قصة حياة
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
قصة حياة
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
قصة حياة
قصة حياة
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازنى
قصة حياة
هذه ليست حياتي، وإن كان فيها كثير من حوادثها. والأولى أن تعد قصة حياة.
ابراهيم عبد القادر المازني
مقدمة
فتحت عينى أول ما فتحتها فى حداثتى على دنيا تنتزع الكرة من يد الطفل وتقول له: «أتظن نفسك طفلا، له أن يلهو، ومن حقه أن يرتع ويلعب؟ لشد ما ركبك الوهم يا صاحبى! لا كرة ولا لعب. وعليك أن تثب الآن وثبا من هذه الطفولة التى كان ظنك أن ترتع فى ظلها إلى الكهولة دفعة واحدة! حتى الشباب يجب أن تتخطاه وثبا أيضا».
وأنكفى إلى أمى أسألها عن الكرة لماذا حرمتها دون غيرى من لذاتى فلا تقول إنها آسفة ولا إنها ترثى لى، أو أن قلبها يعصره الألم من أجلى، بل تضع راحتها الرخصة على كتفى وتقول لى بصوت متزن: «اسمع يا ابنى إنك لم تعد طفلا، وإنما أنت رجلنا الآن، وسيد البيت ورأس الأسرة وكبيرها! أى نعم. فقد ترك لنا أبوك مالا كان فوق الكفاية ولكن المال ذهب. ولم يبق لنا شىء».
فسألتها: «هل معنى هذا أننا سنجوع ونعرى»؟
فلم ترحمنى. وقالت: «قد نجوع ونعرى! من يدرى؟ ولكن أملى فى الله كبير. وعندى حلى ومتاع لا حاجة بى إليه. فسأبيع من هذا ونقتات ونكتسى. وستواصل التعلم - ما من هذا بد - حتى ينفد المال، وينضب المورد. وعسى أن يكون بعد العسر يسر فما يئست من رحمة الله ولكننى لا أرى أن نعتمد على غير ما بأيدينا، وهو قليل فاعرف هذا، روض نفسك على السكون إليه والنزول إلى حكمه».
قلت: «ولا اللعب»؟
قالت: «بلى، ولكن بغير كرة نضيع فيها مالا بنا حاجة إليه لقوتنا. إن الكرة تشجع على الركض، وتغرى بالنط. فاركض بدونها، ونط بغيرها وسترى أنك لن تخسر شيئا».
فصرت أركض لأن هذا واجبى، وما تتطلبه الحيوية التى لاتزال مقصورة على أعضائى. على حين كان يركض غيرى للهو والتسلية.
فعرفت فى التاسعة من عمرى - وهى سن غضة جدا - أن هناك واجبات تؤدى لذاتها، وحقوقا تقضى لأنها حقوق، لا لأن فيها متعة ولذة. وأحسست من صغرى أن شأنى غير شأن الناس، وإنى فقير وإن كنت مستور الحال. ولكن الستر لا ينفى الشعور بالفقر وغضاضته ومضضه. فأرهف ذلك إحساسى، حتى صار ينحى بمثل حد المبراة على قلبى فيحزه ويقطعه. فنزعت شيئا فشيئا إلى الانقباض عن الناس، واتقاء الخوض معهم فيما يخوضون، مما يستدعى نفقة وتكون فيه كلفة.
وقوى هذا الميل فى نفسى وعمقه أنى بعد الذى سمعته ووعيته من أمى. قصدت إلى أخى الأكبر - وهو من غير أمى - وسألته عن مال أبينا أين وكيف ذهب؟ فقال وهو يكاد يشرق بدمعه - وأنا أنطر إليه جامد العين: إنه هو الذى أضاعه، وجر علينا هذه المحنة، ولكنه يرجو أن يعوضنا خيرا مما أتلف. فأحسست أنى شببت جدا عن الطفولة فى تلك اللحظة!
وانصرفت وأنا أتساءل: «أليس لكل امرئ حقه؟ فكيف يتسنى لواحد أن يجنى على جماعة! وكيف ولماذا يجد الوسيلة إلى ذلك»؟
وصرت أخاف الناس وأنظر إليهم شذرا. وإذا كان الأخ يجنى على إخوته وأمهم وجدتهم، فما ظنك بالغريب الذى لا تصلك به رحم، ولا تعطفه عليك عاطفة من قرابة أو نسب»؟
وأقبل علينا قريب لنا يقول إن فى وسعه أن يرفع عن كاهلنا عبء نفقات التعليم ولكن «الواسطة» يطمع فى جزاء أو «رشوة» فأبت أمى كل الاباء. فما زال بها حتى ملت إلحاحه، فدفعت إليه ما يطلب. وغاب شهور الصيف. ثم جاءنا يقول إن الوزارة أعفتنى من نصف نفقات التعليم، فقلنا شىء خير من لا شىء. ولكنه كان كاذبا. وتبينا أنه لم يرش أحدا، وإنما استحل أن يسرق مالنا نحن الفقراء بهذه الخدعة.
فزاد سوء ظنى بالناس، وانزويت عنهم، وأقبلت على دروسى لأفرغ من التحصيل بأسرع ما يستطاع، فيتسنى لى بعد ذلك أن أكسب رزقى، وأنقذ نفسى وأهلى من هذه الفاقة التى منينا بها لغير ذنب جنيناه.
وترك هذا كله أثره فى نفسى، فاجتنبت أن أعاشر إلا الذين أرى حالهم يشبه حالى أو يقاربه، وصرت أشعر أنى غريب إذا ألقت بى المصادفات بين قوم من السراة أو الأثرياء أو المتظاهرين بالغنى، كأنهم ناس من شاكلة أخرى، وخلق مختلف. فكنت أنفر أشد النفور من مجالستهم أو مخالطتهم. ويكبر فى وهمى أنهم لا يخفى عليهم أنى نشأت فقيرا. وأنى امتحنت فى صباى أقسى امتحان، وأن ما أراه من مظاهر غناهم ليس إلا مخايلة مقصودة يشقون لى بها جفونى ويطلعونى على ما بينى وبينهم من بون.
وكنت قد كبرت وأصبحت معلما، وعندى فوق الكفية من الرزق فأشفقت أن يورثنى هذا عقدة نفسية أو «مركب نقص» كما يسمى. فعالجت ذلك بالتمرد، ورحت أعد الذين نشأوا فى حجر النعمة وظل اليسار، من المنبوذين، لأنهم متكلفون غير مخلصين لأنفسهم ولآدميتهم، ولأنهم مترفون، متطرون خرعون، لا يعرفون شرف الكد، ولا يدركون مزية الكدح والسعى، وإنما يعيشون عيشة الفضول والتطفيل، ولا يحيون حياة صحيحة، ملأى بحركة الشعور والعقل، فلا احتفال بهم ولا اكتراث لهم، وأنا وأمثالى أحق منهم بالكرامة وأولى باستيجاب التعظيم.
وارتفعت بى السن شيئا فشيئا، وزادت التجربة، ورحب الأفق على الأيام. فأدركت أنى أسرفت على نفسى وعلى الناس. وتبينت أن لا داعى للمرارة، فقد أفادتنى المحنة صلابة وعزما وثقة بالنفس وجرأة على الحياة والمغامرة فيها، ولو كنت نشأت فى نعمة سابغة لكنت حريا أن يفسدنى التدليل ، ولا ذنب للناس جميعا فيما كان من أحدهم أو بعضهم وفى الدنيا الصالح والطالح، ومن الظلم أن يبوء البرىء بإثم المذنب، وأن تؤخذ الجماعة بجريرة واحد، وكل امرئ يزل، والعصمة لم يؤتها إنسان وحتى ما جنى أخى قمن بالغفران. فما هو فى ذاته بالذى توصد دونه أبواب العفو، وما عدا المسكين أنه طاش طيشة كان من الجائز أن أطيشها لو كنت مكانه وكان حبلى على غاربى كما كان على غاربه، وما أعرفه أفاد إلا متعة قصيرة وحسرة طويلة على ما ضيع، وما أهداه إلينا من الكرب الجسام، فهو جدير بالرثاء والرحمة والنقمة. وما شهدت النعمة التى تقلب فيها زمنا وجيزا، ولكنى شهدت الندامة التى ظلت تأكل قلبه بقية حياته، وكنت على الرغم مما أساء أوقره وأنزله منزلة الوالد لأنه أسن منى، ولكنه هو كان أشد توقيرا لى منى له، وأعظم بى تحفيا. ولما نشرت أول كتاب لى - وكان ديوان شعر - حملت إليه أول نسخة منه أخرجتها المطبعة. فتناولها معجبا، وقلبها جذلا، وشرع يقرأ، فما راعنى إلا دمعه المنهمر، من فرط الحنو والزهو. فنهضت إلى زوجته وتشاغلت بالحديث معها، فما أطيق البكاء، ولا أعرفه، وإنى لأدرى أن الدمع رحمة وأنه كما يقول ابن الرومى:
لم يخلق الدمع لامرئ عبثا
الله ادرى بلوعة الحزن
ولكن قسوة الكفاح ومرارة الصبر على طول الحرمان، جففتا عبراتى وعلمتنى أن أبكى بقلبى دون عينى، وأن أستر ضعفى عن الناس، فلا أبدو لهم إلا بصفحة وجه يقرأون فيها آيات الرضى والاستبشار والثقة. والفضل فى ذلك لأمى. فقد جئتها يوما أبكى لأن غلاما ضربنى فأوجعنى، فنظرت إلى باسمة ولم تربت على كتفى، ولم تكفكف دمعى، ولا واستنى وإنما قالت لى: «رجلنا يبكى؟ فماذا عسانا نصنع نحن النساء الضعيفات»؟ فخجلت، ولم أكن خبرتها الخبر. فقلت - كأنما كنت فعلت - «ولكنه أكبر منى» قالت: «لا شك، ولكن حيلتك ينبغى إذن أن تكون أوسع» فما غلبنى بعد ذلك اليوم غلام أسن أو أكبر جسما، حتى خافنى صبية الحارة وحرصوا على اتقاء شرى .
والعبرة بالخواتيم - وقد انتقلت بى الحال بعد طول الضنك إلى سعة مرضية وخير كثير فالحمد لله على ما أنعم ويسر.
ورضيت عن الدنيا وانشرح صدرى للحياة ووجدت أن التسامح الذى مبعثه الفهم وصحة الإدراك أجلب لسرور القلب وطمأنينة الخاطر، وسكينة النفس، من تلك المرارة القديمة التى كان ينضح بها الوجه ويقطر اللسان. وألفيتنى أغتبط بأن أتلمس ما يروق ويسر من جوانب الحياة، وأن أبرز هذه الجوانب الوضيئة للناس وأشركهم معى فى نعيمى بها، وأحاول أن أفتح لهم كوى تدخل منها الشمس فتضىء لهم وجوه العيش وتمنحهم الدفء، وتشيع الابتسام والجذل فى وجوههم وقلوبهم، وأن أقطف لهم من أزهار الحياة ريحانا وآسا ونرجسا، وأن أجمل ما كان يبدو لى ولهم دميما، وأزين العاطل، وأرقرق الماء فى حواشى النسيم ليعود أندى على القلب وأثلج للصدر.
وتوسعت فى هذا وتعمقت. فقلت: إنى مثل الناس غيرى ومنهم، وكلنا مجبول من طين واحد، ولست خلقا قائما بذاته، أو بدعا فى هذه الدنيا، ومن الممكن أن أعرف الناس معرفتهم إذا أنا وسعنى أن أعرف نفسى، فصار دأبى بعد هذا أن أخلو بنفسى، وأحاسبها، وأراجعها، وأغوص فى أعمق أعماقها على بواعثها، وعلى ما تغرى بها غرائزها المهذبة أو الساذجة، وأن أقف على دواعى ضعفها ونقصها، وأسباب قوتها، وجعلت كدى كلما بدا لى ما يسوء، أو يريب أو يسخط، من أحد أن أحاول أن أضع نفسى فى مكانه، وأن أنظر ماذا كنت خليقا أن أصنع لو أننى كنت محله، وكان يحيط بى ما يحيط به، وكان لى مثل حظه الكثير أو القليل من العلم والتجربة؟ فأصبحت فيما أعتقد - غير مغرور أو مخدوع فيما أرجو - أعدل وزنا وأكثر إنصافا، وأسرع إلى تمهيد العذر منى إلى سوء الرأى.
وليس معنى هذا أننى الآن أرى أن الدنيا وأحوالها على خير ما يمكن أن تكون، أو أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، أو ما هو كائن. كلا ولكنى أرى أن معالجة الأسواء والفساد بحسن الإدراك، وصحة الفهم، والرفق والحسنى، أجدى وأرشد . وماذا يفيد تعذيب النفس بالتسخط وتلهب الغضب واحتدام النقمة؟ إن الذى له قيمة هو أن ندرك أن هناك ما يستوجب الإصلاح والتقويم، وأن نهتدى إلى وسيلة الإصلاح ومداه وليست ثورة النفس بالتى تعين على هذا وتيسره، فإنها خليقة أن تورثنا اضطرابا فى التفكر، وأن تجمح بنا إلى غير ما يشير به العقل، وتصفه الحكمة. وإنما الذى يعين على الصلاح والخير، والتفكير الهادئ والتدبر الرصين، وقياس مبلغ القدرة إلى الأمل، وأصالة الرأى، والحذق فى التدبير، ولا سبيل إلى شىء من هذا إذا اهتاجت النفس، وقامت قيامتها وثارت كاللجة المزبدة.
ولماذا أكتب كل هذا؟ ما صلته بموضوع الكتاب؟ لا أدرى! سوى أنى لطول اعتبارى أن أتدبر نفسى وأدير عينى فى جوابها، أصبحت أعتقد أنى أستطيع أن أعرف الناس بنفوسهم إذا وسعنى أن أكشف لهم عن عيونهم صورة صافية - لا مزورة ولا مموهة - من هذا الإنسان الذى هو أنا، والذى هو أيضا كل امرئ غيرى. وليس هذا بالمطلب الهين، وما كان مناله قط، ولن يكون دانيا. غير أن ما لا يدرك كله، لا يترك كله، وعلى المرء أن يسعى جهده وعلى الله التوفيق، وإن طاقة الإنسان لمحدودة ولكنه ليس عاجزا كل العجز، ولو أن كل إنسان أخلص وصدقت سريرته وبذل ما يدخل فى وسعه، لعادت الحياة أطيب وأبعث على الرضى.
وأحسب أن من بواعثى على هذا الاستطراد، أنى أقول لنفسى إذا أنا لم أنفع بتجربتى وفهمى هذا الجيل الذى يغذ الخطى وراء جيلى، فما خير أنى كنت وعشت، وفهمت أشياء وجربت أمورا، وألممت الحقائق؟ إن من ألأم اللؤم أن تبخل بعلمك على غيرك. وقد يعذر الذى يضن بالرغيف - وهو جائع - على رفيقه، وفى الطباع الإنسانية أن يؤثر المرء نفسه، فى خصاصته، على غيره وقد يبلغ المرء من الحرص على الذات فى المحنة أن يخطف اللقمة من فم ابنه وهو ضنئوه وفلذة كبده لان التضور وخوف التلف الوحى يثيران غريزة حفظ الذات فيذهل الإنسان عن واجب المروءة، وواجب الأبوة، ولكن المعرفة ليست مادة يحفظ بها البدن من الوبال، وهى لا تنقص بالشيوع والاستفاضة ونصيبك منها لا يقل إذا بلغ فيها غيرك مبلغك، وفى وسعك أن تهدى منها ولا تخشى عليها النقص، ومن المحقق أنك أحرى أن تكون أسعد إذا صار الناس أعلم وأفطن وأوسع مدارك وألطف حسا.
فالضن بالمعرفة ضيق عقل وسوء رأى، ولؤم نفس وخسة طباع - بلا مسوغ ما، ولا فائدة ما - لأن الناس يصلون إلى المعرفة أردت أو لم ترد، وبمعونتك أو بغيرها. فما أنت فى الدنيا بالوحيد الذى ينظر فيجد، ويبحث فيهتدى، ويعالج فيوفق.
وأمر آخر أردته - وأظنه مما ساقنى فاستطردت - ذلك أن الناس أشباه متماثلون وإن تفاوتت بهم الأموال، وليس اختلاف النشأة بمانع أن تكون التجربة من معدن واحد، وإن كان المظهر يوقع فى الروع لأول وهلة أن المخبر شىء آخر.
الفصل الأول
تلك كانت حياتى - فقد نشأت فى بيت صارم التقاليد فى ساحته الواسعة مصلى وميضاة، وعلى جانبى مدخله غرف لإقامة الأتباع والتلاميذ والمريدين، وكانت آخر هذه الحجرات، مما يلى الساحة مباشرة - غير مسقوفة، وكانت تتخذ اصطبلا لمن له بغلة أو فرس أو حمار، وبعد المغرب من كل خميس يجتمع المفرقون من هؤلاء الأتباع فى المصلى، ويتلون «الورد» وهم قعود ثم يذكرون الله، ثم يقومون إلى صلاة العشاء، ثم إلى الطعام فالخلوة، وفى الفجر يخرجون إلى مقبرة الشيخ الكبير.. وهناك يتلى «الورد» مرة أخرى، وتعقد حلقة الذكر.. ثم يؤكل «الفول النابت» والخبز.
وكان يروقنى هذا ويستولى على خيالى، فأشاركهم فيه، وأتلو الورد الذى يتلونه، وأصلى على النبى كما أراهم يصلون، وأهز رأسى وجسمى فى الصف عند «الذكر» كما يفعلون، وأحاول - عبثا - أن أجعل صوتى غليظا عميقا، وأرافقهم فى الفجر إلى المقبرة، وأزيد عليهم فأعرج على قبر أبى فأزوره ثم أرتد إلى الحارة واللعب، والقلب راض والنفس ساكنة.
ولم يكن هذا بيت أبى، وإنما كان بيتا يسع من شاء من الأسرة أن يذهب إليه ويقيم فيه، فقد كان واسعا كبيرا، فلما مات أبى وساءت حالنا بعده، اتخذنا لنا فيه شقة اقتصادا فى النفقة، وعز على ذلك فى أول الأمر فقد كان لنا بيت خاص لا يشاركنا فيه مشارك، وكان عندنا الخادم والخادمة والبواب والبستانى، ومن العجيب أنى أذكر مدخل البيت وساحته الرحيبة وحديقته والنافورة والحجرات من حول ذلك، وفيها مكتب أبى ومكاتب الوكيل ومساعديه ولكن ماعدا ذلك بهتت صوره، وأذكر أنى كنت أدخل على أبى فى مكتبه وعنده أصحاب القضايا، فأقف إلى جانبه وهو منكب على الورق، وأنا ساكت لا أقول شيئا ولا أتحرك، حتى يرفع رأسه ويمد يده إلى فنجان القهوة، فأقول بصوت خفيض «أبويا. أبويا. أبويا هات قرش..» فيضع يده فى جيبه ثم يخرجها بما تخرج به - بقرش أو نصف فرنك، أو أقل أو أكثر - فأتسلل بما أعطيته، فألفى أخى الأصغر ينتطرنى عند الباب، فنخرج إلى الحارة حيث نجد بائع الدندرمة.. فندفع إليه ما معنا، ونأكل حتى نشبع ونحمد الله، أو لا نحمده فنميل على دكان مجاورة لبيتنا فنشترى كرات وبليا وما إلى ذلك - نبدد الفلوس والسلام وكان أخى أصغر منى وكان جميلا مشرق الديباجة سمينا وبضا غضا، فكان أبى يخاف عليه أن تصيبه العين، ومن هنا أمر ألا يدخلوه عليه فى المكتب لئلا يراه ذو عين فيحسده، فاتفق يوما أنى كنت عند عمتى، فلما مر «بائع الدندرمة» أقبل عليه الغلام بالطلب كالعادة، فناوله من مثلجاته، ولم يجد أخى معه ثمن ما أكل، فخلع طربوشه. وعرض على الرجل أن يقبله بديلا من الثمن وكان أخى ولا يزال عظيم الرأس، فطربوشه يصلح للكبار، فمضى الرجل به ولم يعد بعدها لسوء حظه.
ومن الصور التى لا تزال ماثلة أمام عينى، أن جدى دخل على أبى فى مكتبه يتوكأ على عكازه، فنهض له أبى واقفا وأفسح الزباين له ليقعد ولكنه لم يفعل والتفت إلى أبى وطلب منه شيئا، فاستمهله هذا فما كان من الجد إلا أن رفع «العكاز» وأهوى به على كتف أبى، فتأوه واختبأ تحت المكتب، وانصرف جدى غاضبا ساخطا يلعن العقوق، وعاد إلى كرسيه فى مدخل البيت.
وكنت أنا حاضرا هذا الذى حدث، فشق على أن أرى جدى يضرب أبى بهذه الهراوة الضخمة، فخرجت إليه فنادانى وأدنانى منه وأجلسنى على حجره وشرع يلاطفنى ويدعو لى، ولكنى كنت مغيظا محنقا فتناولت شعرات من لحيته الكثة وشددتها وفى نيتى أن أنتفها كلها عقابا له، فزجرنى وأدار وجهه ورفع يده له لتخليص لحيته، فبدا لى قذاله فصفعته فطار عقله ودفعنى فارتميت على الأرض ورأيته يميل على هراوته ويتناولها فوضعت ذيلى بين أسنانى وانطلقت أعدو.
وقد ظل جدى شهرا يأبى أن يكلمنى أو ينطر إلى، وأنا أكاد أجن من ثقل الشعور بالحرمان من عطفه، فلما فاءت نفسه إلى الرضى كتب لى حجابا وجلده - حفظا له من التلف - وعلقه على جنبى الأيسر ليقينى الله سوء الأدب، إذا كان قد وقع فى روعه ووقر فى نفسه أن الناس حسدونى فكان منى هذا الذى أسخطه على.
وكان شر ما يمكن أن يعاب به الواحد منا نحن الصبيان، أن يراه أحد واقفا يحدث بنتا أو يلاعبها. يا حفيظ! ولد يلعب مع بنت ... هذا إثم كبير ومعصية توصد من دونها أبواب الغفران، فإنه عيب وسوء أدب وقلة حياء وفساد تربية وأشنع من هذا وأبلغ فى العيب وسوء الأدب أن تلعب البنت فى الشارع أو فى ساحة البيت، ألا تكفيها حجرات البيت التى تطل نوافذها على الطريق وعلى فناء الدار؟ وصحيح أن الشبابيك مسمرة؛ ولكن النظر من الثقوب ميسور وهذا يكفى؟ بل كان من العيب أن يرى الرجل زوجة أخيه إذا كانت غريبة أو من غير قريباته.
وتغرب الشمس فيجمعنا الخادم من الشارع، ويهش علينا كما يهش على الغنم أو الدجاج، ويردنا إلى البيت والحجرات ذات الشبابيك المسمرة مخافة أن يخطفنا أحد إذا بقينا نلعب فى الحارة؛ أو يصادفنا «السماوى» فيميتنا، أو يظهر لنا عفريت فيركبنا أو يرعبنا أو يفعل بنا غير ذلك مما تفعل العفاريت، ويكون الحر شديدا والليل جميل وتزهق أرواحنا فى الغرف المكتومة ونشتهى أن ننعم بالليل والسماء الحافلة بالنجوم الخفاقة اللمعان، ولكن لا سبيل إلى ذلك.
وكانت بنت خادمتنا فى مثل سنى، فكنت أتوق إلى ملاعبتها بعد إذ نهش إلى الغرف فى الليل فتأبى أمى وأمها ذلك علينا وتصرفاننا عنه لأنه عيب، وتجر الخادمة بنتها إلى حجرتها - تجرها من أذنها وتشد عليها وتقرصها وقد تضربها علقة، وتجرنى أمى فى يدى أو من شعرى إذا حزنت، أو تحملنى وأنا أضرب بيدى ورجلى من الهواء وأصرخ وأصيح وترقدنى برغم أنفى على السرير وتغطينى باللحاف وتروح تحدثنى عن العفاريت وتصف لى ما تصنع بالأطفال الذين «لا يسمعون الكلام» ولا يفعلون ما يؤمرون، وتروى لى قصصا يقف لها شعر الرأس ويتقبض الجلد عن «المريرة المؤتزرة» و«أبى رجل مسلوخة» وغيرهما وغيرهما فأتضاءل ويدخل بعضى فى بعض، وتهم بأن تتركنى وقد اطمأنت إلى سكونى ووثقت أنى غير مفارق فراشى فى ليلتى تلك، فأصيح بها وأناديها وأدعوها أن تبقى إلى جانبى لأن «اللحاف» يحدق فى بعينين تقدحان شررا، أو لأن دهان الحائط يبدو لى عليه رسم يشبه ما سمعت من أوصاف أبى رجل مسلوخة فأنا أخاف أن يتجسد ويخرج من الجدار ويميل على بأسنانه وأظافره.
وبعد لأى يغلبنى النعاس فأنام وأنا أحلم بالعفاريت والإمساخ والليل المخوف والنهار الذى يعيد الطمأنينة، والسلالم المظلمة وما يختبئ لى عندها، ولم تكن أحلامى تخلو من متع منغصة، وما أكثر ما رأيت فى منامى أنى لاعبت هذه أو تلك من البنات وأن أهلى دهنونى بالسمن والعسل وقيدونى ورمونى فى ركن حالك السواد وتركونى للحشرات وغيرها من المؤذيات والمرعبات.
ويصبح الصباح فأحمل إلى «الكتاب» حملا، وهناك توضع قدماى فى «الفلقة» ويهوى عليها «سيدنا» - فقيه الكتاب - «بالجريدة» أو «المقرعة» أو بكل ذلك إلى مساعده «العريف» وبهذا يبدأ النهار.
الفصل الثاني
لم يطل مكثى فى «الكتاب» لأن أمى أصرت على المدرسة. وكان أبى مشغولا عنا بزوجة جديدة وكان عمله يضطره إلى السفر إلى «استنبول» فكان يقضى هناك ماشاء الله أن يقضى - شهورا أو عاما أو قرابة ذلك - ثم يعود ومعه زوجة. وأحسبه كان يضطر إلى الزواج اتقاء من الإثم . ولكن الغريب أنه كان إذا احتاح إلى السفر مرة أخرى، يحمل معه الزوجة ويسرحها هناك ويجىء بغيرها وأظنه كان يحب التركيات ويؤثرهن على سواهن، وعسى أن يكون قد راقه منهن بياضهن وحسن التدبير والنظافة والطاعة والأدب فإن يكن ذاك فما ورثت عنه إلا نقيضه ولست أعنى - كما لا أحتاج أن أتول - إنى احب الوساخة وسوء التدبير وقلة الأدب والعياذ بالله، وإنما أعنى أن اللون الأسمر آثر عندى وأحب إلى، وأنه إذا اجتمعت اثنتان واحدة بيضاء والأخرى سمراء، وكانتا من الحسن فى منزلة واحدة، فالسمراء عندى أجمل وأندى على القلب، وعسى أن يكون هذا من التعصب لأمى ولنفسى، فإنى أسمر - أو إلى السمرة أقرب - ولعلى أكره أن تزهى على واحدة ببياض جلدها، ولكن هذا شطط فلأرجع إلى ما كنت فيه.
ولم تكن الزوجة الجديدة من استنبول وإن كانت تركية، وكان لها ولد من زوج سابق ترك على أرنبة أنفها آثار أسنانه، ذلك أنه عض أنفها فى ساعة من ساعات الغضب أو الجنون، وكانت أسنانه نضيدة فتركت حزا واضحا. ولبعض الناس ولع بالأنوف فى ساعة الغضب، فقد كان لى قريب يتناول أنف زوجته إذا ساءه منها فعل أو قول ويهزه يمنة ويسرة فيدور رأس المسكينة، وتتساقط دموعها.
