فلسفة العصور الوسطى
الفلسفة الحديثة
مصادر الكتاب
فلسفة العصور الوسطى
الفلسفة الحديثة
مصادر الكتاب
قصة الفلسفة الحديثة
قصة الفلسفة الحديثة
تأليف
زكي نجيب محمود وأحمد أمين
Unknown page
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فهذه قصة الفلسفة الحديثة، وهي الحلقة الثانية لما نشرناه منذ عامين من قصة الفلسفة اليونانية.
وقد قصدنا بهما أن نضع أمام القارئ المبتدئ صورة شاملة واضحة للفلسفة في جميع عصورها، من مبدأ نشأتها إلى يومنا هذا، نتجنب فيها المصطلحات الدقيقة ما أمكن، ونبسط مسائلها ما أمكن، ونقف فيها الوقفة الطويلة ما دعت الحاجة إليها، والوقفة القصيرة عندما يحسن الاكتفاء بها.
وجعلنا مسائل الفلسفة فيها تدور حول رجالها؛ لأن ذلك أشوق إلى القارئ، وأقرب إلى أسلوب القصة.
ورجعنا في الكتابين إلى أهم المصادر الأوروبية، واستفدنا مما حاولته من إجادة العرض وحسن السبك، وكان خير ما أعاننا في كتابنا هذا «قصة الفلسفة» للأستاذ «ديورانت»؛ فقد وفق كل التوفيق في عرض مسائل الفلسفة، وتحليل رجالها في أسلوب رشيق، وبيان واضح، فنهجنا نهجه، وأتممنا به، واقتبسنا منه.
وقصدنا إلى تزويد القارئ بأهم قضايا الفلسفة، وإطلاعه على وجهات الفلاسفة في التفكير، وتشويقه إلى الاستزادة منها، والتعمق فيها.
كما قصدنا خدمة الأدب بأن نقدم للأديب الناشئ أهم ما يعرض له الفكر، حتى يعمق تفكيره، ويغزر أدبه، ويكون نثره وشعره أدبا موضوعيا لا أدبا شكليا.
ورجونا أن يكون هذا هو الحجر الأول في بناء الفلسفة، فيعقبه دراسات واسعة عميقة، يكون من ورائها تكوين فلاسفة شرقيين، أنضجتهم دراساتهم الواسعة وبيئتهم الخاصة، متأثرين بما اشتهر به الشرق قديما من ميل إلى الإلهام، ونزعة إلى الروحانيات، فيلطفون ما ساد أوروبا من فلسفة مادية، ويعدلون مزاجها ويقومون أودها.
ولعله لا يمضي زمن طويل على العالم العربي في نهضته الحديثة، حتى تكون له فلاسفة ينظرون إلى العالم نظرة شاملة مؤسسة على العلم، ويدعون إلى فلسفة خاصة بهم، ويضطرون مؤرخي الفلسفة من شرقيين وغربيين أن يؤرخوهم ويضعوهم في مصاف «برجسون» و«رسل» و«وليم جيمس » وأمثالهم، ويختمون الزمن الذي يكتفون فيه بدراسة الفلاسفة من غير أن يكون لهم هم فلاسفة. حقق الله آمالنا ووفقنا للخير، وكلل أعمالنا بالنجاح.
Unknown page
أحمد أمين
13 ديسمبر سنة 1936م
فلسفة العصور الوسطى
تمهيد
لبثت الفلسفة في مرحلتها الأولى اليونانية نحوا من ألف سنة، تبدأ بطاليس سنة 624ق.م، وتنتهي بنهاية القرن الخامس بعد ميلاد المسيح. وفي نهاية هذه المرحلة كان صوت المسيحية قد دوى في أرجاء أوروبا. فبدأ الفكر الإنساني - وقد اصطبغ بذلك الدين المسيحي الجديد - شوطا جديدا، امتد نحوا من ألف سنة أخرى، كانت مهمة الفلسفة خلالها أن تؤيد بالدليل العقلي ما سلمت به النفوس بالإيمان تسليما لا يقبل ريبة ولا شكا.
وهكذا أصبحت الفلسفة تابعة للعقيدة، وأصبح العقل عونا لها.
ومما جعل للكنيسة في تلك العصور هذه المنزلة الممتازة أنها كانت القوة الوحيدة التي استطاعت أن تثبت لغزوات أمم الشمال المتبربرة التي قوضت الدولة الرومانية؛ فقد كانت هذه الدولة عاجزة من الوجهة السياسية، لا تقوى على حماية نفسها من برابرة الشمال، وكانت الحضارة العلمية على أيدي أولئك الغزاة، خصوصا إذا علمنا أن تلك الحضارة كانت في نفسها منحلة القوى، مقوضة الدعائم، وكانت الحياة الفكرية بأسرها، توشك أن تندك على أيدي هؤلاء الفاتحين السذج الجفاة، لو لم تكن هنالك تلك القوة الروحية التي اضطرت هؤلاء الغزاة إلى التسليم بها، والدخول في دينها، والتي عرفت كيف تنقذ هيكل المدنية، وتصونه خلال هاتيك القرون، تلك كانت قوة الكنيسة المسيحية التي قامت بما لم تستطع أن تقوم به الدولة.
