وصحيح أن بذل الجهد لذة، وأن ما يتعب فيه الإنسان يكون أحلى وأمتع مما يجىء بلا عناء، ولكنى لن أحرم لذة الجهد، حين أستغنى بالكتب عن الناس. وقد صرت آكل ما يريح وينفع، لا ما هو أشهى وأمتع، وأشرب ما يفيدنى لا ما هو أعذب فى فمى أو ما أنا إليه أميل وإنى لأرد نفسى عن كثير مما يتحلب عليه الريق ، لأن طاعة النفس فيه يجىء فى أعقابها ما لا يطاق من الآلام والأوجاع وهذا كله رياضة على الحرمان وعلى أن الحرمان لا يكون إلا من الطلب، ولا أعرف لى الآن مطلبا عند الناس، فقد بعد ما بينى وبينهم جدا، وإنى لأرانى مع الواحد منهم فأحس أنه فى كوكب آخر وعالم غير عالمى. ليس همى همهم، ولا أنا منهم ولا هم منى فى قليل أو كثير، ومتى ذهب الشعور بالمشاركة فماذا يبقى؟ ولست أعنى أنى خير منهم أو أفضل، ولكنى أعنى أنى أرانى مختلفا، والاختلاف ليس مزية، ولا أفضل فيه ولا رجحان.
وقلت لنفسى أيضا: «لقد ثار بى صديق مرة لأنى سألته ألا تشتهى أن تتمرغ كالحمار على الأرض؟ وحسب أنى أقول إنه حمار، وأنه لا ينقصه إلا أن يتمرغ وأعترف أنى أسأت العبارة عما أريد ولكنى إنما عنيت أن النفس تنزع إلى الحرية، وما دام لا ضير فيها على أحد فماذا يمنع منها؟ ولماذا نحيط أنفسنا بأسلاك شائكة لا ضرورة لها ولا منفعة منها؟»
وهبنى تمرغت على التراب، وتقلبت على الأرض، كما يفعل الحمار، فأين البأس هنا؟ إذا كان ثم بأس فهو على لا على أحد غيرى، وثيابى هى التى ستتسخ، ووجهى هو الذى سيتعفر، وإذا كانت نفسى تنازعنى أن أفعل ذلك، فإنى أنا الذى يؤذيه الإحجام عنه، وأنا الذى ترتاح أعصابه وتسكن نفسه إذا فعل. ولكن صاحبى غضب، وإن كنت لم أقصر فى الشرح والبيان، وفى الاعتذار من سوء العبارة وقبح الاختيار للمثل. ولا يزال يذكرنى بالسوء كلما عرض ذكرى فى مجلسه، ولاينفك يقول إنى وقح قليل الأدب، ولاشك أنى كما يقول، مادام الأدب هو ما يعرف. وقد يسره ويخفف من سخطه على أن يعرف - إذ أمكن أن يحمل نفسه على قراءة شىء لى - أنى أخرج فى بعض الأحيان، إلى الصحراء وأتمرغ كالحمار على رمالها، وأعوى كالكلب وأموء كالقط، وأصرخ وأصيح فى هذا الفضاء الشاسع، ثم أنهض وأنفض عن ثيابى الغبار، وأمسح وجهى ويدى. وأعود إنسانا محتشما ذا سمت ووقار، ولكن بعد أن أكون قد أرضيت نفسى وأشعرتها أنى حر ولى فى هذا الذى لا قيمة له عند الأكثرين، وأن فى وسعى أن أفعل ما أشاء، وأكون على ما أحب. ولا نكران أن هذا لا يتاح لى إلا وأنا منفرد وحدى، ولكنه ليس بالقليل أن تستطيع أن تكون متفردا وحدك وأن تنعم بذلك، ولا تستوحش نفسك ولا تصبو إلى الناس.
ولعل المتعة مستفادة من القدرة على مغالبة الصبوة إلى المجتمع لا مما عسى أن تفعل وأنت وحدك. ولكن كثيرين يكونون وحدهم، ولا عين عليهم، ولا خوف من أن يراهم أو يسمعهم أحد ومع ذلك لا يجرأون أن يفعلوا ما تحدثهم به نفوسهم.