ولم يهجر أبى (البيت الكبير) فى سبيل هذه الزوجة الجميلة - فقد كانت جميلة - والشهادة لله - وكان الرجل معذورا - ولكنه كان يقضى عندنا ليلة، وعند هذه الزوجة ليلة، فأما ليلته فى البيت الكبير فكان يقضيها مطرقا يسمع التقريع والتأنيب من جدى تارة، ومن أمى تارة أخرى، وكان عظيم الحلم، طويل البال قليل الكلام، فكان لا يزيد على الابتسام، وهذا ما خالفته فيه أيضا، فإنى أحمق طياش سريع الغضب حاد الطبع وثرثار لا يفرغ الناس من هذره، ومن الإنصاف لأبى أن أقول: إنه ما بين شغله بزوجته الجميلة وما يكابده فى البيت الكبير فضلا عن عمله المضنى، لم يبق له وقت يعنى فيه بنا نحن - بنيه الصغار - وكان لنا أخ كبير غير شقيق أذاق أبانا الأمرين وأراه النجوم فى الشهر الأحمر، ومن حوادثه التى تروى أنه كان يصلى الفجر فى مسجد الحسين، فخرج مرة إلى صلاة الفجر على عادته فألفى باب المئذنة مفتوحا، وكان المؤذن شيخا هرما ضخم الجسم، كالفيل الصغير، وكان أعمى، فخطر لأخى أن يعابثه فصعد على أطراف أصابعه ووقف وراء المؤذن المسكين الذى لا يدرى أن وراءه هذا الشيطان، وأنه ليرفع الصوت بالأذان ويصيح فى سكون الليل (حى على الصلاة) وإذا بصوت من ورائه يرتفع فجأة ويصيح متمما (حى على الفلاح) فريع الرجل وله العذر، وكان ضخما كما قلت، وعلي صدره قنطار من الشحم، وكانت صدمة المفاجأة عنيفة فسقط مغشيا عليه وميتا على قول، ولم يضطرب الأخ المحترم بل أتم الآذان وانحدر إلى المسجد للصلاة ثم احتال فأغرى خدم المسجد بالبحث عن المؤذن المسكين وانصرف هو إلى بيته قرير العين راضيأ عن نفسه ونام نوم الصالحين.
وكان أبى فى وقت من الأوقات مدرسا للغة العربية فى المدرسة الخديوية فألحق بها ابنه ليكون تحت عينيه، فكان هذا الابن البار هو الذى زهد أبى فى التعليم فنفض يده منه واشتغل بغيره، ولم يطل بقاء أخى فى هذه المدرسة فقد طردوه فأدخله أبوه مدرسة صناعية، أو زراعية لا أذكر وكان يبيت فيها. فصار يغرى الطلبة زملاءه بالخروج فى فحمة الليل، وكان يربط البطاطين بعضها ببعض، ويدليها من النافذة ويتخذ منها هو وزملاؤه حبلا يتعلقون به، ويتدلون وبه يصعدون أيضا حين يعودون مع «الديكة» وظهر الأمر فاشتجر أخى مع ضابط المدرسة، وتماسكا وتضاربا فانكسرت رجل الضابط ولا آخر لحوادث هذا الأخ وقد ظل إلى آخر لحظة من حياته مولعا بالعبث.
وكنت فى السادسة أو حوالى ذلك لما أخرجتنى أمى من «الكتاب» وبعثت بى إلى مدرسة عجيبة الحال، تمهيدا لإدخالى مدرسة حكومية، ذلك أنها كانت مدرسة بنات، ولكن فيها «فصلا» واحدا للصبيان، وكانت صاحبة المدرسة «خياطة» ومن هنا كانت معرفة أمى بها، وإرسالى إليها وكان يساعد هذه السيدة رجل قصير نحيف ولكنه غليظ الكبد، وكل ما أذكره أننا لم نكن نرى البنات أو نختلط بهن، بل كنا نوضع فى حجرة ضيقة، توصد علينا بالمفتاح؛ فكانت هذه الحجرة هى المكان الذى نتلقى فيه الدروس وهى الساحة التى نلعب فيها، وإليها يجيئنا طعامنا ظهرا وكنا إذا تركنا المعلم نزحزح الأدراج عن موضعها. لنفسح مكانا لنا ونحن نتقاذف الكرة أو نجرى «البلى» على البلاط، وما أكثر ما كسرنا زجاج النوافذ وغرم آباؤنا ثمنه.
وكان مساعد المديرة رجلا فظا - كما قلت - إذا أخطأنا أو قصرنا يأمر الواحد منا أن يخلع الطربوش ثم يضربه على رأسه العارى بالخيزرانة. وكنا فى الفصل سبعة أو ثمانية، فحدث يوما أن أوسعنا ضربا على رءوسنا فثرنا به من فرط الألم، وتمردنا عليه وأشبعناه لكما وركلا، ومزقنا له سترته الطويلة - الاستانبولين - وخطفنا العصا من يده وأذقناه وقعها على أصابع يديه وعلى ركبتيه ولا أحتاج أن أذكر أننا طردنا وأن المدرسة استغنت بالبنات الوديعات عن الصبيان الملاعين.
وكان ابن زوجة أبى معى فى هذه المدرسة، فلما طرد كما طردت، وكان الوقت قبل الظهر خاف أن يذهب إلى أمه بالخبر، فأشرت بأن لا يفعل، واقترحت أن نبحث بقية يومنا عن مدرسة أخرى ندخلها، فنخرج من هذا المأزق، فوافق ففعلنا، واهتدينا إلى مدرسة فى شارع «تحت الربع» أو «درب سعادة» لا أذكر، وكان من الغريب أن صاحبها قبلنا بلا كلام أو سؤال أو مراجعة.
وبعد نحو أسبوع عرف أبى ما كان، فلم يقل شيئا ولكنه أخرجنا من هذه المدرسة وألحقنا بمدرسة أخرى فى شارع محمد على، على مقربة من القلعة وتسمى مدرسة «القرشوللى» وأظن أن زوجته هى التى هدته إليها وأشارت بها، فقد كان صاحبها تركيا، وفى هذه المدرسة كان الضابط - وهو تركى أيضا - يجلدنا بالسوط، ولا نكران أنه كان يترفق بالصغار أحيانا ولكن السوط كان فى يده، وكان يكفى أن يلمسنا بطرفه وقد بقيت بهذه المدرسة إلى آخر العام واجتزت امتحانها، ولكن صاحبها أبى أن ينقلنى إلى «فصل» أرقى، لأنى صغير السن، فبقيت فى السنة الأولى عاما آخر بلا موجب سوى حذلقة هذا المدير أو الناظر الذى استضأل جسمى واستصغر سنى، واستكثر على السنة الثانية من أجل ذلك.
وكنت أعود عصر كل يوم فأرمى كتبى وكراساتى، وأخرج إلى الشارع لألعب مع أقرانى، فأزجر عن اللعب فأصعد وأطل على اللاعبين من الشرفة، وبى حسرة ولهفة. وأسمعهم يصفوننى، «بالعقل» و«الهدوء» فألعن «العقل» وأذم «الهدوء» فقد كنت مكرها على ذلك لا مدفوعا إليه بطباعى وميولى، ومتى رأيت طفلا ساكنا قليل الحركة، فاعلم أنه مريض أو ضعيف أو ممسوخ ومتى يلعب الواحد ويجرى وينط إذا لم يفعل ذلك فى طفولته؟
ويدخل الليل فأجلس قريبا من المصباح وأفتح الكتاب وأقرأ خوفا من السوط لا رغبة فى التعليم، ويرانى أبى فيشفق على عينى أن تؤذيهما القراءة فى الليل، فينهانى عنها، فأطوى الكتاب وأسكت، وأضيق ذرعا بهذا الصمت، فأفتح فمى وأهم بكلام فينهانى أبى وينهرنى، ويقول لى: «لا تقاطع الكبار، ولا تحشر نفسك معهم» فأقول: إنه ليس هنا صغار أحشر نفسى معهم فمع من أتكلم؟ فيعبس ويضع أصبعه على فمه، فأسكت ثم ينفد صبرى فأعود إلى الكلام فيقول لى: ألم أقل لك إن هذا الكلام لا يليق؟ فأعترض بأبى أراه يتكلم وأرى أمى تتكلم فلماذا يليق بهما مالا يليق بى؟ فيبتسم ولا أدرى لماذا؟ ويربت لى على كتفى وخدى، وقد يقبلنى ويمسح لى شعرى، فأتململ وأقول له إنى أريد أن أتكلم وألعب فمع من؟ بنت الخادمة لا يليق أن ألاعبها لأنها بنت، وأخى أصغر منى بأربع سنوات وهو على كل نائم.
فتحملنى أمى إلى الخادمة، وتوصيها بى، وتتركنى معها، فتسرى عنى بحكاياتها وأحاديثها حتى يغلبنى النعاس.
وكنت أرى أبى يدخن وهو متكئ بكوعه على مخدة فيتلوى الدخان فى جو الغرفة ويتلوى خياله على الحائط، فأتتبعه بعينى تارة، وبأصبعى تارة أخرى. واشتهيت مرة أن أقلد أبى: فجئت بورقة ولففتها على صورة سيجارة وجعلت أضعها فى فمى وأنا متوكئ على الوسادة وأنفخ كما يفعل أبى، ولكنه لم يكن هناك دخان يتصاعد ويتلوى، فأشعلت عود كبريت وأضرمت النار فى اللفافة واتفق أنى وضعتها على الوسادة فاتصلت بها النار وامتدت إلى حشوها من القطن تحت الكسوة ففزعت وخرجت أعدو، واختبأت وبعد قليل كانت النار مندلعة فى البيت، وكان كل من فى البيت يجرى بالطشوت والأباريق والقلل لإطفاء الحريق فلم يجد ذلك شيئا وامتدت النار إلى غرفة أخرى ولم تكن شركة الماء قد مدت أنابيبها إلى البيوت. وكان السقا يمر بنا كل يوم فيملأ لنا الأزيار والطشوت وما إلى ذلك من الأوعية وكانت وسائل الاتصال بطيئة، ولا سيما فى الأحياء الوطنية، فلا تليفون ولا ترام ولا سيارات ولا شىء إلا الدواب ومركبات الخيل، وكانت إدارة المطافئ تتقاضى خمسة جنيهات إذا دعيت لإطفاء حريق. على أنى لا أدرى بماذا كانت تطفئ الحرائق ولا ماء هناك يجرى فى الأنابيب. فإذا قلت إن البيت احترق، وأن الحارة كلها شبت فيها النار فلا يصدقنى القراء، والمثل يقول «يعملها الصغار ويقع فيها الكبار» أى والله.
الفصل الثالث
كان لأخى الأكبر زوجتان من قريباته تقيمان معنا فى بيت واحد لهما منه الدور الأوسط، ولنا: جدتى وجدى وأبى وأمى - الدور الأعلى - وللمكتب الغرف - أو المناظر - التى كانت فى ساحة البيت، أو فنائه. وكان أخى - كأبى - مزواجا. فأما أبى لا أعرف لماذا كان هكذا، فما أعرف فى أسرتنا كلها من كانت له زوجتان فى وقت واحد، أو من طلق زوجته أما أخى فقد يبدو من المستغرب أن يتخذ امرأتين فى حياة أبيه، وهو لا يكسب قرشا بعرق جبينه، ولا مورد له إلا ما يجود به عليه الوالد، ولهذا يحسن أن أقول، إن أباه زوجه وهو صغير - كما كانت العادة فى ذلك الزمان - ليفرح به، وكانت ليلة الجلوة ليلة سوداء أعنى أن السرادق أقيم، وأضيئت الأنوار ونشرت الرايات، ومدت الموائد، وراحت الموسيقى تعزف، وشرع المغنى يصعد إلى «التخت» وإذا بنبأ يجىء من سمخراط أن المرحوم إبراهيم أفندى الوكيل توفى فجأة، فأطفئت الأنوار، وانفض السامر وشرع الذين كانوا فى جذل وسرور وحبور، يتهيأون للسفر إلى المأتم.
ومضت سنوات فلم يعقب أخى نسلا فقلق أبى، وقال قائل: إن الزوجة عاقر، وقال آخرون قد يكون العقم علته من «الولد» فما العمل؟ العمل أن يزوجوه من أخرى على سبيل التجربة وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان وقد كان، ولكن «الولد» - أعنى أن أخى - ظل لا يعقب شيئا، ولم يفد من هذه التجربة، إلا أنه صار ذا زوجتين.
وعلى ذكر العقم، أقول إن أخى هذا وشقيقته - عليهما رحمة الله - من أخرى ماتت قبل أن يتزوج أبى أمى، وقد شاءت الأقدار أن يكون نسلها عقيما، وأن يحرم أبناها - أخى وأختى - بعض زينة الحياة الدنيا وأن يقاسيا من جراء ذلك ما يقاسيه كل راغب فى الذرية، وكان بلاء أعظم، فقد اضطرت أن تصبر على الحرمان، وأن تحتمل ما يبديه بعلها من اللهفة على البنين وأن تنصح له بالزواج، فلما فعل ورزق طفلا طلق أمه - أو ماتت لا أدرى، فتولت هى تربيته وتبنته وتعهدته وأولته ما انطوت عليه نفسها من عطف الأمومة المخنوقة وحفظ لها هو ذلك، فكان أبر الناس فى حياته وأحناهم عليها وأعمقهم حزنا لما وافاها الأجل.
وأعود إلى أخى بعد هذا الاستطراد فأقول إنه كان على هذا لا يجرؤ أن يسهر، أو أن يدخن أمام أبى، فقد كان السهر والتدخين محرمين على غير جدى وأبى، فأما جدى فكان يتخذ ما يسمى «الشبك» - بضم الشين والباء - وهو قصبة طويلة جدا نحو ذراع ونصف ذراع يتصل باخرها شىء يحشى بالدخان وتوضع عليه الجمرة. وأما أبى فكان يتخذ السجاير ولكن ما كان مباحا لهما، كان محرما على سواهما - لا أدرى لماذا؟ وإن كان أخى ذا زوجتين.
وقد رأيت أخى مرة يدس السيجارة فى جيبه وقد خرج عليه أبى فجأة فتحرق الجيب، فيطبق عليه أصابعه ليخمد ما اضطرم.
وما أكثر ما كان أبى يضربه، لأنه يسهر، ويدخن! ولكن العلقة الكبرى كانت لما هو أدهى من السهر والتدخين، حدثنى أخى بعد أن كبرت وأصبحت رجلا مثله لى شاربان أفتلهما ولحية أحلقها، قال: (لم يكن باقيا على العيد إلا بضعة أيام، فخطر لى أن أقص شعرى قبل أن أذهب إلى الحمام) - وكان أخى مغرما بحمام السوق أو الحمام التركى، يؤثره على ما عداه - وكنت قد مللت حلاقنا، وكان شيخا وقورا له لحية كثة هائجة لا يعنى بتشذيبها وتقليمها، وسئمت فوطته الحمراء المخططة، والطشت الذى يضعه لى عند رقبتى ويترك لى حمله، فيسيل الماء الذى يصبه على رأسى بلا حساب، على ثيابى وينفذ إلى بدنى، فقلت ألتمس حلاقا آخر، وذهبت أجوب الشوارع وعينى على دكاكين الحلاقين، حتى خرجت من الأحياء الوطنية ودخلت فى الشوارع التى يكثر فيها الأجانب، واهتديت إلى حلاق أجنبى، فتوكلت على الله ودخلت فأقبل على يرحب بى، وأجلسنى على كرسى وثير لا عهد لى بمثله ونشر على صدرى فوطة بيضاء مكوية، لها كمان يدخل فيها ذراعاى، وقص شعرى، ثم نفض الفوطة وجاء بغيرها وحلق لى ذقنى بماء الكولونيا، ثم راح يقترح على أن يصنع كيت وكيت مما لم أكن أعرف مثل «الماساج» و«الشامبو» إلى آخر ذلك، وأنا جذل أهز له رأسى أن نعم، كلما عرض على شيئا من ذلك، ثم قال: «مانيكور» فهززت رأسى موافقا وإن كنت لا أعرف ماذا يعنى، فدعانى إلى ماوراء ستار ونادى فتاة شقراء حلوة لا أدرى من أى الفراديس جاءت، وقال لها كلاما فابتسمت لى وتناولت كفى الكبيرة الخشنة التى يغطى ظهرها الشعر، وعكفت على أظافرى تنظفها وتقصها، ثم تناولت شيئأ جعلت تدهنها لى به وأنا أكاد أموت من الخجل، وصدقنى حين أقول لك إن هذه أول فتاة غريبة لمست كفها كفى، فإذا أضفت إلى هذا أنها كانت ساحرة الجمال، ذهبية الشعر، وضاءة المحيا، مشرقة الجبين، نظيفة الأسنان، وأن ابتسامتها فاتنة، وفى صوتها عذوبة تذيب المرء، وأنها هيفاء ممشوقة، وخفيفة لطيفة، وأن فى نظرتها لينا يغرى بتطويقها وضمها، وأنى ماعرفت من النساء إلا البدينات اللواتى يخنق روحهن ما عليهن من أكداس اللحم - إذا أضفت هذا كله - فإن فى وسعك أن تدرك عذرى حين أقول لك إنى عشقتها ولم أستطع أن أقول لها شيئا.
وكنت أنظر إليها كالأبله، ثم فتح الله على، وأطلق لسانى من عقاله فقلت وأنا مضطرم الوجه من الخجل: إنى لم أكن أدرى أن المانيكور هو هذا، وإنى آسف فإن كفى كبيرة كالرغيف وعليها غابة من الشعر، وأحسب أنه لا يليق بى أن أدعها تصبغ لى أطافرى، فإنى أخشى أن أضطر إلى إخفاء يدى حتى يذهب هذا اللون، وهممت بأن أنزع يدى من يدها، فشدت عليها ولم تتركها لى، وقالت بأعذب ابتسامة رأيتها فى حياتى:
إنه يسرها أن تنظر إلى هذا الكف الكبيرة الخشنة، وإن أكثر ما ترى من الأكف لين بض غض كأكف النساء، فلم أدر ماذا أقول لها فى جواب ذلك، ولكنى أنفت أن تصبغ لى أصابعى، وأبيت أن أناولها يدى الأخرى وقلت حسبى واحدة، وسألتها: متى يزول ذلك؟ فقالت: «أوه! إنه لا يدوم.. لا تخف» فاشتهيت أن أقول لها أنى أحب أن أراها مرة أخرى، ولكن لسانى وقف فى حلقى، فلم أنطق بحرف، واكتفيت بأن أمد لها يدى مصافحا، فوضعت فيها راحتها الصغيرة فهززتها كأنما كنت أصافح رجلا فأدهشنى أنها قالت: «أرجو أن أراك» فكان جوابى السخيف: «ولكنى لا أستطيع أن أقص شعرى كل يوم» فابتسمت وخيل لها أنها تكاد تميل على وقالت: «إنى أخرج من هنا كل يوم الساعة السابعة مساء»، قلت: «آه! إذا كان هذا فسأنتظرك على الرصيف الآخر.. كل يوم».
قال أخى وهو يقص على هذا الخبر: «وقد كان. تعلقت بها، وصرت أراها كل يوم فنذهب نتمشى، وعرفتنى أشياء كثيرة لم أكن أعرفها، ولو استطعت أن أتزوجها لفعلت، وقد أطلعتها على كل شىء ولم أخف عنها شيئا، ففهمت وعذرت، وبقينا صديقين حوالى عامين حتى خطبها واحد من أبناء جنسها، وأحسست منها زهدا فيه، فأقنعتها بالرضا به إشفاقا عليها، ورغبة فى الاطمئنان على مستقبلها.
ولكن هذا موضوع آخر، فلنرجع إلى المانيكور، وكانت يمناى لسوء الحظ هى التى صبغت أظافرها، فلما عدت إلى البيت وقابلت أبى تناولت يده لأقبلها، فسألنى: ما هذه الحناء التى فى اصابعك؟ فأخبرته بما حدث، وفى ظنى أنى لم أصنع سوءا، وما كنت أعرف ما هو المانيكور، وقد قلت له: إنى لما عرفت ما هو أبيت أن أصبغ أظافر يدى الأخرى، ولكن وجهه اربد وهو يقول: «وما فرق ما بينك وبين النساء الآن»؟ ونهض فدعا إليه الخادم «العم محمد» كما نسميه وأسر إليه شيئا فخرج، وما لبث أن عاد ووراءه ثلاثة من الزبالين الأقوياء، فأشار إلى فربطونى بالحبال، وألقونى على الأرض، وأنا من فرط الذهول لا أقاوم. وجاء أبى بخيزرانة طويلة وأهوى بها على، لا يتقى شيئا ولا يبالى أين وقعت وماذا أصابت من بدنى ولم ينقذنى إلا خالتى (يعنى أمى، فقد كان يدعوها خالتى) فقد أسرعت وانحدرت إلى ولم تبال هؤلاء الزبالين، ولم تعبأ بظهورها أمامهم سافرة وفى ثياب البيت، وارتمت على، وجعلت نفسها بينى وبين الخيزرانة فاضطر أبى أن يكف ولكنه أمر فسجنت فى إحدى «المناظر» ثم خرج.
وأتم أنا الحكاية فأقول إنى توجعت لأخى وحزنت لما أصابه من الضرب الأثيم، وما هو فيه من السجن ولم يكن أحد يستطيع أن يصنع شيئا، وإلا حل به غضب أبى، ولكنى كنت طفلا لا أدرك هذا إدراكه، فصممت على إخراج أخى من محبسه وفك وثاقه. وكان لابد من الحيلة، ولكن الأطفال شياطين فدبرت الأمر مع أخى الأصغر، وجليلة بنت خادمنا، وكان مفتاح «المنظرة» مع الخادم فلم نزل به نلاعبه ونتحين منه غفلة حتى سرقت المفتاح، وأوعزت إلى أخى وجليلة أن يبعدا به عن فناء البيت ففعلا، ففتحت الباب وأعيانى حل الحبال فجئت بسكين وقطعتها، وأطلقت سراح أخى وقد ظل يحفظ لى هذا الجميل طول عمره.
وهنا ينبغى أن أذكر أنى عدت إلى الخادم فدسست له المفتاح فى جيبه وهو لا يدرك ولا يزال هذا الخادم حيا ولا يزال يتعجب لأخى كيف وسعه أن يقطع الحبال الغليظة التى كان موثقا بها، وأن يفتح الباب ويخرج، وكلما ذكر هذه الحادثة، هز رأسه وقال: الله يرحمه! لقد كان عفريتا».
وكان هذا أول سر حرصت فى طفولتى على كتمانه.
الفصل الرابع
قلت لنفسى بعد أن كتبت الفصول السابقة، وسردت فيها بعض ما أذكر من عهد الطفولة: «اسمع يا هذا، لقد رأيت أباك يضرب أخاك، ويلهب له جلده بالخيزرانة الطويلة، ولم يضربك - كما كان يضربه - لأنك كنت أصغر من أن تحتمل ذلك، أو لأنك كنت أشبه بالقطة الأليفة أو كلب البيت الذى يقبل منه أصحابه العبث ولا يرضون عنه أو يسرون به إلا إذا لعب وتشيطن وأظهر لهم نشاطه وذكاءه أو لعل اتقاءه ان يضربك ويشويك بالعصا، راجع إلى أن أمك حية ترزق، وفى البيت معك وأن أم أخيك لحقت بمن غبر فلك دونه من يحامى عنك وأخوك كان قد بلغ مبلغ الرجال فكان أبوكما لايسعه الا أن يثقل عليه الشعور الخفى بأن هذا الشاب يزحزحه شيئا فشيئا عن مكانه: وينزله يوما بعد يوم عن سلطانه، وأنه هو الذى سيحل محله عاجلا أو آجلا، كما حل هو محل أبيه - أى جدنا - وإن كان على قيد الحياة، وعسى أن تكون بواعث الضرب لا هذا ولا ذاك بل تصادم الشعورين، شعور الابن بأنه هو الشاب، وأن أباه قد شيخ، كائنة ما كانت سنة فى الحقيقة وشعور الأب بأن ابنه هو ابنه فهو طفل بالغا ما بلغ طوله وعرضه، أو لا أدرى ما العلة والباعث الصحيح، وإنه ليخطر لى مائة تعليل وتعليل ولا أرى واحدا منها وحده يقنعنى.
وخطر لى وأنا أحدث نفسى بهذا أن هذا التفاوت بين الأب والابن من المصائب. فنحن الاباء، قد كبرنا فى نطر الأبناء، ولا يمكن أن يعد الابن أباه إلا شيخا هرما، تقضى شبابه من زمان طويل، ولا يمكن أن عليه أن يتعرى هو منه، فلا يجوز له ما يجوز للشاب ويعقل منه، ولا يليق به إلا حال الشيوخ الفانين ولو كانت الحقيقة أنه ما انفك قويا كفئا للحياة.
وذكرت - وأنا أدير هذا المعنى فى نفسى - أنى لم أسمع ولم أر قط: فى طفولتى، شيئا - كلمة أو ايماءة أو نظرة - تشى بالحب بين أمى وأبى. وكان يخيل إلى أن العلاقة بينهما قوامها الاحترام المتبادل أكثر مما كان قوامها الحب. وهذا خطأ. ولكنه هو الذى كان يبدو لى فى تلك السن الغضة. ولقد مات أبى وأنا صغير وخلف لى أمى فحزنت عليه اثنتين وثلاثين سنة، لم تخلع فيها السواد يوما واحدا، وقد يكون هذا من الإكبار لا الحب، ومن أجل ماطابت به نفسا فى حياته، ولكنى أظنهما كانا متحابين أيضا فقد كنت أسألها فتبتسم وتطرق استحياء ويضطرم وجهها حتى فى كهولتها الذاوية، وألح عليها بالسؤال فتنهرنى، وتزجرنى عما تظنه عبثا منى، وكنت أغالطها أحيانا وأفاجئها بالسؤال على هذا النحو «ماذا كنت تحبين فى هذا الرجل المزواج المتعب الذى جعل حياتك معه جحيما فائرا بالغيرة»؟ فكانت تؤخذ على غرة وتقول - قبل أن تفكر: «إنك لاتساوى الظفر الذى كان المقص يطيره من أصبعه». وترانى أبتسم فتدرك أنها اعترفت فتغضب أو تتكلف الغضب، وأحيانا تطردنى من مجلسها، وهى تجاهد أن تعبس ويأبى وجهها إلا أن يضحك وتقول لى: «قم، طيب قم، كفى قلة حيا». فأنهض طائعا وأميل على رأسها فأقبله فترضى عنى وتدعو لى فأقول لها ويدى على الباب. «اسمعى.. لم أعرف أبى كما ينبغى أن أعرفه، فقد مات قبل أن أكبر، ولكن القليل الذى عرفته مضافا إلى الكثير الذى سمعته منك، يقنعنى بأنه «هو» لم يكن يساوى الظفر الذى يطيره المقص من أصبعك وعزيز على أن أقول هذا عن أبى؛ فقد كان على العموم رجلا فاضلا ذا كرامة، وإذا كنت أبخسه حقه فذاك لأنك عندى بمنزلة لا تدانيها منزلة، أنت خير الناس وسيدة الدنيا؛ وكل من عداك هباء. واسمعى أيضا: أنا أحاول أن أحيا حياة فاضلة لأنك معى فى الدنيا. مجرد شعورى بوجودك يرفع نفسى، ويعصمنى من كثير، وما هممت بشىء إلا رأيتنى أسأل نفسى: هل ترضى عنه أمى لو علمت أو لا ترضى؟ فأقدم أو أحجم تبعا لجواب السؤال. ولو خلت منك دنياى لما بقى شىء يصدنى عن الشر والرذيلة، ولست أطيق البعد عنك لحظة ولكنى مقتنع أنه لو كان أبى حيا لما أمكن أن أحتمله، ولا أطقت أن أعيش معه تحت سقف واحد، ولعل ذاك لأنك - وأنت سيدتى - تدعيننى أشعر آنى أنا السيد ولكنى أظن السبب أنى أحبك وأجلك، وأنى مدين لك بكل ما جعلنى كما أنا، أطال الله عمرك.
ولكن - سبحانه وتعالى - لم يشأ أن يفعل كلا، لم يكن للحب ذكر، فى بيتنا ونحن أطفال. ولكنه كان معى - هذا - موجودا، بين أبوى على الأرجح، وإن كنت أنا لا أرى دلائله ومظاهره، وبين جدى وجدتى على التحقيق. وكان جدى قد قارب المائة، وجدتى قد ناهزت السبعين، ولكنهما كانا كالطفلين ولم يكن أحلى من تناجى هذين القديمين اللذين ردهما الهرم إلى مثل حال الطفولة وسذاجتها وطيبتها، وكانا لايعبآن شيئا بوجودى، وهما كما يقول الشريف الرضى:
تساقينا التذكر فانثنينا
كأنا قد تساقينا الطلاء
وكان الذى يتناجيان به سهل الفهم فقد كان قصصا وحكايات قديمة، مما وقع لهما وجرباه، ولكن الحنو، وعذوبة الصوت، والذوبان، وحلاوة اللمعة فى العين التى انطفأ نورها أو كاد، واضطراب الشفتين إذ يقول الشيخ برقة: «هل تذكرين ياحاجة..» فتهز رأسها المصبوغ بالحناء ويفتر ثغرها الأدرد ويومض السرور فى عينيها ويشرق به وجهها الأحمر - فقد كانت بيضاء حلوة - وتقول «إيه» ممطوطه طويلة، ولكنها «آية» الرضى والحمد لله والاغتباط بجمال الذكرى. لا الأسف والأسى، فقد كان حب هذين المتهدمين من الدنيا، إنهما معا فيها، وأن غرفة واحدة تجمعهما، وأن لهما بنين وحفدة، كلهم أحياء وبخير ولله المنة، وكنت أرى منهما ذلك فأدرك أنهما مسروران وإن كنت لا أدرك كنه السرور، وأحس بفرحة غريبة بهذين الوجهين اللذين غضنهما السن وحفرت فيهما أخاديد عميقة، فأرتمى على جدتى وأطوقها وأقبلها، فتضمنى وهى تقول ضاحكة: «إوع تفعصنى يا ولد» ثم تهوى على رأسى أو خدى بفمها الفارغ وتقبلنى فيكون لقبلتها صوت كقولك «مق».