فمن جانب الدين وحده، وعلى يد الكنيسة وحدها اتصل العالم الجديد بعلم القدماء، والنتيجة الطبيعية لهذا ألا تعرض الكنيسة على الناس من الفلسفة القديمة إلا ما كان متفقا مع تعاليم النصرانية، أما ما عدا هذا - وخصوصا ما يعارض النصرانية - فقد كان ينبذ نبذا. وبذلك ظلت الفلسفة الغربية خادمة للدين جملة قرون، وكان غرضها الأول تأييد العقائد الدينية، وتحديدها، وتنظيمها، وإظهار أن تلك العقائد التي نزلت من السماء تتفق أيضا مع العقل.
ومما يحسن ذكره أن تلك العصور الوسطى حين تلفتت إلى الوراء لتأخذ من القدماء ما أخذته من علم وفلسفة، قد سارت في نفس الطريق التي سلكها الأقدمون، ولكن في اتجاه عكسي؛ أي إنها بدأت السير من آخر الطريق إلى أوله؛ فقد بدأ اليونان بحوثهم العلمية مدفوعين بلذة البحث مولعين بجمال المعرفة في ذاتها، فلما قطعوا في الدراسة العلمية شوطا بعيدا أخذ العلم يتحول إلى خدمة الحياة العملية، وأصبح البحث الفلسفي وسيلة تستخدم للوصول إلى غاية وراءه، هي معرفة قواعد الأخلاق والبرهنة على تعاليم الدين. أما العصور الوسطى فقد بدأت السير من هذه المرحلة الأخيرة، أعني أنها بدأت بالبحث عن المعرفة لا لذاتها، بل لخدمة العقائد الدينية، ولكن بمضي الزمان تولدت في النفوس لذة المعرفة لذاتها، وأخذت تلك اللذة العلمية تتسع وتتمكن، حتى انتهى العلم آخر الأمر إلى الاستقلال بنفسه، وإلى معارضة العقيدة الدينية نفسها أحيانا، وقد كان أول الأمر وسيلة من وسائلها.
وتقع فلسفة العصور الوسطى في عهدين؛ أولهما: يسمى «عصر آباء الكنيسة»، وليس للفلسفة فيه من الشأن إلا القليل، والثاني: يسمى «العصر المدرسي»؛ لأن التعليم كان يقوم به جماعة من الرهبان في «مدارس الكنائس»، وقد أنشأ شارلمان كثيرا من هذه المدارس في جميع أنحاء فرنسا، وكان مدرسوها من رجال الكنيسة الذين حاولوا أن يلبسوا أغراض الكنيسة لباسا فلسفيا. ويمتد هذا العصر المدرسي إلى قيام النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر. (1) عصر آباء الكنيسة
Unknown page
حسبنا من هذا العصر أن نتحدث عن علم من أعلام الكنيسة يمثل العصر ويبين اتجاهه، هو «أورليوس أوغسطين»
Aurelius Augustinus
ولد في تجستي
Tagaste ، في شمال إفريقيا سنة 353م، وكان أبوه وثنيا، وأمه مسيحية تلتهب حماسة دينية، فشب الابن في صدر حياته على وثنية أبيه، ولكن الأم التقية الورعة لم تزل توعز إلى ابنها بالمسيحية بما ترتل من صلاة كل يوم، حتى فتح أوغسطين قلبه للدين الجديد، وهو في سن الرابعة والثلاثين، ثم أنفق ما بقي من حياته في نشر المسيحية، والدفاع عنها. لا يفتر ولا يني حتى وافته منيته سنة 430م . ولعل أقوم ما جادت به قريحته في هذا السبيل كتابه الخالد المسمى
De Civitate Die
دافع فيه عن الكنيسة دفاعا قويا بارعا، جعله ينزل من قلوب العالم المسيحي طوال القرون الوسطى منزلة الإمام الذي تقام به الحجة الصادعة، فحسب المجادل أن يشير إلى قول أوغسطين، حتى تنحسم كل أسباب الخصومة والنزاع، وها نحن أولاء نعرض فلسفته عرضا موجزا. (1-1) نظرية المعرفة
أيقن أوغسطين بوجود الله والروح والإدراك العقلي، لم يخالجه في ذلك شك، فلئن جاز للإنسان أن يرتاب فيما تأتي به الحواس من ألوان المعرفة، فليس يجوز له أن يشك في إدراك العقل؛ لأنه حق ويقين ليس إلى الشك فيه من سبيل. والشك مهما اتسعت دائرته لا يتناول شعور الإنسان بإحساسه الباطني. ويشير أوغسطين إلى أن الإحساس بالشيء الخارجي والشك فيه يتضمن حتما اليقين بوجود الذات؛ لأني إذا كنت شاكا فإني بهذا الشك أعلم أنني موجود، ومعنى ذلك أن الشك نفسه يتضمن إثبات وجود الكائن الشاعر وجودا لا يتطرق إليه الخطأ؛ لأني إذا كنت شاكا في كل شيء، فلن أخطئ في وجودي؛ إذ لا بد لكي أخطئ أن أكون موجودا.
