Qissat Falsafa Yunaniyya
قصة الفلسفة اليونانية
Genres
والعالم عند إمبذقليس سائر في حلقة متصلة، يبدأ من حيث ينتهي، وينتهي من حيث يبدأ، فقد بدأ الكون كتلة كرية كانت العناصر الأربعة فيها مؤتلفة، متدخلا بعضها في بعض، مندمجة في وحدة متماسكة، فلم يكن الماء منفصلا عن الهواء، ولا الهواء منفصلا عن التراب، بل كانت كلها مزيجا انمحت فيه شخصياتها، ولو انتزعت منه قبضة وحللت إلى عناصرها لوجد أنها تتألف من كميات متساوية من تلك العناصر، وقد كانت القوة المسيطرة على الكون إذ ذاك هي الحب الذي ألف هذه الأشتات فكانت خلقا واحدا، ولكن قوة أخرى أعني قوة البغض التي تنحو بالكون نحو التفكك كانت تختبئ خارج حدود الكون، تتحفز للسعي والعمل، فأخذت تتسلل شيئا فشيئا من محيط الكون الخارجي حتى نفذت آخر الأمر إلى قلبه ومركزه، وعندئذ أخذت تدب بين العناصر حركة التنافر والانفصال، بعد أن كانت وحدة متآخية متعانقة، ولبثت تلك القوة الهدامة تعمل بين عناصر الكون، فاعتصم الشبيه بشبيهه، وأخذت كل ذرة تسعى إلى عنصرها وقبيلها، إلى أن تم الانفصال، واستقل الماء كله في وحدة، واجتمعت النار كلها في وحدة ثانية، والتقى الهواء كله في وحدة ثالثة، وكون التراب مجموعة رابعة، وبذلك تم الأمر وانعقد لواء النصر للبغض والتنافر، واندحر الحب وانكمش، ولكنه عاد فتغلغل في الكون ليعيد لنفسه النفوذ والسلطان، وحاول أن يؤلف تلك العناصر المتنافرة وحدة متناسقة كما كانت أول أمرها، ولم يزل في سعيه لا يثنيه يأس ولا قنوط حتى تم له ما أراد، وهزم أمامه البغض هزيمة منكرة، وعاد الكون سيرته الأولى مزيجا متحدا، ولكنه لم يلبث أن عاد فبدأ الرحلة من جديد، وتسلل البغض إلى عناصر الكون حتى فصل بينها بعض الشيء، وها هو ذا الكون يسير في نفس الطريق، طريق التنافر والانحلال، وهو اليوم كما نرى في مرحلة متوسطة بين الاتصال التام والانفصال التام، وسط بين التآلف الكامل والتنافر الكامل، إلا أن منطق السير قد قضى بأن ترجح كفة الكراهية، حتى لنرى الكون أقرب إلى التفكك منه إلى الوحدة، وهو لا بد سائر في الطريق إلى غايتها حتى تستقل العناصر بعضها عن بعض، على ألا يقف الكون عند هذه الخاتمة ويجمد، بل سيبدأ الشوط من جديد وهلم جرا.
الفصل السادس
المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد
Atomism
أقام هذا المذهب رجلان، أما أحدهما «ليوسبس»
Leucippus ، فلا يعي التاريخ شيئا من حياته، فلا يذكر متى ولد وأين أقام، ولا متى أدركه الموت، إلا أنه يرجح أن يكون قد عاصر إمبذقليس وأناكسجوراس، وأما الآخر «ديمقريطس»
Democritus
فقد ولد في بلد من أعمال «تراقيا» يدعى «أبدرا»
Abdera ، وكان واسع العلم راغبا في تحصيله رغبة حارة، وقد وهبه الله بصيرة نافذة وفكرا ثاقبا، بحيث لا تكاد أنواع المعرفة تقع أمامه حتى يلتهمها التهاما فإذا هي جزء منه، وقد حفزته تلك الرغبة الملحة في التحصيل إلى الرحلة في أقطار الأرض، فزار مصر وجاس خلالها، وعرج على بابل وطوف في أنحائها، وقد قيض له أن يعمر طويلا، فلم يمت حتى نيف على التسعين.
كان المذهب الذري أو مذهب «الجوهر الفرد» ثمرة هاتين القريحتين، ومن العسير بل من المستحيل أن نرد لكل منهما حقه فيه، فليس لدينا من وسائل الإثبات ما نستطيع به أن نرجع كل فكرة إلى صاحبها، ولكننا لا نخطئ إن قلنا إن ليوسبس هو واضع الأساس، وأن ديمقريطس هو الذي أقام البناء وخرج منه الفصول والفروع، كما أن له الفضل الأوفر في إذاعة المذهب، حتى كان له من الشيوع عندئذ ما جعله خليقا بالذكر والتسجيل.
Unknown page