وأنا الآن رجل، ولى زوجة وبنون، لا بنات، فقد أبت مشيئة الله أن يكون لى بنات على إيثارى لهن، وأنا ابن هذا الزمن، لا ذاك الذى عاش فيه أبى وجدى من قبله ومع ذلك أرانى أستحى أن أقول لزوجتى إنى أحبها، وأشعر أنه لا يليق بى أن أقول ذلك، ولى كل هؤلاء البنين، وأحس أن زمن الكلام فى ذلك قد فات وهو لم يفت فى الحقيقة، لكنا جربنا وعانينا وفكرنا، فعرفنا - عرفنا ماذا يحق للمرء أن ينتظر، سحره، وزالت فتنته، وفقد الحب تلك القدرة على خداع النفس ومغالطتها وإيهامها.
ويا ربما قلت لنفسى، حين أخلو بها وتتدفق خواطرى فى هذا المجرى: «لماذا أخجل أن أقول لزوجتى إنى أحبها، أمام هؤلاء الأبناء»؟ وأقول فى جواب السؤال إن هؤلاء الأبناء يروننا كبارا، ولا يتوقعون منا ما هو متوقع من الشبان، ولعلهم يظنون بنا أننا كنا فى صدر حياتنا كل شىء إلا شبابا، ويهيجنى ذلك ويثير نفسى فأقول ساخطا معاندا: «ولكنى لا أنوى أن أجعل حياتى وفق ما يظنون، قاتلنى الله إن فعلت. وأدخل على زوجتى ويكون معها هؤلاء البنون وغيرهم من الضيفان - من الأهل أو الغرباء - فأتعمد أن أنثنى بالحديث إلى ذكر الحب، وأهم بأن أجرى مع العناد، فأحس كبح الخجل، فأضطرب وأخرج من المأزق بمزحه، فيظن السامعون أنى أهزل؛ وتعرف هى أنى أجد.»
فلا فرق بينى وبين أبى، وإن كان بين زمنينا كل فرق وما زلنا، تحس اللجام على أشداقنا، والأعنة الخفية التى تصدنا وتلوى رءوسنا، وتوجهنا وجهة غير التى تدفعنا إليها طباعنا وغرائزنا، وبعد عشر سنين من الزواج والألفة والحال الوثيق يحمر وجه الزوجة إذا همست فى أذنها بكلمة حب أو لفظ يشى به وإن كان لا يصارح، وما أعرفنى استطعت قط أن أقول لواحدة إنى أحبها بالغا ما بلغ جنونى بها، فإذا شق على الكبح ونازعتنى نفسى أن أقول، قلت ولكن مازحا، أو متظاهرا بالمزاح متصنعا له لأشككها، ولأنى أستحى أن أنطق باللفظ، أو على الأصح لأنى أشعر أنى إذا قلت الكلمة فقد صرت عبدها - أعنى عبدا للمرأة لا للكلمة - وأنها حقيقة إذن أن تتخذ منى حصانا تركضه بين الوعور، وأنا لا أطيق أن أحس بقيد ما، ولو كان من حرير، وما أحسست قط بقيد إلا نفرت وشردت وتمردت. وأنا فى كل يوم أقيد نفسى وألزمها أشياء شتى، ولا أزال قابضا على اللجام أشده وأصرفه إلى هنا وههنا، ولكن هذا لا يتسنى إلا إذا كان زمامى فى يدى، والأمر كله إلى إرادتى، فإذا شعرت أن يدا أخرى تريد أن تقبض على الزمام طار عقلى، وفقدت اتزانى وركبت رأسى، وأكون واثقا أن هذا خطأ، وأنه عناد صبيانى، وأنى لو وكلت إلى نفسي ورأيى لما فعلت إلا مايراد منى أن أفعل ولكن طبيعتى تغلبنى فأشقى، بين دعوة العقل العاجز ودعوة الطبع الجامح.
والناس لا يضربون بنيهم فى هذه الأيام كما كان أبى يضرب أخى. وهم فى هذا على حق، فإن الضرب ليس تأديبا وإنما هو ترفيه عن الوالد، ووسيلة لإراحته من ثقل الشعور الذى يجيش بصدره، فهو شىء ينفع الأب ولا ينفع الابن.
ودأب الناس فى زماننا أن يترفقوا بالأبناء ويجنبوهم التنغيص، وهذا جميل ولكنى أحس أنهم يبالغون فى الرفق ويسرفون فى اللين، ويجعلون حياة الطفل أرغد مما ينبغى وأخلى من المشاكل والعقد، ومن كل ما يستدعى إجهاد الفكر أو مايستثير الشعور ويوقظ النفس، فليتهم يضربون أحيانا - برفق أيضا - ولا بأس من أن يخرجوهم إلى العناد ويدفعوهم إلى التمرد، ليعرفوهم بأنفسهم ويكتشفوا لهم عن بعض خفاياها.
جرى هذا ببالى وأنا أكلم شابا فى الثانية والعشرين من عمره، ولم أكن أعرف ماذا تعلم أو يتعلم وكان كلامنا فى شىء من الهندسة فوافقنى على رأى كان يعرف - كما تبينت فيما بعد - أنه خطأ محض فقد كان طالبا فى مدرسة الهندسة وكان فنه ما خضنا فيه، ومع ذلك لم يخالفنى، ولم يصحح لى غلطى فإذا كان هذا لا يضرب حتى يدمى جلده ويتسلخ ليتعلم احترام النفس وليفهم أن المخالفة ليست عيبا وأنها ليست من سوء الأدب بل من الواجب ما دام يعتقد أنه على حق - فمن غيره الجدير بالضرب؟ وكيف تكافح هذه النعومة وذاك التطرى لتجعل من ابنك رجلا يعرف قدر نفسه ويكرم عقله؟ أما أنا فسبيلى كسبيل أبى، ولست أستعين «بالزبالين» ولا أنا أقسو قسوته، ولكنى لا أحجم عن قرص آذانهم ولكمهم إذا رأيتهم يجبنون أو يكذبون أو يبكون الغير «ما يبكى الرجل» وقد جاءنى واحد منهم وقال إن تلميذا معه فى المدرسة ضربه، فسألته عنه أهو أكبر منه.. وهل هو أضعف من أن يضربه كما ضربه.. فكانت نعم هى جواب السؤالين، فتناولت أذنه الصغيرة وقرصتها قرصا وجيعا وقلت له «ألم يكن فى الشارع حجر تتناوله وتقذفه به فتفتح له قرنه..» قال «بلى» قلت «لماذا تجيئنى باكيا وفى وسعك أن تنصف نفسك منه»؟ وأنذرته أنى لا محالة قاتله إذا تكرر منه ذلك، ولم يكن القتل ما أعنى، وإنما عنيت الضرب الأليف، وقد فهم عنى الطفل، وأثبت لرفاقه أنه كفء لهم، فكفوا عنه وهابوه، وقد احتجت بعد ذلك أن أجعل جرأته غير راجعة إلى مجرد الخوف منى.
أظن أن هذا خير وأهدى من هذه التربية الطرية التى تفضى إلى التخنث.
الفصل الخامس
حليمة وعم محمد
كان خادمنا رجلا يدعى «عم محمد» لا يعرف أحد من أين جاء؟ حتى ولا هو يعرف، وقد سألته من أى بلاد الدنيا هو؟ فشور بيديه وهز رأسه ولم يجب، ولعله نسى، فقد علت سنه جدا، والأرجح أنه جاء إلينا وهو صبى لا يفقه، فقد كان لكل أسرة خادمها الذى نشأ وترعرع، - وشاب أيضا - فى ظلها، ولم يكن أحد ينضو عنه ثوب هذه العمومة إلا ثلاثة: جدى وأبى، من الرجال، وجدتى من النساء أما سائر أهل البيت فكان اسمه عندهم «عم محمد» وكان هذا بعض ما يكرم به الناس خدمهم فى ذلك الزمان.
ولا أذكر كيف كان وجهه فى حداثتى، فإن مسافة الزمن بعيدة، ولكنى أنظر إليه الآن - فإنه لا يزال حيا يرزق - وأرى كيف كان يمشى معتدل القامة كالسيف يأبى أن يتخذ الترام أو غيره أو يقطع المسافات بين أرجاء القاهرة إلا على رجليه، وكيف أنه لا يمرض ولا يرقد ولا يشكو شيئا حتى فى هذه الشيخوخة العالية ، وكيف أنه لا يزال يشرب «البوظة» التى أعرفه - مذ عرفته - كلفا بها لا ينصرف عنها أو يتوب - ولو قطعوا رأسه وأوصاله - فيخيل إلى أنه كان دائما هكذا - بشاربيه الخفيفين، وأسنانه القوية التى لم تسقط ولم تتزعزع منها واحدة، ووجهه المغضن الحافل بالأخاديد والحفر، وحذائه الأصفر الباهت الذى يحرص مع ذلك على صقله فيمسحه بطرف المعطف العتيق الذى خلعته عليه منذ خمسة عشر عاما، ويأبى مع ذلك أن يبلى أو يتمزق.
وكان عمله مقصورا على ساحة البيت وما فيها من غرف أو «مناظر» - كما كانت تسمى - وعلى قضاء الحاجات من السوق، ولا يجوز له أن يصعد إلى حيث السيدات فإن لهن خادمتهن التى لا ينبغى لها تجاوز السلم إلى ساحة البيت وكانت حليمة هذه فتاة سمراء واسعة العينين مقوسة الحاجبين، طويلة الأهداب وممشوقة رشيقة، وكانت هى التى تنزل إلى عم محمد إذا احتاج البيت إلى شىء فتقف على آخر درجات السلم وتنقر على الباب فيجىء إليها، فحدث ما كان لابد أن يحدث - أحبها وأحبته.
وأقبل عم محمد يوما على جدى، وهو جالس على كرسيه فى الدهليز وفى يده نبوته وشفتاه تتحركان بالتلاوة، ووقف إلى جانبه يفرك كفيه ويتحين من الشيخ التفاته إليه، فلما فعل، مال عليه وأسر إليه أنه يطلب يد «حليمة» فهش له الشيخ لأن الزواج نصف الدين، ووعد أن يخاطب أبى فى الأمر وأن يحمله على الموافقة.
وقد كان - تزوجا - وصارت حليمة، تنتقل فى الليل إلى غرفة «عم محمد» فى البدروم كما يسمى فى مصر، أو السرداب كما يسمى فى العراق.
وقد جهزوها له بسرير وخزانة وصندوق أحمر، وحصيرة ملونه وبساط قديم مما كان فى البيت، وكانت حليمة هذه قوية جليدة لا تفتر ولا تهن، فكانت تعمل طول النهار وشطرا من الليل، فى البيت - تكنس وتمسح وتغسل، وتنفض وتشيل وتحط، وترتب، وتغربل وتعجن وتخبز وتساعد فى المطبخ، وتطلع وتنزل، حتى إذا جاء وقت النوم انحدرت إلى «عم محمد» وبقيت معه إلى الفجر، فتنهض لتوضئ الشيخ وتعد له «الشبوك» والقهوة .
وحملت حليمة، فعظمت بطنها، فأرادوا أن يترفقوا بها، وأن يعفوها من عملها الشاق حتى تضع حملها، ولكنها أبت وظلت تروح وتجىء وتشيل وتحط وتقوم وتقعد. وهى مسرورة وزاد وجهها إشراقا ولمعت عينها بنور البشر والجذل.
وكان جدى يصعد بعد الغروب بقليل. أما أبى فكان يترك المكتب ليصعد أو يخرج، بعد صلاة العشاء، وينصرف الكاتب، ويوصد الباب، ويصفق عم محمد فتطل عليه حليمة من إحدى النوافذ - فما بقى من هذا بأس بعد انصراف الرجال - فيسألها «عاوزين حاجة..» فتستفسر ثم تخبره، ويطمئن فيخرج متسللا ويغيب ساعتين أو ثلاثا ثم يعود وهو يتطرح من السكر، وكان لا يشرب إلا البوظة وكان جدى ينهاه ويعظه، وأبى يضربه وهو لا ينتهى ولا يرعوى، حتى يئسا من صلاحه فأهملا أمره وتركاه للأيام، فلم تزده إلا حبا «للبوظة».
وقد سألته مرة «ألا يمكن أن يزهدك شىء فى هذه البوظة»؟
فأجابنى بسؤال «أهى حرام»؟
قلت «من عاشر القوم أربعين يوما صار منهم».
فنظر إلى مستفسرا مستوضحا فقلت أعني أنك أصبحت تفنى. من طول ما عاشرت أهل القلم. ولكن قل لى. إنك تشربها منذ نحو سبعين سنة، أفلم تسأمها. سبعون سنة طويلة. إن المرء خليق بعدها أن يمل الحياة، فكيف بالبوظة؟
فقال معترضا «سبعين سنة إيه يا سيدى»؟
قلت «معذرة. لندع السن، ولكن ألم تسأم»؟
قال «لم يبق لى ما أتسلى به سواها».
قلت «وحليمة»؟
قال «حليمة. الله يطيل عمرها ويخليها لأولادها ويبارك لها فيهم» فأقصرت، وبودى أن أسأله «ألا يزال يحبها»؟
وكانت ليلة أحياها «عم محمد» بالسهر فى البوظة وهو آمن، فقد كان جدى نائما، وأبى فى بيت زوجته الأخرى، فلما عاد وتطرح إلى غرفته، ألفى حليمة راقدة، ولكن عينيها مفتوحتان، وإلى جانبها شىء مغطى بملاءة، فوقف عند السرير، ونظر إليها مستغربا ابتسامتها وكانت عادتها أن تنهض له حين يدخل عليها لتكون فى خدمته حتى ينام فلما طال تحديقه فيها، تحت الملاءة ورفعت ما تحتها، على كفيها ليراه، فأفاق وذهب عنه خمار السكر، وهوى على ركبتيه، وأسند جبينه إلى مرتبة السرير وراح يبكى - بكاء الفرح لا الحزن، فوضعت حليمة طفلتها، وجلست، ومدت يدها إلى رأسه لترفعه وتمسح له دموعه فتناول كفها ولثم راحتها، ونظر إليها وقال: «لو كنت أعلم لما خرجت».
قلت: «خروجك كان أحسن.. ماذا يصنع الرجل فى هذه الحالة»؟
فسألها «كيف.. من كان معك»؟
قالت «لا أحد.. لم أخبر أحدا.. ما الداعى»؟
فدهش ولكنها ابتسمت ونهضت، لتقوم بخدمته كعادتها، وحاول هو أن يمنعها، فسخرت منه، وسخنت له الطعام وقدمته إليه ليأكل، وكان لا يأكل إلا قبل النوم مباشرة، وبعد أن يرتوى من البوظة فعكف على طعامه وهو يتعجب لحليمة وقوتها وجلدها، حتى ليجيئها المخاض فتتشدد وتحتمل آلامه فى صمت، وتضع وحدها وبلا معين، وبعد ساعة أو ساعتين ترجع كما كانت، لا فاترة ولا متهافتة ولا مسترخية وجال بخاطره أن حليمه آية من آيات الله، وأنه سعيد بأن تكون زوجته، وحدثته نفسه، على ما روى لى أن يجعل مظهر شكره لله وإقراره بنعمته عليه، أن يكف عن معاقره البوظة، ولكنها كانت نجوى ليس إلا.
وقال لها وهو يمسح يديه فى الفوطة: «يجب أن تستريحى غدا على الأقل.»
فاستغربت هذا الاقتراح وقالت «أستريح. أنت مجنون»؟
ولم تسترح حليمة ولا دقيقة واحدة، فكانت ترضع طفلتها وتتركها وتواصل عملها المتنوع.
ولا تزال حليمة إلى اليوم - وقد جاوزت الستين - أقوى وأقدر على العمل من عشر فتيات فليس أعجب من «عم محمد» إلا امرأته التى لاتكل ولا تفارقها ابتسامتها - كأنها مرسومة - ابتسامة العطف والرضى والتسامح، وما أكثر ما افتقرت إلى عطفها، ورضاها وتسامحها، وكان حسبى منها فى كل حال أن تنظر إلى بعينيها النجلاوين، وأن أرى ثغرها المفتر فتسكن نفسى ويشيع فى صدرى الاطمئنان، ويعمر اليقين قلبى، ولا يسعنى إلا أن أجيبها بابتسامة، فتهز رأسها على مهل وتربت لى على كتفى وتمضى.
صدق عم محمد فان حليمة آية ....
الفصل السادس
الحادثة الثالثة أن «جليلة» بنت حليمة وعم محمد - أكلتها النار وأنا أنظر إليها مسحورا. وبعد سنوات وسنوات طويلات المدد، قرأت أن نيرون أضرم النار فى رومية - عروس الدنيا يومئذ ووقف على تلها فى حاشيته المستهترة، وفى يده قيثارته يعزف عليها، وعيناه على الضرم المتأجح والدخان المتكاثف، فاستطعت أن أفهم، ولم يعينى أن أدرك سحر النار وفتنة هولها، وكان الذى تمثل لخاطرى وأنا أقرأ ذلك.. لا رومية وبناها العالية وقصورها الضخمة بل «جليلة» وقد ضربت النار عليها سرادقا.
ولم تطلق المسكينة إلا صيحة جزع واحدة، ثم وقفت كالتمثال، وذهبت النار تأكل ماعليها من خفيف الثياب وتحيل جسمها الأسمر الطرى جمرة مضطرمة.
وكنت واقفا على سلم البدروم - مسمرا هناك - وعينى عليها لا تتحول عنها، وفى مسمعى من اللهب الخفاق اللمعان مثل الدمامة والتدويم، وفى أنفى رائحة اللحم المشوى وعلى وجهى صهد الحر.
وكان الوقت شتاء، والبدروم يكون فى الصيف رطبا فكيف به في زمهرير الشتاء.. وكانت جليلة قد سبقت أمها إلى هذه الغرف التى تشبه القبور، فشرعت تضرم الفحم - أو السن كما يسمى تراب الفحم - فى الموقد لتدفأ به، ولم تكن عندها منفاخ تعجل به إيقاد النار وكانت ترتعد وتنتفض من البرد، وكان مصباح الغاز مضاء، فتناولته وانحنت به على الموقد ورفعت غطاءه النحاسى الذى يتدلى منه الشريط فى الغاز ولم تر أن تنزع الزجاجة وتطفئ الشريط قبل أن تصب الغاز على الفحم، فسال منه شىء على ثوبها وهى لا تدرى، أعادت الغطاء إلى مكانه من المصباح، ووضعته إلى جانبها على الحصيرة وأشعلت عودا وأدنته من البترول فى الموقد فارتفع منه اللهب فجأة، وكانت حانية عليه، فردت وجهها بسرعة، ونسيت أن تتناول المصباح وهى تنهض قائمة، فانقلب المصباح واشتعل طرف الثوب الذي كان مسفسفا بالبترول.
وليس هذا خيالا أتخيله فقد رأيته كله بعيني، وكنت قد غافلت أمى وحليمة، وانحدرت وراء جليلة، وفى مأمولي أن أجالسها وألاعبها وأسامرها قليلا، فقد كنت مشوفا بها، وكانت هى تأنس بى وتهش لى، ولا تضن على بما تعلم - مما سمعت أو رأت أو خطر لها. وكنت على عتبة الباب، وكنت أهم بأن أضع قدمى على درجة السلم نازلا إليها ، فرأيتها تمشى إلى «الصفة» وتعود بالمصباح فى يدها، وألهمت أن أقف حيث كنت - على العتبة - فلم يفتنى شىء من الفاجعة.
وألقيتها تهوى إلى الارض، والنار حولها، فأفقت وارتددت راجعا إلى ساحة البيت: ورحت أصيح، وأزعق وأدعو كل من يسمع أن يدرك جليلة فإنها تحترق. وسرى الخبر سريان النار فى الهشيم اليابس، وكان أخي الأكبر فى البيت، فنزل مع النازلين، ورأوا أن جليلة قد أكلتها النار، فصار هم الجميع أن يطفئوا الحريق، فقد امتد لسان النار إلى الحصير والسرير وسائر ما فى الغرفة.
وكنت بينهم، أروح وأجىء إلى حيث أراهم يروحون، ومن حيث يجيئون، ولا أعمل شيئا، وكانوا مضطربين وكان لغطهم كثيرا وعاليا، وكان النساء يبكين ويولولن وفى أيديهن الطشوط والأباريق، وأخى يتناولها منهن مترعة ويصب على النار، ولا يفتأ يسأل عن «محمد» - «ابن الكلب» أين غطس فى هذه الليلة السوداء، ويتوعده بعلقة، ويقول ليته كان هو الذى احترق، وبقيت جليلة، فتقول حليمة - عفى الله عنها «آه والنبى». وترسل الصوت مجلجلا فى سكون الليل بالنواح على بنتها، ولا تكف عن ذلك، وعلى الرغم من الحرقات، التى تعانيها لاتتوانى عن ملء الطشوت وحملها إلى أخى.
ورآنى أخى كالكلب الذى لا يترك قومه ولا ينفك يجرى معهم ويطوف بهم ويدخل من بين سيقانهم ويربكهم وهو يريد أن يعرب بخفة حركته بينهم عن مشاركته لهم فيما هم فيه، فزجرنى وطردنى وأمرنى أن أصعد.
ولكنى لم أطع - نعم نأيت عن البدروم، ولكنى بقيت فى فناء البيت وكيف أصعد إلى فوق. وكل من فى البيت قد ترك هذا الفوق إلى تحت؟ وكيف أكون وحدى فى مأمن من المخاوف التى كظوا لى رأسي بصورها فيما كانوا يقصون على كلما أرادوا تنويمى.. كأنما كان خير ما ينيم الطفل هو هذه المفزعات.
وجاء أبى: فقد دعى من البيت الصغير ورآنى فى الساحة وحدى، فأقبل على يسألنى بصوته الهادئ المتزن النبرات «أنت هنا»؟ فبكيت.. كأنما فتح لى هذا السؤال منفسا فتفجر ما كان محتبسا فربت على كتفى، ومضى عنى إلى البدروم، فألقي أهل البيت جميعا جالسين على درجات السلم.
وكان لابد أن تأتى الشرطة، وأن يجرى التحقيق، وكانت النار قد أطفئت، فذهب بى أبى إلى المكتب ولحق أخى بنا، بعد أن غير ثيابه وهناك قصصت عليهما ما رأيت، وكان الشرطى أخوف ما نخاف نحن الصغار، بعد العفاريت والأمساخ، وغير هذه، وتلك من المرعبات. وكان الذى نعرفه هو أن العسكر عدو لدود لخلق الله، وأنه مجعول للقبض عليهم والزج بهم فى المحابس، وأن «الكركون» - كما كنا نسمى مركز الشرطة - ليس أكثر ولا أقل من سجن فظيع، وأن العاقل من يتقى أن يمر من أمامه، فشرع أبى يذهب عنى الروع ويطمئنى، ويروضنى على السكون إلى لقاء هؤلاء الشرطة وغيرهم، ويفهمنى أنه ليس على أكثر من أن أروى لهم ما رأيت، ويؤكد لى أنى سأكون موضع عطفهم، وأنى سألقى منهم كل خير، وأنه لن يصيبنى منهم سوء، فنسيت وذهلت عن النار التى اشتوت بها جليلة، وعن فجيعتى فيها، ولم أعد أفكر إلا فى هؤلاء الشرطة المخوفين الذين سأقف أمامهم وأسأل وأجيب.
مضت على هذه الحادثة أربعون عاما، ولكنى لا أرى أثرها يمحى أو يبهت، وليس أبغض إلى ولا أقدر على إفزاعى وإطارة عقلى من النار، ويمضى شتاء بعد شتاء، وتحتاج إلى أضرام النار فى الموقد للتدفئة فيسألنى أهل البيت فأصيح بهم «يا خبر أسود! لا لا لا.. حاذروا» وترتفع قبل عيني جليلة «فى سرادق من اللهب الخفاق ...».
ويلحون على ويقولون إن البرد قارس، فأروح أتفلسف وأقول لهم إنهم بله، وإنهم يضعفون أجسامهم بتعويلهم فى المقاومة على الثياب والنار، وأن قدرة أجسامهم على المقاومة تزيد إذا خففوا ولم يسرفوا فى التوقى، ولم يجعلوا معولهم فى التماس الدفء على شىء أجنبى منهم، وأقول لهم أيضا إنى أضعف منهم جميعا، وأنحف وأحوج إلى وسائل الوقاية، ولكنى أحتمل ما لا يحتملون. فلماذا؟ لا سر هناك كل ما فى الأمر أنى لا أكثر من الثياب، ولا أتخذ المعاطف إذا وسعنى أن أستغنى عنها، ولا أستعين بالنار. وأذكر لهم أنى كنت فى صدر أيامى ألف رأسى عند النوم فى فوطة كبيرة وألبس ثيابا من الصوف حتى فى وقدة الصيف المحرقة، فكنت لهذا طول عمرى مزكوما، وكان السعال لا يترك لى راحة فى ليل أو نهار، ثم ضاق صدرى، وحزنت على نفسى وقلت، إذا كان هذا حالى فى شبابى، فماذا عسى أن أكون فى الكهولة والشيخوخة؟ وكان هذا يسود الدنيا فى عينى ويغرينى بالتشاؤم.
وكانت المرارة تقطر من قلبى على الورق، فى شعرى ونثرى، ويئست فتمردت وقلت إنه لن يصيبنى شر مما أعانى، فخففت، وصرت إذا نمت أخلع ثيابى جميعا ولا أبقى منها إلا الكفاية للستر، أى الجلابية ليس إلا، وكان الأوان يسمح بذلك، فقد كان الوقت صيفا، فلما جاءت مقدمة الشتاء، وسعنى أن استغنى عن الملابس الثقيلة التى اعتدت أن أتخذها، ودخلنا فى الشتاء فلم أشعر بحاجة إلى المعطف، ولكن بقية من الحذر القديم جعلتنى أحرص على حمله، ولكن على ذراعى، عسى أن أحتاج إليه فى الليل. وكنت إذا شعرت بهذه الحاجة، أظل أدافعها وأقاومها، وأرجئ الالتجاء إلى المعطف والدخول فيه، وأقول لنفسى «نصف ساعة آخر. لن يقتلنى نصف ساعة من البرد» ثم أرجئ الأمر مرة أخرى وهكذا، حتى أصبحت أحس أن المعطف حمل لا معنى له مادمت لا ألبسه، فصرت أتركه فى البيت، وأن لى الآن لمعطفا، ولكنه قديم.. قديم حتى لقد نسيت من طول عمره متى فصلته، وهو للزينة أكثر مما هو للمنفعة، بل ليس حتى للزينة، فقد أكلت منه الفيران نحو شبر فى شبر وخجلت أن أبعث به إلى الرفاء، ولم أر أن أكلف نفسى ثمن معطف جديد لا ضرورة إليه فتركته، وأمرى إلى الله، وأمره إلى الفيران.
أما الشرطة فقد زايلنى الخوف الصبيانى منهم. فما يسع من يشب عن الطوق إلا أن يدرك أن الشرطة لا يملكون ضرا ولا نفعا، وأن الأمر فيهم إلى القانون وأنهم ليسوا أداة إرهاب - أو لا ينبغى أن يكونوها - بل أداة حماية للناس. ولكنى مع ذلك أكره أن أدخل مركزا من مراكز الشرطة وأنفر من الحاجة إليهم وأحب أن أستغنى عن الالتجاء إليهم ولقد سرقت خادمة كانت عندى أشياء - أو هذا هو المرجح والذى تشير إليه القرائن جميعا - فقلت غفر الله لها ولا أحوجنا إلى الشرطة، وهنيئا لها ما أخذت ولا عذبها الله به، فما هى بعد كل ما يقال فيها إلا مسكينة، وهل ينفعها ما حملت إلا قليلا؟ وسينتهى بها الأمر إذا اعتادت ذلك، إلى الشقاء المحقق. فهى أحق بالعطف. وأولى بالرحمة ولو أنها لم تهرب بما حملت، لحاولت أن أعالجها وأن أفىء بها على الخير، ولكن الأمر خرج من يدى بفرارها، فالله هو القادر علي إنقاذها من ذلك المآل المخيف الذى أتوقعه لها.