وشعور الإنسان بوجود نفسه دليل على وجود الله؛ إذ كيف يتسنى لنا أن نشك في الأحاسيس التي ترد إلينا من العالم الخارجي إذا لم يكن لدينا إلى جانبها مقاييس للحقائق تختبر بها هذه المدركات الحسية، فإن من يشك يجب أن يكون عالما بحقيقة؛ لأنه لا يشك إلا من أجل هذه الحقيقة وعلى أساسها. وبديهي أن هذه الحقيقة لم تجئه من العالم الخارجي، بل من مصدر آخر هو الله، ثم يستمر أوغسطين فيقول: إن للإنسان فوق الحواس عقلا يمكن به أن يدرك الحقائق المجردة، كقوانين المنطق، وقواعد الخير والجمال. وهذه الحقائق لا تتغير بتغير الأفراد، بل هي واحدة لدى كل من يفكر. والإنسان لا يستمد علمه كله من الأشياء الخارجية وحدها، إنما يستقيها كذلك من معينها الدافق الفياض - من الله - وأول واجبات هذا العقل أن يلتمس الحقيقة لا لذاتها، بل لأنها وسيلة لازمة لسعادته، وسبيله إلى الحقيقة هو التأمل وطهارة القلب وممارسة الفضيلة، وكلما ازداد القلب من هذه الطهارة التي تمكن العقل من إدراك الحقيقة الإلهية إدراكا واضحا ازدادت في الإنسان قوته العقلية السامية التي ترتفع بالعقل عن مستوى المعرفة الحسية إلى حيث ينفذ إلى قوانين الكون، وإلى الجميل والخير. وإذن فالعقل أداة صالحة لتحصيل المعرفة الحقة، ومعينها النهائي هو الله الذي يفيض على الأشياء كنهها وجوهرها بواسطة كلمته:
Logos
أو
Unknown page
The Word of God
التي هي حلقة الاتصال بين الله والعالم، فأنت تستطيع أن تعلم حقائق الأشياء كلها إذا عرفت الله، ولكن أوغسطين يؤكد أن ليس في مقدور البشر أن يعرف الله معرفة تامة ما دام في هذه الحياة الدنيا، وإن كان ذلك مستطاعا بعض الشيء عن طريق الدين والعبادة؛ لأن الله الذي ستتصل به في عبادتك، فترتسم في نفسك صورة منه هو نفسه الله معين المعرفة وينبوعها، وهنا يقرر أوغسطين أن الإلهام مصدر قوي للمعرفة الصحيحة، وهو يشترط لمن يريد أن يتناول بعقله مسألة ما أن يبدأ بالعقيدة أولا: «لا بد لكي تعقل أن تعتقد.» (1-2) كيف خلق الله الكون؟
اتجهت إرادة الله منذ الأزل إلى خلق العالم، فأخرجه من العدم إخراجا، وأنشأه إنشاء بعد أن لم يكن شيئا. فلم يكن إلى جانب الله شيء من مادة يصوغ منها الكون الذي يريد، ولكنه خلقه خلقا دون أن ينبثق منه، وقد بدأ الخلق المادي حين بدأ الزمان، أما الله نفسه فليس له زمان ولا مكان، وقد تم خلق العالم على دهور متتابعة، وليست ستة الأيام التي قال موسى: «إن الخلق قد تم فيها.» إلا درجات متعاقبة من الكمال تتابعت على الكون في مسيره.
ولله قوة مطلقة تسيطر على الوجود بأسره فلا يحدها شيء، وهو فعال لما يريد، لا يخرج شيء عن إرادته؛ وإذن فهو العلة لكل ما يقع في أنحاء الكون من أحداث، ولكن فيما يقع شر ورذيلة، أفيكون الله يوما مصدرا للرذيلة والشر؟ كلا إن ما ترى من الشر إن هو في حقيقة الأمر إلا امتناع للخير، أي إنه ليس شيئا إيجابيا في ذاته له حقيقة واقعة، بل هو نقص في كمال الشيء، وبعد عن مرتبة الخير الإلهي، ويريد له الله أن يدأب في سيره صعدا حتى يبلغ الكمال، فلكل شيء عند الله حكمة وغرض، وليس في الوجود شيء يكون في حساب الله تافها أو حقيرا. (1-3) تحليل الروح
لم يذهب أوغسطين إلى ما ذهب إليه بعض الأقدمين من أن البدن سجن قد زجت الروح في غياهبه وغلت بأغلاله، كذلك لم ير ما ارتآه بعض الفلاسفة من أن الروح قد انبثقت من الله انبثاقا، إنما يقرر أنها قد بدأت في الزمان - أي إنها أزلية - ولكنها مع ذلك خالدة إلى الأبد، وهي ليست مركبة وليست مادة، وليس لها امتداد في المكان، ويختلف جوهرها عن جوهر البدن، ولو أنهما يعيشان في ود وانسجام. وإنما جاء خلود الروح واستعصاؤها على الفناء من أنها تحمل في طياتها حقيقة خالدة. أليس الروح والعقل شيئا واحدا؟ ثم أليست مبادئ العقل خالدة ثابتة؟ ففيم القول إذن بفناء الروح؟ إنه لمن الخطأ أن يقال إنها تحتوي الحياة؛ لأنها هي الحياة نفسها، وتنقسم ملكات الروح قسمين: مرتبة سفلى تشمل الإدراكات الحسية والشهوة والتخيل وذاكرة الحس، ومرتبة عليا فيها الذكاء والإرادة والذاكرة العقلية. والإرادة هي التي تحرك العقل نحو العمل، وتدفع العقيدة إلى الرضا بما يعمل. (1-4) الأخلاق
