أكاذيب الاستعمار يجب أن تخرج معه
الاستعمار البريطاني ليس وليد القرن التاسع عشر
أكاذيب الاستعمار يجب أن تخرج معه
الاستعمار البريطاني ليس وليد القرن التاسع عشر
قصة الاحتلال
قصة الاحتلال
تأليف
جمال الدين الشيال
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمده جل شأنه على عظيم نعمه وكريم آلائه، وبعد.
فتحتفل البلاد اليوم بمناسبة من أجل مناسباتها القومية، بل إنها أجلها جميعا، وهي تمام جلاء المحتل واستكمال تحرير الوطن.
وإذا كان يحق للمصريين كافة أن يفرحوا بهذا العيد - عيد الجلاء - ويحتفلوا به، فإن للإسكندرية مع الاحتلال شأنا يقتضيها أن تكون فرحتها مضاعفة، فهي أول بلد ابتلي بالاحتلال واكتوى بناره، وقد تلقت الضربات الأولى لقوى العدوان الغاشمة فتحملتها مجاهدة صابرة.
ولقد رأت جامعة الإسكندرية أن تسهم في هذا الاحتفال بما يتفق ورسالتها الثقافية والتعليمية، فأعدت «قصة الاحتلال» لنشرها بين جمهور المواطنين عبرة وعظة، وتخليدا لذكرى من قضى من الأبطال المجاهدين، وتحية وتقديرا لمن تحقق النصر على أيديهم من رجال الثورة الأبطال وفي مقدمتهم السيد الرئيس «جمال عبد الناصر».
والله نسأل أن يجعل هذا النصر فاتحة لعهد تقدم ورخاء لوطننا الكريم، إنه نعم المولى ونعم النصير.
مدير الجامعة
السيد مصطفى السيد
الإسكندرية في 9 من ذي القعدة سنة 1375 /18 من يونيو سنة 1956
أكاذيب الاستعمار يجب أن تخرج معه
لقد جاهدنا من أجل هذا اليوم جهادا مريرا.
وكنا إذا ادلهمت الخطوب، أو تكاثرت السحب، أو نال منا التعب، نظرنا إلى الأفق البعيد نستشف من ورائه صورة هذا اليوم الحبيب، وناجينا الله سبحانه متسائلين: «يا رب، أما لهذا الليل من آخر؟»
واليوم وقد انجابت سحب الماضي البغيض، وأخذنا الأهبة لاستقبال تباشير الفجر الجديد، فجر الحرية الكاملة والاستقلال التام، يجب ألا ننسى، يجب ألا ننسى الماضي مهما كان كريها؛ فالوطن، كما قال بطل الجلاء الرئيس جمال، ماض وحاضر ومستقبل. فنحن في حاضرنا نستقبل عيد الحرية الأكبر ونتطلع إلى مستقبل مزدهر باسم، ومن واجبنا ألا ننسى الماضي، من واجبنا ألا ننسى ما فعله بنا الاستعمار.
لقد ذقنا من هذا الاستعمار مرارة الصاب والعلقم، وأخشى ما أخشاه أن تسري النشوة الحلوة في ألسنتنا فتنسينا طعم هذا الصاب والعلقم، فلا نكون حريصين على نعمة الحرية، ولا نبذل الجهد في الاحتفاظ بها، ولا نستميت في الدفاع عنها.
ولعل أسوأ ما رمانا به الاستعمار هو سعيه الدائب أن يفقدنا الإيمان بالوطن وأن يزعزع ثقتنا بأنفسنا، فقد حرص الاحتلال منذ اللحظة الأولى على أن يشيع في المصريين بعض الأكاذيب التي اتخذ لها ثوبا علميا، من هذه الأكاذيب الشائعة التي ظل يرددها المستعمرون، والتي رددها المصريون - للأسف - بعده ردحا طويلا من الزمن أن مصر منذ عهد الفراعنة لم تكن دولة مستقلة، بل كانت دائما محتلة يتوالى على حكمها الولاة من كل شعب وجنس.
وهذه الأكذوبة لم تتردد في المؤلفات الأوروبية التي كتبت عن تاريخنا، وفي الكتب المدرسية المصرية - إلى عهد قريب - عبثا، بل لقد كان الهدف من ترديدها أن تصبح حقيقة ثابتة وأن تتغلغل في نفوس الشباب المصري حتى يستكين ويذل، وحتى يفقد الثقة في نفسه والإيمان بوطنه، وعلى مصر وعلى هذا الشباب العفاء إن هو فقد هذه الثقة وهذا الإيمان.
والتاريخ السليم، والبحث العلمي الصحيح يثبت خطأ هذه الأكذوبة؛ فمصر حقيقة قد فقدت استقلالها في بعض العصور، شأنها في ذلك شأن غيرها من الدول، ولكن هذه العصور لا تعتبر شيئا مذكورا إذا هي قورنت بالعصور الأخرى الطويلة التي تمتعت فيها بالاستقلال.
فقدت مصر استقلالها منذ عهد الفراعنة إلى الآن ثلاث مرات: في العهد الروماني، وفي العهد العربي الأول، وفي العهد العثماني (والاحتلال البريطاني ما هو إلا امتداد للاحتلال العثماني)، وذلك عدا فترات قصيرة أخرى غزا مصر فيها الغزاة، ولكنهم ما لبثوا أن جلوا عنها سريعا كما حدث في الغزو الفارسي.
وأسوأ العهود التي مرت بمصر في تاريخها الطويل العهدان الروماني والعثماني، فقد اضمحلت في خلالها البلاد اضمحلالا تاما شمل نواحيها المختلفة، أما العهد العربي الأول فرغم أنه عهد تبعية فقد أنقذ مصر من ظلم الرومان وعسفهم، وحمل إلى مصر العدالة والإصلاح والنور والتوحيد عندما حمل إليها الإسلام.
فإذا استثنينا هذه العصور الثلاثة رأينا مصر مستقلة استقلالا يكاد يكون تاما في عهود الطولونيين والإخشيديين والأيوبيين، لا يشوب هذا الاستقلال إلا خيوط واهية تتمثل في الخطبة باسم الخليفة العباسي، وضرب السكة باسمه، وبعض المال الذي كان يرسل من فائض الميزانية إلى عاصمة الخلافة.
وكانت مصر بعد هذا مستقلة استقلالا تاما لا تشوبه شائبة في عهدي الفاطميين والمماليك.
نقول إن البحث العلمي الصحيح يثبت ما قلناه؛ لأننا يجب أن نزن الاستقلال بمقوماته في تلك العصور، لا بالمقومات التي أحدثتها العصور الحديثة؛ ففي تلك العصور كان الحكام يلون الحكم في مصر تبعا لنظم مصرية معترف بها، ولم يكونوا يولون ويعزلون بأوامر صادرة عن دولة أجنبية أخرى، وكانت الجيوش جيوشا مصرية، تدافع إذا دافعت عن مصر، وتفتح إذا فتحت باسم مصر، وكان الاستقلال الاقتصادي متوافرا، فالعملة مصرية لا ينقش عليها غير اسم حاكم مصر، وكانت الاتصالات الخارجية والمعاهدات والسفارات تتبادل باسم مصر لا باسم غيرها من الدول.
ولم يكن يشوب هذا الاستقلال - فيما يدعي البعض - إلا أن بعض الحكام كانوا أصلا من أجناس غير مصرية، وهذه الحقيقة الصغيرة هي التي اعتمد عليها الأوروبيون فضخموها، وعلى أساسها حكموا حكمهم الخاطئ، أن مصر لم تتمتع يوما ما بالاستقلال.
ولكن هذه الحقيقة الصغيرة مع هذا لا تعيب استقلالنا ولا تخدشه؛ فأي أسرة من الأسر الحاكمة في الدول الأوروبية في العصور الوسيطة والحديثة كانت تنتسب للشعب الذي تحكمه انتسابا نقيا خالصا؟ إن نابليون الذي يعتز به الفرنسيون حتى اليوم لم يكن فرنسيا، بل هو من أهل جزيرة كورسيكا، والأسرة الحاكمة الحالية في إنجلترا ترجع إلى أصل جرماني، وهتلر زعيم ألمانيا السابق من أصل نمساوي، والأمثلة غير هذه كثيرة.
فإذا أضفنا إلى هذا أن مدلول الوطنية في العالم الإسلامي في العصور الوسطى كان يصطبغ بالصبغة الدينية، عرفنا أن استقلال مصر في تلك العصور لم يكن في مفهومه المتعارف وقتذاك ينقصه أي مقوم من مقومات الاستقلال، فالمسلم الصيني - على سبيل المثال - كان إذا حل في الشام أو في مصر أو في المغرب لم يشعر أنه غريب، ولم يشعره أهالي تلك البلاد أنه غريب، بل كان يعتبر نفسه في وطنه أينما حل.
فانتماء الخلفاء الفاطميين إلى الجنس العربي، أو على الأصح انتماء أولهم المعز لدين الله إلى الجنس العربي، لا يعيب استقلال مصر في العصر الفاطمي المزدهر الحافل بكل علائم التقدم والحضارة، وإذا كان المعز عربيا فإن من تبعه من أولاده وأحفاده كانوا مصريين لحما ودما، ولدوا في مصر، ونشئوا في مصر، وقادوا الجيوش باسم مصر، وحكموا إمبراطورية مصرية مترامية الأطراف؛ حتى لقد كان المؤرخون المسلمون يسمون الدولة الفاطمية دولة الخلفاء المصرية.
وعندما خرج صلاح الدين إلى الجهاد الأكبر ضد الصليبيين الذي توج بانتصاره الحاسم في وقعة حطين التي مهدت له الطريق لاستعادة بيت المقدس وتحرير فلسطين، فإنه كان يحارب بالجيوش المصرية وباسم مصر التي هو سلطانها.
وعندما صمد الملك الكامل محمد أو الملك الصالح نجم الدين أيوب للغارات الصليبية التي هددت مصر حتى انتصرا عليها ورداها خائبة، فإنهما كانا يدافعان عن أرض الوطن بجيوش الوطن.
يضاف إلى هذا أن مصر امتازت في كل عصورها بخاصة مميزة، فهي قادرة دائما على هضم كل غريب وصهره في بوتقتها وتمصيره تمصيرا تاما في وقت قصير.
ولكنه الاستعمار دائما في كل وقت وفي كل مكان، أمضى أسلحته تحطيم الروح المعنوية في الشعوب المستعمرة، وفي شبابها بوجه خاص، عن طريق التربية والتعليم، بما يدسه في الكتب والصحف من آراء تهدف دائما إلى فقدان الثقة بالنفس والإيمان بالله وبالوطن، وتحطيم المثل العليا، ونشر كل ما يدعو إلى الرخاوة والدعة والكسل والذلة.