ولى بين رجال الشرطة معارف وإخوان أحبهم وأكبرهم، ولكنى لا أحب أن أحتاج إليهم، ولست أكره مجالسهم، ولكنى أحس غضاضة حين أكون مع واحد من رجال «السلطة» وأحب أن يكون غيرى مثلى - لا سلطان لهم على خلق الله - ولعل هذا بقية من أثر النشأة الأولى. على أنى لست على يقين من هذا فقد تكون لهذا الشعور علل أخرى خفية راجعة إلى آرائى ومزاجى.
الفصل السابع
لا أعرف ما سر حبي للحى فى وجوه الناس، غيرى، ولكنى أعرف أنى مارأيت قط لحية طويلة تتدلى كالمخلاة إلا نازعتنى نفسى أن أجعل لها من أصابعى مشطا. وقلما أرى الآن لحية تستحق أن أعبث بها، فإن الناس فى زماننا يحلقونها أو يقصونها، ولا يرسلونها، اكتفاء بالمظهر واستفتاء به عن الحقيقة الخشنة أو الشائكة ولن تجد أحدا فى هذا الزمن يغضب إذا أحفى الحلاق له لحيته كما غضب شيخ من أصدقائنا كانت له لحية كثة منفوشة ذهب بها إلى برلين ليشترك فى تشيع جنازة زعيم من زعماء الترك قتل هناك. وقد احتفظ بجبته وقفطانه وعمامته فكان كل من يراه يتوهمه من أفتك البلاشفة وأخطر الفوضويين. قالوا. فذهب به صديق له إلى دكان حلاق، وذهب صاحبه يتمشى على الرصيف حتى يفرغ من هذا الأمر، فما راعه إلا صياح وزعيق لا يكونان فى برلين إلا من مثل الشيخ، فارتد إلى الدكان فألفى الشيخ واقفا وسط الدكان والفوطة على صدره وهو يرسل الصوت مجلجلا بالعربية الفصحى، والحلاق مبهوت فسأله صاحبه عن الخبر فقال: «خير، انظر..» وأشار إلى خده الأيمن فنظر صاحبه فإذا الغابة الكثيفة اللقاء قد ذهبت بقدرة قادر، ولم يبق إلا وسم، على حين بقيت الغابة على خده الأيسر هائجة كما كانت، فلم يسعه إلا أن نضحك، ثم عالجه حتى رده إلى الهدوء والسكينة وسأله (ماذا قلت للحلاق..).
قال الشيخ. (إنه رطن لى ولكنى فهمت أنه يسألنى ماذا أبغى، ولم أدر كيف أجيبه فأومأت إلى لحيتى وأشرت بيدى أن سوها - هه - أى بعض الشىء قليلا جدا، ولكنه لم يفهم فأجرى فيها الماكينة فذهبت بمعظمها).
وسأل الحلاق كيف حدث هذا الغلط فقال إنه سأله عما يريد أن يصنع بلحيته ويقصه منها فأشار الشيخ إليها وقال (هاف) أي النصف فهو لم يجر عليها ولم يجاوزها ما طلب.
كلا: لا يغضب أحد فى هذه الأيام كما غضب صديقنا الشيخ، إذا ما جار المقص على لحيته، فيندر أن أنعم بمنظر لحية حقيقية، أو تتاح لى فرصة للعبث بها وتمشيطها، على أنه لا أسف، فقد فزت من ذلك فى حداثتى بأكثر من نصيبى العادل، وكان حسبى لحية جدى. أفتل شعراتها أو أثنيها وأدسها فى أذنه فينتفض ويصيح بى ويطردنى فأذهب أعدو وأنا أكاد أموت من الضحك فلما مات جدى شعرت بأن خسارتى جسيمة، وأنى فقدت ما لا أرى عنه عوضا، ولكن الله كان أرحم وأكرم من أن يطيل عذاب الحرمان، فقد جاء أخو جدتى ليعزينا، فأمسكناه وكنت أنا أشدهم إلحاحا عليه وتعلقا به، وكان قصيرا فلحيته تبدو أطول مما هى فى الحقيقة فتسليت بها أسابيع حتى كان يوم وكنا جلوسا على وسائد وحشايا مبعثرة على البساط وكان هو مطرقا والسبحة فى يديه! وإذا به ينتفض قائما ويعلن إلينا عزمه على السفر. فاستغربنا وسألته جدتى: «ما هذه المفاجأة»؟
فقال «الحقيقة يا حاجة أنى سمعت صوتا كصوت أبى يدعونى ».
فزاد تعجبنا وقال إنى «أبوك يا خال.. أبوك يدعوك.. كيف تقول.. أين أنت من أبيك وبينكما ركوب خمس ساعات فى القطار»؟
فقال «نعم يدعونى: لقد سمعت صوته واضحا جليا ينادى: يا عمر ولا بد لى من السفر فما أشك فى أن به حاجة إلى..».
وأصر على السفر، وأبى أن يبقى، فاستودعناه الله وأرسلنا معه «عم محمد» بالحقيبة إلى المحطة وفى مساء اليوم التالي جاءتنا منه برقية ينعى إلينا فيها أباه أى جد أبى.
ومن تمام القصة أقول إنهم تحدثوا فيما بعد بأن هذا الجد كان راقدا ثم اعتدل فجأة وأطلقها صيحة قوية «يا عمر» ولم يزد.
وكان هذا الجد معدودا من القوم الصالحين، وكان يلبس عمامة - كما لا أحتاج أن أقول، فإن الصالحين لا يكونون على ما يظهر، إلا من أصحاب العمائم ولكن لفتها كانت خضراء، لأنه شريف من نسل الرسول - عليه الصلاة والسلام.
وكان السيد محمد هذا قويا، وقد احتفظ بقوته حتى في شيخوخته العالية، فقد جاوز التسعين أو قارب المائة. ولم يركب فى حياته قطارا ولا تراما ولا مركبة. وكان إذا زارنا فى القاهرة يجىء على قدميه، وعلى كتفه الخرج الذى فى شق منه ثيابه، وفى الشق الثانى هدية من التمر أو الجبن «الحلوم» أو غير هذا وذاك مما يرى أن يهديه إلينا. وكان أبى قد رزق قبلى بولدين. ماتا. فلما جئت أنا إلى الدنيا، خاف أبواى أن أموت أيضا. وصارا يجزعان كلما أصابنى برد أو غيره. وأنى لهما أن يعلما الغيب وأن يعرفا أنى ممن قيل فيهم إن «عمر الشقى بقى» واتفق أن جاء هذا الجد المبروك فاستكتبوه لى حجابا، فخطط شيئا فى ورقة، أو كتب آيات من القرآن الكريم. لا أدرى وطواها وأمر بها أن تغلف ونهى عن فتحها. وقال: علقوها له جنبه. فغلفوها فى قماش للتنجيد - أى لكسوة المراتب - وبعثوا بها إلى حذاء. ولم يكن حذاء فى الحقيقة. وإنما كان رجلا يصنع المراكيب فجلد الحجاب، وجعل له عينين للحيط. وعلقوه لى فصار كالحجر فيما أحس حين أرقد على جنبى.
ولم يفارقنى هذا الحجاب إلا بعد أن انتقلت جدتى إلى رحمة الله. حتى بعد أن كبرت ودخلت فى مداخل الرجال وتزوجت، كانت تصر على لبسه. وكنت أغافلها وأخلعه وأدسه تحت الوسادة. فإذا عرفت ذلك نظرت إلى نظرة أسف وعتاب وإشفاق. وكان لبس الحجاب يثقل على نفسى وكنت أنفر من ذلك نفورا شديدا. ولكنى كنت أقول لنفسى إن جدتى كبيرة السن وإنها فجعت فى ابنها وأنها تجزع كلما خطر لها أنها قد تفجع فى حفيدها الذى تتعزى به. فماذا على لو أرضيتها وسررتها وتركتها تقضى ما بقى من عمرها فى راحة واطمئنان. ثم إنى ما أحببت أحدا قط مقدار حبى لها ولأمى فكنت أشعر أن قلبى تعصره يد قوية غليظة حين أرى على وجهها آيات الفزع. ومن أجل هذا استخرت الله وتوكلت عليه وتركتها تفرح وتطمئن بالحجاب على جنبى. وكانت إذا رأتني مقبلا عليها لتحيتها كالعادة تبتسم لى بفمها الأدرد، وتمد يدها إلى جنبى لتتحسسه، فأضحك وأقول: «لا تخافى» إنه ما زال فى مكانه. وما أبقيه إلا لأنه يسرنى أن أراك راضية قريرة العين «فتمسح لى رأسى وتدعو لى بخير».
فلما ماتت، تركت الحجاب. وكانت أمى تقوم فى أول الأمر مقامها في الإلحاح على أن أحتفظ به فقلت لها يوما: «يا ستى. أنك عاقلة، فبينى لى لماذا ينبغى أن ألبس هذا الحجاب».
قالت: «إنه بركة من جدك».
قلت: «صدقنا وآمنا. وأنعم بجدى وأعظم ببركته! ولكن ما جدوى أن أضع حجرا.»
فأطرقت فقلت: «أنا أعلم أنك تخجلين أن تقولى إنه يقينى السوء ويحمينى من الموت لأنك أعقل وأذكى من ذلك. أليس الرب واحد والعمر واحد. أليس ما قدر يكون»؟
قالت: «آمنت بالله».
قلت: «كنت أعلم أنك ستوافقين على اطراح هذا الحجاب. ولكنى أحب أن احتفظ به للذكرى فاحفظيه لى عندك».
فأخذته، وبقى عندها مصونا حتى ماتت فقيل لى أنهم وجدوا حجابا بين أشيائها. وسألونى ماذا يصنعون به.. فأوصيت به أن يحفظوه فإنه أثر له تاريخه الطويل وصلته الوثيقة بأقوى العواطف الإنسانية ففعلوا، ولكنى لم أطلب أن أراه، والحق أقول إنى لم أقو على النظر إليه يومئذ. فقد كان موت هذه الأم الصالحة أوجع ما أصابنى فى حياتى وأعمقه أثرا فى نفسى، ولقد أبيت إلا البقاء فى البيت الذى وافاها الأجل فيه، لأن كل مافيه يذكرنى بها ولكنى كدت أجن، فقد كنت أتشدد وأظهر الجلد، ولكنى كنت أراها فى كل مكان، وأبصرها تروح وتجىء وأسمع صوتها، فكأنها لم تمت وإن كان غيرى لايعرف ذلك ولا يفطن إليه، وتلفت أعصابى فكانت هذه الخيالات تسرنى أحيانا، وأحيانا أخرى تفزعنى فأضطرب وأرتعد، وثقلت على وطأة الهواجس والوساوس وطال الأمر فلم أر علاجا أحسم به هذا البلاء إلا أن أفارق البيت، وأنأى بنفسى عن مواطن الذكرى ومثارها على قدر الإمكان، وأقول على قدر الإمكان لأن المرء يستطيع أن يهرب من بيت أو بلد ولكن أنى له أن يهرب من نفسه؟
الفصل الثامن
بعد وفاة جدى أدخلنى أبى المدرسة القربية - لقربها من حينا، وإمكان الوصول إليها بلا حاجة إلى قطع الشوارع التى يجرى فيها الترام «الجديد» والتعرض لأخطاره، فقد كانت ضحاياه كثيرة فى تلك الأيام.
وكانت للمدرسة بوابتان - واحدة على شارع القربية - أى صانعى الخيام. وكانت رحيبة ولكنها عتيقة جدا. وقد بقيت بها أربع سنوات. ولا أذكر أن أحدا خطر له أن يجعل لأبواب الحجرات فيها مشابك، فكان المعلم إذا أراد أن يترك الباب مفتوحا، يجىء بحجر يسند به الباب. ولكن كان للحجر منافع أخرى لبعض المعلمين وأخص بالذكر منهم شيخا أعور كان يعلمنا «الخط» فإذا أساء أحدنا الكتابة أو تشاغل عنها بالكلام أو ضحك أو لعب، أو فعل غير ذلك مما يفعل الصبيان، ناداه الشيخ ودق له أصابعه بهذا الحجر.
ويكفى للتعريف بالمدرسة أن أقول إن ناظرها كان «وقفا» عليها وكان الكبار منا يروون عنه أنه كان يقول عن نفسه إنه «جاهل جاهل، لكن أدارجى» - أي إداري. وأنصفه فأقول إنه كان رجلا طيبا، وإنه لم يسئ قط إلى معلم أو تلميذ أو عامل - أى خادم - وقد أنعم عليه فى السنة التى دخلت فيها مدرسته، برتبة بك من الدرجة الثالثة وهى لا تخول لصاحبها لقب البك ولكنه فرح بها وانتحل اللقب وصار يغضب، إذا لم يطلقه عليه مخاطبه.
وقد جمعونا يومئذ صفوفا فى ساحة المدرسة، وأبلغونا خبر الإنعام على «سعادة البك» وهتفوا فهتفنا وراءهم «أفندى مزشوك يشا» وهى عبارة تركية معناها الحرفى «يعيش أفندينا كثيرا أو طويلا».
وكان الناظر جارنا فهو يعرف أبى، ولهذا كان يسمينى «ابن عبد القادر» ولكنه كان أخنف فكان ينطق الباء ميما فيما يخيل إلينا. وكنت على صغري قد فطنت إلى مواطن الضعف فى نفسه.
وأدركت أن «سعادة البك» مفتاح كل باب مغلق، فلا يكاد يسمعنى أقول «يا سعادة البك» حتى يهش لى ويهز لى رأسه راضيا ويعفو عن ذنبى أو يجيبنى إلى ما أطلب. وكنت دقيق الجسم صغير جدا - ومازلت كذلك إلى اليوم - ولكنى كنت حركة دائمة فكنت لهذا لا أطيق الجلوس ساعة كاملة على تلك المقاعد الخشبية الناشفة. وكان قلقى واضطرابى يثقلان على المعلمين فيضربوننى أو يشكوننى إلى الناظر فتنجينى «سعادة البك» من العقاب.
وكان معلمنا فى السنة الأولى شيخا قصيرا عظيم الوجه مغضنه جاحظ العينين واسعهما - وكان وجهه الضخم - فيما يبدو لى - فى حجم صدره. وكان يعلمنا القراءة والكتابة والخط والحساب ويحفظنا القرآن. وكانت لنا ألواح من الخشب نكتب عليها الايات الكريمة بالحبر، ثم نعود بعد حفظها فنمحوها بالإسفنجة ونكتب غيرها. وهكذا. فجمع الشيخ منا ملاليم اشترى بها «ماجورا» أخضرا كان يملؤه ماء لنغمس فيه الأسفنج ونمسح الألواح. وكانت أدراجنا دكة كبيرة تسع ستة من الصبيان تتصل بها أدراج بعددهم. وكانت قديمة مفككة وقوائمها متخاذلة ولم يكن من النادر أن تقع بنا فنتصايح ونضوضئ، فيخف إلينا الشيخ ويرى أن الدكة قد تفككت فيخرج ثم يعود بالمسامير يدقها فيثبت القوائم والأرجل فى مكانها من مقعد الدكة أو لوحها.
وكانت حجرتنا هذه تطل على حجرة المعلمين وكان كثيرا ما يتفق أن يكون الشيخ قد خرج من بيته على ريق النفس فينادى الفراش ويناوله قرشا فيشترى فولا مدمسا وزيتا ورغيفا ومخللا. ويضع له ذلك كله على النافذة التى بين الحجرتين ويظل الشيخ مترددا بين طعامه ودرسه حتى يفرغ من الأكل. وكان ربما نطق وفمه محشو. فنضحك. فلا يبالى. فقد كان حليما رحيما لا يقسو علينا ولا يعنف بنا، وأحيانا يلمح الناظر مقبلا من بعيد فيشير إلى أحدنا وهو يحاول أن يبلع اللقمة العظيمة ويتكلم فى آن معا، ويدرك الصبى مراده فيتخطى النافذة إلى حجرة المعلمين وينقل إليها ما بقى من طعام الشيخ ثم يرتد - وثبا من النافذة - إلى مقعده ويمر الناظر بسلام، فيقول الشيخ لأحدنا، وهو يشير إلى النافذة «هات. هات».
وكانت ساحة المدرسة واسعة جدا، فكنا فى أوقات الفراغ نتبعثر فيها ونلعب ما بدا لنا أن نلعب - الكرة أو سواها - وكنا نتخذ الكرة من الجوارب القديمة أو من بذور «ثمر الدوم» وهو ثمر ليفى قليل الحلاوة ولكن نواته عظيمة تصلح أن تكون كرة صغيرة نتقاذفها أو نضربها بأرجلنا.
أما فريق كرة القدم، فكان شيئا رهيبا. ذلك أن أعضاءه جميعا رجال كبار. وكان بعضهم لا يعد تلميذا بالمدرسة إلا على المجاز. وأذكر أن الناظر جمع من تلاميذ المدرسة نفقات التعليم لأحدهم، وكان لاعبا مشهورا، وكان اسمه «سليمان» ولكنا كنا ندعوه «سللى مان» لأن وجهه كان أبيض مشربا بالحمرة كوجوه الإنجليز. وكان يدخن «البيبة» فما كنا نراه إلا وهى بين شفتيه ولا أدرى ماذا كان مبلغ علمه بالإنجليزية، فقد كنت صغيرا. ولكنى أدرى أنه كان يتكلف رطانة كرطانة الإنجليز. وكان له زميل فى فريق الكرة اسمه «أبو تيفه» - أى توفيق - وكنا نحن الصغار نسمع أنهما لا يلعبان إلا إذا شربا خمرا. فأما «سيللى مان» فلا يبعد أن يكون هذا شأنه ولكنى لا أصدق أن «أبا تيفه» كان يفعل ذلك أى يسكر قبل اللعب، فقد كان وديعا كريم الشيم، وهادئا رزينا. ولا نكران أن هذا لا ينفى الولوع بالشراب، ولكنى لم أر الرجل قط - فقد كان رجلا لا صبيا مثلنا خارجا عن طوره، لا فى ساحة اللعب ولا فى المدرسة. وبعيد - فيما أرى - أن يكون مثله سكيرا.
وكانت للمدرسة عناية خاصة بطعام فريق الكرة، فكانت مائدتهم حافلة مثقلة، بل كانت المدرسة تشترى لهم «المخلل» فى سلطانيات صغيرة لتشحذ رغبتهم فى الطعام وكان عملها هذا يستدعى منها التساهل مع بقية التلاميذ، فكان كل من معه قرش منا يقف عند حاجز البوابة قبيل وقت الطعام وفى يده القرش أو الملاليم ويصيح بعم أحمد «الطرشجى» هكذا «هات شوية بنكلة» أو بأكثر أو أقل، فيناوله سلطانية فيها ما طلب فيرتد بها، ويظل يحملها حتى يدق الجرس فيدخل بها حجرة الطعام، ولم أر مثل هذا فى مدرسة أخرى من مدارس الحكومة.
الفصل التاسع
مرض أبى بعد شهور قليلة من دخولى مدرسة القربية الحكومية، وصار كل من فى البيت يلغط بأن زوجته التركية سمته، أو هى لم تسمه، وإنما دأبت على إطعامه لحم الأرنب بعد أن يعالجه رجل مشعوذ، بما لا يعرف أحد، ليحبب أبى فى هذه الزوجة، ويبغض إليه أمى، وكان أبى يعتقد أن هذه خرافات وأباطيل، وأنها مما يلفقه الخيال بتأثير الغيرة ولكن أمى كان قد أصابها سقم شديد واضطراب عصبى عنيف فعنى أخى الأكبر بما أشيع من أن هذا بعض ما جره سحر المشعوذ عليها، فراقب بيت هذه الزوجة التركية فرأى يوما شيخا يدخل، فتبعه من حيث لا يشعر فصعد الشيخ إلى غرفة فوق السطح، وأوقد نارا، وذبح أرنبا، وكتب على لحمه كلاما وعلقه فى الهواء، ورمى فى الموقد بخورا فأطلقه وراح يقرأ ويعزم، وأخى يرقبه، ثم خطر له أن يطلع أبى على ذلك فأغلق عليه الغرفة وأوصد باب البيت أيضا وحمل مفتاحه معه وذهب فجاء بأبى وأراه ما رأى فشق الأمر على أبى فطلق المرأة.
ولكنه مرض بعد ذلك لا أدرى بماذا؟ ولزم البيت بضعة شهور كان الطبيب يعوده فيها كل بضعة أيام مرة، ولكنه كان فيما يبدو لى صحيحا معافى، لا سقم به، فقد كان يشرب القهوة علي عادته، ولا ينفك يدخن سجائره المألوفة ويأكل طعامه المعهود - السمك المسلوق والأرز والفاكهة - وكل ما تغير من أمره واختلف من حاله أنه كف عن النزول إلى المكتب. وأن الكاتب وأخى كانا يصعدان إليه بالأوراق فيطلع عليها ويشير بما يرى.
وعدت من المدرسة عصر يوم، فلقينى الكاتب على الباب وسألنى «أين عم محمد» فقلت لم أره، فأخبرنى أنه ذهب ليجىء بى من المدرسة لأن أبى يريد أن يرانى فيظهر أنه ذهب من طريق وعدت أنا من طريق.
ودخلت البيت فألفيت فى فنائه نفرا من أقاربنا جلوسا على الكراسى فسلمت فقال أحدهم «اصعد. اصعد. أبوك يطلبك.»
فلم أفهم، وصعدت على مهل، ودخلت على أبي، وأنا أنتظر أن أراه قاعدا على «الكنبة» فإذا به راقد على مرتبة مفروشة له فى وسط الغرفة، وعند رأسه مصحف، فأدرت عينى فى الغرفة، فألفيت النساء من أهلى قاعدات حول المرتبة، مطرقات، وفى أيديهن مناديل، يرفعنها إلى عيونهن ويكفكفن بها الدموع، فنطرت إلى أبى، فأشار إلى بعينيه فانحنيت عليه فقبلنى، ونهضت، وأنا غير فاهم وهممت بأن أدور وأخلع ثيابى، وإذا النساء يصحن ويولولن، وإذا بأمى تتناولنى وتميل على رأسى وهي تقول «أبوك مات».
أبى مات!
لم أفهم هذا، ولم يحدث الخبر فى ذهنى صورة ما، فقد رأيت أبى، كما اعتدت أن أراه، لم يتغير وجهه، ولا نظرته، ولا ابتسامته، ولم يختلف شىء سوى أنه راقد على مرتبة، بدلا من السرير حتى بعد أن ولولت النساء، رددت عينى إليه، فرأيت ابتسامته مرتسمة على شفتيه وفى عينيه، فثنيت طرفى إلى الباكيات النائحات، ثم عدت أنظر إلى أبى فراعنى أن الابتسامة ثابتة، كأنها متحجرة، وأن العين لا بريق فيها ولا ضوء، وأنها كالزجاجة، وأن المعنى الذى لمحته لما انحنيت عليه ليقبلنى قد خبا وانطفأ فبهت ولكن منظرا جديدا شغلنى وصرفنى عما وقع فى نفسى من هذا الموت العجيب فقد تشددت جدتى وتحاملت على نفسها، وركعت إلى جانب ابنها وأدنت أصابعها برفق من عينيه فأطبقت عليهما الجفون ولثمت جبينه ونهضت تشهق وتكاد تختنق.
ولم يبق لى مقام بين هؤلاء الباكيات، فانحدرت إلى فناء البيت حيث الرجال وكانوا يبكون ولكن في صمت، ففى الوسع احتمالهم، وضمنى أخى الأكبر وأجلسنى إلى جانبه ويده على كتفى والدموع تنهمر من عينيه، وأنا كالصنم وأذكر أنى خجلت، وحاولت أن أبكى ودعكت عينى بأصابعى ولكن العبرة لم تسعفنى ولم تنجدني وكنت لا أزال غير فاهم هذا الموت الذى أثار هذه الضجة الشديدة فى بيتنا - فوق وتحت - وترك النساء يلطمن والرجال يبكين مثل النساء.
ولا أطيل: أقيم المأتم واقتصر فيه على يوم واحد، وكان مأتما ككل المآتم فلا حاجة إلى كلام فيه ولكن أخى بعد انقضاء الأيام الثلاثة صعد إلى حيث كانت أمى جالسة، وأنبأها أن المأتم تكلف خمسمائة جنيه فدهشت ولم تصدق وقالت إن هذه ثروة ففى أى شىء أنفقها بل بددها فى يوم واحد..
فنادانى وكنت قريبا منهما أسمع وأرى ودفع إلى ورقة فيها أرقام وقال «هذا ابنك يذهب إلى المدرسة ويعرف الحساب فليقل لك جملة الأرقام ماذا تبلغ.. فجمعت الأرقام فإذا هى كما قال خمسمائة جنيه لا تنقص مليما واحدا».
ولم يتغير شىء من حالنا فى الشهرين التاليين سوى اختفاء أبى فقد كان المال الذى تركه كثيرا ولكن أخى بعد ذلك طلق زوجتيه وسرحهما وتزوج جارة لنا كانت عينه عليها - ولا شك - واتخذ لها بيتا مستقلا فاحتجنا أن ننتقل إلى بيت صغير بعد انتفاء الحاجة إلى البيت الكبير الذى كنا فيه فبدأت متاعبنا من ذلك اليوم فقد أهملنا أخى وبخل علينا بالمال وصار يقتر علينا ويغدق على زوجته الجديدة حتى بدد كل ما ترك أبى فى نحو ثمانية شهور.
وكان لجدي أرض وكانت أمى هى الوصية علينا فزور أخى توكيلا منها له وباع الأرض وبعثر ثمنها فيما كان يلهو به ونحن لا نعلم فلما علمت أمى لم تصنع شيئا وقالت إنها لاتستفيد شيئا من أن تنزل به ما يستحق.
وجاء يوم خلا فيه البيت من الطعام واللبن والسكر والسمن فلو جاءنا ضيف لكانت فضيحة وكنت واقفا على عتبة الباب أنظر إلى صبيان الحارة وهم يلعبون فرحين مسرورين لا يكربهم شىء ولا يفكرون في بن أو سكر ينقصهم، وإذا بشيخ فاضل من زملاء أبى فى الأزهر مقبل على ففزعت وهممت بأن أتوارى عنه عسى أن لايرانى فيمضى فى سبيله ولكنه لمحنى فنادانى، وقبلنى وقال «ستك الحاجة: كيف حالها»؟ قلت «بخير ولك الشكر». قال: «اصعد إليها وقبل لى يدها وقل لها إنى أريد أن أقابلها».
ولم يكن فى هذا غرابة، فقد كان أيام الدراسة ملازما لجدى، وكان ربما أقام فى بيتنا - مع أبى - الأسبوع والأسبوعين. وكانت جدتى تعده كابنها، ولكنى أشفقت من زيارته، فما فى البيت شىء يقدم لضيف كريم مثله، فماذا نقول له. وبأى شىء نعتذر.
ولم أر لى حيلة فأنبأت أمى وجدتى، ثم انحدرت إليه وصعدت به فجلس يحدث جدتى وأنا واقف وظهرى إلى الحائط، وعقلى شارد وإذا بى أسمعه يقول إنه كان قد خطف من أبي مبلغا آخر، فثالثا فرابعا ليشترى بذلك أرضا لنا، ولكن الأجل وافى أبى. فبقى المبلغ معه، ولا علم لغير الله بذلك وقد خاف الشيخ أن ينزل به قضاء الله فيضيع مالنا، فهو يريد أن يبرئ ذمته ويرده إلينا.
وقد كانت هذه بداية الفرج، فقد وسعنا بعد ذلك أن نعيش بهذا المبلغ وتيسر الإنفاق على تعليمنا، والفضل لله ثم لهذا الشيخ الكريم، وإنصافا له، واعترافا بفضله، أقول: إنه المرحوم الشيخ إبراهيم بصيلة من كبار العلماء - رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء - فما وسع أحدا منا فى حياته أن يرد له ذرة من هذا الجميل الذى لن ننساه ولا نجحده.