الفصل السادس عشر
وقلت لنفسى أيضا: «لا أدرى لم هذا الموت؟ وإنى لأشتهى أن أرى حياة من لا يموتون، وبودى لو يمتد بى الأجل إلى زمان يسع الإنسان فيه أن يغالب هذا الردى العادى. وأحسب أن الموت هو مصدر ما نعده فضائل فى الإنسان، وقد شرحت هذا فيما كتبته عن المتنبى فى «حصاد الهشيم» فلا أعود إليه، ولكنى أحسبه أيضا علة ما ألفنا أن نسميه الرذائل. غير أنه ما الخير والشر؟ وما الفضيلة والرذيلة؟ أخشى ألا يكون هذا وما إليه أكثر من ضوابط للسلوك، ووسيلة لتنظيم الجماعة والانتفاع بما فى الطباع. وإنا لفى زمن يعد فيه الخير فى مكان شرا فى مكان غيره، والفضيلة هنا مرذولة هناك. ولقد أدركت عهدا كان ذكر الحب فيه عيبا؛ وكان تقبيل الفتى لأمه التى نجلته، قلة حياء، فالآن نعلم أولادنا أن الرجل والمرأة ما لم يتحابا لا يجوز أن يتعايشا، ونطلب لغير الشرعى من الأبناء مثل ما لصنوه الشرعى من الحق والكرامة، ونرى الخطيبين أو الزوجين، أو الصاحب والصاحبة يتلاثمان على قارعة الطريق وفى المجلس الحافل، ونحس الرضى والاغتباط من الناظرين، ونشعر أنهم يدعون لهما، ولا نحس أنهم يستهجنون أو ينفرون وليكن هذا كيفما شاء الله أن يكون، فأين العزاء فيه لحى لا يلبث أن يصبح «هالكا وابن هالك، وذا نسب فى الهالكين عريق»؟
وطال تفكيرى فى هذا الموت، وخامرنى خاطره، فهو لا يفارقنى فى يقظة أو منام، وإنى لأحلم به وإن كنت - بلطف الله - أصبح ناسيا ما تراءى لى من الصور والحوادث فى رقادى، وما غمضت عينى ليلة إلا وأكبر ظنى أن أفقد نفسى فلا أعود إلى الشعور بها، وقد أحب أن أهون على نفسى الأمر فأتساءل متغابيا أو مغالطا: «أترى كل ما فى الموت هو هذا الفقدان للشعور بالذات»؟ ولا ينفعنى هذا فأرتد وأقول: «وكيف يعد حيا من لا يعرف أنه حى ولا يحس بنفسه؟ وماذا تكون إذن جدوى استمرار حياة لايحسها الحى ولا يفطن إليها ولا يدرك بها أنه موجود؟ أطبق الجفن على الجفن وأنا أحدث نفسى أن ما لا حيلة لى فيه لا حيلة لى فيه، فلأقصر عن تدبره، ولكن على واجبا هو ادخار القوة والدفاع بها إلى آخر رمق. ولكن قلبى يظل يخفق ويدق، ويكبر فى وهمى أنى إذا نمت قد تختلس منى الحياة وأنا ذاهل غافل لا أقدم دفاعا ولا أقوم بكفاح، وأحس دقات قلبى فى رأسى قوية تكاد تفلق العظم، وأسمعها بأذنى مدوية تعصف بسكون النفس واتزان الأعصاب، وأشعر كأن كيانى كله يرتج، بل يزلزل، فاحتال لاستعادة السكون، وأوثر لهذا أن أنام وأنا قاعد فإن القعود، فيما جربت، يعفينى من حدة الشعور بدقات القلب، وأروح أقول لنفسى: يا هذا إن الدقات منظمة وإن كنت أسمعها عالية، وكل إنسان يستطيع أن يسمعها ويستهولها كما نفعل إذا هو جعل باله إليها، فقلبك بخير ولا خوف عليه - على الأرجح - من سكتة مفاجئة، يجمد من جرائها تيار الحياة، وقد قال لى طبيب - استشرته: إن القلب سليم وإن جسمك الضئيل لا يكلفه جهدا وأن أيسر عمله كاف جدا لإدارة الدم فى البدن كله وهذه أعصابك قد أتلفتها بهذا التفكير الدائم فى الموت، فهل تستطيع أن تبين لى على أى شىء تحرص فى الحياة حتى تجزع من الموت هذا الجزع؟ وأشغل نفسى بجواب هذا السؤال، وأروح أعرض على نفسى وجوه حياتى، ولا أبخس الحسن حقه ولا أغالى بالقبيح أو أهول به، ويطول بى ذلك فيأخذنى النوم وأستريح من هذا العناء الباطل.
ولكن الخاطر يظل حاضرا أبدا، على الرغم مما أحاول أن أدافعه به، فأنا أقعد للطعام وأحس من نفسى الإقبال عليه والرغبة فيه، ولكن كل لقمة أتناولها يصحبها إنذار: «حاذر من الكظة» فأنهض عن المائدة وما شبعت وتقول زوجتى - وهى تقوم معى: «لا أراك تأكل الكفاية» فأقول متمثلا: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع؛ وإذا أكلنا لا نشبع» وأتقى أن أعديها بما ينغص عيشى.
وأكون كما يقول الشاعر القديم:
ولما نزلتا منزلا طله الندى
Unknown page