فالطالب الفرنسي والطالب الإنجليزي يعلمان في مدارسهما كل صغيرة وكبيرة عن تاريخ فرنسا وإنجلترا وأبطالهما، والطالب المصري في المدارس المصرية كان إلى عهد قريب لا يعرف عن تاريخ بلاده إلا القدر الضئيل، وبالصورة المشوهة، فمن من شباب مصر كان يعلم شيئا تفصيليا عن بطولة المصريين في مواقع حطين ودمياط والمنصورة ورشيد للدفاع عن مصر والشرق الإسلامي ضد خطر الصليبيين والإنجليز؟
ومن من شباب مصر كان يعلم شيئا تفصيليا عن بطولة جيش مصر في وقعة عين جالوت للدفاع عن مصر والشرق، بل والعالم الأوروبي كله، ضد خطر التتار المخرب المدمر؟
لقد خرج التتار من أواسط آسيا بقضهم وقضيضهم في جموع حاشدة تضم عددهم وأسلحتهم ودوابهم، ألوف الألوف لا يدينون بدين سماوي ولا يتحضرون بحضارة ما، بل لا يفهمون معنى الحضارة ولا يقدرونها، وظلوا سنوات طوالا يتقدمون والنصر حليفهم، لا يمنعهم مانع، ولا تصدهم حصون أو قلاع، ولا تقف أمامهم جيوش أو دول، وهم في نشوة النصر يخربون ويقتلون ويسلبون وينهبون، فقضوا على دولة خوارزم بعد نضال عنيف، وقضوا على الخلافة العباسية في بغداد، ثم تقدموا فاستولوا على الشام، ووصلوا أخيرا إلى حدود مصر عند غزة، فتملك الفزع سكان الشرق الأوسط من هذا الشعب الذي لا يهزم أبدا.
وأرسل هولاكو رسله إلى سلطان مصر العظيم سيف الدين قطز ينذره بالويل والثبور إن هو لم يسلم ولم يخضع، ولكن قطز مزق الرسائل، وقتل الرسل، وعلق رءوسهم على أبواب القاهرة، وخرج بجيوش مصر، وبث الحماس في جنوده، وانتصر لأول مرة على جيوش التتار في وقعة عين جالوت الحاسمة.
ولأول مرة يذوق التتار - منذ خرجوا من قلب آسيا - طعم الهزيمة، ثم توالت عليهم الهزائم إلى أن طردوا من الشام جميعا، ولم ينتصر قطز إلا بقوة إيمانه، فإن الرواية تذكر أن الجيش المصري أوشك على التخاذل في بدء المعركة، فتقدم قطز الصفوف، وألقى بخوذته على الأرض، وصاح صيحته المشهورة: «وا إسلاماه! يا الله، انصر عبدك قطز على التتار.»
آمن هذا العبد بربه فنصره الله على أعدائه هذا النصر المبين.
لو أننا كنا نعلم شبابنا في المدارس هذه الحقائق التاريخية، لخلقناهم خلقا آخر يؤمن بالله وبالوطن وبالمثل العليا، ويضحي في سبيل ذلك بكل ما يملك، حتى بالروح، ولكنها سياسة الاستعمار وأتباعه كانت تغطي هذه الصفحات المشرقة من تاريخنا.
واجبنا إذن أن نكشف للشباب هذه الأكذوبة الكبرى التي خلقها الاستعمار يوم دخوله مصر، ومن الواجب أن تخرج معه يوم خروجه ، وواجبنا أيضا أن نثبت لشبابنا إثباتا علميا صحيحا أن مصر كانت في معظم عصورها مستقلة استقلالا تاما، وأن نبرز أمامهم أمجادنا الحربية والحضارية.
الاستعمار البريطاني ليس وليد القرن التاسع عشر
وواجبنا أخيرا أن نثبت لشبابنا حقيقة أخرى هامة غفل عنها الكثيرون، وهي أن الاستعمار الأوروبي لبلادنا ولبلاد الشرق الأوسط لم يكن وليد القرن التاسع عشر، بل هو حلقة من سلسلة محاولات قديمة، هدف بها الأوروبيون إلى استعمار مصر والشرق العربي.
بدأت هذه السلسلة بمحاولات الأوروبيين غزو هذه البلاد باسم الصليب، ولكن مصر تزعمت بلدان هذا الشرق العربي، واستطاعت أن ترد حملات هؤلاء الأوروبيين مرة ومرات، وأعطتهم دروسا قاسية لا يمكن أن ينسوها أبدا، لعل أخطرها أسر ملك فرنسا لويس التاسع في موقعة فارسكور، وسجنه بمدينة المنصورة، ولا يجوز أن نستمع إلى قالة القائلين إن هذه كانت حربا دينية صرفة، فنحن لو استثنينا الحملة الصليبية الأولى وما صاحبها من حماس ديني، نجد أن الحملات التالية كلها كانت حملات استعمارية بحتة، الهدف الأول والأخير منها استعباد هذه البلاد، وإفناء أهليها، والسيطرة على مواردها، وإن كان قواد هذه الحملات وجنودها قد لبسوا مسوح الدين، فإنما ليخدعوا العالم وليحققوا مآربهم باسم الدين، وإلا فإن الدين المسيحي - دين المحبة والسلام - لا يمكن أن يقر الوحشية التي اتصف بها الصليبيون في حروبهم.
قاومنا إذن هذه الحلقة الاستعمارية الأوروبية الأولى، ونجحنا في مقاومتها لأننا كنا مؤمنين ولأننا كنا أقوياء، وكانت لنا مثل عليا نحارب من أجلها.
وتابع المماليك سياسة الأيوبيين، وظلوا يقاومون هؤلاء المستعمرين الأوروبيين إلى أن أخرجوا آخر جندي أوروبي من عكا في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، ولجأت بقايا هؤلاء الأوروبيين إلى جزيرتي قبرص ورودس، وأقامت فيهما دولا دأبت على مهاجمة السواحل المصرية، فأرسلت مصر في عهد السلطان برسباي أسطولا مصريا ضخما إلى جزيرة قبرص في القرن الخامس عشر فتح هذه الجزيرة، وعاد الجنود المصريون المنتصرون يشقون شوارع القاهرة، وفي ركابهم ملك قبرص أسيرا. فمن من شباب مصر يعرف هذه الصفحة المشرقة من تاريخنا؟ ومن منهم يعرف أن قبرص ظلت جزءا من ملك مصر إلى أن فتح الأتراك العثمانيون مصر فضموها إليهم.
وشغلت الدول الأوروبية بنفسها وقتا ما خضعت في إبانه مصر للحكم العثماني فأصابها الضعف والانحلال، فلما بدأت دول أوروبا نهضتها الحديثة عادت ترنو بأنظارها نحو مصر وبلدان الشرق العربي، تريد أن تحقق حلمها القديم.
وأتت حملة نابليون إلى مصر في أواخر القرن الثامن عشر، ولقيت من مقاومة الشعب المصري الأمرين، فلم يتركها هذا الشعب المجيد تنعم بالراحة لحظة واحدة، فقاوم السكندريون بزعامة السيد محمد كريم، وثار القاهريون ثورتهم الأولى والثانية، وقاد الشعب في مقاومته البطل المصري السيد عمر مكرم، وثار سكان دمياط والمنزلة والدقهلية بقيادة البطل المصري حسن طوبار، بل لقد قاوم المصريون الفرنسيين في كل مكان حتى أسوان، واضطر الفرنسيون أخيرا إلى الخروج من مصر بعد ثلاث سنوات.
وكانت جنود الإنجليز قد نزلت بأرض مصر مع الجند العثمانيين في سنة 1801 بحجة الإشراف على جلاء الفرنسيين وإعادة مصر إلى السلطان، ولكن إنجلترا بدأت تتلكأ بعد خروج الفرنسيين، تريد انتهاز الفرصة وإبقاء جنودها في مصر، غير أن الفرصة لم تواتها، واضطر جنودها إلى الخروج.
وبدأت إنجلترا تفكر منذ ذلك الحين تفكيرا جديا في العودة إلى مصر واحتلالها، وعادت إنجلترا في سنة 1807، ونزلت حملة فريزر إلى الإسكندرية، وتقدمت نحو رشيد، وتفرق الأهلون في المنازل حتى انتشر الجند الإنجليز في الشوارع والطرقات فأمطرهم الأهالي القذائف من كل نوع ومن كل صوب، فقتلوا أحد قوادهم وعددا كبيرا منهم، وأسروا عددا آخر، وفر الباقون منهزمين.
فللشعب هنا أيضا الفضل في مقاومة الإنجليز، وأرسل الأسرى ورءوس القتلى إلى القاهرة، فارتفعت روح الشعب المعنوية، وبدأت حركة التطوع، وبدأ الشعب يقيم الاستحكامات في القاهرة استعدادا للدفاع عنها، إذا قدر للإنجليز أن يتقدموا إليها، وتولى الإشراف على هذا كله وإذكاء الروح المعنوية البطل المصري عمر مكرم، فقد حدث هذا كله ومحمد علي غائب في الصعيد يطارد المماليك، ثم هزم الإنجليز مرة أخرى عند قرية الحماد، فبدءوا يفكرون في الانسحاب، وجلوا عن مصر في أغسطس سنة 1807 بعد ستة أشهر، ولكن ليتحينوا الفرص المواتية ليعودوا إليها مرة أخرى.
وقد واتتهم الفرصة بعد خمسة وسبعين عاما كان الشعب في خلالها قد بايع محمد علي واليا عليه بشرط أن يقيم العدل بينهم، ولكن محمد علي لم تكد تستقر له الأمور حتى عمل على التخلص من الزعامة المصرية ممثلة في شخص عمر مكرم، واستبد محمد علي بأمور الحكم كلها، وخلفه ولاة من أسرته، كانوا أسوأ منه بكثير إذ لم تكن لهم على الأقل نزعته الإصلاحية، إلى أن كان عصر إسماعيل وسياسته المضطربة، وبدأت دول أوروبا وخاصة فرنسا وإنجلترا تتدخل، ووجدت المراقبة الثنائية، وانتهى الأمر بعزل إسماعيل ونفيه وتولية توفيق، وفي عهد توفيق نزلت جنود بريطانيا أرض الوطن.
واليوم، وبعد أربعة وسبعين عاما يحمل الاستعمار عصاه علي كتفه ويغادرنا غير مأسوف عليه، فما قصة هذا الاحتلال؟
إنها قصة الخداع والخيانة، إنها قصة البغي والعدوان، إنها قصة المآثم جميعا التي ظللنا نعاني منها ثلاثة أرباع القرن، فاستمعوا أيها المصريون إلى هذه القصة نرويها فيما يلي، ففي إلمامكم بها عظة وذكرى، إن الذكرى تنفع المؤمنين.
مصر قبيل الاحتلال
تولى توفيق حكم مصر في 26 يونيو سنة 1879، وكان مركز مصر الدولي حينذاك أعجوبة الأعاجيب، فلا هي دولة مستقلة ولا هي ولاية تابعة لغيرها؛ فهي من الناحية الدولية الرسمية، وتبعا لمعاهدة لندن سنة 1840، تعتبر جزءا من أملاك الدولة العثمانية، وقد اعترفت بهذه التبعية دول أوروبا الكبرى، إنجلترا وروسيا وبروسيا والنمسا والمجر، والخديو وإن كان يتولى الحكم بطريق الإرث لأنه من سلالة محمد علي فإنه لم تكن له الحرية التامة في التصرف في شئون مصر الداخلية والخارجية.
وليت الأمر وقف عند حد التبعية لتركيا، إذن لهان الخطب، ولسهل على مصر وهي تخطو وقتذاك خطواتها الوئيدة نحو التقدم أن تنفض عن كاهلها عبء هذه التبعية في الوقت المناسب، وخاصة أن تركيا كانت كما وصفها سياسيو أوروبا بحق كالرجل المريض، ترقص رقصة الذبيح وتعاني من حشرجة الموت.