الفصل العاشر
انتقلنا من اليسر إلى العسر، ومن السعة إلى الضيق، واستغنينا عن «عم محمد» وامرأته «حليمة».. أو استغنيا هما عنا، سيان، فما كانا خادمين، وإنما كانا منا فيما نحس ونعلم، وأحكمنا تدبير أمورنا فى حدود المورد الذى أسعفنا به حسن الحظ، وزايلنا الشعور الأول بالسخط والألم، وألفنا حياتنا الجديدة وإن كانت حافلة بضروب الحرمان مما كنا ننعم به فى حياة أبى، وكل شىء فى الدنيا عادة ، حتى النسك والعبادة، كما يقول النواسى، من قصيدة فى ابن الربيع:
أنت يا ابن الربيع علمتنى النسك
وعودتنيه، والخير عادة
ومضت الأيام، وانتظمت الأمور واستقرت الأحوال بعد القلق والاضطراب، وكانت نفقات التعليم، على ضآلتها، فقد كانت ستة جنيهات فى العام أثقل ما نضطر إلى الاحتياط له وتدبيره وفى وسع القارى أن يتصور حياة من تثقل عليه ستة جنيهات فى العام. فجاءنا يوما قريب لنا، واقترح علينا أن نطلب من الوزارة أن تعفينى من نفقات التعليم، فاستحسنا ذلك وقلنا عسى ولعل، وشرعنا نعين الوجوه التى ينبغى أن نحول إليها ما كان يأخذه التعليم. وكتب قريبى الطلب وأرانيه فقرأته على أمى فسرتها عبارته وما فيها من القصد والترفع عن الاستجداء والضراعة، قالت حسبنا التعليم بالمجان مذلة.
وغاب قريبنا أياما ثم جاءنا بنبأ قال «يا ستى».
قالت أمى «نعم. خير إن شاء الله».
قال «الغاية تبرر الواسطة».
قالت «يعنى»؟
قال «إن هذا الطلب لا يرجى أن يجاب إلا إذا عززناه بقرشين».
فصاحت به «إيه.. هل تريد أن تقول أن فلانا - تعنى ناظر المدرسة - يطلب رشوة»؟
فقالت أمى معترضة «إذا كنا سنرشو الناس، ونحن فقراء، فأولى أن نؤدى نفقات المدرسة ونستريح ونعفى ضمائرنا من هذا الإثم».
قال «ولكن الإعفاء سيظل طول مدة التعليم».
قالت «ولو».
فانصرف قريبنا ساخطا على هذا العناد متعجبا لهذا التحرج الذى لا موجب له فى رأيه، ولكنه لم يقنط، فأعاد الكرة مرة أخرى، حتى كرهت إلحاحه وآثرت أن تريح نفسها من لجاجته، فأنقدته أربعة جنيهات زعم أنه سيفرقها على رجلين.
ومر شهر، ودنا موعد افتتاح المدارس ونحن كل بضعة أيام نسأل قريبنا عن الطلب ماذا صنع الله به، وهو يقول إنه يتعقبه فى كل مرحلة من مراحله، ثم فجأنا يوما بالبشرى، ففرحت جدتى واغتمت أمى، واضطربت أنا فلم أعد أدرى أينبغى لى أن أفرح كجدتى أم أحزن كأمى.
وفتحت المدارس، فأهملنا أن نعد مقدار القسط الأول، وهو جنيهان وجاءنا قريبنا يقول إنه أخطأ، وأن الوزارة إنما قبلت أن أتعلم «بنصف مصروفات» فقالت أمى بعد انصرافه «ضيعنا أربعة جنيهات وارتكبنا إثما لنقتصد ثلاثة جنيهات» وناولتنى جنيها - قيمة نصف القسط الأول - وقالت: «اذهب به إلى المدرسة والأمر لله».
وذهبت إلى المدرسة وفى جيبى الجنيه - ولكن الله ألهمنى ألا أذهب إلى كاتب المدرسة فاستأذنت على الناظر وقدمت له الجنيه فسألنى وهو ينظر إليه وإلى «ما هذا يابنى».
قلت «جنيه».
قال «ظاهر، ولكن لماذا تعطينيه».
قلت «إن فلانا قريبنا أخبرنا أن الوزارة قبلت أن أتعلم بنصف المصروفات فهذا هو القسط الأول».
وكان الرجل رقيق القلب عظيم الحنان، وكانت بينه وبين أبى صداقة فرأيت الدمع يترقرق فى عينيه وهو يقول. - «أنا آسف يا بنى، لقد رفضت الوزارة الطلب، ووالله ماقصرت فى السعى لك ولكن هذا ما كان».
فشكرته وأعدت الجنيه إلى جيبى، ورجعت به وبالخبر، آخر النهار إلى أمى.
ودفعنا القسط كاملا.
وسألت أمى قريبنا عن الحقيقة فاعترف لها بأنه كذب عليها وأنه أخذ الجنيهات الأربعة لنفسه، ووعد أن يردها عند الميسرة، وقد مات وهى فى ذمته.
وقالت لى أمى يوما: «لست آسفة إلا على خديعتنا، وما أثمرته من زيادة الضيق الذى كنا فيه، أما التعليم فإنى أحمد الله الذى مكننى من أداء نفقاته فى مراحله كلها، فما كان يسرنى أن تشعر أنك دون أندادك وإنك رقيق الحال، وهم فى سعة، وكنت أخشى أثر هذا فى نفسك فالحمد لله الذى حماك هذا الشعور».
وأخذت الشهادة الإبتدائية، فقالت أمى: «تذهب إلى المدرسة الخديوية وتقدم إليها طلب التحاق بها» ولكن أخى وقريبى الذى أسلفت ذكره جاءا ليقنعا أمى بأن تقبل توظيفى فاستغربت وقالت: «ولكنه طفل».
قال قريبى «إن نفقات التعليم الثانوى كبيرة فمن أين تجيئين بها».
وعزز أخى رأيه. وألح الإثنان عليها إلحاحا شديدا وهى تأبى وتقول إنها لا ترضى بذلك، وإن ابنها يجب أن يتعلم، وإن أوان التوظيف وكسب الرزق لا يزال بعيدا فأغلظ أخى لها فى الكلام وعنف معها قريبى فطردتهما وأمضت مشيئتها وأدخلتنى المدرسة. وقد بقيا زمنا غير قصير لايجترئان على دخول بيتنا، ولكنها كانت تبعث بى إليهما لأزورهما، وتوصينى ألا أقطعهما، وتقول إنه خلاف أدى الى جفوة بينها وبينهما، وقد فعلت ماتريد وقواها الله عليه فلا مسوغ لبقاء النبوة ولا موجب لها على كل حال فيما بينى وبينهما، وهى لا تضمر لهما بغضا، ولكنها تخاف لعبهما ودخولهما مرة أخرى فيما لا يعنيهما، فخير لى أن يبقيا بعيدين حتى أفرغ من التعليم.
واعترضت الحمى طريقى فى السنة الأخيرة من التعليم الثانوى وكادت تضيعنى بل تقتلنى. وكان قريب لنا من الأطباء يتولى علاجى، ولكن العلاج لم يكن يبدو له أثر فقضيت الصيف كله أوجله راقدا لا أكاد أعى شيئا، من شدة الحمى.
وفى إحدى الليالى ثقلت على وطأة المرض جدا، حتى جزعت أمى - على ما أخبرتنى بعد ذلك - وكادت توقن أنى هامة اليوم أو الغد، لولا أن الأم لا تفقد أملها، وكنا فى بيت كل غرفة فيه تصلح أن تكون ساحة أو ملعبا، وكانت نوافذ الحجرة التى أرقد فيها تطل على فناء البيت وفيه شجرة جميز عظيمة، تصل أغصانها الذاهبة فى الهواء إلى النوافذ، وكنا نضع قلل الماء على أحد هذه الشبابيك لتبرد، فحدث أن مدت أمى يدها إلى قلة تريد أن تشرب، فقلبت القلة من بين أصابعها وهوت إلى أرض الفناء ففزعت أمى واضطربت جدا، وكبر ظنها أن هذا نذير بموتى، وخطر لها أن تنحدر إلى الفناء فى فحمة الليل لترى أسلمت القلة أم تحطمت.
وكانت لا تشك فى أنها تكسرت فما يعقل أن تقع من أعلى طبقة فى البيت وأن تنجو من التهشم، ولكنها نزلت مع ذلك، لأن القلة لم تكن عندها فى تلك اللحظة إلا رمزا، وكانت سلامة القلة معناها البشرى بنجاتى.
ومن العجائب أن القلة لم يصبها سوء ولعل ذلك لأنها وقعت على أرض رخوة طرية كثيرة البلل تحت ظل الشجرة، أو لا أدرى كيف أعلل هذه النجاة من العطب الذى كان ينبغى أن يكون محققا.
ولقد حدثتنى أمى بعد ذلك بزمان طويل وهى تروى لى هذه القصة، أنها بكت، وأنها عجزت عن القيام، فظلت قاعدة على الأرض غير عابئة بالبلل والرطوبة والوحل، وفى يدها القلة والدموع تنهمر من عينيها دموع الأمل والاستبشار.
وقضت ساعة فيما تحس، ثم نهضت فصعدت، ودنت منى وأنا نائم، ولمست وجهى بكفها، مترفقه محاذرة، مخافة أن توقظنى، فإذا أنا أتصبب عرقا، وإذا بثيابى كلها - كما قالت - عصرة.
وأصبحت وقد ذهبت عنى وقدة الحمى وأخذت أتماثل ....
الفصل الحادي عشر
ذكريات مدرسية
سأقتصر فى هذا الفصل على طائفة من الذكريات تخيرتها من عهد كنت فيه تلميذا، وعهد تال كنت فيه مدرسا.
وسأكتفى بالمعالم الكبرى والخطوط الرئيسية التى تغنى عن التفاصيل ولست أرمى إلى غاية من هذا التصوير سوى ما يمكن أن يستفاد من مقابلة عهد بعهد ومواجهة ماض بحاضر. فمثلا يمكن بسهولة أن تتصوروا حال التعليم الابتدائى إذا قلت إن تلميذا كان معنا فى المدرسة نال الشهادة الإبتدائية فعين فى السنة التالية مدرسا لنا فى السنة الرابعة التى تعد لنيل الشهادة الابتدائية، وأبلغ من هذا فى الدلالة أنه كان يدرس لنا ما كان يسمى «الأشياء» وهى عبارة عن معارف عامة وكان تدريسها يومئذ باللغة الانجليزية. وأرسم خطا آخر تتم به الصورة - فأقول ما قلت فى فصل آخر: إن ناظرنا كان يقول عن نفسه: إنه جاهل جاهل ولكنه إدارى.
والآن انتقل إلى طائفة أخرى من الصور للمدارس الثانوية.
كان التعليم الثانوى انتقالا بأدق المعانى فقد صار كل ما فى المدرسة انجليزيا - الناظر والمدرسون والتعليم - ما عدا اللغة العربية.
وأنا إلى هذه اللحظة لا أعرف كيف كنت أنجح فى الامتحانات، وأكبر ظنى أنهم كانوا يترفقون بنا ويعطفون علينا، ويتساهلون معنا، ويتركوننا ننجح على سبيل الاستثناء. وأدع غيرى وأقتصر على نفسى فإنى أعرف بها، فأقول: إنى ما استطعت قط أن أفهم علوم الرياضة، أو أن أقدر فيها على شىء، ومع ذلك كنت أنتقل من سنة إلى أخرى بلا عائق. وكان الأساتذة يختلفون فمنهم الفظ ومنهم الرقيق. وأذكر أن أحدهم كان يذكرنى درسه بالكتاب الذى حفظت فيه القرآن الكريم فقد كان يملى درس الجغرافيا، فإذا كان الدرس التالى طالبنا به محفوظا عن ظهر قلب، وكان يقف أمامه التلميذان والثلاثة دفعه واحدة وعلى مكتبه الكراسة والتلاميذ يتلون وهو يسمع، ثم يضع فى كل ركن واحد من الحافظين ليمتحن زملاءه. وكنت لا أستطيع أن أحفظ شيئا عن ظهر قلب فكنت أحبس بعد كل درس فى الجغرافيا حتى كرهتها وكرهت حياتى كلها بسببها.
وكان لنا مدرس آخر من أظرف خلق الله وأرقهم حاشية وأعفهم لفظا، فكان إذا ساءه من أحدنا أمر وأراد أن يوبخه قال له. تهج كلمة بليد مثلا أو مجنون أو غير ذلك كراهة منه لإسناد الوصف إلى التلميذ مباشرة. ولم يكن تدريس اللغة العربية خيرا من تدريسها فى الوقت الحاضر ولكنا كنا أقوى فيها من تلاميذ هذا الزمان، لا أدرى لماذا؟ وكان المفتش الأول للغة العربية المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، وكان من أعلم خلق الله بها وبالصرف على الخصوص، وكان رجلا طيبا ووقورا مهيبا، فكان إذا دخل علينا يسرع المدرس إليه فيقبل يده ويدعو له الشيخ ولا نستغرب نحن شيئا من ذلك بل نراه أمرا طبيعيا جدا.
وأعتقد أن منظر أساتذتنا وهم يقبلون يد الشيخ حمزة كان من أهم ما غرس فى نفوسنا حب معلمينا وتوقيرهم، فإنى أرانى إلى هذه الساعة أشعر بحنين إلى هؤلاء المعلمين ولا يسعنى إلا إكبارهم حين ألتقى بواحد منهم وإن كنت لم أستفد منهم شيئا يستحق الذكر.
ومن لطائف الشيخ حمزة أنه كان يقول ملاحظاته على المعلم على مسمع منا، ولكنه كان لا يكتب فى تقريره إلى الوزارة إلا خيرا. وقد اتفق لى بعد أن تخرجت من مدرسة المعلمين وعينت مدرسا فى المدرسة السعيدية الثانوية أن جاء الشيخ حمزة للتفتيش فاغتنمت هذه الفرصة وقلت: «يا أستاذ» ما هو الاسم العربى لهذا الدخان والتبغ تارة أخرى؟ «فقال»: انتظرنى يا سيدى حتى أنظر فى «الكناشة» وأخرج مما يلى صدره تحت القفطان كراسة ضخمة لا أدرى كيف كانت مختبئة غير بادية وقلب فيها ثم أنشد هذا البيت:
كأنما حثحثوا حصا قوادمه
أو أم خشف بذى شت وطباق
ومضى عنى. وفكرت أنا فى كلمة الطباق التى جاءنى بها الشيخ، فاستحسنتها ورأيت أنها على العموم خير من كلمة تبغ نعرب بها اللفظ الانجليزى أو الفرنسى «توباك أو توباكو».
ومن حوادث الشيخ حمزة معى أنى كنت أؤدى الامتحان الشفوى فى الشهادة الثانوية وكان هو رئيسا للجان اللغة العربية، فلما جاء دورى اتفق أنه كان موجودا، فلما انتهت المطالعة وجاء دور المحفوظات وكان لها مقرر مخصوص سألنى ماذا أحفظ. وكنت فى صباح ذلك اليوم قد قرأت خطبة قصيرة للنبى
صلى الله عليه وسلم
فعلقت بذهنى وألهمنى الله أن أقول إنى أحفظ خطبة للنبى، ففرح الشيخ جدا وخلع حذاءه وصاح: «قلى يا شاطر الله يفتح عليك» وسترنى الله فلم أخطئ، فاكتفى الشيخ بهذا وأعفانى من النحو والصرف والإعراب.
ولكنه فى مرة أخرى كاد يضيع على سنة. وكنت طالبا فى مدرسة المعلمين وكانت لجنة الامتحان فى اللغة العربية برياسته فقال أحد إخوانى بعد خروجه من الامتحان: إن الشيخ حمزة يفتح كتاب النحو والصرف ويطلب من الطالب أن يتلو الفصل الذى يقع عليه الاختيار، ولم نكن ندرس نحوا ولا صرفا فى المدرسة لأن الدراسة كانت مقصورة على الأدب فأيقنا بالفشل وجاء دورى فدخلت وأنا واثق من الرسوب وجلست أمامه وناولنى كتاب مقدمة ابن خلدون فقرأت، ولا أزال أذكر فاتحة الكلام وهى: «اعلم أن العدوان على الناس فى أموالهم ذاهب بآمالهم فى تحصيلها» الخ. فقال: ضع الكتاب. فوضعته، فسألنى عن العدوان والفعلين عدا واعتدى وانتقلنا إلى الصيغ المختلفة التى يكون عليها الفعل «واعتدى» مثل «اعتديا» للماضى المثنى «واعتديا» للأمر، فسألنى لماذا كان الماضى بالفتح والأمر بالكسر فلم أعرف لهذا سببا وقلت إنه لا سبب هناك سوى أن العرب نطقوا بهما هكذا، فدهش لهذا الجواب وقال: «ولكن لهذا سببا»، قلت: «إن اللغة سبقت النحو والصرف، وكل هذه القواعد موضوعة بعدها، وما دمت أنطق كما كان العرب يفعلون فإن هذا يكفى ولا داعى للبحث عن سبب مختلق». فغضب وظهر هذا على وجهه فلم أبال بغضبه وحدثت نفسي أنه خير لى وأكرم أن أسقط بخناقة من أن تكون علة سقوطى الجهل. وأصررت على رأيى وكاد يحدث مالا يحمد، لولا أن المرحوم الشيخ شاويش - وكان عضوا فى اللجنة - تدارك الأمر، فقد نظر فى ساعته ثم التفت إلى الشيخ حمزة وقال: «العصر وجب يا مولانا». فنهض الشيخ وهو يقول «أى نعم» وذهب للصلاة ونسينى فكان فى هذا نجاتى. وقد حفظت هذا الجميل للشيخ شاويش، وكانت هذه الحادثة بداية علاقتى به.
ولم تكن المواد كثيرة أو طويلة فى مدرسة المعلمين، ويكفى أن أقول إنه كانت لنا فى الأسبوع ثمانى ساعات لا نتلقى فيها أى درس، فترك هذا التخفيف وقتا كافيا للمطالعة الخاصة.. وكان أساتذتنا وناظرنا يشجعوننا عليها بكل وسيلة ولا يفوتهم مع التشجيع والحث أن يوجهونا وينظموا لنا الأمر، وأحسب أن هذا نفعنا جدا.
وقد صرت معلما بعد ذلك وظللت أشتغل بالتعليم عشر سنين: خمس منها فى الوزارة، وخمس فى المدارس الحرة، وفى هذه السنوات العشر لم أحتج أن أعاقب تلميذا أو أوبخه أو أقول له كلمة نابية. ولم يقصر التلاميذ فى محاولة المعاكسة ولكنى كنت حديث عهد بالتلمذة وبشقاوة التلاميذ، فكنت أعرف كيف أقمع هذه الرغبة الطبيعية فى الشقاوة، وكانت طريقتى أن أتجاوز عن الذى لا ضير منه فلا أشغل به نفسى والتلاميذ، مثال ذلك أن يحتاج التلميذ إلى قلم أو نشافة فيطلبها من جاره ويكلمه فى ذلك فلا أعد هذا الكلام الذى لا يباح، ولا أقيم ضجة من أجله وقد حدث يوما وأنا مدرس فى المدرسة الخديوية أن دخلت فرقة فألفيت على مكتبى كل أدوات الرياضة مرصوصة على نحو لاشك أنه متعمد وكان تلاميذى لا يجهلون كرهى للرياضيات، وكنت أنا لا أكتمهم أنى أعد نفسى جاهلا بها حمارا فى علومها، وكان غرضهم من رص هذه الأدوات أن يعابثونى عسى أن أثير الضجة التى يشتهونها ولا يفوزون منى بها ولكنى لم أفعل بل اكتفيت بأن دعوت العامل فحمل هذه الأدوات ووضعها فى مكانها ثم بدأ الدرس. واتفق يوما آخر أن دخلت الفصل فإذا رائحة كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفا والجو حارا جدا فضاعف الحر شعورى بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وأدركت أنها هى المادة التى كنا ونحن تلاميذ نضعها - فى الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت لنفسى أنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثى نفسى فإنها تغثى نفوسهم معى أيضا. فحالهم ليس خيرا من حالى، والإحساس المتعب الذى أعانيه ليس قاصرا على ولا أنا منفرد به، وأنهم الأغبياء لأنهم أشركوا أنفسهم معى وقد أرادوا أن يفردونى بهذه المحنة. والفوز فى هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال. فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد أخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان. تصبرت وتشددت ودعوت الله فى سرى أن يقوينى على الاحتمال، ومضيت فى الدرس بنشاط وهمة لأشغل نفسى عما أعانى من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى فى وجوههم أمارات الجهد الذى يكابدونه من التجلد مثلى فأسر واغتبط وأزداد نشاطا فى الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا فى الكلام فقد كنت عارفا أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا فى فتح النوافذ عسى أن تخف الرائحة ويلطف وقعها.
وظللنا على هذا الحال نصف ساعة كادت أرواحنا فيها تزهق، ورأيت أن الطاقة الإنسانية لا يسعها أكثر من ذلك، وأن التلاميذ خليقون أن يتمردوا إذا أصررت على عنادى المكتوم، واغتنمت فرصة أصبع مرفوعة وسألت صاحبها عما يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأن الحر شديد، قلت افتحها، وفتحت النوافذ كلها. وتشهدنا جميعا واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال مالا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة أو أربعة من التلاميذ ولحقوا بى، وقال لى واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وأن الأمر كان مقصودا به غيرى، وأنهم يطلبون الصفح، فسررت ولكنى تجاهلت وسألتهم عما يعنون. قالوا. الرائحة الكريهة التى كانت فى الفصل. قلت: «رائحة. أى رائحة.. إننى مزكوم ولهذا لم أشم شيئا فلا محل لاعتذاركم» ومضيت عنهم، وكان هذا درسا نافعا لهم ولو أنى عاقبت أحدا لما أثمر العقاب إلا رضاهم عن نفوسهم لأنهم استطاعوا أن ينغصوا على، وأن ينجح معى عبثهم الطبيعى فى مثل سنهم.
وفى آخر سنة من اشتغالى بالتدريس توليت أمر مدرسة ثانوية فقلت للأساتذة: إننى ألغيت العقوبات جميعا فلا حبس ولا عيش حاف ولاشىء مما اعتاد المعلمون أن يعاقبوا به التلاميذ.
ونظريتى هى أن المدرس الذى يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لهذه المهنة وخير له أن يشتغل بغيرها وأن العلاقة بين المعلم وتلميذه ينبغى أن تقوم على المودة والاحترام، وأن يكون أكبر وأقوى عامل فيها هو شعور التلميذ بأن المدرس والد له يبغى له الخير ويخدمه، ويفتح له نفسه ويقوي مداركه وينمى استعداده، وأنه لا يلزمه بدرس ولا يفرض عليه شيئا بل يرغبه فى الدرس ويحبب إليه التحصيل.
وعلى هذا فليس لأحد من المعلمين أن ينتظر منى معونة على ضبط النظام، وقد كان. قضينا فى هذه المدرسة سنة كاملة لم يشعر فيها التلاميذ بسلطان أو سطوة، وإنما شعروا أنهم أبناء لنا وأننا إخوان كبار لهم وأصدقاء نافعون.
ولم أكتف بهذا بل ألغيت «الجرس» الذى يدق إيذانا بابتداء الدرس أو انتهائه لانى لم أر حاجة إليه بعد أن أصبح التلاميذ يحرصون على الحضور والمواظبة من تلقاء أنفسهم وبدافع من حبهم للمدرسة ورغبتهم فى الوجود بها مع إخوانهم المدرسين، حتى لقد كان الواحد منهم يمرض فيحضر، وبهذا استغنيت أيضا عن الدفاتر الكثيرة التى تستعمل فى المدارس والتى تحتاح إلى موظفين كثيرين لا داعي لهم.
وقد كنت أحب أن أظل فى هذه المدرسة لأرى نتيجة التجربة، ولكن الحركة الوطنية بدأت فى صيف ذلك العام وجرفنا تيارها الزاخر فهجرت التعليم إلى الصحافة.
ولو عدت إليه الآن لكان من المحقق أن أخفق فقد اختلف الحال جدا وانقلبت الأوضاع.
الفصل الثاني عشر
كان عزائى فى تلك الأيام قول القائلة: «راح يبغى نجوة
من هلاك فهلك
والمنايا رصد
للفتي حيث سلك
كل شىء قاتل
حين تلقى أجلك»
أى والله! فقد تبينت أن مصر توشك أن تثور، فقلت أعفى أهلى من المتاعب التى تجر إليها الثورات واضطراب حبل الأمور، فحملتهم إلى بيت جدى - لأمى - «على حدود الأبد»، وأصلحت فيه شقة اتخذتها لنا، ومضت شهور والثورة لا تقوم، حتى خالجنى الشك فى صحة رأيى، وكادت ثقتى بقومى تذهب، وكنت فى تلك الأيام أعانى أشد البرح، فقد كان عملى فى قلب العاصمة، وبيتى فى الصحراء، والمسافة بينهما أكثر من عشرة كيلو مترات أقطع نصفها وزيادة على قدمى غاديا رائحا كل يوم، ومعى ما يكفى لغذائى، فإنى أكره طعام السوق، وكتاب أقرأ فيه فى فترات الراحة من العمل، فلما هبت الأمة زاد العناء واشتد البرح، فقد بطل العمل. وخرج التلاميذ إلى الشوارع مواكب مواكب وكانوا يعتقلون بالمئات، ويحشرون فى كل مكان يخطر على البال، حتى فى مسجد محمد على بالقلعة، وكان الناجون من تلاميذى يرتدون إلى فى المدرسة التى كنت ناظرها يومئذ، ويقصون علي ما جرى، ويذكرون لى أسماء المعتقلين من زملائهم، ومكان اعتقالهم، وكانت العلاقة بينى وبين تلاميذى علاقة أخ كبير بإخوة صغار، فكانوا لهذا لا يكتموننى شيئا، ولا يحجمون عن مصارحتى بما يدور فى نفوسهم، وما تضطرب به صدورهم، ولا يترددون فى مشاورتى حتى فى أخص الأمور الشخصية، فكنا نعقد كل يوم اجتماعا لتدبير ما يمكن تدبيره من وسائل الراحة لإخواننا الصغار المعتقلين من أبناء مدرستنا وكانت عقدة العقد أن المال لدينا قليل، وأن الوصول إلى المعتقلين عسير، فكيف نبعث إليهم ما عسى أن تكون بهم حاجة إليه من طعام أو ثياب أو فراش؟
ومن حسن الحظ أن الوقت كان صيفا، ففى الوسع الاستغناء عن الأغطية واحتمال النوم على الأرض، فيبقي الطعام والثياب، ويطيب لى أن أروى أن بعض التلاميذ كان يرتدى عدة أكسية ويدس فى جيوبه ما تتسع له من الآكال الناشفة، ويقصد إلى المعتقل الذى يعلم أن فيه إخوانا له فيقدم نفسه على أنه شريك فيما جر الاعتقال على زملائه، أى فى المظاهرات وما إليها فيلقون به معهم - وقلما كانوا يصرفونه - فيخلع على زملائه أكثر ما كوم على بدنه ويطعمهم مما حمل، وكان هذا يزيد المعضل تعقيدا، لأنه يزيد عدد المعتقلين الذين نحاول تزويدهم بما يفتقرون إليه، غير أن الوقت كان أضيق من أن يتسع لطول التردد، فكنا نفعل كل ما يخطر على البال بلا حساب للعواقب، ما دام له غناء إلى حين، وسهل الأمر قليلا أن المعتقلات كانت تضيق بمن فيها فيسرح بعضهم ليكون فيها محل لمن يقبض عليهم فى كل يوم.
وليس من همى أن أتحدث عن الثورة وما كان فيها، وإنما أريد أن أقول إنها زادت عنائى وضاعفت ماكنت أكابده من مشقات، وكل شىء عادة، فألفنا التعب كما كنا نألف الراحة والرغد، وسكنا إلى الأحوال الجديدة الحافلة بالمنغصات والمتعبات، وانقطع التبرم والضجر ووطنا أنفسنا بسرعة على احتمال كل ما عسى أن تجيء به الأيام.
وكان كل طريق إلى بيتى، يحوج إلى اجتياز المقابر، فكنت أسلكها كل يوم، وأرى الاجداث المبعثرة فى كل صباج ومساء، وتحت ضوء القمر، وفى قدة الظهر، وفى الظلمة الحالكة، وفى البكرة المطلولة فنفعنى هذا وبلد شعورى بالموت، ومحا استهوالى له وجزعى منه، وجعله فيما أرى وأحس، أمرا عاديا لا غرابة فيه ولا جدة له، حتى لقد صار يتفق لى بعد ذلك أن أحتاج إلى الراحة بعد طول المشى، فأقعد على صوى قبر من القبور الكثيرة فى طريقى، وأشعل سيجارة، وأروح أدخن، وأدندن، بصوت خفيض، أو أرسل الصوت بالغناء، ولا أشعر بحرج أو استنكار.