ليس من سبيل إلى الخير الأسمى، إلى الاتحاد بالله بواسطة التأمل، ويستحيل أن يتم هذا الاتحاد في الحياة الدنيا، فهو مدخر للحياة الآخرة، وواجب الإنسان في حياته أن يسير وفق القانون الإلهي تمهيدا لتلك السعادة الكبرى، وحسب الإنسان تلك السعادة الموعودة حافزا يحمله على الخير والفضيلة، وإن أقوى ما يدفع الإنسان إلى الفضيلة والخير هو الحب: حب الله، وحب الإنسان، فمن حب الإنسان للإنسان ينشأ في قلبه الإحسان، والإحسان أساس الحكمة والشجاعة والعدل. وأما حب الله فهو الينبوع الدافق الذي يستقي منه الإنسان حبه لنفسه وحبه للناس على السواء. ويذهب أوغسطين إلى أن هناك طائفتين من الناس: أهل «مدينة الله» وهم قوم أراد لهم الله أن يعيشوا في نعيم خالد مقيم، وأهل «الدنيا»، وأولئك هم أصحاب الرذيلة والشر الذين كتب عليهم ربهم البؤس والشقاء. (2) العصر المدرسي
Scholastic Period
كانت أوربا خلال القرون الوسطى تتوزعها دويلات صغيرة تتولاها حكومات واهنة ضعيفة، لا تنفك شاكية السلاح يقاتل بعضها بعضا لما أكل نفوسهم من حقد، وما ران على قلوبهم من فساد، وكانت تلك الدويلات كلها خاضعة للحكومة الرومانية التي تبسط عليها سلطانها ما وسعها ذلك؛ إذ القوة الفعلية لم تكن حينئذ سياسية تصدر عن الدولة، بل كانت دينية تملك زمامها الكنيسة. فلها الكلمة العليا إذا حزب الأمر، ولها القول الفصل إن قامت بين الناس خصومة أو نزاع. وأسرفت الكنيسة في نفوذها إسرافا أفسد الحياة وأصاب الفكر بالعقم والجمود، وتحكمت في العقول حتى سحقت كل ضرب من ضروب الحياة والنشاط، فلم تكن أوروبا في القرن العاشر إلا ظلاما دامسا تغلغلت فيه الجهالة، ونفثت في الرءوس ما شاءت من خرافات. فلما أن جاء القرن الحادي عشر أخذت تنقشع تلك السحابة المعتمة بعض الشيء بما ظهر من كنوز العلم التي كانت لا تزال دفينة في مكامنها في اليونان، فأزيل عنها ما غشيها من غبار حينما أعادت الحروب الصليبية ما كان وهن بين الإمبراطورية الغربية والإمبراطورية الشرقية من صلات، فبدد بريقها شيئا من ظلام القرن العاشر، وكأنما شاء الله أن تتناصر العوامل، وتتضافر الأسباب في وقت واحد؛ لكي تزحزح عن صدر أوروبا ذلك الكابوس الجاثم، فأرسل عليها الغرب - حيث الدولة العربية تزهو في إسبانيا وتزدهر - قبسا من علم فاضت به مجامعهم، وجاشت به صدورهم، فانبعث إلى قلب أوروبا وشحذ منها الفكر الفلسفي وأنهضه، حتى دبت فيه قوة وحياة، فكان من مظهره هذا الذي ندعوه «الفلسفة المدرسية»، على أنها لم تكن مدرسة فلسفية متماسكة، كمدرسة أفلاطون مثلا، إنما هي جهود فلسفية مبعثرة بذلها «المدرسيون» وهم رجال الدين الذين أخذوا بزمام الفلسفة فأناخوها في حظيرة الكنيسة وحدها؛ لكي يستخدموها في شئون الدين، لعلهم يجدون فيها لعقيدتهم سندا من المنطق، ودعامة من العقل.
قال «هجل » في كتابه المسمى «محاضرات في تاريخ الفلسفة»: «إن الفلسفة المدرسية لم تكن مذهبا محدودا كمذهب الأفلاطونيين أو الشكاك، بل كانت مجرد اسم مبهم يطلق على كل مباحث المسيحيين الفلسفية في أكثر من خمسمائة عام. فليست الفلسفة في العصر المدرسي إلا لاهوتا ولا اللاهوت إلا فلسفة، والفيلسوف المدرسي هو من يبحث في اللاهوت بحثا علميا منظما.»