ولكن الخطب كان أجسم؛ فإن فرنسا التي حاولت محاولتيها الفاشلتين في عهدي لويس التاسع ونابليون، وإنجلترا التي حاولت محاولتيها الفاشلتين في سنتي 1801 و1807 لم يغرب عن خيالهما بعد هذا الحلم القديم، حلم السيطرة على وادي النيل، وقد مهد إسماعيل بسياسته المالية الخرقاء الفرصة لهاتين الدولتين للتدخل العملي في شئون مصر رغم هذه التبعية الدولية الشكلية لتركيا، وفرضت الدولتان على مصر شبه حماية مشتركة حين أوجدتا نظام الرقابة الثنائية؛ ذلك النظام الذي جعل لإنجلترا وفرنسا حق الإشراف الفعلي على شئون مصر المالية والإدارية، ثم تطور هذا النظام إلى تعيين وزيرين أوروبيين في الوزارة المصرية، وبذلك فقدت مصر ذلك القدر الضئيل الذي كان لها من الاستقلال في إدارة أمورها الداخلية.
ترى هل كان هذا وذاك هو كل ما بليت به مصر في أواخر القرن التاسع عشر من أرزاء؟
كلا، بل لقد تكاثرت عليها البلايا التي أفقدتها مقوماتها كدولة، والتي أفقدت المصريين كل حقوقهم كمواطنين؛ فقد كان هناك نظام القضاء المختلط إحدى هدايا إسماعيل، وهو نظام غريب لم تعرفه دولة من دول العالم في أي فترة من فترات التاريخ، نظام يحد من سلطان مصر وسيادتها في التشريع والقضاء، ويخضع المصريين لمحاكم أجنبية في كل شيء، في قضائها وتشريعها، ولغاتها، وهو إلى هذا وذاك سند قوي لنظام الامتيازات الأجنبية، كما أنه يفتح الباب على مصراعيه أمام الدول الأوروبية للتدخل في شئون مصر المالية والإدارية والتشريعية، وفي كلمة واحدة أصبحت لهذه المحاكم سلطة أقوى من سلطة الحكومة المصرية، بل لقد أصبحت دولة داخل الدولة.
وكان يصاحب هذه الأحوال الداخلية المضطربة ويعاصرها انتشار فكرة التسيطرية الاستعمارية
Imperialism
في أوروبا، ومن علائمها ضغط إنجلترا وفرنسا وتدخلهما العملي السافر الذي أدى إلى خلع إسماعيل وتولية توفيق، ثم هذا التدخل المالي والسياسي، ثم إقدام فرنسا على غزو تونس وضمها لأملاكها في سنة 1881.
كل هذا أوجد في مصر والشرق الأدنى حالة نفسية جديدة، وانقلب إعجاب الشرقيين بالأوروبيين إلى شعور قوي بالسخط والكره والحقد، وأخذت الأوروبيين روح العزة والسيطرة، واعتقدوا أنهم عنصر ممتاز من حقهم ألا يخضعوا لقوانين هذه البلاد المتأخرة في نظرهم، ومن حقهم أن يعدلوا في قوانين مصر كما شاءوا وإنما لصالحهم هم لا لصالح البلد وأهليه، وتمادوا في عتوهم فنظروا إلى الحكام نظرة متعالية، وعاملوهم باحتقار، ووصفوهم بأوصاف تبعد عن الذوق والأدب والمجاملة.
وهكذا انقلب الوضع، فبعد أن كانت الامتيازات الأجنبية تعتبر منحة من حكام مصر لحماية التجار الأوروبيين ولتيسر لهم القيام بمهامهم التجارية، أصبحت في القرن التاسع عشر سلاحا قويا في أيدى هؤلاء الأوروبيين يستخدمونه لإذلال المصريين والسيطرة على جميع أموالهم، وليحموا أنفسهم - فيما يدعون - من أوضاع الشرق الفاسدة ومن ظلم حكامه وسوء إدارة موظفيه، ووجد المصري نفسه بذلك غريبا في بلاده، وتعالى هؤلاء الأجانب ووقفوا دائما حجر عثرة في سبيل كل إصلاح؛ فقد اعتقدوا أن كل إصلاح سينتهي حتما بالقضاء على مصالحهم وعلى المركز الممتاز الذي يتمتعون به، وعلى المكاسب التي تجد طريقها إلى جيوبهم، وإلى جيوبهم وحدهم.
وسط هذا الظلام الحالك كان المصريون يقلبون وجوههم في كل اتجاه يلتمسون قيادة حكيمة تخرجهم من هذه المتاهة، وتفهم عنهم آلامهم، وتقدر آمالهم وتقودهم نحو الطريق السوي للتخلص من ربقة هذا التدخل الأجنبي الذي كانت تضيق قبضته حول رقابهم يوما بعد يوم، وللخلاص من هذا الارتباك المالي الذي أنتجته سياسة إسماعيل.
وكان المصريون بعد هذا يتطلعون إلى قيادة منهم تحقق آمالهم في الحرية والاستقلال؛ فقد كانت الدولة العلية صاحبة السيادة الاسمية في شغل شاغل عن مصر ومشاكلها، ولم يكن يعنيها إلا أن تستعيد سلطانها العتيق الفعلي على مصر، وكان توفيق صاحب العرش شخصية ضعيفة مترددة، ومع هذا كان ديكتاتوري النزعة لا يؤمن إيمانا صادقا بالدستور أو الحياة النيابية أو حقوق الشعب، وكان يعنيه أن يرضي دول أوروبا قبل إرضاء المصريين، وخاصة بعد أن شاهد بعينيه كيف عزل أبوه نتيجة لتدخل أوروبا، وهو إلى هذا كله لم يكن يثق بمعظم رجال الحكومة وخاصة أولئك الذين كانوا يعملون مع أبيه.
الثورة العرابية
أشاح الشعب المصري إذن بوجهه عن الدولة صاحبة السيادة وعن الحاكم صاحب العرش، وتطلع إلى قيادة من بنيه ، ولم يطل انتظاره، فقد ظهرت هذه القيادة في شخص مصري فلاح هو أحمد عرابي أحد ضباط الجيش.
وقد بدأت الحركة العرابية حين بدأت داخل الجيش ولإصلاح الجيش، ولكنها لم تلبث أن تطورت فأصبحت ثورة عامة عارمة واحتضنت كل آمال الشعب، وأخذت تعمل على تحقيقها. وتاريخ الثورة العرابية تاريخ غريب أو هو يبدو كذلك لمن ينظر إلى التاريخ نظرة سطحية، أو لمن لا يتعمق الأسباب، ويدرس المقدمات، ويربط بينها وبين النتائج.
ثورة تبدأ حركة ضعيفة في ركن من الأركان، داخل الجيش لإصلاح الجيش ولإنصاف الضباط المصريين من اضطهاد السيطرة التركية الجركسية، ثم تتطور إلى أن تصبح ثورة عامة تنعقد عليها آمال شعب بأسره وتصبح اللسان المعبر عن كل ما يشكو منه الشعب من تدخل الأجانب، ومن اضطراب الأحوال المالية، ومن فقدان الحرية وضياع الكرامة، وتتبلور هذه الآلام والآمال سريعا فتصبح أهدافا واضحة تعمل الثورة على تحقيقها، وفي مقدمتها إصلاح الجيش واستعادة الحياة الدستورية. ثم، ثم تنتهي هذه الثورة بالفشل، بل وباحتلال دولة أجنبية لأرض الوطن، وهذا أغرب الغرائب في تاريخ الثورات.
كيف بدأت إذن هذه الحركة؟ وما أسبابها؟ وكيف تطورت فأصبحت ثورة؟ ثم كيف أخفقت وانتهى الأمر بمجيء إنجلترا إلى مصر؟
التاريخ لا يعرف المفاجآت، بل إن المتعمق في دراسته ودراسة فلسفته يرى أن له قوانين منطقية كقوانين الطبيعة؛ فالحركة العرابية لم تظهر فجأة، بل لقد كانت هناك مقدمات وأسباب مهدت لظهورها، ولعل أهم هذه الأسباب وأبرزها ظهور حركة الجامعة الإسلامية ونموها.
لبثت الدولة العثمانية تحكم دول الشرق الأوسط العثماني قرابة ثلاثة قرون، حرصت في خلالها على أن تضع لهذه الدول نظما تربطها بالدولة وتديم سيطرتها على هذه الولايات أطول مدة ممكنة، وأدت هذه النظم إلى تشاحن القوى لابتزاز الأموال، وتطاحنها للاستئثار بالسلطان، فساءت الأحوال ثقافيا واقتصاديا وحربيا، وإبان هذا أغلقت الأبواب والنوافذ في هذه الدول فانقطعت الصلة تماما بينها وبين أوروبا في وقت كانت أوروبا تنهض فيه نهضة علمية صناعية حربية، فلما وافى القرن التاسع عشر وبدأ الأوروبيون يعملون لتحقيق أحلامهم القديمة والسيطرة على الشرق الأوسط الإسلامي، وطرقوا الأبواب فلم يجدوا مدافعا؛ لأن الدولة العثمانية نفسها كانت قد آل أمرها إلى الضعف والانحلال، وبدأ الأوروبيون يزحفون نحو العالم الإسلامي زحفا وئيدا أكيدا، باسم المال والاقتصاد حينا، وباسم المصالح الأوروبية حينا آخر، وباسم القوة الغاشمة حينا ثالثا، عند ذلك ظهر شعور مضاد يعمل على تخليص العالم الإسلامي من سيطرة الغرب، هذا الشعور هو الذي كون فكرة الجامعة الإسلامية؛ فقد كان زعماء هذه الحركة ينظرون إلى الماضي المجيد يوم كان العالم الإسلامي قوة لها شأنها فيجدون أنه كان قوة يوم أن كان وحدة غير منفصمة العرى، وكانوا ينظرون مرة أخرى فيجدون عالمهم الإسلامي ضعيفا متخاذلا مغلوبا على أمره، وكانوا يجدونه متفرقا منفصم العرى، وقرنوا النظرة بالنظرة، واعتقدوا - وكانوا محقين في اعتقادهم - أن الوحدة الجامعة كانت سبب القوة، وأن الفرقة المتخاذلة هي سبب الضعف، فآمنوا أن حاضرهم لا يصلح إلا بما صلح به أولهم، وبهذا ولدت فكرة الجامعة الإسلامية.
كان روح هذه الحركة وزعيمها الأول جمال الدين الأفغاني.
رجل كريم المحتد طيب المنبت، يمتاز بذكاء خارق، عاش في طرف قصي من أطراف العالم الإسلامي هو أفغانستان وقت أن كان يتنازعها نفوذ الإنجليز والروس، وقضى حياته مرتحلا، فزار الهند وبلاد العرب وإيران ومصر، وفي كل بلد إسلامي نزل به كان يرى أهله أذلة، وكان يرى الأوروبيين هم الأعلون سلطانا ونفوذا، فحز في نفسه ما رأى، وهاله ما شاهد، فنادى بفكرة الجامعة الإسلامية، وكان سلاحه الأكبر لتحقيق هذا الهدف إيجاد نظام حكم دستوري؛ لأنه بعد تجارب متكررة يئس من حكام هذا الشرق الإسلامي ومن احتمال أن يعاونوا على إقالة العالم الإسلامي من عثرته، بل لقد آمن أن هؤلاء الحكام بنزعاتهم الاستبدادية القوية عامل آخر من عوامل التأخر، فهم والنفوذ الأوروبي آفتان يجب القضاء عليهما معا للنهضة بالعالم الإسلامي، والسبيل إلى ذلك وحدة إسلامية ونظام برلماني دستوري.