وكان بدء التحول فى حياتى أن زوجتى ماتت، وإنى لأومن أن لكل أجل كتابا، ولكنى إلى هذه الساعة لا أستطيع أن أعفى نفسى من ثقل الاعتقاد أن الطبيب قتلها، وهو سكران، وقد مات هو أيضا بعد سنوات: فإلى حيث ألقت، وما أعرفني شمت بميت سواه، ولم يعتمد قتلها، ولكنا دعوناه - وقد جاءها المخاض - فشممت رائحة الخمر من فمه، وفحصها ثم قال لى إن الحالة طبيعية، ولم يكن ثم موجب لدعوتى، وسيحصل الوضع في أوانه، ولكنى جئت فلا داعى للانتظار (كذلك قال والله) وكنت أعاونه، فطهر الآلات وشرع فى العمل، وجر الجنين فإذا الآلة التى طوق بها رأسه قد حفرت فيه إخدودا يسع الخنصر، وشغل نفسه دقائق بالجنين، والتنفس الصناعى على غير جدوى، فألححت عليه أن يتركه ويعنى بالأم، فما ثم شك فى أن الجنين مات، فرجع إلى الأم ليخرج «الخلاص» فكان والله يشده كما رأيت الفرق الرياضية تتجاذب شد الحبل بينها بأعظم ما يملك من قوة، ثم رأى أن هذا لم يجد، فدس يده وأخرج الخلاص مقطعا إربا، ثم لفها، وقال ترقد ولا تسقوها ماء، وأخذنى معه، فقال لى إن الحالة خطرة، وإنه آسف. فلم أطق هذا اللف وسألته: «متى تتوقع أن تكون الوفاة..؟ إنى أسألك عن هذا لأنى أوثر أن أكون على بصيرة، ولا تخش جزعى، فإن واجباتى الآن لا تدع لى وقتا للجزع، فلم يجبنى جوابا صريحا، وقال: سترى ما يكون صباح الغد.
وعدت إلى زوجتى فأدركت مما رأيت أن النزف يلح عليها، وأنها تموت شيئا فشيئا، فبقيت إلى جانبها أقوى نفسها - وأنا يائس - وأشد من عزيمتها، وأبتسم لها وقلبى يتفطر، وبالغت في التظاهر بالاطمئنان حتى لقد خلعت ثيابى وارتديت ملابس النوم، ولكنها كانت تحس من نفسها ما لا أحس، فأوصتنى بولدنا خيرا، وودعتنى، وجادت بالنفس الأخير ويدى على يدها.
وكاد عقلى يطير، وهممت بأن أشكو الطبيب، ولكن ما الفائدة؟! وكيف أثبت تقصيره أو خطأه أو سكره؟ وشق على الأمر حتي لقد تغير رأيى فى الناس والحياة الدنيا، والخير والشر، وحدثت أكثر من طبيب بما كان ووصفت له ما حدث فكانوا يتعجبون، ولكن هذا لم يجدنى، ولم يمنع أن طبيبا ثملا قتل امرأتى، وأين العزاء فى أنه غير عامد، وأن هذا قضاء وقدر على كل حال.
ولم ينجنى من الجنون إلا إكبابى على ابن الرومى والاشتغال بتصحيح الأخطاء فى ديوانه الذي كنت أستنسخه قبل ذلك وهذه أول مرة نفعنى فيها شاعر .
تغيرت جدا بعد هذه الحادثة فأنا فيما أحس وأرى مخلوق آخر غير الذى عرفته فى ثلاثين سنة، على أنى مع ذلك ظللت قادرا على كبح النفس فلم يفلت من يدى العنان أو لم أدعه يفلت.
وانقضت الأربعون - وأحسب أن عادة استمرار المأتم أربعين يوما موروثة من أيام الفراعنة الذين كانوا يبقون الجثة أربعين يوما لتحنيطها - فلم أعد أطيق بيت جدى بعد أن خرجت زوجتى من دنياى فيه، فتركت فيه ما كانت زوجتى قد جاءتنى به فى جهازها واستأجرت بيتا آخر حملت إليه أثاثنا القديم وعكفت فيه على ديوان ابن الرومى لأصححه على قدر الطاقة.
واتفق فى ذلك الوقت أن عقدت محكمة عسكرية لمحاكمة كثيرين فيما زعموه مؤامرة كبرى، وكان المتهمون أكثر من عشرين بينهم سكرتير اللجنة المركزية للوفد المصرى الذى كان يفاوض لجنة ملنر بلندن، وكنت أعمل يومئذ فى «الأخبار» مع المرحوم أمين الرافعى بك فسألنى: من نبعث إلى المحكمة لحضور جلساتها؟ قلت سأحضرها أنا. قال إنه عمل طويل شاق، فدعه لغيرك، قلت كلا، وإن بى لحاجة إلى عمل مضن يشغلنى عن نفسى، ويصرفنى عن التفكير فى أمرى، وما أصبت به فى حياتى. فوافق ودعا لى بخير، ولم تدع لى المحكمة العسكرية وقتا لسواها؛ وكانت تعقد فى اليوم جلستين، وظللت كذلك من يوليو إلى سبتمبر، وكنت فى مساء كل يوم أعود إلى البيت فأرتمى على الفراش وأنام كالميت، فنفعنى هذا أيضا وإن كان أسقمنى.
ومن المضحكات أن جريدة الأخبار دعت الأمة إلى الاكتتاب لإقامة تمثال نهضة مصر للمرحوم مختار المثال وبلغت جملة ما جمعته حوالى ستة آلاف من الجنيهات وكانت الاكتتابات تودع بنك مصر أولا فأول.
ولكن بعض البلهاء ظن أن ما تتلقاه الأخبار من الاكتتاب يحفظ فى بيتى أنا، وكان البيت طبقة واحدة، وله فناءان، واحد قدامه وآخر خلفه، وفيه الفرن وما إليه، وكان الجدار الخلفى واطئا، فأيقظنى ذات ليلة صوت جسم وقع فى الفناء الخلفى فتوهمت فى أول الأمر أن حجرا مزعزعا أسقطه قط أو نحوه، ولكني سمعت بعد ذلك حركة كحركة من يعالج فتح باب، فنهضت، ومضيت إلى الباب الموصد، وفتحت شباكه ونظرت فإذا واحد من أهل الحى ولم يخطر لى أنه جاء ليسرق، فما فى البيت ما يستحق أن يطمع فيه أشد اللصوص قناعة، وظننته جاء يطلب شيئا، فحييته وإن كان قد أسخطنى عليه أن يجىء فى هذا الوقت المتأخر، وفتحت له الباب وقلت له «تفضل» وحملت ما بدا لى من تردده واضطرابه على محمل الخجل فألححت عليه فدخل، فمضيت به إلى المكتبة، وناولته سيجارة وقمت لأصنع له قهوة، فاستغرب سلوكى معه، وأعجبه على ما يظهر، فأقر لى بالحقيقة وسألنى الصفح، فضحكت، وقلت له والله إنى لجدير بأن أخجل منك، فإن البيت فارغ، ودرت به على الغرف ليرى بعينيه مبلغ فراغها فزاد خجله، وطال اعتذاره وعظم أسفه، فخطر لى أن من نقص المروءة أن أرده خائبا، صفر اليدين، ولم أجد غير الكتب، فتناولت طائفة منها، وقلت له خذ هذه وبعها، وإذا احتجت إلى سواها فتعال إلى فقد مللت عبادة الأصنام، وكتبت له رقعة وقلت فيها إنى أعطيته هذه الكتب، حتى لا يزعجه الشرطة.
والطريف بعد ذلك أنه صار صديقى فقال لى يوما إن هذا البيت غير مأمون لأنه «منطة» وأن الأولى أن أتخذ حارسا، ولولا أنه مشغول بكسب رزقه لتولى الحراسة الواجبة. ولكنه سيجىء برجل أمين يقظ، يؤدى هذا الواجب.
وبعد بضعة أيام جاءنى بفقيه أعمى وقال هذا حارسك، فلم أر أن أرده، فكان يبيت كل ليلة عندى على الشرفة، وإلى جانبه نبوته. وكان خفيف النوم فكل شىء يوقظه، وإذا استيقظ ضرب الأرض بنبوته وصاح «من القادم»؟ فأستيقظ أنا أيضا! فلم أجد لى فى هذه الحراسة راحة فحولته إلى المقبرة، وقلت له اقرأ على هذا القبر كل يوم ما تيسر من القرآن الكريم.
وانتقلت إلى بيت آخر آمن وأقل حاجة إلى هذه الحراسة.
الفصل الثالث عشر
منذ مئات من السنين، أو الحقب فما أبعد هذا الماضى فيما أحس، وما أقربه أيضا! قرأت قصة هيبسيا لشالز كنجزلى ، وكان صديقى العقاد هو الذى دفع بها إلى وأوصانى، وأنا أقرأها، أن أحضر إلى ذهنى قصة تاييس لأناتول فرانس ففعلت، ورأيت - كما رأى - أن من الممكن أن يقول المرء أن القصة الانجليزية هى التى أوحت إلى الأديب الفرنسى بموضوع تاييس، وأنا أفضل القصة الانجليزية، وإن كان أناتول فرانس أبرع فنا وأسحر أسلوبا، على أن هذا موضوع آخر، وكل ما أريد أن أقوله أن في هيبسيا - على ما أذكر - رجلا عجيب الأطوار غريب الفلسفة، يكون في زورق أو سفينة - فما أدرى الآن - فيروح يتفلسف في ضعف دلالة الحس على وجود المحسوس، حتى ينتهى إلى إمكان القول بأنه هو غير موجود على الرغم من إحساسه بنفسه، وشعوره بوجوده.
وقد راقنى هذا الرجل يومئذ وأعجبتنى فلسفته، وإن كانت تؤول إلى لا شىء، وبعد كل هذه السنين لا يزال منطقه يدور فى نفسى، ومع ذلك لا أستطيع أن أتذكر اسمه، أو ماذا هو فى الرواية، وكنت فى صباى - أى نعم فى صباى - أحببت فتاة كانت جارة لى، وكانت فى مثل سنى ومن أجلها كففت عن اللعب فى الحارة مع الغلمان ومن أجلها كنت أسقط من سطح بيتنا على سطح بيتها لأنعم بحديثها وأتملى بالنظر إلى حسن وجهها، فقد كان أهلى يزجروننى عن لقائها وأهلها لا يرضون عن حبنا الصبيانى، وهؤلاء وأولئك جميعا يخشون العاقبة ولا يطمئنون إلى النهاية. وكنت لا أكتم حبي لها، بل أشعر به وأنا جذل مسرور وأحدث به غلمان الحارة؛ فيستغربون، وخادمنا فيدعو لى بطول العمر والسعادة، والشيوخ الوقورين من أصدقاء أخى الأكبر فيضحكون، ويتسلون، ويربتون على كتفي ويقولون: «عال عال، ما شاء الله ما شاء الله».
وكنت أقول لأمى حين تنهرنى عن هذا الذى كان فى رأيها عبثا: «ماذا يضير أحدا أن أحبها».
فتقول: «اختشى يا ولد عيب»!
فأتعجب وأسألها: «عيب؟ أى عيب فى حبى لها؟ إنى لا أصنع شيئا سوى أنى أحبها».
فتقول: «هذا هو العيب».
فأسألها: «ألست تحبينى»؟
فتبتسم وتقول: «يا بنى كيف تسأل»؟
فأقول: «لست أسأل، فإنى أعرف أنك تحبيننى، وأنا أحبك وليس حبك لى عيبا، ولا حبى لك، فلماذا يكون ذلك عيبا»؟
فتقول: «هذا شىء آخر أنت ابنى وأنا أمك ولكن هذه.. هذه ليست منا».
فأسألها: «إن أبى لم يكن منك. ولكن تحبينه، ومازلت تلبسين السواد حدادا عليه منذ سنوات».
فتقول: «ولكنك صغير لا تفهم».
فأقول: «صحيح إنى صغير، وإنى لا أفهم، ولكنى أحس يا أمى.. ألا يكفى أن أحس؟ وصدقينى ولا تغضبى أو تستائى حين أقول إنه أشهى إلى أن أكون جالسا إليها الآن وإن قلبى يرف صبوة إليها».
فتطرق شيئا ثم ترفع رأسها وتضع يدها على كتفى وتقول «وبعد؟ ما هى النتيجة؟ ما هو المآل»؟
فأقول: «لست أعرف ماذا تعنين؟ كل ما أعرفه أنى أحبها وأنا فرح بذلك».
فتسأل «ولكن النتيجة؟ ماذا بعد هذا الحب؟ ما آخرته»؟
فأقول «لا شىء.. أحبها، وهذا هو الأول والآخر.. ثم لماذا يكون له آخر»؟
فتقول «إنك طفل.. وهذا غير معقول».
وكان حب هذه الفتاة ينمو على الأيام. كما ينمو شعر رأسى. وقد تحولنا إلى بيت آخر وبعدت الشقة جدا ولم يكن هذا ليمنعنى أن أقطع المدينة من أولها إلى آخرها سيرا على القدمين كل يوم لأزورها. وثابرت على حبها أعواما طوالا ثم زوجوها فى الأرياف فغابت عنى، فغاب الخير والأنس، وغاض السرور من نفسى، وأظلم القلب.
كان هذا وأنا صبى فى الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، وقد مضى ثلث قرن وزيادة على هذا الحب الأول، وزحفت المدينة، وهدم الحى الذى كان فيه بيتها. هدم كله، ورفعت عمائر جديدة، وشقت طرقا، ووسعت ميادين، وغرست أشجارا؛ ومدت قضبانا، وأجرت تراما. وإذ بى فى يوم الأيام أزور هذا الحى وأجوبه شبرا شبرا، وأتمثل ماضيه كيف كان، حتى أهتدى إلى الرقعة التى كان بيتها قائما عليها فأرجع مغتبطا قرير العين، وأزداد اعتزازا بذكرى ذلك الحب.
ولم تبهت ولن تبهت صورة الفتاه وإنى لأراها الآن، كما كنت أراها فى ذلك العصر الحالى، واقفة إلى جانبى وأمامنا على النافذة طبق فيه «لب» تقشره لى ، وتعطينه، لأنى لا أحسن قشره، أو جالسة على حشية تسرح شعرها الدجوجى، وترجله وتضفره، فأميل على رأسها، وأدنى أنفى من شعرها الوحف، وأشمه. وإنى ليخيل إلى أنى أجد طيبه الآن أنفى! وما أقول «يخيل إلى» إلا اتقاء لإنكار القارئ فإن شعورى بذلك أصدق ما يمكن أن يكون شعور إنسان بشىء.. وما زلت أراها، تجرى فى الحارة وراء دجاجة لها شاردة، وأنا أدعوها أن تتريث وتقف هناك، وتخطو مترفقة، على حين أقف أنا فى ناحية أخرى لنحصر الدجاجة بيننا، ونزحف ونضيق على الدجاجة المارقة، وهى تصيح وتضرب بجناحيها، وتحاول الإفلات، فتنحنى الفتاة عليها بغتة لتمسكها، فتأخذ عينى ثدييها الناهدين الراسخين وقد ثقلا بالثوب وأحس هزتهما تحته؛ فيدور رأسى وأذهل عن الدجاجة ولا أعود أدرى أفلتت أم وقعت، فتصيح بى وقد اعتدلت «مالك وقفت وسكت؟ ألا تساعدنى»؟ فأفيق وكأنى عدت من عالم آخر، ولا نزال بالدجاجة حتى نمسكها».
وصورتها وهى على السطح تنشر الثياب على الحبال الممدودة وتثبتها بالمشابك، وقد كشفت عن ساعديها وطوت الكمين فوق المرفق، فبدت البشرة السمراء مضطرمة من أثر الغسل، وجهد الدعك وفعل الصابون.
وصورتها وهى واقفة بفناء البيت تودعنى، وباب السكة موارب، وقد ضممتها إلى صدرى وطوقتها بذراعى، وعكفت على فمها بالقبل الحرار، وكان وجهها إلى الباب، وظهرى إليه فمر رجل من أصدقاء أخى، نعرفه ثرثارة تماما، وتراه فتحاول أن تفلت من عناقى، وأحسبها ضجرت، أتوهمها فترت، فأكتئب، فتصيح «لالا.. هذا الرجل» وتقص على الخبر وتعيد لى بشاشتى وترد إلى روحى الإشراق.
وصورتها وهى راقدة ورأسها على وركى، ويدى على شعرها أمسحه وأتخلله بأصابعى، وألمس خدها الأسيل، وأداعب شفتها الرقيقة بأصبعى، فتغافلنى وتعضه.
كلا، لن تبهت هذه الصور أبدا، ولن تكبر الفتاة أو ترتفع بها السن، أو يزداد عمرها عندى يوما، وستظل على الأيام غضة صغيرة.
ولكنى نسيت اسمها، فكأنى ما عرفته قط ولا سمعت به.
ترى ماذا كان؟ وكيف كان فى السمع؟ وفى وسعى أن أسميها شيئا وأن أطلق عليها أعذب ما أعرف من الأسماء، ولكنها عندى أحلى هكذا بلا اسم، ولا عنوان. وماذا يزيدها أن يكون لها اسم وماذا أصنع به وليس ينقص الصورة شىء؟
نسيت اسمها كما نسيت اسم ذلك الرجل المتفلسف فى قصة هيبسيا.
الفصل الرابع عشر
بعد أن كتبت الفصل السابق شق على أنى نسيت لماذا سقت قصة هذه الفتاة التى أحببتها وأنا صبى، ولا يزال لحبها - أو لذكراه - نوطة فى الفؤاد، وعلوق بالنفس، وقضيت أياما أحاول أن أتذكر، حتي وأنا أعمل أو أتكلم، أرى خواطرى تنثنى إلى هذا الذى تفلت منى وغاب عنى، وكان يخيل إلى أحيانا أن السجف المسبل ينمحى قليلا، قليلا، أو ما يشبه السحاب المعقود يرق ويشف، وأن نجما يوشك ومضه الخفاق أن يطالعنى، فأبتسم، وأطمع، وأتشوف، ولكن ما كاد يرق يعود فيتكاثف ويتراكب، فأرتد بالخيبة والأسف، وأتعزى بقولى من يدرى؟ إن للذاكرة معابثاتها، وقد يتفق لى يوما بعد أن أكف عن تعنية النفس بما نسيته، أن أكون فى مجلس شراب أو فى السينما، أو أكون ناهضا من رقاد، فيحضر الغائب ويظهر المحجوب أو المتوارى، ويطفو الراسب، ومن يدرى أيضا؟ لعلى حينئذ أتذكر اسم الفتاة!
ولكن أيمكن أن أكون على يقين أن هذا اسمها؟ هل يسعنى أن أطمئن إلى أن هذا الاسم هو الذى كنت أعرفها به، كلا، فما إلى هذه الثقة أو الاطمئنان من سبيل، وعجيب أن أنساه.
وأعجب منه أن ما يدور في نفسى من الأسماء لا أجد له فى جوانبى صدى ولا أحس منه هزة أو عسى أن تكون هى قد نسيت اسمى، بل نسيتنى جملة، فما كنا إلا طفلين نلعت بما لا نفهم، وما أحسبها غالت بحبها لى وضننت به على العفاء كما غاليت وضننت، وأكبر الظن أن شئون الحياة وشجونها وأفراحها وأتراحها أذهلتها عن ذلك العهد على ما كان فيه من حلاوة، وله من سحر، وإنه ليخطر لى أحيانا، وأنا أرى بنى أن هؤلاء كان يمكن أن يكونوا بنى منها، ولو رأيت أبنائها - أترى صار لها بنون؟ لما وسعنى أن أتصور أنهم بنوها دونى، أو على الأقل أن خاطرى الماثل فى نفسها لم يطبعهم بشىء منى، ولكن أنى لى أن أعرف - بل أكون واثقا - أن خاطرى يتمثل، أو كان يتمثل، لها؟ ويشق على أن أتصور أنها تنسى. ولعل حبها لم يكن كفاء حبي، ولكن أحسبها تنسى كل شىء إلا أني فزعت إليها واختفيت عندها وفى بيتها، وفى حجرة مظلمة رطبة مهجورة منه، يومين كاملين.
وكان أخى الأكبر - رحمه الله فإن به حاجة إلى الرحمة - قد أراد أن يبرنى ويسرنى فدعانى إلى مرافقته فى يوم «شم النسيم» فذهب بى، ومعنا من أصدقائه ذلك الشركسى الثرثار الذى أشرت إليه فى الفصل السابق - والذى رآنى أعانق فتاتى فذهب يقص الخبر على كل من يلقاه ويقهقه فسمعت به أمى واغتمت له جدا - إلى روض الفرج، وكانت هناك سفن راسية.
وقد صفت عليها الكراسى والطولات على هيئة المقاهى، فجعل أخى وصاحبه يشربان «بيرة ستوت» وجاءت امرأة سمينة، ولكنها جميلة فسلمت وجلست، وأديرت عليها الراح التي تدار عليهما، ونظرت المرأة السمينة إلى بعينها المكحولتين وسألت «ألا تشرب»؟ فتبسمت ولم أرد، فقال أخى وكان من أظرف الناس إذا شرب - «خد.. إن هذا لا يضر» فهززت رأسى أن لا، فمال على وهمس فى أذنى: «لا تخف اشرب وأنت آمن» فهززت رأسى مرة أخرى، فعاد يهمس فى أذنى: «اشرب بالله، وسأقول لخالتى» يعنى أمى - ولم تكن خالته ولا أمه: «إنى اسقيتك سوبية» وهى شراب يصنع من الأرز فقبلت وأقبلت على الكوب الكبير أكرع منه كما يكرعون، وكان هذا أول عهدى بالشراب، فدار رأسى قليلا، وأحسست بالدم يصعد إلى ما وراء عينى ويتجمع هناك وانطلق لسانى وراح هذا الشركسى الثرثار يغمز أخى فيسألنى هذا عن فتاتى، فأقول بحبى فيضحكون ويقهقهون، وتكون المرأة السمينة الجميلة أعلاهم ضحكا وأشدهم قرقعة صوت، وكانت صورة هذا المجلس ماثلة لخاطرى، لما نظمت بعد سنوات طويلات المدد - قصيدة مطلعها.
حثا شرابهما فى ظل حسان
رياه ريحاننا فى مجلس الحان
ريا الحبيب، ولا شىء كنفحته
وهنا يهيج أطرابى وأشجانى
حثا شرابهما حتي رأيتهما
لايسمعان، وإن كانا يقولان
هما أثيران علانى على ظمأ
وبالشراب على سرى يغوصان
ولم أكن أعنى هذه السمينة الجميلة، ولكن صورة مجلس الشراب الأول ألحت على، فمضى القلم يرسمها فى التى يطربنى منها ما نثيره من الذكرى.
ولا أحتاج أن أقول أنى سكرت، وقد دخلت على أمى، وشمت من فمى رائحة الخل، فغضبت غضبا شديدا ودعت جدتى «لأبى» وقالت انظرى ما صنع خيرى بأخيه؟ فنادت جدتى أخى، فأقبل عليها يبتسم لها، فصاحت به: «يا قليل الحيا يا مزبلح.. خد» وخلعت القبقاب، وأهوت به على أخى وهو يضحك فيلاطفها ويعتذر ويسألها الصفح، ويحاول أن يطمئنها على، وكنت أنا قد تسللت إلى غرفتي، وارتميت على السرير، ولم أكد أفعل حتى ألقيت ما فى جوفى على البساط، فخجلت.
ولم أعد أطيق أن أنظر إلى وجه أمى أو جدتى، فصعدت إلى السطح وانحدرت منه - على السلم المعهود - إلى سطح الفتاة ونزلت إلى الفناء، وأهبت بها أن تؤوينى، وتخفينى عن العيون - حتى عيون أمها وأختها - فحارت كيف اصنع، ورأيت أنا باب الحجرة المهجورة فدفعته ودخلت وقلت هنا أختبئ، ولم يكن فى الحجرة شىء يصلح للجلوس أو الرقاد، فسرقت الفتاة كرسيا قعدت عليه حتى نتدبر الأمر، ثم جاءتنى بحصير ومخدة فارتميت ونمت ساعات، ولما أفقت كانت قد هيأت لى طعاما - بيضا مسلوقا وقطعة من الجبن وبضع زيتونات وخبزا - فأكلت هنيئا وشربت ماء كثيرا.
فى هذه الحجرة قضيت ليلتين، وكنت فيها كأنى فى سجن، فما كنت أبرحها إلا دقائق حين آمن العيون، وكانت الفتاة تؤنسنى بوجودها، وتجيئنى بأخبار البحث عنى، وقد ضحكنا جدا لما روت لى أنهم أطلقوا مناديا يصيح فى الشوارع «ياللى شاف ولد تايه عمره اتناشر سنة لابس جلابية بيضة وراسه عريانة اسمه إبراهيم ... الخ الخ».
وكان ضحكنا لأنى لست طفلا حتى يظنوا أنى تهت وضللت الطريق وكان قلبى يعصره الألم كلما تصورت جزع أمى وجدتى، وبكاءهما، وقد هممت مرارا أن أبعث إليهما بخبر مطمئن، ولكن الوقت كان يمضى ولا أفعل، وكان التردد فى هذا والحيرة شر ما أعانى، ولكنى كنت راضيا مغتبطا بقرب الفتاة وحسن رعايتها لى، وصدق سريرتها فى كتمان سرى، حتى عن أمها وأختها. ولم أكن أبالى الرطوبة أو الظلام فقد كان الوقت صيفا، والظلام جنة، وألفت عيناى النظر فيه فكان حسبى أن أرى محيا الفتاة.
ولكن الحب - بالغا ما بلغ من القوة والعمق - لا يمنع أن يضيق المرء صدرا بهذا الحب، وأن تلح الرغبة فى الخروج من مثل هذا المحبس على ما كان فيه من الأنس، ولم تنكر الفتاة منى ما كان يبدو من تململى وضجرى واشتهائى الخروج إلى النور، بل تطوعت فكانت رسولى إلى أمى تطلب لى منها الصفح، فما كان من أمى إلا أن ائتزرت وخفت إلى، وضمتنى إلى أحلى صدر وأرق قلب كأنما كنت قد غرقت أو خطفت..!
كلا، قد تنسى الفتاة كل شىء إلا هذه الحادثة ولكن أين هى؟ فوق الثرى أم تحته ياترى؟ قد تكون ماتت! أو تكون الآن عجوزا شمطاء! فهل أنا أحب اليوم أن أراها، وأن أعرف كيف صارت من بعدى؟ لا!
وإنى لأذكر أنى كنت يوما أتمشى مع صديقى الأستاذ العقاد، فرأيت رجلا قصيرا مرسل اللحية أبيضها، مقوس الظهر، مغضن الوجه، فقلت لصديقى «انظر.. هذا هو المازنى فى السبعين من العمر! تالله ما أقبح ما نحن صائرون إليه من الضعف والتهدم والدمامة! لا ياسيدى، خير من هذا المصير عمر قصير مع الصحة والقدرة.»
نعم؟ أكره أن أرى الفتاة فى حاضرها، وأن أفسد على نفسى صورة صباها النضير، وشبابها الريان، وهبها ماتت، فما ماتت عندى، وإنى ليموت منى كل شىء، ولكنها هى عندى ومعى حية لاتموت ولاتهرم مابقيت.
الفصل الخامس عشر
أراني منذ بضع سنوات أزداد كل يوم انقباضا عن الناس، وفتورا عن لقائهم، ومخالطتهم، ونفورا من الاتصال بهم، وكنت قبل ذلك أحس الضيعة إذا لم أجد من أجالس وأحادث، وكان يسرني أن أسمع صوتى - لا شاديا بل متحدثا - وكانت لذة الحديث لاتعادلها عندى لذة، وكنت في سبيل هذه المتعة البريئة أصنع كل ما يراني الإخوان ذا ولوع به أو طلب له، من برىء، وكانت الوحدة تتلف أعصابي، وتعصف باتزاني، وتكلفنى شططا، ثم ألفيتني - من حيث أشعر، ولا أشعر، أضيق الدائرة، أو أوسع لنفسي المخرج من محيطها، وأتسلل شيئا فشيئا، حتى أصبحت أتلفت فلا أجد حولى أحدا، وصرت إذا احتجت إلى لقاء صديق قديم، أتردد، وبى من التهيب والخجل مثل ما يحس المرء عادة عند لقاء غريب لاعهد له به.