وقد كانت أولى مسائل البحث، أو إن شئت فقل كان موضوع البحث الذي قام حوله الجدل العنيف، ونشبت فيه الخصومة القوية بين رجال الفلسفة المدرسية هو موضوع الكليات
Unknown page
Universas . إذ لم تكد تترجم للناس هذه العبارة التي ذكرها فورفوريوس
في مقدمة «إيساغوجي» وهي: «موضوع البحث هو: هل الأجناس والأنواع حقائق واقعة، أم هي مجرد تصورات ذهنية؟ فإن كانت حقائق فهل لها وجود خارجي مستقل عن الأشياء الحسية، أم هي كائنة في الأشياء الحسية نفسها؟» نقول إنه لم تكد تترجم هذه العبارة حتى انقسم في أمرها القوم فريقين متناظرين يذهب أحدهما إلى أن الأسماء الكلية التي نطلقها على الأجناس والأنواع كاسم إنسان واسم حيوان مثلا إن هي إلا مجرد ألفاظ وأسماء لا تمثل من الحقيقة شيئا، فليس لها مدلول واقعي لا في الذهن ولا في الخارج، ويرى هذا الفريق أن كل ما في الوجود جزئيات فقط، فهنالك مثلا من الناس زيد وعمرو، ولكن ليس هناك في العالم الخارجي «إنسان» كلي، وثمة في الواقع حصان جزئي وسمكة جزئية، ولكن ليس في الوجود حقيقة تقابل كلمة «حيوان»، وهكذا قل في سائر الأسماء الكلية التي تطلق على الأجناس والأنواع، ويسمى هذا بالمذهب الاسمي
Nominalism ، وأما الفريق الآخر فيرى أن الأسماء الكلية لها وجود حقيقي فعلي في الخارج، فهنالك في الوجود الحقيقي «إنسان» وهو غير زيد وعمرو وغيرهما من الجزئيات التي تقع تحت الحس. ويعرف هذا بالمذهب الواقعي
Realism .
وكان طبيعيا أن ينشأ بين النقيضين مذهب ثالث يقف منهما موقفا وسطا، فقام المذهب التصوري
Conceptualism
وعلى رأسه أبيلارد
Abelard
يقرر أن الكلي وإن كان ليس له ما يقابله في العالم الخارجي كما ذهب الواقعيون، إلا أن له حقيقة في الذهن؛ إذ لو كان الأمر كما رأى الاسميون من أن الاسم الكلي مجرد لفظة لا حقيقة لها في الخارج، ولا صورة لها في الذهن لكان الكلام الذي يتفاهم به الناس - ومعظمه أسماء كلية لجنس أو نوع - لغوا خاليا من المعنى لا يحمل إلى السامع شيئا.
ولعلك تلاحظ أن هاتين الشعبتين قد استمدتا أصل مذهبهما من أرسطو وأفلاطون؛ فمن مذهب أفلاطون في المثل أخذ الواقعيون ما ذهبوا إليه، ومن إنكار أرسطو للمثل استقى الاسميون تعاليمهم، وكانت الكنيسة أميل إلى المذهب الواقعي وطبقته على بعض تعاليمها كالتثليث.
Unknown page
ولقد تنازع هذان المذهبان وتصارعا، وكانت الحرب بينهما سجالا، فانتصرت الواقعية المتأثرة بأفلاطون في الصدر الأول من العصر المدرسي، وانتصرت الاسمية المتأثرة بأرسطو في العصر الثاني. (3) العصر المدرسي الأفلاطوني
كان للفلسفة الأفلاطونية السيطرة والسيادة في الشطر الأول من العصور الوسطى، فهي الينبوع الذي كان يستقي منه المفكرون آراءهم، والأساس الذي يقيمون عليه مذاهبهم، وإن كانت دائرة الفكر إذ ذاك محصورة ضيقة لا تنتج إلا أتفه الثمرات، ولكن دولتين من الدول الأوروبية قد امتازتا بعض الشيء في ذلك العهد المظلم العقيم، هما إيطاليا وإنجلترا، فنبغ فيهما أعلام ذاع صيتهم في الناس ودوت بذكرهم الجامعات. (1) وأول هؤلاء جون سكوتس إريجينا
John Scotus Erigena
الذي ولد في إيرلندة سنة 800م ومات سنة 870م، وقد بلغ من نباهة ذكره أن دعاه شارل الجسور، وعهد إليه أن يتولى مدرسة باريس، وهاك صورة مختصرة من فلسفته. (3-1) فكرة الله
يعتقد إريجينا أن الله هو بدء الأشياء ونهايتها، وأنه روح خالصة مجردة لا تحدها حدود، ولا تميزها صفات، وقد اتخذ الله هذا العالم وسيلة يبدو بها ويعرف. أما ما ترى في الكون من قوة وضوء وعقل إلى آخر ما يحوي الوجود بين دفتيه من أشياء، فقد انبثق من الله انبثاقا، ولا بد أن ينتهي المسير بهذه المخلوقات كليا إلى حد تبلغ عنده الغاية المنشودة، فتعود إلى الاتحاد بالله من جديد. وينزع إريجينا في كتابه «تقسيم الطبيعة» نزعة قوية إلى وحدة الوجود، فيقرر في غير لبس أن الله ومخلوقاته ، وهذا العالم الذي هو وسيلة ظهوره كل أولئك شيء واحد، وأن كل محاولة لفصل الله عن مخلوقاته باطلة، إلا أن تكون على سبيل المجاز.