وكان أنبغ تلاميذ الأفغاني هو الشيخ محمد عبده المصري، أخذ عنه مبادئه، وشاركه منفاه، وعاونه في إصدار مجلة العروة الوثقى ، ثم كان قطبا من أقطاب الثورة العرابية عند مولدها، ثم كانت له جهود مشكورة في إصلاح الأزهر.
هذا سبب عام أثر في مصر كما أثر في غيرها من أجزاء العالم الإسلامي، ومهد لظهور الثورة العرابية كما مهد لظهور ثورات أخرى في أجزاء أخرى من العالم الإسلامي.
يضاف إلى هذا عوامل أو أسباب أخرى خاصة بمصر، لعل أبرزها انتشار روح التذمر نتيجة لازدياد نفوذ الأجانب ماليا وسياسيا، وإنشاء صندوق الدين، وتخصيص الجزء الأكبر من موارد البلاد لصالح الدائنين، واستعلاء الأجانب، واعتمادهم على الامتيازات الأجنبية والقضاء المختلط لعرقلة كل إصلاح قضائي أو مالي أو إداري داخل البلاد.
وصاحب هذا كله ظهور وعي قومي جديد نتيجة لانتشار التعليم النسبي وازدياد عدد المتعلمين، وتقدم الصحافة، والتجارب البرلمانية الأولى التي أتاحت للمصريين فرصة مناقشة أحوالهم في أواخر عصر إسماعيل، ولم يعمل الساسة والحكام من جانبهم على تغذية هذا الوعي القائم الوليد وتنميته، بل على العكس عملوا علي كبته ومحاربته، فتوفيق كما أشرنا ديكتاتوري النزعة، وكبير نظاره رياض على شاكلته يعمل على تقييد حرية الفكر ويضطهد كل مناوئ لسياسته.
وأخيرا أتت القشة التي تقصم ظهر البعير - كما يقول المثل - وظهر الخلل في الجيش، وذلك حين اضطربت الأحوال المالية في أواخر عهد إسماعيل، فأهمل الجيش كما أهمل غيره من مرافق البلاد، وعجزت الحكومة عن دفع مرتبات الجند والضباط، فانتشرت روح التذمر في صفوفهم، وفقدوا ثقتهم بالحكومة، وضاعت هيبة الحكام عندهم، وتطورت الأمور من سيئ إلى أسوأ حين استبد الضباط الأتراك بالأمور وعملوا على اضطهاد الضباط المصريين وإبعادهم عن الوظائف الكبرى في الجيش.
عند ذلك اشتد ضغط البخار إلى درجة أن الإناء لم يعد يحتمله إلا أن يجد منفذا ومتنفسا في أحد جوانبه، وكان المنفذ والمتنفس في ركن الجيش، وعند ذلك ولدت الحركة العرابية لتبدو في ظاهرها وأول أمرها أنها حركة جانبية مقصورة على الجيش وحده.
ولم تكن مطالب عرابي عسيرة التحقيق، أو أعجوبة من الأعاجيب، ولكنها كانت مطالب شرعية، يهدف بها إلى تحقيق أماني الشعب، فكان يطلب زيادة عدد الجيش، وإتاحة الترقية للضباط المصريين كما تتاح للجراكسة والأتراك، وإعادة الدستور، ولكن توفيقا كان استبدادي النزعة، وكانت تسنده دول أوروبا بقناصلها المقيمين في مصر، لا يريدون لهذا الشعب تقدما أو رقيا، بل يريدون إضعافه ليضربوا ضربتهم المبتغاة من زمن طويل، وتحرج الموقف بين زعيم الشعب وبين الخديو، وكانت مقابلة عابدين، التي قال فيها توفيق قالته الأثيمة: أنا خديو البلد وأعمل زي ما أنا عايز.
ولكن البطل عرابي رد عليه رده الوطني المشهور: نحن لسنا عبيدا ولن نورث بعد اليوم.
ولعبت إنجلترا لعبتها الماكرة واصطنعت حادثة المالطي مع المكاري في الإسكندرية؛ لتثبت أن الحكومة عاجزة عن حفظ الأمن، وعن حماية أرواح الأجانب المقيمين في مصر، ولتمهد بذلك السبيل لضرب الإسكندرية، وتحقيق حلمها القديم باحتلال أرض الكنانة، وقد نجحت فعلا أساليب إنجلترا الماكرة، وبدأ أسطولها يضرب حصون الإسكندرية في صباح ذلك اليوم الكريه، يوم 11 يوليو سنة 1882، وتطورت الحوادث في سرعة عجيبة، وانتهى الأمر باحتلال إنجلترا لمصر، فكيف بدأ ضرب الإسكندرية؟ وكيف تم الاحتلال؟ ثم كيف ظل شعب مصر يقاوم هذا الاحتلال أربعة وسبعين عاما لم يهدأ خلالها لحظة واحدة، ولم ين عن النضال في سبيل استعادة حريته، إلى أن نجح أخيرا في تحقيق هذه الأمنية الحبيبة؟
إنها قصة شعب طيب الأعماق، قدم للإنسانية أقدم حضارة عرفها العالم.
إنها قصة شعب جلد مصابر يعشق الحرية ويضحي في سبيلها بكل مرتخص وغال.
بدأت هذه القصة عندما رنت إنجلترا ببصرها نحو مصر تريد أن تستأثر بها، وخاصة بعد أن استولت فرنسا على تونس في سنة 1881. فنحن لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن مصير مصر قد قرر في نفس الوقت الذي استولت فيه فرنسا على تونس؛ فقد بدأت إنجلترا ترسم سياسة واضحة المعالم للتدخل وحدها في شئون مصر، وكانت الفرصة مواتية لأنها اعتقدت أن دول أوروبا لن تعترض على تدخلها، ولن تثير الصعاب في سبيلها.
موقف الدول
إن ألمانيا ومعها النمسا والمجر لم يكن يعنيها أمر مصر في كثير أو قليل، بل لعلها كانت ترحب بتدخل إنجلترا في شئون مصر، على أن تترك لها حرية التصرف في مشاكل أوروبا الداخلية، أما إيطاليا فقد كان يؤلمها أن تنفرد إنجلترا بالتدخل في شئون مصر؛ فقد كانت لها هي أيضا أطماعها في مصر، وكانت لا تزال تراودها أحلام الإمبراطورية الرومانية القديمة، ولكن إيطاليا في ذلك الوقت لم يكن لها وزن من الناحية الحربية أو المالية في الميدان الدولي؛ لهذا لم يحس أحد بألمها ولم يدخل أحد غضبتها في حسابه.
أما روسيا فقد شابهت ألمانيا والنمسا والمجر؛ أي أنها لم تكن تمانع في أن تعمل إنجلترا للاستيلاء على مصر ما دامت تترك لها حرية التصرف في بلاد البلقان.
ولكن بقيت هناك فرنسا، ولفرنسا في مصر ذكريات يرجع أبعدها إلى أيام لويس التاسع، ويرجع أقربها إلى حملة نابليون، ومنذ فشلت هذه الحملة وفرنسا تعتبر مصر ميدانا لنشاطها الثقافي والاقتصادي، بدأت هذا النشاط في أيام محمد علي وكانت آخر مظاهره تحقيق مشروع قناة السويس على يد مهندسها ديلسبس؛ لهذا كانت فرنسا ترقب محاولات إنجلترا في مصر دائما بعين يقظة، وأقصى ما استطاعته أنها حرصت دائما ألا تترك إنجلترا تتدخل وحدها في مشاكل مصر المختلفة، وقنعت بأن تشترك معها دائما في الإشراف على هذه المشاكل والعمل على حلها بما يتفق ومصالح الدولتين معا، إنجلترا وفرنسا، ولكن إنجلترا بدأت منذ احتلال فرنسا لتونس تعمل على أن تنفرد وحدها بالتدخل في شئون مصر؛ فقد أيقنت أن فرنسا لن تثير بعد هذا اعتراضا جديا قويا ضد تدخلها في مصر، وهي لو حاولت الاعتراض فلن يكون لاعتراضها وحدها أثر ذو أهمية.
ومع هذا فقد حرصت فرنسا على ألا تترك لإنجلترا الفرصة للتدخل وحدها في شئون مصر، ولم تجد إنجلترا بدا من قبول هذا الوضع ولكنها استعانت بدبلوماتيتها وسياستها الماكرة إلى أن استطاعت أن تتخلص من هذه المشاركة في الوقت المناسب، وعند ذلك ضربت ضربتها الناجحة.
وتفصيل ذلك أن الدولتين أقضت مضاجعهما الثورة العرابية، ووجدتا في نجاحها قضاء على مصالحهما ومصالح رعاياهما؛ لهذا أقدمتا على إرسال مذكرة مشتركة إلى مصر، وقدم هذه المذكرة قنصلا الدولتين في 8 يناير سنة 1882 إلى الخديو، وفيها تتعهد الحكومتان بتقديم عونهما إلى الخديو ومساعدته ضد الثائرين، والعمل على استقرار النظام القائم في مصر.
فرح توفيق بهذه المذكرة؛ فقد وجد فيها ضمانا كافيا لتقوية مركزه، وبذلك زادت الشقة بعدا بينه وبين الشعب، أما رجال الجيش فقد أثارتهم هذه المذكرة واعتبروها تدخلا سافرا في شئون مصر، وبدءوا يفقدون ثقتهم في إنجلترا، ورفضت وزارة شريف المذكرة وأبلغتها للباب العالي، وانطلق رجال الجيش في طريقهم وتوثقت الصلة بينهم وبين نواب الشعب، وبدأت الثورة تتبلور لتتخذ شكلها العام المعبر عن آمال المصريين جميعا وعن سخطهم على الدول الأوروبية.
وكانت تقارير القناصل الأوروبية، وخاصة تقارير «مالت» قنصل إنجلترا، تصور الحركة العرابية ونموها صورة مشوهة قاتمة، وتدعو الدول، وخاصة إنجلترا، للتدخل السريع الفعلي لحسم الموقف وإيقاف مطامع المصريين عند حدها، وثارت ثائرة فرنسا وإنجلترا بوجه خاص عندما أعلنت وزارة محمود سامي البارودي دستور 7 فبراير سنة 1882، وعندما أحستا أن الثائرين يفكرون جديا في خلع توفيق بعد أن فقدوا الثقة به، وعند ذلك اقترح «فريسنيه» وزير فرنسا الأول أن ترسل الدولتان أسطولا مشتركا للمياه المصرية لإرهاب وزارة البارودي كي تقف بأطماعها عند حد، ورحبت إنجلترا بالاقتراح؛ فهذه فرصتها المواتية التي ظلت تحلم بها أجيالا طويلة.
وأبحر أسطول فرنسي وآخر إنجليزي إلى مياه الإسكندرية، وأوعزت الدولتان إلى قنصليهما ألا يعترفا إلا بسلطة الخديو، وأن يطلبا منه إقالة الوزارة، وتردد توفيق كعادته، ولكن الوزارة عند تحرج الموقف اضطرت إلى الاستقالة، وإن كان الجيش قد أصر على بقاء عرابي.
وتحرج الموقف شيئا فشيئا، وزاد سخط المصريين، وزاد ضغط الدولتين للتدخل في شئون مصر وحدهما، وأثار وجود الأسطولين في مياه الإسكندرية شعور المصريين، ووسط هذا كله انتشرت الشائعات، وشاعت الأراجيف أن الأساطيل الفرنسية الإنجليزية ستعمل على ضرب الإسكندرية، فعم الذعر الأهلين.
