهبوط إلى الفناء، كاف لتخويفه، يفر كأنه الظل يختفي بلا صوت.
ومن ذا في بيتنا تقع عليه هذه الحراسة سواي؟ إن أخي أصغر من أن يوكل إليه هذا العمل الجريء، وأمي وحدها لا تغني؛ لأنهم يريدون للحراسة «رجلا»، و«رجل» البيت في غيبة أبي هو أنا الصبي ذو الأعوام التسعة؛ لأنني أنا «رشيد العائلة» كما كان يحلو لأبي دائما أن يقول، كان علي إذن أن أقف في وسط الفناء، ممسكا بيدي حطبة من حطب الموقد - وحطب الموقد هناك قطع غليظة من فروع الشجر الجافة - وأظل أتطلع بعيني إلى حافة السطح وإلى حوافي الأسوار. وإنني لأكتب هذه الأسطر الآن وما يزال في نفسي مزيج المشاعر التي كانت تملؤني أثناء عملية الحراسة بضع ساعات من كل ليلة؛ فشجاعة مصطنعة تجعلني أشد بقبضتي على الحطبة الخشنة، وزم للشفتين وحبس للأنفاس، ودفع بالصدر إلى أمام، وتثبيت للقدمين على الأرض، ووراء كل هذا رجفة الخوف تعتريني من الرأس إلى القدم؛ وماذا تتوقع من صبي صغير أمر أن يضع في إهابه رجلا؟ إنه لا مناص من أن تكون الرجولة البادية الظاهرة مبطنة بطفولة خافية مستترة؛ ألا ما كان أرهبها من لحظة تلك اللحظة من جوف الليل الساكن، التي نظرت فيها إلى حافة السطح المطلة على الفناء، لأشهد ساقين تدلتا وجذعا في سبيله إلى الظهور، ولم تكن بعدئذ إلا حركة واحدة من الواثب ليكون معنا في فناء الدار، فارتعشت ركبتاي، وزعقت في صوت مكتوم ماتت حروفه في حلقي، ولكن استطعت أن ألفظ الكلمتين: «امسك حرامي»، فيا لعجبي من تلك الزفرة المبحوحة من طفل راجف، تكفي لطرد الشيخ إلى حيث لا أدري! وقل ما شئت عما ملأني من شعور بالزهو لشجاعتي المزيفة، فكأن تلك الليلة كانت مولدا لمركب شعوري أحسبني لا أزال أحمله بين جنبي، هو مركب الشجاعة الخائفة، أو الخوف الشجاع. •••
كانت النقلة واسعة مما كنت عليه في كتاب الشيخ الدرديري، إلى ما أصبحت فيه بكلية غوردون؛ فهي نقلة من طفل يفرض فيه أنه لا يعرف شيئا ولا يعلم شيئا إلى طفل يفرض فيه أنه يعرف كل شيء ويتعلم أي شيء.
كان المدرسون في المرحلة الابتدائية أكثرهم من المصريين وأقلهم من أبناء السودان؛ هذا هو مدرس اللغة العربية الذي تولانا أول من تولى، أستاذ أزهري من المصريين، فيه من الجد والصرامة ما لو قسم بين عشرين مدرسا لكان من كل واحد فيهم مدرس ناجح، إنه أوشك ألا يفرق بيننا نحن الصغار الذين جاءوا إليه ليبدءوا حياتهم الدراسية، وبين متخصص في دراسة اللغة العربية من علماء الأزهر؛ فقد كان يأمرنا أن نسطر له هوامش كتاب النحو المقرر بخطوط مائلة، لنكتب عليها ما يمليه من إضافات، على نحو ما نكتب الحواشي في الكتب القديمة، ويعلمنا الإعراب فيما أشكل من آيات الكتاب الكريم أو من أبيات الشعر الجاهلي، بعد أن يشرح لنا هذه وتلك شرحا وافيا، لكنني كنت أحفظ الإعراب عن ظهر قلب دون أن أفهم من مصطلحه شيئا، فما زلت أحفظ من تلك السنة الأولى أن «إذا ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه»، ولا بد أن يكون ذلك الأستاذ القدير قد شرح المعنى المقصود بكل هذا، لكنني كنت أعجز عن استيعابه، فكلمة «الظرف» عندي لم تكن تعني إلا الظرف الذي يوضع فيه «الجواب»، خصوصا وكلمة «الجواب» واردة في آخر العبارة، و«الاستقبال» عندي لم يكن إلا استقبالا للضيوف، و«الشرط» لا يكون إلا فرقا في الثوب، فما علاقة «إذا» بهذا كله؟ لم أكن أدري، ولكني أحفظ عن ظهر قلب، والأستاذ يحدوه فينا أمل يجاوز قدراتنا.
وهذا هو مدرس اللغة الإنجليزية، شاب مصري شاحب الوجه حاد الفكين، لا فرق - في الصرامة والجد - بينه وبين مدرس اللغة العربية إلا في الزي، فذلك شيخ وهذا أفندي، نعم كان بأيدينا كتاب المطالعة الذي يبدأ بدرس عن ثور يركبه صبي فلاح، لكن هل كان يكفيه هذا؟ كلا؛ فالمادة المضافة لا أول لها ولا آخر، وأعمدة الأفعال وتصريفها، وقوائم الكلمات التي نحفظها كل يوم كانت تلاحقنا بلا هوادة، إلى الحد الذي كنا نخرج معه إلى فناء المدرسة بعد درس الإملاء، فيسأل بعضنا بعضا (وهذا مثل حقيقي تعيه ذاكرتي منذ ذلك الحين): كيف كتبت كلمة
boy ؟ - كتبتها هكذا.
Unknown page