يعتقد سكوتس أن الكلي
universal (وهو عبارة عن) فكرة الجنس هو الحقيقة الأساسية الأولى التي أوجدت نفسها بنفسها، ثم نشأ عنها الجزئيات (الأنواع ثم الأفراد)، فالكليات هي عناصر الوجود الأصلية، وهي على ذلك أسبق في الوجود من الأشياء الجزئية المادية. ويقول هذا الفيلسوف إنه كلما كان الشيء أكثر شمولا كان أمعن في حقيقة وجوده، ولما كانت فكرة الله أوسع الكليات شمولا كان هو أسمى الكائنات، ومنه نشأت المخلوقات كلها، وليست المخلوقات على اختلاف ألوانها إلا صورا يتمثل فيها الله، فهي له كالنماذج الجزئية أو الأمثلة بالنسبة إلى الجنس، فكما أن زيدا وعمرا وخالدا أمثلة لفكرة الإنسان لا أكثر، كذلك الأشياء كلها التي في الكون ليست إلا أمثلة لفكرة الله، فكل الأشياء التي في الكون وسائل اتخذها الله لظهوره، وهذا الكون هو الله إذا نظرت إليه كوحدة خالقة، وهو العالم إذا نظرت إليه من ناحية أشياء متعددة مخلوقة.
وكشف الله عن نفسه إنما يتم على درجات متتابعة: فمن الله ينبثق أولا العالم العقلي، وهو الجانب من الكون الذي يخلق، وله في الوقت نفسه مقدرة الخلق. ونعني به الكليات، ومنها ينشأ عالم الظواهر الحسية، وهي أحط أنواع الحقيقة لقلة ما يتحقق فيها من صفات كلية. (3-2) نظرية المعرفة
يسلك «سكوتس» في نظرية المعرفة نفس الطريق التي سلكها في شرح الخلق بانبثاق الأشياء من الله، ثم عودتها إليه مرة ثانية، فيرى أن المعرفة يجب أن تبتدئ من أعلى إلى أسفل، فتبتدئ بالكليات إلى أن تصل إلى الأشياء الحسية، ثم تعود فتعلو صاعدة حتى تبلغ أوجها في معرفة الله، فإذا ما بلغت الروح تلك المرتبة السامية الرفيعة استطاعت بالتأمل أن تتحد بالله، وهي غاية تستعصي على الحواس والعقل جميعا، ولا تتاح إلا بالتأمل وحده، وقد تستطيع الروح باتحادها بالله أن تعرف نفسها معرفة عميقة، ولكنه يستحيل عليها أن تدرك كنهها إدراكا تاما كاملا وهي على قيد الحياة. ويذهب «سكوتس» إلى أن الفلسفة الحقة والدين الحق شيء واحد؛ لأن العقيدة مرحلة من مراحل الحياة العقلية. (2) ننتقل الآن إلى علم من أعلام ذلك العهد المتأثر بفلسفة أفلاطون وهو أنسلم
Anselm
Unknown page
ولد في مدينة «أوستا»
Aosta
من أعمال لمبارديا سنة 1033م، ومات سنة 1109م، وقد بلغ من نباهة الذكر، وبعد الصيت أن أصبح يعرف بين معاصريه باسم أوغسطين الثاني، وكان في حياته مثلا أعلى للرجل المدرسي يتخذه الناس نموذجا يحتذى. أما فلسفته فقد استهلها بأن زعم أن العقل والعقيدة ليسا نقيضين، وأنه لا بد للعقل أن يستنير بضوء العقيدة؛ لأن العقل ضعيف بنفسه، كثير الزلل. ومعنى ذلك أن أنسلم يريد أن يستعين بقوة العقيدة على فهم حقائق الكون فهما عقليا، وبذلك وضع قاعدة أخرى بجانب قاعدة كانت قد شاعت بين الناس حتى رسخت في العقل رسوخا قويا، كان الناس يقولون: «إنني أعتقد؛ لأن الفهم محال.» اعترافا منهم بقصور العقل، واستحالة فهمه لحقائق الأشياء، أما أنسلم فقال: «إنني أعتقد؛ لكي أستطيع أن أفهم.» أي إنه يعتنق العقائد؛ لكي تكون وسيلة تنتهي به إلى الفهم. (3-3) البرهان على وجود الله
ثم ينتقل أنسلم للبرهنة على وجود الله برهانا عقليا ليزيد الأمر يقينا، وهذه خلاصة برهانه: إن الناس مجمعون على تعريف الله بأنه أكبر كائن يمكن أن يتصوره العقل، فإذا تصور العقل الله تصوره كاملا، وهذا الشيء الكامل الموجود في الذهن يجب أن يكون موجودا خارج العقل وجودا فعليا حقيقيا؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما كان أعظم من أي كائن آخر يفكر فيه العقل، ولا شك أن هذا العظيم الذي نتصوره بعقولنا يكون أكمل في حالة وجوده وجودا حقيقيا منه في حالة اقتصاره على أن يكون مجرد فكرة في الذهن، فإذا كانت عقولنا تأبى إلا أن تتصوره في أكمل حال، فقد تحتم بناء عليه أن نسلم بوجود الله. وقد عارضه جونيلو
Gaunilo
الراهب بقوله: إنه إذن على برهان «أنسلم» يمكن الإنسان أن يقيم الدليل على وجود أي شيء يتصوره العقل كاملا إذا كان كمال الصورة الذهنية علامة مؤكدة لوجودها في الخارج، فإن تصورت مثلا جزيرة كاملة وجب أن تكون موجودة وجودا حقيقيا، وإلا كانت أقل كمالا من أية جزيرة أخرى حقيقية. وكان في وسع أنسلم أن يرد على معارضه بقوله إن فكرة الجزيرة الكاملة ليست ضرورة فكرية تفرض نفسها على الذهن فرضا واجبا كما هي الحال في فكرة الإله الكامل، ولكنه دار في رده على جونيلو حول أقواله بعينها يرددها، فلا يضيف إليها جديدا مكررا أن وجود فكرة الكائن الكامل في العقل تقتضي وجوده في العالم الحقيقي الواقع.