ولم تكن هذه الشائعات بعيدة عن الحقيقة؛ فقد كان الأسطول الإنجليزي بوجه خاص يمهد جادا لضرب الإسكندرية، ولكنه كان يبذل الجهد ليتخلص من الشريك المنافس ولينفرد وحده بضرب المدينة، ولا عبرة لما يقوله بعض المؤرخين الإنجليز بأن «سيمور» أمير الأسطول البريطاني تصرف من تلقاء نفسه ليحقق لشخصه مجدا ذاتيا، فإنهم يقولون إن الأوامر كانت قد صدرت إلى أسطول بحر المانش كي يبحر لينضم إلى أسطول سيمور، وكان الأميرال دويل
Dowell
قائد أسطول المانش أرقى منصبا من «سيمور»، فإذا انضم الأسطولان كانت القيادة لدويل، وبذلك ينسب شرف الانتصار إليه إذا تم للأسطول البريطاني الانتصار عند ضرب قلاع الإسكندرية؛ لهذا أسرع «سيمور» بضرب الإسكندرية.
ولكن تطور الحوادث يثبت إثباتا قاطعا أن الأسطول الإنجليزي خرج ولديه خطة واضحة للعدوان، وعليه أن يستغل الأحداث والأسباب، فإن لم يجد مبررا فعليه أن يلتمس الأحداث والأسباب وأن يختلقها اختلاقا، والمبررات التي التمسها «سيمور» لضرب الإسكندرية فيها الدليل كل الدليل.
هذه المبررات تتلخص في أن المصريين بدءوا يعملون على تقوية حصون الإسكندرية وترميمها وتقويتها، واعتبر «سيمور» أن هذه الاستعدادات تهديد لبوارجه وأسطوله الواقف في ميناء الإسكندرية.
واعجب معي لهذا الذي قيل، واذكر معي قصة الحمل والذئب ليتضح لك وجه الباطل في هذا الذي قيل، وإلا فكيف يعقل أن يقترب اللصوص من داري فإذا عملت على تقوية أبواب الدار وإصلاح أقفالها وترميم نوافذها للدفاع عن الدار إذا فكر اللصوص في اقتحامها أو سرقة ما بها قيل لي أنت المدان، ففي هذه الإصلاحات والاستعدادات اعتداء على هؤلاء اللصوص وتهديد لكيانهم، فإذا لم توقفها اضطروا لاقتحام الدار دفاعا عن أنفسهم!
إنني لا أبتدع هذا القول ابتداعا ولا أرويه على سبيل الفكاهة، ولكنه الحقيقة كل الحقيقة، هذا ما قاله الأميرال الشجاع «سيمور» للحكومة المصرية، ولم تبلغ فرنسا من الذكاء ما بلغه «سيمور» في ذلك الوقت، فاجتمع مجلس وزراء فرنسا وقرر أنه لا يستطيع أن يصدر أوامره إلى الأميرال «كونراد» قائد الأسطول الفرنسي بالاشتراك مع «سيمور» ليمنعا بالقوة بناء الحصون أو نصب المدافع في قلاع الإسكندرية، وأخبر مسيو «فريسنيه» رئيس وزراء فرنسا سفير إنجلترا في باريس أن الحكومة الفرنسية تعتبر هذا التصرف لو تم عملا عدائيا هجوميا ضد مصر، والاشتراك في مثل هذه الحرب فيه إخلال بنص الدستور الذي يحظر الدخول في حرب دون موافقة مجلسي النواب والشيوخ، وتبع هذا أن أرسل «فريسنيه» إلى «كونراد» قائد الأسطول الفرنسي يأمره ألا ينضم إلى «سيمور» إذا وجه إنذارا نهائيا للمصريين بشأن التحصينات، وإذا أصر «سيمور» على ضرب المدينة فإنه يجب على «كونراد» أن يتراجع بسفنه وألا يشترك مع «سيمور» في هذا الضرب.
الإنجليز وضرب الإسكندرية أو قصة الذئب مع الحمل
بهذه التعليمات الصادرة في 5 يوليو سنة 1882 خلا الجو لسيمور فأسرع باتخاذ الإجراءات لتحقيق خطته قبل أن تراجع فرنسا نفسها، وعلى الرغم من أن وكيل نظارة الحربية المصرية ذهب يوم 6 يوليو لمقابلة «سيمور»، وقدم له تقريرا أكد له فيه أن الأعمال الإصلاحية في القلاع قد أوقفت، وأن هذه الأعمال لم يكن يقصد بها تهديد الأسطول البريطاني أو الإضرار به، فإن «سيمور» لم يقتنع ولم يرعو؛ فإن قصة التحصينات وتهديد الأسطول لم تكن إلا خرافة أو تعلة يحاول بها أن يبرر هذا العدوان، تعلة لم تكن تقرها المبادئ الإنسانية أو القوانين الدولية أو الحكمة المنطقية، وإنما كان يقرها شيء واحد هو شريعة الغابة، الشريعة التي تبيح للقوي العدوان على الضعيف.
وفي هذه اللحظة تحرك قناصل الدول الأوروبية الموجودون في الإسكندرية، تحركوا لا للدفاع عن مصر والمصريين، بل للدفاع عن حقوق رعاياهم وأرواح رعاياهم وأملاك رعاياهم، فأرسلوا في 7 يوليو مذكرة مشتركة وقعوا عليها جميعا إلى الأميرال «سيمور» يسألونه هل اقتنع برد الحكومة المصرية ورضي بتأكيداتها أم أنه ما زال عند رأيه في ضرب الإسكندرية، فإنه لا يمكن أن يتم ضرب الإسكندرية - كما يقولون - «بدون أن يجر أخطارا جمة على المسيحيين والأهالي معا، ولا بدون تدمير ما لا يحصى من أملاك الأوروبيين».
هكذا كان يبدو ميدان المنشية (قبل المعركة).
وهكذا أصبح ميدان المنشية (بعد المعركة).
هكذا وقف جنود مصر وأبطالها، في إحدى قلاع الإسكندرية، يدافعون عن الوطن ضد العدو المغتصب.
وهكذا كانت تبدو طابية قايتباي بعد المعركة، وكل قطعة من سلاح تشهد أن جنود مصر دافعوا عن حصنهم أمجد دفاع.
وثيقة الخيانة (إنه توفيق يستعرض جنود الاحتلال في قلب القاهرة، في ميدان عابدين).
آثار التخريب (في ميدان مسجد الشيخ إبراهيم باشا).
وأسرع السيد سيمور بالرد على السادة القناصل في نفس اليوم، وتكاد كل كلمة من كلمات خطابه تنطق بأن الأمر مبيت، وأنه لا مفر من ضرب الإسكندرية، فهو يرغب في تأكيدات أوفى «لأن التأكيدات المكتوبة مهما تكن عباراتها قليلة القيمة بالنسبة للمصالح التي اؤتمنت عليها».
ثم هو يطمئنهم على أملاك الأوروبيين وأرواحهم لأنه لن يضرب المدينة بل سيكتفي بضرب القلاع، فإنه يقول في خطابه للسادة القناصل:
ويلزمني أن أبين لكم أني لا أنوي ولا قلت مطلقا إني أقصد أن أضرب مدينة الإسكندرية، فإن أعمالي الحربية إذا أمست ضرورية فستوجه إلى الحصون، ولا أرى سببا للخوف من وقوع تلف يصيب الأملاك الخصوصية التي أنتم من أجلها في وجل.
فالسيد قائد الأسطول البريطاني والسادة قناصل الدول الأوروبية لا يعنيهم من أمر الضرب إلا حماية أرواح الأوروبيين وأملاكهم، وهذا هو مدى فهمهم للقيم الإنسانية، فلا ناس إلا الأوروبيون، أما أصحاب البلد وأما أملاك المصريين وأما مصر نفسها فإلى الجحيم في سبيل تحقيق مآرب السيد الأوروبي وفي سبيل سيادته ورفاهيته.
ومع هذا فإن الأميرال «سيمور» لم يف بوعده، وسنرى بعد قليل أن الضرب لم يقف عند القلاع، بل انصب على المدينة كلها؛ فخرب معظم أحيائها تخريبا بشعا ما زالت تشهد به الصور التي أخذت للمدينة قبل الضرب وبعده.
وكان «سيمور» متلهفا على تحقيق بغيته، فعلى الرغم من تأكيدات المصريين له في 6 يوليو بأن التحصينات قد أوقفت فقد استأنف في اليوم التالي وهو يوم 7 يوليو فصلا جديدا من قصة الذئب والحمل، فأرسل إلى قائد الإسكندرية الحربي يخبره أنه قد علم بأن مدفعين جديدين قد نصبا في اليوم السابق في خطوط الدفاع المشرفة على البحر، وأن بعض الاستعدادات الحربية على وشك الانتهاء، والقصد منها - كما يقول في خطابه:
تهديد الأسطول الذي تحت قيادتي، فيجب علي والحالة هذه أن أعلنكم أنكم إن لم تأمروا بالإقلاع عن هذه الأعمال أو تكونوا قد أمرتم بالإقلاع عنها يكون واجبي ضرب الحصون الجاري فيها البناء.
وأسرع طلبة عصمت قائد القوات المصرية بالإسكندرية فرد عليه مؤكدا أن هذه الأخبار عارية عن الصحة.
قال الذئب للحمل عندما أفحمه الحمل بردوده المنطقية التي تثبت براءته: «إذن فهو أبوك أو عمك الذي عكر علي الماء، ثم انقض عليه فافترسه.»
وعندما أفحم «سيمور» ظل يومي 8 و9 يوليو يتلمس سببا جديدا، فلما لم يجد شيئا أرسل إلى قائد القوات المصرية في 9 يوليو هذه البرقية:
إيماء إلى برقيتي المؤرخة في يوم 4 يوليو 1882 أقول إنه ليس هناك أدنى ريب فيما يتعلق بالتسليح، وأني سأخطر قناصل الدول الأجنبية غدا عند شروق الشمس وأشرع في الضرب بعد 24 ساعة إن لم تسلم إلي الحصون القائمة على البوغاز والتي تشرف على الميناء.
وانقض سيمور ببوارجه علي الإسكندرية.
الآن حصحص الحق، فالمصريون مهما أكدوا كاذبون، والسيد «سيمور» صادق ولا شك في صدقه، وما دام يقول إن التحصينات مستمرة فيجب أن تكون التحصينات مستمرة، وعلى المصريين الآن إما أن يسلموا قلاعهم أو حصونهم عن طيب خاطر، وإلا فإن الأميرال «سيمور» يكون مضطرا لضربها للدفاع عن نفسه وعن أسطوله.
واقرءوا معي أيها المصريون هذه البرقية الثانية التي أرسلها مستر «كارترايت» من ظهر البارجة «هلكن
Helicon » - إحدى سفن الأسطول البريطاني - في نفس اليوم وهو 9 يوليو إلى وزير خارجية إنجلترا:
سيدي اللورد
أتشرف بإخباركم أنه اتصل بالأميرال سير بوشامب سيمور أن مدفعين جديدين نصبا صباح اليوم بحصن السلسلة القائم تجاه الميناء الجديدة ولا يستطيع الأميرال أن يلازم الصمت حيال هذا العمل العدائي، فقرر أن يطلق النار عند شروق شمس يوم الثلاثاء 11 الجاري.
يا للهول! لقد جرؤ المصريون على نصب مدفعين في أحد الحصون، إنهم بهذا يهددون الأسطول البريطاني الهادئ المسالم!