وقلت لنفسي مرة: «ياهذا، إنك لتمشي فى شارع غاص بالخلق مائج بالرائحين والغادين والرائحات والغاديات، وتروح وتجيء مثلهم أو مثلهن ساعة أو بعض ساعة، وتقطع خمسة فراسخ فى الذهاب والإياب فلا يتفق أن تلقى وجها تعرفه. نصف المدينة القارئة تخرج إلى هذا الشارع وتسير فيه. وكل من ترى معه صاحب أو صاحبة، ولا تزال يده ترتفع بالسلام أو رأسه يهتز بالتحية لهذا وذاك، إلا أنت فما يمر بك من تعرفه أو يعرفك. ومع ذلك أنت أشهر من يمشى فى هذا الشارع ولعل كثيرين ممن تأخذهم عينك قد قرأوا لك، وأعجبوا بك أو سخطوا عليك فهم يعرفونك إذا كانوا يعرفونك - ورقات مغلفة أو مجلدة ولا يعرفونك فى الأحياء من أمثالهم، ومن يدرى، لعلهم يستغربون، بل يستنكرون أن يروك في الطريق! فكثيرا ما تحصل في نفوس القراء صور للكتاب ليس أغرب منها ولا أعجب. وقد خابت لى أنا آمال كثيرة فى أدباء عرفتهم قبل أن أراهم، لأنى وجدتهم علي خلاف ما كنت أتخيلهم مما أقرأ لهم. والصورة التى يرسمها المرء للمجهول تكون على هواه، وقلما يكون الأصل على حقيقته كذلك. والنفس بعد أن تفرغ من رسم الصورة وتلوينها وإنطاقها بالتعابير المستوحاة من الآثار المنشورة يعز عليها أن تتناولها بالتنقيح والتبديل بل بالتغيير التام فى أحيان كثيرة وهذه الصورة المتخيلة تكون من جهد النفس، والنفس لايطيب لها أن يذهب جهدها عبثا، وأثقل من ذلك على المرء أن يعترف بأن فراسته لم تكن صادقة، وأن التوفيق أخطأه فيما تعب فيه، وباهي فيما بينه وبين نفسه به، وما أكثر ماسمعت من الناس فى أول لقاء «غريب»! لقد كنا نتخيل المازني شيئا جسيما له طول وعرض. «أو قولهم» لقد كنا نتصور أنك تكور على رأسك عمامة عظيمة وترسل لحية كثة. «أو قولهم» أأنت المازنى أم اختزاله؟ «ومتى كان هذا هكذا أفلا يكون الأمثل أن أبقي في أذهان الناس كما يشاءون أن يتخيلونى، وأن أظل عندهم كتابا يقرأونه ويرضون عنه فيما أرجو - أو لا يرضون فقد استوى هذا وذاك عندي؟
وقلت لنفسي أيضا «إنك لم تعش إلى الآن» كما تحب وتؤثر أن تعيش، ولا سبيل إلى حياة تشتهيها مادمت تخوض العباب مع الخائضين وتضرب فى اللجة مع الضاربين، لأنه لا يسعك إلا أن تنزل فى الأغلب على حكم الجماعة، ولكل جماعة قواعد حياتها، والأمر في جد الحياة مثله فى لعبها ولهوها. وكما أن للعب أصوله ونظامه، كذلك للجد، ولا مفر من التزام هذه الأصول إلى حد كبير والنزول على حكمها؛ وإن كان كل خاضع لها يتسخطها ولا يرتاح إليها، إذ القيد قيد على كل حال فإذا أردت أن تحيا حياتك على النحو الذى هو آثر عندك فلا مهرب من التعزل ليتسنى لك أن تكون على هواك».
وقلت لنفسى أيضا - على سبيل التشجيع: «واعلم أنك لا تخسر شيئا تتحسر عليه، وتألم فقدانه إذا أنت انصرفت عن الناس وزهدت فى مخالطتهم، فسيكون عندك خير عوض عما يفوتك، ذلك أنك تكون كالذى يشرب عصارة ولا يمص، فهل من الخسارة أن تعفى نفسك أن تعب التقشير والمص، ومنظر النفاية التى لم يبق فيها خير، وأن تقنع بالعصارة التى هى الخير كله»؟
وصحيح أن بذل الجهد لذة، وأن ما يتعب فيه الإنسان يكون أحلى وأمتع مما يجىء بلا عناء، ولكنى لن أحرم لذة الجهد، حين أستغنى بالكتب عن الناس. وقد صرت آكل ما يريح وينفع، لا ما هو أشهى وأمتع، وأشرب ما يفيدنى لا ما هو أعذب فى فمى أو ما أنا إليه أميل وإنى لأرد نفسى عن كثير مما يتحلب عليه الريق ، لأن طاعة النفس فيه يجىء فى أعقابها ما لا يطاق من الآلام والأوجاع وهذا كله رياضة على الحرمان وعلى أن الحرمان لا يكون إلا من الطلب، ولا أعرف لى الآن مطلبا عند الناس، فقد بعد ما بينى وبينهم جدا، وإنى لأرانى مع الواحد منهم فأحس أنه فى كوكب آخر وعالم غير عالمى. ليس همى همهم، ولا أنا منهم ولا هم منى فى قليل أو كثير، ومتى ذهب الشعور بالمشاركة فماذا يبقى؟ ولست أعنى أنى خير منهم أو أفضل، ولكنى أعنى أنى أرانى مختلفا، والاختلاف ليس مزية، ولا أفضل فيه ولا رجحان.
وقلت لنفسى أيضا: «لقد ثار بى صديق مرة لأنى سألته ألا تشتهى أن تتمرغ كالحمار على الأرض؟ وحسب أنى أقول إنه حمار، وأنه لا ينقصه إلا أن يتمرغ وأعترف أنى أسأت العبارة عما أريد ولكنى إنما عنيت أن النفس تنزع إلى الحرية، وما دام لا ضير فيها على أحد فماذا يمنع منها؟ ولماذا نحيط أنفسنا بأسلاك شائكة لا ضرورة لها ولا منفعة منها؟»
وهبنى تمرغت على التراب، وتقلبت على الأرض، كما يفعل الحمار، فأين البأس هنا؟ إذا كان ثم بأس فهو على لا على أحد غيرى، وثيابى هى التى ستتسخ، ووجهى هو الذى سيتعفر، وإذا كانت نفسى تنازعنى أن أفعل ذلك، فإنى أنا الذى يؤذيه الإحجام عنه، وأنا الذى ترتاح أعصابه وتسكن نفسه إذا فعل. ولكن صاحبى غضب، وإن كنت لم أقصر فى الشرح والبيان، وفى الاعتذار من سوء العبارة وقبح الاختيار للمثل. ولا يزال يذكرنى بالسوء كلما عرض ذكرى فى مجلسه، ولاينفك يقول إنى وقح قليل الأدب، ولاشك أنى كما يقول، مادام الأدب هو ما يعرف. وقد يسره ويخفف من سخطه على أن يعرف - إذ أمكن أن يحمل نفسه على قراءة شىء لى - أنى أخرج فى بعض الأحيان، إلى الصحراء وأتمرغ كالحمار على رمالها، وأعوى كالكلب وأموء كالقط، وأصرخ وأصيح فى هذا الفضاء الشاسع، ثم أنهض وأنفض عن ثيابى الغبار، وأمسح وجهى ويدى. وأعود إنسانا محتشما ذا سمت ووقار، ولكن بعد أن أكون قد أرضيت نفسى وأشعرتها أنى حر ولى فى هذا الذى لا قيمة له عند الأكثرين، وأن فى وسعى أن أفعل ما أشاء، وأكون على ما أحب. ولا نكران أن هذا لا يتاح لى إلا وأنا منفرد وحدى، ولكنه ليس بالقليل أن تستطيع أن تكون متفردا وحدك وأن تنعم بذلك، ولا تستوحش نفسك ولا تصبو إلى الناس.
ولعل المتعة مستفادة من القدرة على مغالبة الصبوة إلى المجتمع لا مما عسى أن تفعل وأنت وحدك. ولكن كثيرين يكونون وحدهم، ولا عين عليهم، ولا خوف من أن يراهم أو يسمعهم أحد ومع ذلك لا يجرأون أن يفعلوا ما تحدثهم به نفوسهم.
الفصل السادس عشر
وقلت لنفسى أيضا: «لا أدرى لم هذا الموت؟ وإنى لأشتهى أن أرى حياة من لا يموتون، وبودى لو يمتد بى الأجل إلى زمان يسع الإنسان فيه أن يغالب هذا الردى العادى. وأحسب أن الموت هو مصدر ما نعده فضائل فى الإنسان، وقد شرحت هذا فيما كتبته عن المتنبى فى «حصاد الهشيم» فلا أعود إليه، ولكنى أحسبه أيضا علة ما ألفنا أن نسميه الرذائل. غير أنه ما الخير والشر؟ وما الفضيلة والرذيلة؟ أخشى ألا يكون هذا وما إليه أكثر من ضوابط للسلوك، ووسيلة لتنظيم الجماعة والانتفاع بما فى الطباع. وإنا لفى زمن يعد فيه الخير فى مكان شرا فى مكان غيره، والفضيلة هنا مرذولة هناك. ولقد أدركت عهدا كان ذكر الحب فيه عيبا؛ وكان تقبيل الفتى لأمه التى نجلته، قلة حياء، فالآن نعلم أولادنا أن الرجل والمرأة ما لم يتحابا لا يجوز أن يتعايشا، ونطلب لغير الشرعى من الأبناء مثل ما لصنوه الشرعى من الحق والكرامة، ونرى الخطيبين أو الزوجين، أو الصاحب والصاحبة يتلاثمان على قارعة الطريق وفى المجلس الحافل، ونحس الرضى والاغتباط من الناظرين، ونشعر أنهم يدعون لهما، ولا نحس أنهم يستهجنون أو ينفرون وليكن هذا كيفما شاء الله أن يكون، فأين العزاء فيه لحى لا يلبث أن يصبح «هالكا وابن هالك، وذا نسب فى الهالكين عريق»؟
وطال تفكيرى فى هذا الموت، وخامرنى خاطره، فهو لا يفارقنى فى يقظة أو منام، وإنى لأحلم به وإن كنت - بلطف الله - أصبح ناسيا ما تراءى لى من الصور والحوادث فى رقادى، وما غمضت عينى ليلة إلا وأكبر ظنى أن أفقد نفسى فلا أعود إلى الشعور بها، وقد أحب أن أهون على نفسى الأمر فأتساءل متغابيا أو مغالطا: «أترى كل ما فى الموت هو هذا الفقدان للشعور بالذات»؟ ولا ينفعنى هذا فأرتد وأقول: «وكيف يعد حيا من لا يعرف أنه حى ولا يحس بنفسه؟ وماذا تكون إذن جدوى استمرار حياة لايحسها الحى ولا يفطن إليها ولا يدرك بها أنه موجود؟ أطبق الجفن على الجفن وأنا أحدث نفسى أن ما لا حيلة لى فيه لا حيلة لى فيه، فلأقصر عن تدبره، ولكن على واجبا هو ادخار القوة والدفاع بها إلى آخر رمق. ولكن قلبى يظل يخفق ويدق، ويكبر فى وهمى أنى إذا نمت قد تختلس منى الحياة وأنا ذاهل غافل لا أقدم دفاعا ولا أقوم بكفاح، وأحس دقات قلبى فى رأسى قوية تكاد تفلق العظم، وأسمعها بأذنى مدوية تعصف بسكون النفس واتزان الأعصاب، وأشعر كأن كيانى كله يرتج، بل يزلزل، فاحتال لاستعادة السكون، وأوثر لهذا أن أنام وأنا قاعد فإن القعود، فيما جربت، يعفينى من حدة الشعور بدقات القلب، وأروح أقول لنفسى: يا هذا إن الدقات منظمة وإن كنت أسمعها عالية، وكل إنسان يستطيع أن يسمعها ويستهولها كما نفعل إذا هو جعل باله إليها، فقلبك بخير ولا خوف عليه - على الأرجح - من سكتة مفاجئة، يجمد من جرائها تيار الحياة، وقد قال لى طبيب - استشرته: إن القلب سليم وإن جسمك الضئيل لا يكلفه جهدا وأن أيسر عمله كاف جدا لإدارة الدم فى البدن كله وهذه أعصابك قد أتلفتها بهذا التفكير الدائم فى الموت، فهل تستطيع أن تبين لى على أى شىء تحرص فى الحياة حتى تجزع من الموت هذا الجزع؟ وأشغل نفسى بجواب هذا السؤال، وأروح أعرض على نفسى وجوه حياتى، ولا أبخس الحسن حقه ولا أغالى بالقبيح أو أهول به، ويطول بى ذلك فيأخذنى النوم وأستريح من هذا العناء الباطل.
ولكن الخاطر يظل حاضرا أبدا، على الرغم مما أحاول أن أدافعه به، فأنا أقعد للطعام وأحس من نفسى الإقبال عليه والرغبة فيه، ولكن كل لقمة أتناولها يصحبها إنذار: «حاذر من الكظة» فأنهض عن المائدة وما شبعت وتقول زوجتى - وهى تقوم معى: «لا أراك تأكل الكفاية» فأقول متمثلا: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع؛ وإذا أكلنا لا نشبع» وأتقى أن أعديها بما ينغص عيشى.
وأكون كما يقول الشاعر القديم:
ولما نزلتا منزلا طله الندى
أنيقا، وبستانا من النور حاليا
أجد لنا طيب المكان وحسنه
منى، فتمنينا فكنت الأمانيا
ولكنى أنظر إلى هذه التى هى منى النفس، وروح الحياة وريحانها فأرى بأول الظن «آخر الأمر من وراء المغيب» فتبدو لى ملفوفا عليها كفن وقد شاعت الصفرة فى محياها المتوهج، وآضت عينها التى تنفث السحر كقطعة من زجاج، وشاع فيها البلى علوا وسفلا، وصارت غضارتها ونضارتها صديدا سائلا تسد من نتنه الأنوف.
وأرد نفسى إلى عينى وأترفق بها وأنا أتصور مآلها، فأراها شجرة يذوى نورها، وتذهب زهرتها ويجف ورقها ويسقط عنها، فتتعرى، ثم يجىء الحطاب ويهوى على أصلها بالفأس.. وكانت هنا شجرة ثم غابت.. هذا كل شىء.
ويحضرنى بيت للخيام مما ترجمته عنه:
وأين، لا أين، بلبل غرد
كان يغنى على الغصون لنا؟
فأديره فى نفسى وأدهوره فى شدقى، بلا صوت، وأظل مع ذلك أتبسم للجالسين وأحادثهم وأمازحهم وأجد معهم وهم لا يدرون أنى قبر مظلم، وأنى أستر نفسى وأحجبها عنهم بأزاهير الضحك المتكلف، أى نعم، فما أعرفننى ضحكت ضحكة من القلب.. ضحكة سرور حقيقى عميق.. ولكن مالهم هم أقول لهم ذلك، وأغش به نفوسهم وأفسد نعيمهم وأسود الدنيا فى عيونهم؟
ويلقانى الشبان، ويسألوننى، ويرهفون السمع لما أقول، وفى ظنهم أنى أحكم منهم وأعلم، وإنى لكذاك ولكنها حكمة خير منها الطيش وعلم أفضل منه الجهل، فأقول لنفسى. يا هذا. إنك مسخ كريه ، وإن كان هؤلاء الشبان لا يعلمون، فلا تنزع القناع، ولا تكشف لهم عن الخراب والقبح اللذين فى نفسك، ولا تدع عيونهم تأخذ الديدان التى تمرح فى جوفك وترفق بهم فإن حسبهم ما لابد أن تصدمهم به الحياة عاجلا أو آجلا بل آجلا - كما أرجو لهم وأحب - وإنى لأتمنى لهم السلامة والنجاة، ودوام الاغترار بالعيش، وإن قلبى ليعصره عاصر حين أتخيلهم وقد فتحوا عيونهم على حقائق أخرى غير التى يعرفونها أو يأملونها، وأروح أرسم لهم صورة للحياة الزاهية وأضع نفسى فى موضعهم وأتكلم بمثل لسانهم ويكلفنى هذا شططا، فليس أقسى من ثنى الأعصاب وإكراهها على حالة غير حالتها ويخيل إلى وأنا أبذل هذا الجهد من نفسى أنى أوقدت نارا تحت أعصابى لتحمى، وأنى أدقها بمطرقة لتلين وتتخذ الصورة التى أريدها ويؤسفنى أنى لا أجد ما آمرهما به بعد ذلك لتخمد الجذوة وتبترد، ويذهب عنها الحر.
وأسأل نفسى «أتراك تتمنى أن تستأنف حياتك وتبدأها من البداية كرة أخرى؟» ولا أكذب نفسى فأقول (لا) وأحس أنى فى حيرة، فلا أستطيع أن أقول (نعم) وما خير التكرار إذا كانت النهاية واحدة؟ وإذا تسنت العودة من جديد واستئناف الحياة فى الدنيا مرة ثانية، فهل يكون ذلك بهذه النفس التى ألفتها؟ وأرى الجواب كلا على التحقيق، فأزهو فى فراق النفس، ولا أرى هذا الاستئناف للحياة، أو ابتداءها من جديد، إلا ضربا من الموت، فكأنى سأموت ميتتين بدلا من واحدة. وأحيانا هذا الخاطر بالتهكم والسخرية، أركب بهما نفسى والناس والحياة وكل ما فيها، وتستغرقنى العاطفة الفنية فترة، فأذهل، وأهنأ، لأن بالى خلا من التنغيص، ولأن عاطفتى الفنية جعلتنى فيما أحس أقوى من الحياة نفسها؛ لأنها انتزعتنى من اللجة، ووقفت بى على الشاطئ وأتاحت لى أن أتأمل صورة الحياة من ناحيتها المسلية، وأنا بمعزل عنها فكأنى محلق فوقها، غير خاضع لها ... ومن يدرى؟ لعلى أدخل السرور على نفس أخرى مظلمة كنفسى، بما أعالج من فكاهة الحياة. وليس قليلا أن أستطيع ذلك وإنه ليسعدنى أن أتوهم أنى استطعت إسعاد غيرى ولو دقائق معدودات وقد أكون واهما ولكنه وهم جميل، بل جليل، وأنه الذى يغرينى بتلمس الجوانب الفكاهية فى الحياة، ولا أنكر أن هذا يسرى على نفسى أيضا، ولكن ما ينفعنى ويشفينى ساعة ولا يخلو من نفع لغيرى. وما أظن بى إلا أنى أصبحت كذاك الذى شفاه دواء لا يعرفه الأطباء؛ فهو يعد منه ملء زجاجات يهبها للشاكين المتوجعين لوجه الله وشكرا لله.
وقلت لنفسى أيضا: «يا هذا، لقد جاوزت الخمسين، فأنت الآن فى المنحدر، كنت على جانب آخر من جهل الحياة، تصعد وتتوقل، ويصرفك ما فى الصعود من مشقات وما يتقاضاك من جهد، وما تأخذه عينك من صور ومناظر - عن التفكير فى الذروة وما بعدها، فالآن أشرفت على الجانب الآخر، ولا مفر لك من النزول. وعبث باطل ليس يجدى أن تخادع نفسك، وتوهمها خلاف ذلك. وقد يتيسر لك أن تقف هنا قليلا، وتتلبث هناك لحظة، ولكن الانحدار مهما طال الوقوف، لا مهرب منه، ثم إنك وأنت لا تستطيع أن تجعل عينك إلى فوق، فهى أبدا - أو فى الأغلب الأعم - إلى تحت ... إلى المصير المحتوم ... وهو محتوم ... محتوم، ما فى هذا أدنى شك فما قولك فى رياضة النفس عليه؟ تروض نفسك على الموت.. على الاطمئنان إليه.. على السكون إلى ما يهولك منه، والرضى به؟ واعلم أن هذا لا ينفي حرصك على الحياة وضنك بها، وكل ما فيه أن يعدك لما بعدها، فأنت كالذي يذهب إلى مدرسة ليهيئ نفسه لغده المأمول، فهذا غدك الذى لا ريب فيه، فمن أصالة الرأى أن تتهيأ له. وسينفعك هذا، ومواجهة الحقائق أولى وأرد على المرء من تجاهلها والمكابرة فيها ...».
وراقنى هذا، فصح عزمى على رياضة النفس على السكون إلى الموت.
الفصل السابع عشر
سألت نفسى: «لو أمكن أن أبدأ حياتي من البداية، مرة أخرى، فهل ترانى أسير فيها كما سرت» ؟
وخطر لى، وأنا أدير هذا السؤال فى نفسى أن الأولى أن أسأل: هل يسرنى أو أنا أشتهى، أو أتمنى أن يرتد عقربا الساعة، وأن أكر راجعا إلى تلك البداية؟
ولا أدعى أني كرهت هذا، ونفرت منه، ولكنى أقول. لأنى ترددت وصحيح أنها كرة - لو أتيحت - يكبر بها الأمل فى طول البقاء فى هذه الدنيا، والتلبث على الأرض، ولكن المعول فى الحياة ليس على الطول والعبرة ليست بالمدة، وعدد السنين، بل الامتلاء والسعة، ولولا شهادة الميلاد لما صدقت أنى تجاوزت الخمسين، فإنى - كما قلت قديما أيام كنت مغرى بالنظم:
أحس كأن الدهر عمرى، وأننى
أخو مغرق الأرضين بالفيضان
ويضحكنى الآن أنى قلت هذا، فما أعرف أخى المزعوم هذا ما عسى أن يكون؟ وقد كنت أعنى نوحا، ولكن نوحا لم يغرق أرضا، ولم يفجر ماء، وكل ما كان منه أنه صنع فلكا حمل فيه من كل شىء زوجين حتى أقلعت السماء، وبلعت الأرض ماءها، فليته ما فعل؟ وهذا البيت مثال للتأليف السخيف الذى لا دقة فيه ولا إحكام. وبعد أن يقول المرء إن الدهر كله، عمره، لا يقبل منه هذا القياس المحدود، بأن يكون أخا نوح أو حتى أخا لآدم، فإن مسافة هذا الزمن مهما طالت لا تعدو أن تكون جزءا من الدهر. وقد كنت فى هذا البيت شبيها بالعامة أو الأطفال حين يقيسون ما لا حد له إلى ماله حدود قريبة. وللعامة عذر من أنهم محدودون، وأن فجاج الفكر والخيال والشعور مسدودة عليهم، وليس كذلك الأديب الذى يزعم أنه واسع، وأنه عالم صغير «يسع السبعة الأقاليم طرا» كما يقول ابن الرومى فى بيت يهجو به ابن بوران، أو أمه، ويقول بعد:
كضمير الفؤاد يلتهم الدنيا
وتحويه دفتا حيزوم
والذي يزعم نفسه قادرا على أن يطوى العالم كله فى ضميره، وأن فؤاده يتسع للدنيا لا يجوز له أن يكون قاصرا محدود الخيال، ضعيف التصور كالطفل والجاهل العامى النفس.
وكان بعض الإخوان قد أشار على أن أعيد طبع ديوانى بعد أن أضيف إليه ما لم ينشر، فقلت له إنى لا أرضي الآن عما قلت من الشعر في صدر حياتى - وأنه يحتاج إلى مراجعة طويلة متعبة، ليصبح فى رأيى صالحا للنشر، ولا صبر لى على هذا، ولا وقت له عندى، ومن الخطل أن أنشر ما لا أستجيد، فقال إن رأيك فيه ليس من الضرورى أن يكون رأى الناس مثله، وأن ما لا يعجبك قد يعجب غيرك، وأن ما يروقك قد لا يروق سواك.
فقلت هذا صحيح، ولكنه شعرى، ونشرى له معناه رضاى عنه وارتياحى إليه، وغير مقبول أن أشتم الناس بأن أقول لهم خذوا هذا الشعر، فهو حسبكم وإن كان ليس حسبى، ثم إن رأيى أنا فى كلامى هو الذى يعنينى، وما قلته إلا للتعبير عما في نفسى..
فإذا كنت أرانى لم أجد العبارة ولم أوفق في التصوير، وأنى تشابه الأمر على، لجهلى، وخلطت بين العرض والجوهر، وركبنى الغلط حتى فيما توهمته حقيقة إحساسى وخوالجي، فكيف أستبيح أن أعرض هذا الخلط والغلط والعجز على الناس؟
وكما لا أحب أن أنشر ما قلت من الشعر بعد أن أدركت مافيه من قصور، كذلك لا أحب أن أبدأ حياتى - كرة أخرى - من البداية، وأكبر الظن أن ذكرى الشباب أحلى من حقيقته، وأعذب. وإنى لأغوص فى أعماق نفسى الآن، فأجد أنى فى شبابى لم أسعد به كما أسعد بذكراه، وأنى لم أجعل بالى فى عهده إلى الحلاوة التى أتذوقها الآن من عرض أيامه على خاطرى، ونشر المطوى من زمانه، وأحسب أن الذى يكسب ذكرى الشباب هذه الحلاوة ويرقق القلب له ويعطفه عليه، ويعصره أيضا، هو أن الإنسان ينتقي منه وينتخب، ويغربل وينخل، ويبرز ما يحب، ويحجب ما يكره ويقول هذا هو الشباب! كلا، ليس هذا بالشباب، وما كانه قط، ولن يكونه، وإنما هو الحميد منه، مستخلصا، ومصفى، ومعروضا على نفس تحس دبيب الفناء، وتشعر بأنها مولية عن الدنيا، وكل ما يذهب ولا يرجع يلتفت إليه القلب، وما ينفرد الشباب بما يدعو إلى الصبوة إليه والرغبة في استعادته، فما يخلو عهد من عهود العمر من بواعث الرضى، وللكهولة لذاتها ومتعها، كما للشباب، بل لعل متع الحياة ولذات العيش فى الكهولة أقوى وأعمق، فإن للتجربة مزيتها وللمعرفة فضلها، والمرء يغالط نفسه حين يقول إن ما مر به كان أطيب مما هو فيه، فما كان كذلك، ولكن الذى فى الماء لا يستطيع أن ينعم بمرأى البحر ومناظر السابحين فيه، كما ينعم بذلك الواقف على الشاطئ، والماضى أوقع فى النفس لأن ذكراه تثير السرور بما كان فيه من حسن، والأسف على انقضائه، وتمنى عودته، ولكن الحاضر يشغل بمعاناته عن التفكير فيه والإحساس به من نواحيه جميعا. كالسابح في الماء يشغل بجهد السباحة عما حوله من المناظر. وإذا وسع الإنسان أن يكون فى اللحظة الحاضرة وأن ينأى عنها ويلاحظها من بعيد، ويتأملها ويوقظ لها نفسه وحسه وعقله، كما يفعل حين يتدبر الماضى - إذا وسع المرء أن يفعل هذا، فإنه يستطيع أن يضيف إلى لذة الحاضر المتع المستفادة من رجع البصر أو التذكر.
والأمر يحتاج إلى رياضة، وقد استطعت أن أروض نفسى على هذا، فأنا حين أكون على حال ما، لا أعجز عن انتزاع نفسى منه، والوقوف بمعزل عنه بحيث يتسني لى أن أراقب ما يجرى - كأنه يقع لسواى - وأن أدير فيه خاطرى فأكون فى الحاضر وكأنه مضى وظفر بالمتعة المحسوسة والمتعة المتخيلة وأضرب مثلا فأقول هبنى أعانق فتاة وأقبلها، فأنا حين أفعل ذلك أشعر بمتعة القبلة ولذة الضمة، ولكنى أزيد على ذلك أنى أستطيع أن أسبق هذه اللحظة بسنة أو سنتين. وأتصور نفسى جالسا أتذكر حلاوة القبلة التى فزت بها من تلك الفتاة ويكون تصورى هذا فى أثناء التقبيل. فهما قبلتان - واحدة أحسها بفمى ويرف لها قلبى وأخرى يجسدها لى خيالى كما ستكون بذكراها بعد انقضاء عام أو عامين وهكذا فى غير ذلك.
لهذا لا أرى مزية للعودة إلى الشباب.
الفصل الثامن عشر
سألنى «بعضهم»: هل تعتزل الناس، أو تروم أن تعتزلهم، لأنك مللت الحياة، وزهدت في العيش؟ أو أنت تفعل ذلك لأنك لا تأنس من نفسك القدرة على خوض الغمار، ومصارعة التيار، أي لفتور عراك وضعف أدركك؟
وليست هذه ألفاظ السائل، فقد نسيت الموضع الذى كنت أدخر فيه رسالته إلى أوان الرد عليها، والنسيان آفتى التي تكاد تذهب بلبى فإنى أنسى كل شىء إلا أنى أكلت، وما أذكر الشبع إلا بما أعانيه من كربة الثقال، وأحسب أنه - وأعنى النسيان، لا الشبع - هو الذى حمانى أن أحب وأعشق، وكيف بالله يكون حب من يمسى عاشقا ويصبح ساليا؟
أى والله، وإن الحسن لفتنة، وإن القلب ليصبوا.