ويرد بعض النقاد على «أنسلم» بأنه قد برهن فقط على أنه إذا تصور الإنسان الله كاملا كمالا مطلقا لزم أن يكون الله موجودا حقيقة؛ لأن عدم وجوده نقص في الكمال، ولكن «أنسلم» لم يبرهن على أن العقل مضطر إلى تصور هذه الفكرة الكاملة اضطرارا.
ثم استطرد «أنسلم» فتصدى للإجابة على أعوص المسائل وأشدها تعقدا في النصرانية وهي: لماذا صار الله إنسانا في شخص المسيح؟ وجوابه الذي تقدم به هو أن تجسد الله في الإنسان لم يكن عنه محيص؛ لأن خطيئة الإنسان التي اقترفها في حق الله معتديا بها على جلاله وعظمته قد بلغت من الفداحة حدا عجز معه الإنسان أن يكفر عنها بنفسه، فشاءت رحمة الله أن تغفر لهذا الإنسان الخاطئ العاجز، فتجسد في إنسان هو المسيح، وكفر عن ذنبه ليكون التكفير منه عظيما يتناسب مع فداحة الخطيئة الأولى. (3) وجاء بعد وليم شامبو
William Champeaux
فأيد المذهب الواقعي، ودفع به إلى أقصى حدود الغلو والتطرف، إذ ارتأى أن الكلي (كشجرة ورجل وذهب) يتمتع بكل ما تحمله كلمة الوجود من معنى، فهو شيء واقعي له وجود خارجي، وهذا الكلي موجود بأكمله من غير انقسام ولا تجزئة في الأفراد. والنتيجة المحتومة لهذا القول هي أن أفراد الإنسان كزيد وعمرو ليست إلا أغراضا لذلك «الإنسان» الكلي، وهي إذن متشابهة وليس ما بينها من أوجه الخلاف إلا في الصفات الثانوية. (4) ذلك هو شامبو الذي كان أستاذ باريس في عصره، والذي رن صداه في المدارس الأوروبية جميعا، ولكن شاءت الأيام أن يندحر ويخبو ضوءه على يد تلميذ من تلاميذه، وأعني به بطرس أبيلارد
Unknown page
، ولد قريبا من مدينة «نانت» سنة 1079م، فلما شب أخذ ينتقل من مدرسة إلى مدرسة مدفوعا بما جبل عليه من شغف ملح بالتحصيل وطلب العلم، ثم لم يلبث أن قصد باريس، ليظفر بالتتلمذ على أستاذها الأشهر وليم شامبو، فما كاد ينخرط في سلك مدرسته، حتى نهض يقاوم أستاذه مقاومة حادة عنيفة انتهت بزوال شامبو وتربع تلميذه في منصب الأستاذية الذي كان يشغله، وما زال أبيلارد يعلو حتى أصبح أستاذ أوروبا غير مدافع.
وقف أبيلارد موقفا وسطا بين المذهب الواقعي والمذهب الاسمي، وقرر أن الكلي ليس له وجود منفصل عن الجزئيات، بل هو حال فيه لا باعتباره جوهرا واحدا ممثلا في الأفراد، ولكن باعتباره حقائق متعددة بتعدد الأفراد. وقد أنكر أن يكون الكلي مجرد اسم، بلى هو يحمل من المعاني ما يستمده من المقارنة بين ما تأتينا به الحواس من إدراكات جزئية.
ولعل أبرز جوانب أبيلارد هو تلك النزعة القوية الجريئة نحو تحرير العقل من ربقة العقيدة، فزعم أن العقيدة لا تستطيع أن تحيا حياة مدعمة قوية بغير علم ومعرفة، وقد أهاب بقومه أن يتخذوا من العقل دليلا أهدى دليل، فليتركوا زمام أمرهم في يده يسير بهم أنى شاء، دون أن يحدوا منه أو يقاوموه، حتى لو ذهب بهم إلى معارضة الكنيسة نفسها.
كذلك كان له في التفكير عن المسيح رأي شذ به عن التقليد المعروف، فقد سخر من الفكرة الشائعة حينئذ بأن عفو الله ورحمته لا يكونان إلا بهذه الآلام المبرحة التي تعرض لها ابنه المسيح، فليست حياة المسيح وموته وما لاقى في ذلك من تعذيب سبيلا لاسترضاء الله، واستنزال عفوه عن خطيئة الإنسان، فعفو الله أيسر من ذلك وأقرب، إنما لاقى المسيح ما لاقى إعلانا لما يكنه قلبه من حب الله، عسى أن يثير في الناس عاطفة الشكر وعرفان الجميل ، فيعيدهم إلى طاعة الله.