إنها ملهاة عجيبة تحتاج شاعرهم العظيم شكسبير ليصيغ منها مسرحية خالدة، وليسجل فيها وحشية المصريين الذين جرءوا على نصب مدفعين قديمين قد علاهما الصدأ ولا تكاد قذائفهما تنطلق حتى تتساقط في مياه البحر على بعد أمتار قليلة، وليسجل فيها أيضا إنسانية الأسطول الإنجليزي الذي أبى إلا أن يضحي ببعض جهوده وقذائفه لتأديب هؤلاء المصريين المتوحشين ولمنع عدوانهم، وذلك بتخريب قلاعهم ومدنهم وسلب حريتهم واستقلالهم واستغلال مواردهم وثرواتهم.
ومضى الأميرال الشجاع «سيمور» في كتابة بقية فصول القصة.
المصريون الوطنيون الثائرون لحريتهم وكرامتهم هم العدو كل العدو، وهم الهدف كل الهدف.
أما الأجانب من كل لون وجنس فهم عنصر ممتاز يجب حمايته حتى لا يناله ضر أثناء الضرب والعدوان.
وأما صاحب العرش، الخديو توفيق، فهو حليفهم الأكبر؛ فمن الواجب أيضا أن تشمله رعايتهم وحمايتهم.
وهذه أعجوبة أخرى من أعاجيب هذه القصة، فإنك لن تجد في كتب التاريخ مهما قرأت أن عدوا يهاجم بلدا فينضم صاحب العرش إلى العدو المهاجم ويحالفه ضد شعبه ورعيته، ولكن هكذا شاء توفيق، وهكذا ضرب للخيانة مثلا فذا لن تجد له شبيها أو مثيلا.
وفي نفس اليوم، 9 يوليو، أرسل مستر «كارترايت» مذكرة إلى قناصل الدول، هذا نصها:
سيدي
أتشرف بإخباركم أنه من المرغوب فيه إعلان كافة الأشخاص التابعين لحكومتكم بأن يكونوا في البواخر الراسية في الميناء في مدة 24 ساعة تمد من تاريخ هذا الإعلان.
وهذه البرقية وحدها تثبت في وضوح أن أكذوبة المدفعين لم تكن إلا تعلة، وأن ضرب الإسكندرية كان أمرا معدا، تتخذ لتنفيذه الخطوات في ترتيب منظم محكم.
وسعى الإنجليز في نفس الوقت إلى حليفهم الأكبر الخديو توفيق للاتفاق على خير السبل لتأمين حياته، ويذكر أحمد شفيق (باشا) في مذكراته أن مستر كارترايت أشار على الخديو توفيق أن ينزل هو وأسرته إلى إحدى البوارج الإنجليزية ليكون في مأمن مما عساه أن يصيب سراي رأس التين لأنها عرضة لقذائف المدرعات، فأبى.
والرواية على هذا الوضع قد يفهم منها أن الرجل كان وطنيا خالصا، فقد أبى أن يقبل حماية الإنجليز له، ولكن اسمع ما قاله مستر «كارترايت» في برقية أرسلها إلى «لورد جرانفيل» في 7 يوليو، يخبره فيها بمقابلة تمت بين الخديو والسير «أوكلاند كلفن
Auckland Colvin »، وينقل إليه فيها ملخص ما دار بين الرجلين من حديث، قال فيها:
وأعرب سموه (الخديو) عن نيته في الانصراف هو ودرويش باشا إلى أحد القصور القائمة على شاطئ المحمودية إذا كان الضرب من جانب الأسطول الإنجليزي، وأنه بقدر الإسراع في إنجاز الضرب يقل الخطر الذي يحيق بشخص الخديو.
وكان سموه أثناء المقابلة رابط الجأش، يتكلم بصوت هادئ، واختتم الحديث بتوجيه الرجاء إلى سير «أوكلاند» أن يبلغ قراره هذا إلى سعادتكم.
ولقد عقدت العزم على أن أخبر درويش باشا أنه في حالة حدوث ضرب تلقي حكومة صاحبة الجلالة البريطانية عليه مسئولية سلامة الخديو الشخصية وأمنه.
ومضى الأميرال «سيمور» قدما في تنفيذ خطته، فأرسل مستر «كارترايت» قنصل بريطانيا في الإسكندرية خطابا إلى درويش باشا - مبعوث السلطان - في يوم 10 يوليو ينبئه بانسحابه من المدينة وبقطع العلاقات بين بريطانيا ومصر، وختم خطابه بالإشارة إلى الموضوع الهام الذي يعني بريطانيا، وهو سلامة سمو الخديو، قال في ختام خطابه:
ثم أخبركم أنني مكلف بأن أعلن سعادتكم بالضرورة الماسة لكفالة سلامة سمو الخديو في كل الظروف، وأن حكومة جلالة الملكة تأمل من سعادتكم أن تشملوا وقاية سموه وأسرته بكل أنواع الاحتياطات التي تستدعيها الأحوال باستعمال نفوذك المستمد من نيابتكم عن جلالة السلطان.
وكان درويش باشا أحكم من الخديو توفيق وأكثر منه وطنية.
درويش باشا التركي ونائب السلطان، انبرى في رده يدافع عن توفيق صاحب العرش ويبرهن على أن سموه يعنى بسلامة الوطن عنايته بسلامة شخصه، فقد قال درويش باشا في ختام رده علي مستر «كارترايت»:
أما التنبيه الذي وجهتموه إلي أن أكفل بكل ما لدي من الوسائل سلامة سمو الخديو، فيجب علي أن ألفت أنظارك إلى أنه ليس من الصواب إيجاد تمييز بين شخصية سمو الخديو توفيق باشا السامية وحكومته، وأنه لمن الطبيعي جدا أن سموه ما زال يعنى بسلامة وهناء البلاد التي يحكمها أكثر ما يعنى بسلامة شخصه.
هذا دفاع كنا نحب أن نسمعه من توفيق، ولكننا نطلب المستحيل لو طالبنا توفيقا بمثله، فسنرى الخيانة مجسمة في كل حركة من حركات توفيق بعد ذلك، سنراه يفر بروحه إلى سراي بعيدة عن الميناء يقيم فيها آمنا ليشاهد الإسكندرية العظيمة وقنابل الأسطول تخرب مبانيها وتقتل جنودها وأهليها، وسنراه ينتقل إلى سراي رأس التين ليرحب بالإنجليز عند نزولهم، وسنراه يستعرض جيوش بريطانيا في ميدان عابدين، وسنراه يفعل كل ما من شأنه التمكين للاحتلال البريطاني في أرض وادي النيل. فاذكروا هذا أيها المصريون ولا تنسوه.
وفي10 يوليو أرسل الأميرال «سيمور» خطابا آخر إلى قائد الإسكندرية الحربي يشير فيه إلى خرافة الاستعدادات الحربية، وينبئه فيه بأنه مصمم على تنفيذ وعيده وأنه سيبدأ ضرب الإسكندرية عند شروق شمس يوم 11 يوليو.
وعند ذلك حاول المصريون محاولة أخرى لإيقاف هذا العدوان المتوقع، فذهب راغب باشا رئيس النظار بنفسه لمقابلة الأميرال «سيمور» في البارجة «انفنسيبل» - مقر القيادة - وبعد نقاش طويل تنازل السيد «سيمور» وعرض على الوفد الذي يفاوضه تعديلا جديدا ملخصه أن يعمل المصريون على إنزال كل المدافع الموجودة في الحصون والقلاع المشرفة على البحر، وأن يقوم بهذه العملية الجنود المصريون تحت إشراف ضباط من الإنجليز.
يا للمهانة! أي دولة في العالم وأي جيش محترم يستطيع أن يقبل هذا العرض؟ وحمل راغب باشا هذا الاقتراح إلى المصريين ووعد أن يرسل الرد عليه في مساء نفس اليوم 10يوليو.
واجتمع مجلس كبير في رأس التين حضره توفيق ودرويش والنظار والقواد والأعيان، واختلفت الآراء، وكان من بينها ما يريد قبول الإنذار، ولكن بعد مناقشات طويلة قرر المجتمعون أن يرسلوا الرد التالي إلى «سيمور»، وهو رد مشرف، نرى أن نثبته هنا بحروفه؛ فهو وثيقة شرف لآباء لنا، أبوا - رغم قوة العدو وتفوقه حربيا - قبول الضيم، أو التهاون في الدفاع عن حقوقهم وحقوق الوطن عليهم. وفيما يلي نص الرد:
لم تعمل مصر شيئا يقضي بإرسال هذه الأساطيل المتجمعة، ولم تعمل السلطة المدنية ولا السلطة العسكرية أي عمل يسوغ مطالب الأميرال إلا بعض إصلاحات اضطرارية في أبنية قديمة، والطوابي الآن على الحالة التي كانت عليها عند وصول الأساطيل، ونحن هنا في وطننا وبيتنا، فمن حقنا بل من الواجب علينا أن نتخذ عدتنا ضد كل عدو مباغت يقدم على قطع أسباب الصلات السلمية التي تقول الحكومة الإنكليزية إنها باقية بيننا.
ومصر الحريصة على حقوقها، الساهرة على تلك الحقوق وعلى شرفها لا تستطيع أن تسلم أي مدفع ولا أية طابية دون أن تكره على ذلك بحكم السلاح.
فهي لذلك تحتج على بلاغكم الذي وجهتموه اليوم، وتوقع مسئوليات جميع النتائج المباشرة وغير المباشرة التي تنجم إما عن هجوم الأساطيل أو عن إطلاق المدافع، على الأمة التي تقذف في وسط السلام القنبلة الأولى على الإسكندرية، المدينة الهادئة، مخالفة بذلك لأحكام حقوق الإنسان ولقوانين الحرب.
وأيضا تقرر من باب المسالمة قبول إنزال ثلاثة مدافع يختارها الأميرال، وإذا أبى وأصر تلقى عليه مسئولية التعدي، وذلك بعدم المجاوبة إلا بعد إطلاق القنبلة الخامسة.
وحمل هذا الرد ضابطان مصريان إلى البارجة الانفنسيبل فجر يوم 11 يوليو، ولكن الجواب الطبيعي كان الرفض، وكان الإنجليز كراما فانتظروا حتى حمل الضابطان المصريان الرد ووصلا به إلى البر، ثم أعطوا الإشارة بإطلاق النار.
هل حقيقة أن هذه الاستعدادات الحربية كانت تهدد الأسطول البريطاني؟ أحسبني لست في حاجة إلى دحض هذه الفرية، ولكنني مع هذا أقتبس هنا ما قاله محام إنجليزي كان يعيش في الإسكندرية في ذلك الوقت وشهد هذه الوقائع بنفسه، قال هذا المحامي مستر «رويل
Royle » في صفحه 63 من كتابه «المواقع المصرية
The Egyptian Campaigns » تعليقا على إنذار «سيمور» النهائي:
إن الخطر الذي كانت تستهدف له بوارج الأميرال نتيجة للاستعدادات المصرية، لم يكن إلا خطرا وهميا في ذلك الوقت، ولو فرضنا أنه كان خطرا حقيقيا لكان في الإمكان تفاديه والبعد عنه إذا غير الأميرال موقف سفنه تغييرا طفيفا.
وفي الساعة السابعة من صباح يوم 11 يوليو سنة 1882 أمر القائد المغوار الأميرال «سيمور» بضرب الإسكندرية، وأرسلت السفينة «ألكسندرا» أول قذيفة إلى حصن الأسبتالية ثم تبعتها بقية البوارج والسفن، ولكن الطوابي المصرية لم تجاوب الضرب إلا بعد الطلقة العاشرة، والبعض الآخر بدأ بعد الطلقة الخامسة عشرة.