ولكنى أنسى أني صبوت. وتطير من رأسى الأسماء والأحاديث، كما تطير العصافير عن أعشاشها.
وقد اتفق لى أن خرجت يوما بالسيارة وحدى إلى آخر مصر الجديدة، فأوصدت أبواب السيارة وذهبت أتمشى في الحدائق الممتدة إلى حدود الصحراء، وكنت مطرقا أنظر إلى الأرض وأنا أخطو، وكان بالى إلى الفرق بين وقع قدمي - قدم رجلى السليمة، وقدم رجلى المهيضة - وإلى مسافة الزمن التى يستغرقها الخطو بكل منها وأيهما أثقل وأبطأ فيما أحس وأرى.
وكان الداعى إلى هذا أنه خطر لى أنى مخطئ فى اجتناب الرقص، وأنه عسى أن تسعفنى ساقى المهيضة ولا تعبأ بالحركة الخفيفة السريعة المطلوبة فلا يبقي موجب للصبر على هذا الحرمان ومسوغ لتوطين النفس عليه، وأنا أحب الرقص، ولكنى لا أحب أن أكون حجر طاحون، وأخشى أن تخذلنى ساقي، فأتلكأ وأبطئ، أو دوس قدم التى أراقصها وأدور بها، وأخجل أن أجرب قبل أن أتبين وأستوثق، وإنى لهكذا وإذا بي أصدم بفتاة داخلة من بعض أبواب الحديقة، فاتقيت الوقوع بإسناد كتفى إلى كتفيها، واتقته هى براحتيها على صدرى وأفقنا فشرعت أعتذر، فقاطعتنى وقالت «أهو أنت»؟
فابتسمت وقلت «ليس عندى أدنى شك فى أنى أنا، فهل يكفيك هذا الجواب؟ إنه على كل حال من نوع السؤال».
قالت «إنما أعنى أن هذه مصادفة عجيبة. أين كنت كل هذا الزمن»؟
فتأملتها، وأطلت التحديق فى وجهها الصابح، ولكن رأسى لم يختلج فيه شىء. فهززت رأسى وقلت «كل هذا الزمن؟ هل؟ هل أقص عليك تاريخ حياتى من البداية»؟
قالت «ألا تذكر»؟
قلت «هذه هى المسألة - كما يقول هملت، فهل سمعت به»؟
قالت «كيف تنسى؟ كيف يمكن أن تنسى »؟
قلت «اسمعى» وجررتها من ذراعها إلى مقعد «هذا موضوع يحتاح إلى تقص طويل، فقولى لى: هل أنا مدين لك؟ هل اقترضت منك مالا، أو استعرت شيئا»؟
فضحكت وقالت «لا مال لى أقرض منه، وليس عندى ما يستحق أن يعار».
قلت: «هذا حسن. فإنى الساعة أدنى ما أكون إلى الإفلاس. سؤال آخر ...».
فقاطعتنى وقالت: «لاتسأل.. سأذكرك بكل شىء».
قلت: «خيرا إن شاء الله، هاتى ما عندك».
قالت: «أتذكر السويس»؟
قلت: «أعرف السويس، مصيف جميل وشتى أجمل فهل تلاقينا هناك على ساحل البحر، أو فى الكازينو، أو على الباخرة التى ركبتها إلى الحجاز أو ...».
قالت - وهي تضحك - انتظر لا، لم نتقابل فى السويس، بل فى طريق السويس، عند الكيلو الخمسين، وكنا عائدين إلى مصر..».
فقاطعتها «كنا؟ من تعنين»؟
قالت «ألا تنتظر؟ أخى وصديقتان وصاحب لهما، وأنا، فانكسر غطاء المحرك فوقفنا ننتظر نجده، وكاد يدخل الليل، وكدنا نيأس، فقد كانت السيارات التى تمر بنا، لا تقف، وهى صغيرة لا تتسع لنا، ولا تقوى على جرنا وإذا أنت مقبل فاعترضت طريقك وأشرت إليك فوقفت، وسألتنا عما نريد، فأخبرناك، فاقترحت أن تحملنا جميعا فى سيارتك، ولكننا اعترضنا، وقلنا إننا لا نستطيع أن نترك سيارتنا واقترحنا عليك أن نربط السيارتين فتجرنا، ففعلت وركبت أنا معك فقلت لى: «ستخرب سيارتى، وسينهكها هذا العبء، ولكن حسبى عوضا أن ست عيون كفت عن البكاء، وثلاث وجوه عاد إليها الإشراق»..
وقد عرفتنا وعرفناك، وكتبت أسماءنا كلها فى رقعة، ولقيتك أنا وأخى بعد ذلك مرتين، دعوتنا فى أولاهما إلى السينما، وفى المرة الثانية قضينا أكثر من ساعتين فى (الأمريكين)، وقد أخبرتك فى ذلك اليوم أنى مسافرة إلى الإسكندرية لقضاء شهر فيها، وأعطيتك عنوانى فوعدت أن تزورنى، وأن تكتب إلى، قبل الحضور، ولكنك لم تفعل لا هذا ولا ذاك».
قلت «الحمد لله».
فقطبت وقالت «إيه؟ ماذا تعنى»؟
قلت «اسمعى. إن رأسى هذا غربال واسع الخروق، كما يعرف كل من يعرفنى، وقد كنت أخشى، وأنت تقصين على الحكاية، أن أكون قد قلت أو فعلت شيئا.. الحمد لله على كل حال، فقد اقتصر الأمر على هذا القدر».
قالت: «ولكن لماذا لا تنتظر؟ لقد وعدتنى أيضا ...».
فقاطعتها قائلا: «هل تريدين أن تضحكى على ذقنى؟ لأنك عرفت أنى سريع النسيان، تخترعين وعودا و...».
قالت «ولماذا أخترع»؟
فتناولت ذراعها وسألتها «سأوجه إليك سؤالا قد يبدو لك محرجا أو ثقيلا، ولكن عذرى هو هذا النسيان، هل قلت لك إنك جميلة»؟
قالت «نعم» قلت: «إن عينى زرقاوان كالبحر، وعميقتان مثله».
قلت «هذا صحيح» ففرحت وصاحت: «هل تذكرت»؟ قلت: «كلا» إنما أعنى أن عينيك هكذا تماما وأن هذا الوصف هو الحقيقة على كل حال - وهل.. هل..»؟
قالت: «نعم».
قلت: «ماذا تعنين بنعم» (بعبوس).
قالت: «منتظرة سؤالك».
فتشهدت وسألتها «هل قبلتك؟؟ معذرة»!
قالت «أوه.. هذا ... نعم ثلاث مرات ... مرة فى الطريق وأنا معك فى السيارة ومرة ...».
قلت «كفى.. كفى.. إنى آسف.. ولم يبق إلا أن أسأل هل كانت القبلة حلوة؟ أظن أنى سأجن ...».
فقالت - وهى تضحك: «إنك مدهش. ولكن هل صحيح أنك تنسى إلى هذا الحد؟ أم تراك تتكلف لتعابثنى»؟
قلت: «لا والله ما أذكر أنى رأيتك فى حياتى».
وغريب أن أنسى الأصل وأذكر الهوامش!
فهذه حادثة تريك كيف يكون من المستحيل على أن أعشق، لأنى أنسى كل حب، بل كل عاطفة، لا يزيد عمرها على أربع وعشرين ساعة، على الأكثر، ثم تنطوى.
وأعود إلى السؤال الذى بدأت به هذا الفصل، فأقول: إنى لم أسأم الحياة ولم أزهد فيها، ولا فترت عنها، بل أنا أطلب لها، وأقوى رغبة فيها مما كنت فى أى عهد مضى، ولست آنس من نفسى عجزا عن مسايرة الدنيا، أو الناس، فإن الأمر على النقيض، وأحسب أن الرغبة فى الحياة تقوى مع ارتفاع السن وقلما يلتفت الشاب إلى الحياة وطولها أو قصرها، أو يفكر فى أنها إلى زوال، لأن ما يحسه من فيض الحيوية لا يجعل له بالا إلى شىء من ذلك، ولأنه يكون مشغولا بإنفاق هذه الحيوية الزاخرة عن كل أمر أو حال آخر، فهمه أن يريح نفسه من ثقل الضغط، وأن يفتح «البوابات» كلها لينحدر منها ويخرج ما يجاوز طاقته، ويزيد على قدرته على احتمال ضغطه ثم ينقضى الشباب فيسلس التدفق وتخف وطأته ويزداد شح المعين على الأيام، فيتسنى للمرء أن يفكر بعقله وينظر بقلبه وأن يدير عينه فى الماضى، والحاضر، وأن يمد بصره فى المستقبل ويرى أنه يدلف إلى النهاية، فيفرق ويشفق وقد يجزع.
وتحدثه نفسه أن النهاية قد تكون أدنى إليه مما يرجو فيشتهى أن يفوز فيما بقى له من العمر. بأضعاف أضعاف ما فاز به فيما مضى وانقضى ويطلب أن ينعم أعظم نعم فى أوجز وقت لأنه من يدرى؟ قد لا يطول العمر. وقد يتخونه الموت. وهبه طال فقد لا تبقى الصحة. وما خير حياة بلا صحة ولا قدرة على العمل والاستمتاع؟
فهو لهذا يقبل على الحياة، لم يكن يفعل فى شبابه، لأنه كان مغترا بالعباب الزاخر فى شبابه، ومفتونا به، ومصروفا، عن التأمل والتدبر، أما فى الكهولة فلماذا يغتر؟ وماذا يتوقع، وهو يحس النضوب يوما بعد يوم؟ ومن أجل هذا يخطئ من يتوهم أن الشباب هو وحده سن الإقبال على الحياة. فما ينقطع أو يفتر الإقبال، ولكن المرء فى صغره يركب الحياة بالجهل، أما فى الكهولة فإنه يركبها بالإرادة. وهو فى شبابه يكون محمولا على متن تيار لا يستطيع أن يقاومه أو يصده، وفى كهولته يكون كراكب السفينة المطاوعة، يمخر بها إلى حيث يبغى، وقد صارت فى عونه تجربته، وسكون التيار. كذلك يخطئ من يحسب الكهولة أضأل استمتاعا بالحياة، فإنها أدرى بالمتعة، وأحس بها، وأفطن لها، وأعرف بوجوهها، وأخبر بالوسيلة إليها.
كلا، لست أنشد الاعتزال لشىء من هذا الذى سأل عنه بعضهم، بل لأسباب أخرى أعمق، أحاول أن أجلوها، وأرانى كلما عالجت ذلك أذهل عنها، أو أستطرد، أو أغرق خطر أنها فى بحر من الذكريات والتأملات.
الفصل التاسع عشر
قلت إن من الخطأ أن يتصور أحد أن الشباب أشد إقبالا على الحياة، وطلبا لها ورغبة فيها، أو أن الكهل أقل تشبثا بالحياة أو أكثر فضيلة أو آثر لها وللعفة والزهادة في سيرته. وقد أثار هذا القول اعتراض بعض الإخوان، فأنشأوا يجادلوننى فيه، فكان مما قلته لهم إنكم لا تواجهون الحقائق بل تهربون منها، وتشيحون بوجوهكم عنها، لأنكم ترون هذا أكرم لكم وأبعث على توقيركم، أو أنتم تجهلون نفوسكم، أو تغالطونها أو لا أدرى ماذا غير هذا وقد كنت شابا كما كنتم؟ ولعل الفرق بينى وبينكم أنى كنت - وما زلت - مغرى بإدارة عينى فى نفسى، والغوص فى لجتها على ما عسى أن يكون فيها من طيب وخبيث، وأنى لا أحب أن أسمى الأشياء أحسن أسمائها بل أسماءها الحقيقية، وأنى قد أغالط الناس، وأخدعهم ولكنى أصدق نفسى. وليس أحلى عندى وأمتع ولا أوقع وأروع، من أن أتناول نفسى، كله، تيسرت لى الخلوة بها، وأحطها على كرسى أمامى، وأتدبرها، وأجيل فيها عينى، وأفحصها وأجسها، وأسبر أغوارها، وأمتحن نزعاتها وبواعثها، وألتمس المصادر الأولى لأهوائها فى أعماقها، وإصلاحها بحقيقة ما أرى وأعتقد، بلا تلعثم، أو مصانعة، أو مغالطة، وعسى أن يكون هذا مدعاة للإسراف والشطط ولعله يحمل على التجنى، ولكنه خير عندى من المغالطة على كل حال.
والقول بأن الإنسان يركب الحياة بشبابه غلط، والصواب أنها هى التى تركبه فى شبابه تركض به من غير أن يكون له رأى أو إرادة، ومن غير أن تدع له فرصة للراحة والاستمتاع، وما يركب الحياة بالرأى والإرادة إلا الكهل على خلاف المظنون والشائع. أو هذا - على الأقل - ما بلوته من نفسي، وعرفته وأيقنت أنه الصحيح.
كنت شابا. فكيف كانت حياتى؟ وكيف كان الشعور بها؟ أرد عينى إلى هذا الماضى وأحدق، وأستشف، وأستجلى، وأستوضح.
ثم أهز رأسى ولا يسعنى إلا أن أقول: لا أدرى! كل ما أدريه أنى كنت محمولا على متن تيار قوى، وكنت أقرأ، وأعمل، وأجد وألعب، وأشتهى وأطلب أو أقصر ولكن بغير فهم صحيح، أو إدراك تام لما أنا فيه، أو لبواعثه أو لمصائر الأمور، كانت الكتب تعدينى وتسحرنى، فأنظر إلى الدنيا بعيون أصحابها لا بعينى، وأحسها بقلوبهم لا بقلبى، وأتصور حياتى وأقيسها على ما يروقنى من صور الحياة فى هذه الكتب، وأنتحل آمال أصحابها ومخاوفهم، وهماتهم وعزماتهم، ومثلهم العليا، وصور الكمال عندهم، وأوحى ذلك كله إلى نفسى، ثم أزعمنى ندهم وقريعهم فأزهى وأتكبر، وأغتر، لأنى أرى نفسى كما رسمها خيالى الذى استمد من هذه الكتب لا كما هى فى الواقع، وكنت أفعل الشىء أو أتركه بوحى هذه الكتب.
وأضرب مثلا: عشقت مرارا، وقال فى صديقى الأستاذ العقاد قصيدة بعث بها إلى، فى ذلك الزمان:
أنت فى مصر دائم التمهيد
بين حب عفى، وحب جديد
وأذكر أنه بعث إلى يومئذ برقعة كتب فيها أسماء المعشوقات وإلى جانبها أرقامها، وكان الرقم الأخير 17 وسلسل الأرقام تحتها ووضع أمامها أصفارا لا أسماء، إشارة إلى أن معاشقى لا تنتهى، وأنه ينتظر أن يعرف الأسماء ليقيدها قبالة أرقامها.
وإذا قلت عشقت، فإنما أعنى الآن أنى اشتهيت، وأنى عانيت هذا الضرب من الجوع الذى يسميه الناس الحب، ولكنى لم أكن أدرك هذا يومئذ، أو أنظر إلى حقيقة الأمر فيه، وإنما كان ما أقرأ من الشعر يغرينى بنشدان الحال، ويطلقنى كالنحلة بين أزاهير الحسن، ويدفعنى إلى إيحاء الشعور بالحب إلى نفسى، فأتوهم أنى محب، وأنى عاشق، فأقضى الليل مسهد الجفن مؤرق النفس، أنظم الشعر وأقول فى هذا المحبوب أو ذاك.
وألقى المحبوب، فماذا كنت أصنع؟ لا شىء أكون معه كما أكون مع أى واحد من خلق الله، ولا يخطر لى حتى أن أتملى بهذا الحسن وأسعد بنضارته ورونقه، أكلمه كما أكلم غيره، وأجد أو أمزح، على نحو ما أفعل مع إخوانى بلا أدنى فرق وأرجع إلى بيتى، وأقعد بين كتبى، فأروح أتصور هذه الجلسة العادية على نحو آخر، وأخلع عليها من الخيال حللا ذات ألوان شتى، وأستبعد ما دار من الحديث وما كان من إشارات أو نظرات لم أعبأ بها فى حينها، وأحملها المعانى التى أريدها، فأسر بهذا، وأتألم لذاك، وأرى فى هذه الكلمة والإشارة أو النظرة، معنى الرضى أو التشجيع، وفى تلك معنى التدلل أو الملل، أو القصد إلى الإيلام ولا أزال هكذا حتى تجتمع مادة كافية من ضروب الإحساسات لنظم قصيد!
لا، لم أكن أعيش، أو أشعر بالحياة، وإنما كنت أنظم شعرا، وكنت وأنا أنظمه أتمثل الإحساس الذى أريد العبارة عنه، والعاطفة التى أتخيل الصدور عنها، وأوحى لنفسى هذا كله، وأنتهى بأن أعتقد بأن هذا هو الذى شعرت به حقيقة لا توهما، وأنه هو الذى خامر نفسى لا الذى أنشأته أنا لها بقوة الايحاء.
ولا يخلو من فائدة فى بيان هذه الحقيقة، وأن أقول إن قرض الشعر هو الذى كان المقصود والذى اتجهت إليه الرغبة وتعلقت به الإرادة وإن ما كان من حب متوهم وإنما كان ثمرة هذه الرغبة فى قرض الشعر، أى أن قول الشعر كان يبعث على التماس المادة له، كما يريد النجار أن يصنع كرسيا فيطلب الخشب وما إليه، والدليل على أن هذا كله كان بفعل الإيحاء، أن من أعرف الآن من نفسى أنى صغوت بقلبى إليها لم تكن قط موضوعا لشعرى، فإذا كنت قد نقلت قلبى مرات وطرت عن زهرة إلى زهرة فى بستان الحسن، فذاك لأن العاطفة لم تنشأ نشوءا طبيعيا، بل بإيحائها إلى النفس.
وفى وسع القارئ أن يقيس على هذا. فأنا لم أكن فى شبابى أتلقى وقع الحياة مباشرة، بل عن طريق الكتب، وكنت لهذا كالذى نومه غيره تنويما مغنطيسيا، فرأيه، وشعوره، وعاطفته، وهواه، وأمله وخوفه، وحبه وبغضه، هو ما يحدثه فى نفسه إيحاء منومة.
وقد شببت عن هذا الطوق. وما زال ولوعى بالكتب كما كان، ولكنه لم يبق لها شىء من ذلك السحر القديم، فقد استطعت بفضل معاناتى للحياة أن أقى نفسى وأجنبها تلك الفتنة، فأنا أنظر فى الكتب، وفى الحياة، بعينى، لا بعين الكاتب أو الشاعر، وأحس بقلبى لا بقلب سواى وأتلقى وقع الحياة منها لا من إيحاء الكتب، وأطلب الشىء لأنى أريده وأراه جديرا بالطلب، وأقيس قدرتى إلى رغبتى، وأوازن جهد السعى وثمرته المرجوة وأقدم أو أحجم بعد القياس المضبوط، والموازنة الدقيقة .
وأحاول أن لا أغالى بقيمة شيء، أو أن أبخسه حقه، ولا يستخفنى هوى، أو يغرنى حال، أو يخرجنى عن طورى أمر، أو يفقدنى اتزانى فرح أو حزن، ورضى أو غضب، ولا تجمح بى شهوة، ولا تركض بى صبوة، لأنى أصبحت أعرف القيم الحقيقة للأشياء، ولا أعدو بها مكانها. ولا أخلط بها الأوهام، ولأنى أسير فى الحياة بالإرادة الصارمة لا طوع الجواذب، فإذا سألتنى لماذا أفعل الشىء، فإنى أعرف الجواب الصحيح، إذ كنت لم أفعله إلا بعد الروية والحساب والوزن، وكذلك ما أترك أعرف علة تركه.
ويمكن أن أقول - ويمكن أن يصدق القارئ: أنى كنت فى شبابى أواقع الحياة مواقعة الهواء، أما الآن، فإنى أواقعها مواقعة المحترف، وقد صارت الحياة عندى حرفة، تعلمتها، وحذفت منها الجانب الذى طلبته ورأيته أوفق لى، والفرق بين الهاوى والمحترف لا يحتاج إلى بيان.
وكل عواطفى وأهواء نفسى، طوع إرادتى، وإرادتى لا تخضع إلا لتقديرى لما ينبغى - ويحق لى فى رأيى - أن أفوز به من الحياة. والعمد فى سيرتى محقق، إلى الحد الذى يتيسر للمخلوق الخاضع لسنن الخلق. وهذا العمد من بواعث السعادة لنفسى. لأنه يكسبنى حظا من الاستقلال ويجعل لى فيما أشعر نصيبا من الحرية فى الحياة، ولا شك أنه يجعل شعورى بالتبعات أقوى وأثقل، ولكن هذا هو الأكرم، إذ أى قيمة لإنسان لا يشعر أنه مسئول عما يصنع؟
الفصل العشرون
كانت حياة الشباب، حياة كبت، وحرمان وحيرة ولم أكن أعرف لى يومئذ معادا غير الإكباب على القراءة والإكباب على قرض الشعر وكنت أقول - ولا يخفى على عبث ما أحاول:
وما نظمى من الأشعار إلا علالة
لو أن سلوا بالقريض يكون!
وكنت أقول لمن يذكرون شعرى:
فلا تنفسوا شعرا، على، مفوفا
له - لوعلمتم - جانب متخوف
كما نظمت هذه الرياح غمائما
لها من غروب الشمس وشى مطرف
يهددها مما يضم، ممزق،
ومما يوشيها، مذيب ومتلف
لنا الله من قوم تذوب نفوسنا
ويجنى سوانا ما نشور ونقطف
ويصدر عنا الناس ريا قلوبهم
ونحن عطاش، بينهم نتلهف
نذوق شقاء العيش دون نعيمه
على أننا بالعيش أدرى وأعرف
وأحب أن أتعزى بالوهم فأردف ذلك بقولى:
ولكنه ما أخطأتنا لذاذة
إذا بلغ السؤل القريض المثقف
إذا هو سرى عن لهيف مفجع
وآنس قلبا موحشا يتشوف
فما تحفل الدنيا إذا جل ظلمها
ونحن من الأيام والعيش ننصف
ولم يكن زعمى أنى أحد الذين ينصفون نفوس الناس من الأيام وظلمها، بعزاء صادق أو دائم، فكانت وطأة الحرمان والكبت تثقل على كاهل صبرى فأصيح: «لبست رداء العيش عشرين حجة
وثنتين، ياشوقى إلى خلع ذا البرد!
عزوفا عن الدنيا، ومن لم يجد بها
مرادا لآمال تعلل بالزهد»
فيوم كان فيض الحياة زاخرا، كنت أقول يا ليتنى ما كنت، ولم يكن هذا طبيعيا، ولكنه كان ثمرة الكبت، وجنى الحرمان، وقطاف الحيرة، والآن، وأنا أدلف إلى الخمسين، لشد ما أتمنى أن يثقل الزمان رجله، ليطول التلبث، وتقضى النفس وطرها من التزود قبل أن يستأنف الركب مسيره إلى «فجر لا شىء» كما يقول الخيام فى إحدى رباعياته. وقد صار ما كان يشق على أن أراه، باعثا على التسلية ومجلبة للسرور، ولم يصدق ظنى حين توهمت فى أيام الشباب الكاذب، أنى سأقضى حياتى ثائر النفس، هائجا، أنه ليس لى عن ذاك معدى أو مهرب فقد قلت:
سكنت، فما أدرى الفتى كيف يغتدى
تجد به الأشجان طورا وتلعب
كما قلت على لسان غيرى.
بل لم أسكن، ولكنى نظرت إلى الحياة من ناحية أخرى، فقد تغيرت الدنيا، واختلفت أحوال الحياة، فراجعت نفسى، ورضتها على غير ما ألفت وانعطفت بها إلى سبل أخرى. فقد عرفت أن شعورى القديم بالمقت للحياة كان غير صادق، وأنه لم يكن سوي مظهر لحالة عارضة أعانيها، وأن حب الحياة والتعلق بها أعمق من ذلك، لكن حب الحياة كان يصطدم أحيانا بالجزع من الموت، فكان يرجني هذا ويخرجنى عن طورى، ويعصف باتزانى فأرانى أثور وأحاول فى مثل هذه الحالة الوقتية أن أنغص على الناس كأن لهم ذنبا، أو كأنهم ليسوا مثلى سواء بسواء، فأروح أقلد «هينى» الشاعر الألمانى، وأكتب وصية ليس أكشف منها عن جنون الثورة، أقول مثلا:
سترخى على هذى الحياة الستائر
وتطفأ أنوار، ويقفر سامر
فهل راق هذا الناس قصة عيشتى؟
وماذا يبالى من طوته المقابر؟
تركت لهم من قبل موتى وصية
نظير التي وصت بها لى المقادر
وهبت لأعدائى - إذا كان لى عدى -
همومى وما منه، أنا الدهر، ثائر
وأوصيت للمحبوب بالسهد والضنى
وبالدمع لا يرقا، ولا هو هامر
وبالجدرى فى وجهه ليزينه
وبالعرج المشنوء، والله قادر
وبالضعف، والإملاق، والبأس، والجوى
وبالقسم حتى تتقيه النواظر
وللشيب بالأوجاع فى كل مفصل
وبالثكل فى الأبناء والجد عاثر
وكل سقام قد تركت لذى الصبا
وما كنت منه فى الحياة أحاذر
وللناس ألوان الشقاء، وإننى
إذا مت: لا آسى على من يخامر
ولم يكن لى فى ذلك الحين بنون ومن أجل هذا فاتنى أن أوصي لهذه الطبقة بشىء من تلك الثروة البغيضة!
وكان عقلى يثوب، فأطوى هذا الهراء، ولا أنشره فيما كنت أنشر من شعرى.. على أنى كنت هادئا ساكنا، لما عثرت - وأنا أحاول عبثا أن أتعلم الألمانية وحدى - على بيتين فيهما غير قليل من خبث المكايدة ففرحت بهما وترجمتهما فيما يلى - والمفروض أنهما يكتبان على قبر صاحبهما:
أيها الزائر قبرى:
اتل ما خط أمامك
ههنا، فاعلم، عظامى
ليتها كانت عظامك!
وترجمتى هذين البيتين، وأنا هادئ، دليل على أن الثورة كامنة في النفس وإن كانت لا تبدو في العادة.
ثم صرت لا يعزينى علمى أن غيرى لا محالة ذاهب، إلى حيث أذهب وإن المآل واحد، ولا يقنعنى إلا أن أصور لنفسي فناء العالم كله، بل العوالم أجمع، حتى هذا لم يكن فيه مقنع، فكنت أشتهى أن أكون آخر من في الدنيا لأشهد مصرعها بعينى، وأطمئن. وربما غالطت نفسى فزعمت لها أن هذه شهوة فنية، ولكنى لا أصدق! كلا، لا أصدق.
وكان مظهر هذا قصيدة تصورت فيها ثلاثة نساجين (ولا أدرى لماذا لم أجعلهم أربعة أو عشرين!) يصنعون كفنا للعالم.
تعاقب أيديهم على النول، دهرهم،
ولست أراه غير أنى عالم
وما بى، إلى أن تبصر العين، حاجة
أليس سوي ما أنت بالعين شائم؟
هنالك، لو تدري، تسدى أكفهم
وتلحم ثوبا عهده متقادم
وفى مسمعى منهم وإن كنت لا أرى
وجوههم - أصواتهم والزمازم
يحوكون ثوبا ناصعا فيه تنطوي - متى عريت - هذى الدنا والعوالم
من البرد الخزى بيض خيوطه
ومن بلورات القر فيه نمانم
ومن نفس الريح المديد خطوطه
ومن قطع السحب الثقال مراقم
ألا ليتنى فى الأرض آخر أهلها
فأشهد هذا النحب يقضيه عالم!
وقد خلفت ورائى هذه المرحلة أيضا، فلست ألتمس عزاء، أو أنشد ما أغالط به نفسى فى الحقائق. وسيان عندى اليوم أن يذهب الناس أو لا يذهبون، فما أحفل شيئا من هذا، وإنه لآثر عندى أن يبقوا - لو كان إلى هذا سبيل - على أنى لا أعنى نفسى بأمرهم، وحسبى أمر نفسى، وهمى في هذه الآونة أن أروضها رياضة جديدة على سكون لا يفسده اضطراب، لا على الركود فإن هذا شر من الموت؟ بل طعمه يذاق في الحياة، والسكون قوة لأنه ابن الإدراك الصحيح والإرادة.
Unknown page