لا شك أنه بذلك كان يكسب لدولته صداقة الأمة المصرية، ولشخصه ثناء من المصريين يعادل ثناءهم عليه لعمله على نمو الحرية الشخصية واحترام الحق والمساواة بين طبقات الأمة. (4) خصائص السياسة الإنجليزية
للسياسة الإنجليزية عدة خصائص أو بالأولى عدة قوى متماسكة متضامنة يتألف من مجموعها تلك السياسة التي تحكم على خمس العالم، وإحدى تلك المميزات أنها لا تنقل سفيرا في دولة ولا حاكما في مستعمرة ولا معتمدا في بلد، إلا إذا قضت الدواعي القاهرة كما حدث للورد كرومر معتمدها في القاهرة؛ فإن هذا السياسي الكبير يقيم في العاصمة المصرية منذ بضعة وعشرين عاما، ولولا طول إقامته لما تمكن من إظهار مقدرته؛ لأن النقل يقطع على السياسي سلسلة أفكاره التي يتمكن بها من الصعود إلى أعلى مراتب العلاء.
فلورد كرومر كان كبيرا بثلاث: مقدرته الشخصية، ومساعدة دولتة له بكل قواها، وسعة الوقت الذي انفسح له في مصر، وكان من يرسل نظرة شاملة إلى أعمال لورد كرومر منذ تعيينه معتمدا لدولته في هذا الوادي، يجد أن تلك المزية في السياسة الإنجليزية ساعدته أعظم مساعدة؛ لأنها مكنته من إتمام سلسلة أعماله حلقة فحلقة، والرجل كان يشهد له الخصوم قبل الأحباب بأنه بعيد مرمى النظر، طويل حبل الصبر، فكان كل عمل يأتيه تمهيدا لما يأتي بعده، وتوطئة للغرض الذي وضعه نصب عينيه، فما وافق على ترك السودان في أوائل عهد الاحتلال إلا ليبقي استئناف الحملة على السودان وسيلة جديدة بين يدي الاحتلال يتوصل بها لزيادة توطيد القدم الإنجليزية عند الفرصة الموافقة، وقد عرضت له تلك الفرصة سنة 1895 حين علم بسير القائد الفرنسي مارشان نحو السودان المصري، وما عقد بعد فاشودة من الاتفاق السوداني مع فرنسا إلا ليزيل ما بقي من آثار الاستياء في نفوس الفرنسيين بعد تلك الحادثة ويمهد السبيل لإطلاق يد الاحتلال في المالية داخل القطر، وإطلاق يد حكومته من الوجهة السياسية، فكان له ما أراد باتفاق سنة 1904 مع فرنسا، ثم بموافقة سائر الدول صاحبات الشأن في صندوق الدين على ما يتعلق بمصر، فتزعزع من تلك الساعة أساس هذا الصندوق.
وما مد اللورد يمين المساعدة في ذاك الاتفاق اكتفاء بمزاياه فقط، بل قال في نفسه: نحن نغنم ما يقدمه من المزايا السياسية والمادية، ثم نجعله تمهيدا جديدا لمشروع آخر عظيم هو تغير تلك الامتيازات في مصر، وحصر السلطة التشريعية في قبضة بريطانية، وما نيل هذا المراد بالأمر المستحيل ما دام الاتفاق الودي موجودا بين لندن وباريس.
هوامش
الفصل الخامس
ردي على اللورد كرومر
المصريون في رأي اللورد كرومر
على إثر استقالة اللورد كرومر نشر تقريرا عن آرائه وأفكاره وما قام به من أعمال في القطر المصري، وقد تناول هذا التقرير طبيعة المصريين وأخلاقهم وأفكارهم، كما تناول ميولهم نحو الجامعة الإسلامية التي كانت تجول في خواطر بعض المصريين في ذلك الحين، وقد قمت في مايو سنة 1907 بالرد على ما حواه هذا التقرير من أخطاء وادعاءات، وإني ألخص هذا الرد في الصفحات التالية:
ليس من موضوعنا أن نبحث عن قيمة الشرقي على العموم من جهة الأخلاق الثابتة وآثار التطوير المدني في تلك الأخلاق، ولا من جهة كفاءته السياسية لتدبير شئونه وحكم نفسه، ولا من جهة تاريخ الشرق في التمدن، ولا من جهة أن اليابان من بلاد الشرق كما استثناها اللورد كرومر في تقريره معتذرا بعدم معرفتها، ولكنا نتعرض إلى تفسير تلك الجملة المبهمة الكثيرة المعاني القليلة الألفاظ التي صدر بها هذا الموضوع في تقرير اللورد.
Unknown page