معركة غير متكافئة
ثم بدأت المعركة ولم تكن - بشهادة كل من كتب عنها - معركة متكافئة؛ فقد كانت مدافع الأسطول البريطاني أحدث وأقوى وأمتن، وكانت قذائفها أثقل وزنا وأبعد مرمى، أما قلاع الإسكندرية فلم تكن في حالة طيبة، وكانت كلها ما عدا طابية قايتباي قلاعا مكشوفة، أي أن الجنود كانوا يطلقون قذائفهم في العراء، لا تحميهم حوائط أو أسوار.
ورغم هذا فقد قاومت هذه الحصون في أول الأمر مقاومة عنيفة لم يكن أحد يتوقعها، مما اضطر البوارج الإنجليزية إلى تغيير خطتها، فألقت مراسيها على بعد محدد، وأخذت تلقي قذائفها من هذا البعد، واستطاعت أن تحدد أهدافها بعد أن كانت تتحرك أثناء الضرب، وبذلك استطاعت في منتصف الساعة الواحدة بعد الظهر أن تسكت حصون رأس التين، والفنار، والاسبتالية، بعد مقاومة باسلة وصفها القومندان «جودريتش» بقوله:
إن جنود المدفعية المصرية جاوبوا نيران الأسطول الإنجليزي الجهنمية مجاوبة مدهشة غير متوقعة البتة، وأظهروا بسالة عجيبة رغم التفاوت الجسيم بينهم وبين الإنجليز من ناحيتي عدد المدافع وعيارها.
واتجهت بوارج الأسطول بعد ذلك إلى حصن الأطة، وصوبت خمس مدرعات كبيرة مدافعها نحو هذا الحصن.
وكان القائد المصري لهذا الحصن مثالا نادرا للبطولة، فقد لبث إلى جانب العلم يدير المعركة في العراء بشجاعة عجيبة إلى أن أصابته قذيفة أطارته أشلاء متناثرة في الفضاء، ومن المؤسف حقا أن اسم هذا البطل ضاع مع معالم المعركة، فلا يستطع مؤرخو الاحتلال - على كثرتهم - العثور عليه، وليتنا في المستقبل نوفق لمعرفته لنعمل على تخليد ذكراه.
شاهد القائد الإنجليزي «وولتر جودسول
Walter Goodsall » قومندان الباخرة
Chiltern
إحدى سفن شركة التلغراف الشرقية
Eastern Telegraph
مقاومة هذا الحصن ودفاع قائده، وأعجب بهما، قال:
لقد عجبت من هذه البطولة التي لا يمكنني أن أدرك حقيقتها، تلك البطولة التي كان يتحلى بها الجنود الذين يطلقون مدافع حصن الأطة، كما أعجبت كل الإعجاب بموقف قائد هذا الحصن قرب سارية علمه وهو قائم وحده والمنظار في يده يراقب الآثار التي تركتها القذائف في الحصن.
لقد كان هذا القائد في الحقيقة رجلا شجاعا لا يعبأ بعدد المقذوفات التي كانت تنهمر على حصنه ... ثم أخذت البارجة «انفلكسيبل» تصوب مدافعها الضخمة نحو هذا الحصن إلى أن دكت أسسه ودمرته تدميرا، وفي منتصف الساعة الثانية بعد الظهر صوبت قنبلة إلى مستودع البارود بالحصن وأصابته فانفجر، ولا بد أن كثيرا من الجنود قد قتلوا، فإن عددا كبيرا منهم طار في الفضاء، وكذلك الضابط الباسل الذي كان واقفا كالأسد في عرينه طار في الهواء هو وسارية علمه.
وبعد تحطيم هذا الحصن اتجهت البوارج الإنجليزية إلى بقية الحصون الأخرى، وقاومت الحصون جميعا مقاومة عنيفة لا تقل بطولة عن مقاومة حصن الأطة، وأثبت الضباط والجنود المصريون من المهارة في القتال ما أثار إعجاب الإنجليز أنفسهم، كان الماجور «تلك
Tullock » أحد رجال المخابرات على ظهر السفينة انفنسيبل أثناء ضربها لحصن المكس، وقد قال في ص27 من كتابه
Recollections of Forty Years Service :
لقد كان مما يثير عجبي حقيقة أن أرى هؤلاء الجنود - رغم عنف الضرب - واقفين في أماكنهم حريصين على ملازمة مدافعهم، وكنت أرى في أكثر من مرة قذيفة من قذائفنا تدخل في إحدى كوات مدافعهم، وكنت أقول لنفسي: هذا المدفع قد انتهى وأصبح في حيز العدم، ولكنني كنت أعود فأقول: كلا ثم كلا؛ لأن هذا المدفع بالذات كان لا يلبث أن يعود لإطلاق قذائفه في الوقت المناسب، وقد أتت قذائف أحد المدافع المصابة مرة بسرعة فائقة جدا حتى إنني لم أتمالك نفسي، ووثبت إلى حافة السفينة، ورفعت يدي صائحا: لقد أجدت العمل أيها الجندي المصري.
أما الأميرال «سيمور» نفسه فقد قال في ختام تقريره عن المعركة:
ولقد قاتل المصريون قتال الأبطال بأقدام ثابتة، وكانوا يجاوبون النيران الشديدة التي تصبها على حصونهم مدافعنا الضخمة إلى أن قتل عدد كبير منهم.
ولقد شهد المعركة المسيو «جون نينيه» عميد الجالية السويسرية في مصر سنة 1882 ووصفها في كتابه «عرابي باشا»، قال:
يجب أن نعترف بأن هذه مجزرة همجية لا ضرورة لها، ولم يكن لها أي مسوغ، وليس الباعث عليها سوى الشهوة الوحشية المتعطشة إلى القتل وسفك الدماء، ولقد كان بودي أن أسائل أولئك الضباط الذين كانوا يباشرون الضرب ويقذفون قنابل المتراليوزات ، هل يستطيعون حينما يعودون إلى بلادهم ويجلسون حول موائد الشاي في بيوتهم أن يتحدثوا إلى ذويهم عن آثار الفتك والتدمير التي خلفتها تلك المجازر البشرية؟ إني أشك في ذلك، فليت شعري أي إهانة لحقت الأمة البريطانية حتى تثأر لنفسها بهذه الفظائع ...؟!
ويستطرد مسيو نينيه فيصف بطولة المصريين في دفاعهم فيقول:
ومع ذلك فما كان أبدع هذا المنظر، منظر الرماة المصريين الذين كانوا قائمين على مدافعهم وهي مكشوفة في العراء وكأنما هم في استعراض حربي لا يرهبون الموت الذي يكتنفهم؛ إذ لم يكن لهم دروع واقية ولا متاريس، وكانت معظم الحصون بلا ساتر، ومع ذلك فهؤلاء الشجعان من أبناء النيل كنا نلمحهم وسط الدخان الكثيف، كأنهم الأبطال الذين سقطوا في حومة الوغى ثم بعثوا ليكافحوا العدو من جديد ويستهدفوا لنيران مدافعه، وكان الأئمة يزورون الحصون ويشجعون المقاومة، وقام الجميع بواجبهم من جند ورجال ونساء وصغار وكبار، ولم يكن ثمة أوسمة ولا مكافآت تستحث أولئك الفلاحين على أداء واجبهم، بل إن عاطفة الوطنية والثورة على الفظائع التي استهدفوا لها كانت تستثير الحماسة في صدورهم، وهم هم أولئك الشجعان المجهولون الذين لم يفكر أحد في آلامهم.
وفي منتصف الساعة السادسة مساء عجزت حصون الإسكندرية عن الاستمرار في المقاومة فسكتت، وأعطى الأميرال «سيمور» أوامره بالكف عن الضرب.
تخريب الإسكندرية
ولم يصب التخريب الحصون والقلاع وحدها، بل أصاب معظم أحياء المدينة، فأصبحت بعد المعركة مجموعة من الخرائب المهدمة، وكم كان «سيمور» نبيلا حين أبدى في تقريره أسفه لما أصاب المدينة، قال:
وأراني متأسفا لاضطراري أن أخبركم أن مدينة الإسكندرية أصيبت بأضرار بالغة من الحريق والنهب.
ومن الذي سبب الحريق؟
إنها قذائف الأسطول.
ومن الذي سبب النهب؟
إنه الاحتلال البريطاني وجنوده.
إن الأميرال لم يف بوعده ويقصر الضرب على القلاع والحصون، بل لقد وجهت قذائف الأسطول إلى كل ناحية من أنحاء المدينة، فحرقت البيوت وقتلت الأهلين الآمنين. وصف هذا الاعتداء البعيد عن الإنسانية المسيو «نينيه» في كتابه سالف الذكر، قال:
وأقفلت الدكاكين والنوافذ والأبواب والبيوت في المدينة كلها، وخيل إلي أنني في بلدة قضي عليها بالخراب النهائي، وكانت قنابل الأسطول الضخمة تنهال على المدينة وتخترق أحياءها في كل جهة، وتدور فوق رءوسنا وهي تدوي دويها المفزع، فكانت تدمر المنازل في ناحية وتشعل النيران في ناحية أخرى، وترسل الموت في كل مكان، وقد مرت فوق رأسي خمس قذائف من «رسائل الإنسانية الغربية» على حد تعبير أحد الضباط، علي سطح المنزل الذي كنت أقيم فيه تجاه حمامات (كارتوني) بالقرب من محطة الرمل، فأصابت إحداها مدرسة فدمرتها، وأصابت ثلاث أخرى بعض المنازل من قصور الأغنياء بالقرب من شارع باب شرقي فخربتها، والخامسة قتلت أحد عشر شخصا وجوادين بأول شارع محرم بك، ولم يكن لهذه القذائف القتالة التي أصابت قلب المدينة ما يقابلها من جانب المصريين، فإن عرابي قد ارتأى منعا للدمار ألا تشترك قلعتا كوم الناضورة وكوم الدكة في الضرب لوجودهما وسط المدينة ... إلخ.
ولم ينفرد الضباط والجنود المصريون ببطولة الدفاع في هذا اليوم، وإنما شاركهم في هذه البطولة أهالي الإسكندرية، ولأهالي الإسكندرية في تاريخ الوطنية المصرية صفحات مجد مشرقات، فقد تطوع السكندريون وقدموا ما استطاعوا من معونة وخدمات للجند المحاربين، شهد بهذا الشيخ محمد عبده حين قال:
فكان الرجال والنساء تحت مطر الكلل ونيران المدافع ينقلون الذخائر ويقدمونها إلى بقايا الطوبجية الذين كانوا يضربونها، وكانوا يغنون بلعن الأميرال «سيمور» ومن أرسله.
وأكد هذا عرابي فقال في مذكراته:
وفي أثناء القتال تطوع كثير من الرجال والنساء في خدمة المجاهدين ومساعدتهم في تقديم الذخائر الحربية وإعطائهم الماء وحمل الجرحى وتضميد جروحهم ونقلهم إلى المستشفيات.
وقال محمود باشا فهمي في كتاب البحر الزاخر:
ورأيت في ذلك الوقت بعيني ما حصل من غيرة الأهالي بجهة رأس التين وأم كبيبة وطوابي باب العرب، وهمتهم في مساعدة عساكر الطوبجية، من جلبهم المهمات والذخائر وخراطيش البارود والمقذوفات، هم ونساؤهم وأولادهم وبناتهم، والبعض من الأهالي صار يعمر المدافع ويضربها على الأسطول.
هذا ما كان يعمله الأهلون والصبية والنساء، فماذا فعل توفيق؟ وأين كان؟
لقد كان توفيق يقيم أثناء الضرب في سراي مصطفى باشا بالرمل، ويقيم معه بعض الأجانب وبعض الأمراء ونفر من الخائنين من أمثال سلطان باشا، فلما انتهى الضرب أرسل إلى «سيمور» يستأذنه في الانتقال إلى سراي رأس التين فسمح له، ومنذ تلك اللحظة انضم توفيق إلى الإنجليز انضماما سافرا.
ولن أطيل في ذكر تفاصيل الحوادث التالية، فقد قاوم العرابيون في البحيرة ثم في الشرقية، ولكن النتيجة الحتمية كانت معروفة منذ وطئت أقدام الإنجليز أرض الإسكندرية.
بدأ الاحتلال الإنجليزي إذن في اليوم الحادي عشر من شهر يوليو سنة 1882، وأعلن الإنجليز منذ اللحظة الأولى، أنهم لن يبقوا في مصر طويلا، وأنهم إنما جاءوا لينصفوا الخديو ويحموه من الثائرين، وأنهم بعد قليل سيرحلون، وتكررت تصريحاتهم ووعودهم في هذا المعنى، ولكن المصريين لم يخدعوا بهذه الفرية أو بهذه الوعود، ولم يعترفوا بهذا الاحتلال لحظة واحدة، بل ركزوا جهودهم لمقاومة البريطانيين والعمل على طردهم.
ولقد حاكم الإنجليز عرابي وصحبه ونفوهم خارج مصر، وسرحوا الجيش ليقلموا أظفار البلد، وتعاون الحكام والإقطاعيون مع المحتلين على إسكات كل صوت، وإضعاف كل قوة، وإذلال كل عزيز.
جهاد طويل في سبيل الحرية
ولكن هل يستكين هذا الشعب الأبي لهذا الظلم وهذا المستعمر الغاصب؟ كلا؛ فالشعب المصري كما عرفناه دائما شعب دافق الحيوية، موفور الوطنية، قد يحني الرأس أمام العاصفة، ولكنه لا يستكين ولا يلين، فلم تلبث الدعوة الوطنية أن انبثقت بعد سنوات قليلة، وعلى لسان شاب يافع صغير السن، أعزل من كل سلاح مادي، ولكنه كان يناضل بروحه وقلبه ولسانه وقلمه، هذا هو الزعيم الوطني الكبير مصطفى كامل، كان منذ أيام دراسته يرى ويتألم، ويفكر ويعمل ويكتب، لقد أنشأ وهو بعد تلميذ مجلة «المدرسة» وجعل شعارها: «حبك مدرستك، حبك أهلك ووطنك»، وكم كانت له من مواقف وهو في عهد التلمذة للدفاع عن الحق ورفع الظلم.
ثم حملته روحه القوية إلى فرنسا ليتم تعليمه بها، وحصل هناك في سنة على ما لم يحصله غيره في سنوات، واتصل بالصحف والكتاب، وبدأ يكتب في الدفاع عن حق مصر وحريتها واستقلالها، ويهاجم المحتلين الإنجليز، وظل حياته كلها مجاهدا يتنقل بين مصر وبلدان أوروبا خطيبا وكاتبا، منددا بأعمال المحتلين ومناديا بالجلاء، وبحق مصر في الاستقلال، ينشئ الصحف باللغة العربية وباللغتين الإنجليزية والفرنسية، ويدبج المقالات، ويعقد الاجتماعات، ويثير الشعور، ويبعث النفوس، يهدف بهذا كله إلى إعادة الروح إلى هذا الشعب المجيد.
وكانت ضربته القوية هي التي وجهها إلى إنجلترا بعد حادثة دنشواي البربرية، فألب الدول جميعا على إنجلترا إلى أن اضطرت اضطرارا إلى سحب عميدها الخطير صاحب الكلمة الأولى في مصر وقتذاك وهو «لورد كرومر».
وقبيل وفاته أسس الحزب الوطني، وألقى خطبة الوداع، وكل كلمة فيها آية من آيات الوطنية.
وتولى زعامة الحركة بعده بطل الفداء والتضحية محمد فريد، فسار على نهج الزعيم الأول، وضحى في سبيل الحركة بكل ما يملك من مال، بل بصحته وحياته، فمات في أوروبا عليلا غريبا عن الوطن الذي يحبه ويتفانى في خدمته.
وكانت ثورة سنة 1919 الثمرة الحقيقية لحركة مصطفى كامل، وأذقنا في خلالها المستعمرين ألوان العذاب والمقاومة، وحمل لواء النضال سعد زغلول، وقاد المصريين خطوات في طريق الحرية إلى أن انحرفت إنجلترا بمصر عن الطريق القويم ودخلت بها في متاهة المفاوضات، إلى أن كانت معاهدة 1936 التي سميت يوما من الأيام بمعاهدة الشرف والاستقلال.
ثم تطورت الأحوال من سيئ إلى أسوأ حتى ران اليأس على نفوس الكثيرين، وحسب بعض الغافلين أن لا أمل في يقظة أو إصلاح، ولكن الحيوية الدافقة والوطنية المستكنة في هذا الشعب الخالد لم تلبث أن انفجرت في يوليو سنة 1952 في شكل ثورة تعود بالوطنية المصرية إلى أصولها الحقيقية.
ثورة سنة 1952
وقد فهمت ثورة 1952 التاريخ المصري الحديث فهما صحيحا، فقدرت أن المحتل لا بد له من عمد يرتكز إليها لترسخ في البلاد أقدامه، هذه العمد تتمثل في الجالس على العرش يضحي بكل شيء في سبيل متعته وفي سبيل الإبقاء على هذا العرش وسلطانه، وتتمثل في جماعة من نهازي الفرص لا هم لهم إلا الغنى والاستزادة من الثروة بأي سبيل، حتى ولو تعارض هذا السبيل مع مصلحة الشعب والبلد، بل ولو تعارض هذا السبيل مع المبادئ والمثل والشرف.
فكانت خطة الثورة خطة حكيمة، تتلخص في التخلص من هذا الجالس على العرش، العابث بشرف الوطن، والتخلص من هؤلاء الإقطاعيين النهازين، لتعود للشعب إنسانيته، وللوطن كرامته.
أما الهدف الثاني للثورة فهو وضع سياسة إنتاجية إصلاحية عامة تعمل لرفع مستوى الشعب اقتصاديا وثقافيا وصحيا.
وأما الهدف الأخير، هدفنا جميعا، وأمنية الأجيال المتتابعة فهو إخراج المحتل من أرض القنال؛ لتتطهر أرض الوادي جميعا من هذا الدنس الذي ظل عالقا بها هذه السنوات الطوال. وقد كانت الإسكندرية أول مدينة احتلها جنود العدو، وشاء القدر العادل أن تكون أول مدينة تجلو عنها جنود العدو، ففي فبراير 1947 جلا الإنجليز عن ثكنات مصطفى باشا وعن قلعة كوم الدكة، وفي مارس من نفس السنة جلوا عن ثكناتهم بالقاهرة. وها نحن أولاء نحتفل بتحقيق الهدف الأكبر وهو جلاء العدو عن آخر معقل له في أرض القنال.
أيها المصريون الأمجاد
لقد كانت هذه أمنية أجدادكم وآبائكم، التي ظلوا يجاهدون في سبيل تحقيقها السنين الطوال، والتي بذلوا في سبيلها الأرواح، وعلى الطريق المؤدي إليها كم من دموع سكبت! وكم من دماء أريقت! وكنتم أنتم السعداء أن قدر لكم أن تحيوا في عصر هذه الثورة الطاهرة الموفقة، وأن تشاركوا في حصاد أمجادها، وخير أمجادها استعادة الحرية المسلوبة.
العيد الأكبر
عيد الأعياد، عيد الحرية والجلاء
فاليوم عيدنا الأكبر.
اليوم عيد الأعياد.
اليوم العيد الحقيقي نحس له في نفوسنا فرحة ليس كمثلها فرحة.
وكم مرت بنا في الماضي أعياد كانت هي والمآتم سواء، فلم يكن يحس بها إنسان أو يفرح لمقدمها إنسان؛ فبعضها كان عيدا للجالس على عرشه، وبعضها كان عيدا لاستقلال مزعوم.
أما اليوم، 18 يونيو سنة 1956، فهو عيد الحرية الحقيقي، تجب له قلوبنا، وتهتز لمقدمه أرواحنا، وتستبشر بحلوله وجوهنا.
فافرحوا أيها المصريون كما لم تفرحوا من قبل، وأعلنوا عن فرحتكم الكبرى، وغنوا أغاني الحرية، ورددوا أهازيج الاستقلال، وأنشدوا أناشيد العزة والكرامة.
خريطة مدينة الإسكندرية (لبيان مواقع الحصون وموقف سفن الأسطول البريطاني).
ثم ...
ثم لا تنسوا وأنتم في غمرة فرحتكم الكبرى أن تذكروا الشهداء من جنودكم وأبطالكم وزعمائكم الذين رووا هذا الغرس الذي تجنون ثماره، بدموعهم وعرقهم ودمائهم.
أسكتوا أغانيكم اليوم لحظة.
وأوقفوا أفراحكم اليوم هنيهة.
واذكروا هؤلاء الأبطال الأمجاد الذين سبقوكم بالإيمان والكفاح والتضحية والفداء.
ففي هذه الذكرى بعض الوفاء لمن يجب لهم الوفاء.
ثم ...
ثم لا تنسوا وأنتم في غمرة فرحتكم الكبرى أن تشكروا.
أن تشكروا رجال الثورة وفي مقدمتهم صانع الثورة وبطل الجلاء جمال عبد الناصر.
إنهم فتية آمنوا بربهم وبوطنهم في وقت اشتد فيه الظلم وساد فيه الظلام، فوضعوا رءوسهم على أكفهم، وتقدموا لمحاربة قوى الشر جميعا، فأعزهم الله ونصرهم، وأعز مصر كلها ونصرها بنصرهم.
إنه واجب الشكر لمن يستحقه.
وإنه واجب العرفان بالجميل.
وأنتم أيها المصريون من أعرف شعوب الأرض بالجميل.
فأسكتوا أفراحكم اليوم لحظة، وأوقفوا أغانيكم اليوم هنيهة، لتحيوا جمالا، لتحيوا البطولة والمثل العليا، لتحيوا الأمل المشرق والمستقبل الباسم.
ثم ...
ثم لا تنسوا، وأنتم في غمرة فرحتكم الكبرى، أن تذكروا فضل الله عليكم.
فأسكتوا أفراحكم اليوم لحظات.
وأوقفوا أغانيكم هنيهات.
لتناجوا الله سبحانه مناجاة العبد الشاكر لأنعمه.
ولتصلوا له ركعات، تذكرون فيها فضله، وتشكرون فيها توفيقه، وتبتهلون إليه، سبحانه وتعالى، أن يتم عليكم نعمه، وأن يكتب لمصرنا العزيزة المجد والسؤدد.
الله أكبر.
الله أكبر كبيرا.
والحمد لله كثيرا.
الحمد لله أن نصر عبده.
وأعز جنده.
وهزم الأعداء والأحزاب وحده.
الله أكبر، والعزة والسؤدد لمصر.
جمال الدين الشيال
أستاذ التاريخ بجامعة الإسكندرية
9 من ذي القعدة سنة 1375 /18 من يونيو سنة 1956
Unknown page