وقد اتهم أبيلارد بالخروج على مألوف العقيدة، فانعقد لمحاكمته مجلس في سنس
Sens
سنة 1141م، وقضى بإحراق كتابه «التثليث» وأمر به فحبس في دير حتى وافته منيته سنة 1142م. ومما يستحق الذكر عن أبيلارد أنه حين أراد مهاجمة السفسطة الكلامية الفارغة التي أغرم بها المدرسيون نشر لذلك كتابا سماه «نعم ولا» جمع فيه آراء آباء الكنيسة؛ لكي يبين للناس في وضوح وجلاء ما في أقوالهم من تناقض وخلاف. (5) كان أبيلارد من غير شك سابقا لعصره فيما أعلن من وجوب الاعتزاز بالعقل، وما يؤدي إليه، فكان طبيعيا أن يتصدى لنقده ومعارضته كثيرون، لعل أقواهم حجة وأبعدهم نفوذا وصوتا هو برنارد كليرفو
Bernard of Clairvaux (1091-1153م) فقد أنكر على أبيلارد هذا الشذوذ وتلك الإباحة الفكرية التي أجازها لنفسه، وصاح في الناس يحذرهم من ذلك الخطر الداهم فيما يدعو إليه أبيلارد، ذلك المأفون الأحمق الذي يحاول أن يتغلغل بعقله إلى أسرار الدين، وأن يعلو برأيه على ما تواضعت عليه الكنيسة، وألفه الناس من تعاليم.
أما برنارد هذا فلا يتطلب من الإنسان إلا الورع والتقوى، وهو لا يحارب في تحصيل العلم والمعرفة، ولكن على أن يكون الشعور هو السبيل إليها. ويرى برنارد أن هناك طرقا ثلاثا للوصول إلى الحقيقة الإلهية: الأولى بواسطة العقل، وذلك مستحيل ما دام الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فهي فوق مقدوره ومستطاعه. والثانية هي الظن، ولكن ذلك حدس لا يغني عن اليقين. والثالثة هي العقيدة، وهي وسط بين العقل والرأي، فهي تنبع من القلب والإرادة معا، وفي مكنتها أن تتنبأ بالعلم الذي سيتضح للعقل في نهاية الأمر.
ومهما يكن من أمر برنارد، فقد كان عبقريا ممتازا آتاه الله كثيرا من المواهب، فكان غزير العلم، طلق اللسان قوي البيان، ثم كان فوق ذلك كله تقيا ورعا، فمن أجل ذلك كله كان شخصية بارزة في تاريخ الفكر في العصور الوسطى. (4) العصر المدرسي الأرسططاليسي
Unknown page
كانت لتعاليم أفلاطون في الشطر الأول من العهد المدرسي الغلبة والذيوع - كما رأينا - فلما أقبل القرن الثالث عشر أخذت ترجح الفلسفة الأرسططاليسية - فلسفة المشائين - وبدأت تغزو المدارس والجامعات. ولم يكن الانحراف في مجرى الفكر حادثا عرضيا ساقته المصادفة، ولكنه كان نتيجة مباشرة لنهضة فلسفية واسعة قام بها المسلمون، فقدموا للغرب ترجمة ما كتب أرسطو، وكان مجهولا لا يعرف عنه تقريبا إلا كتابه في المنطق، فلم تكد تدرس تعاليم هذا الفيلسوف بما كتب عليها فلاسفة العرب من شروح، حتى اتجه إليها العقل، وأحلها المنزلة الأولى، وأصبح أرسططاليس عندهم يعرف باسم «الفيلسوف».
1 (1) وقد كان إسكندر هيلز
Alexander of Hales
الذي نشأ في دير بإنجلترا، والذي تلقى دروسه في جامعتي أكسفورد وباريس، أول من عرف كتب أرسطو من رجال أوروبا. عرفها قبل أن يظفر بها فردريك الثاني، ويعمل على ترجمتها إلى اللاتينية. وقد قوبلت هذه التآليف أول الأمر من الكنيسة بالحذر والارتياب، ولكن البابا جريجوري التاسع لم يلبث أن أباح لرجال الدين دراستها واستخدامها، ومنذ ذلك العهد ذاعت كتب «الفيلسوف»، واشتد الميل إلى قراءتها، فكانت موضوع البحث والدرس في كل الجامعات الأوروبية. (2) أصبح إذن لأرسطو أشياع وتلاميذ كثيرون، كان أشهرهم اسما وأبعدهم مقدرة ألبرت الكبير
Albertus Magnus (1193-1280م)، وله مؤلفات كثيرة معظمها تعليق على آراء «المعلم». وقد كان ألبرت يعلم حق العلم أن هناك فرقا بين الفلسفة التي اهتدى إليها العقل والدين الذي أتى به الإلهام، ولكنه حاول ما استطاع أن يقرب مسافة الخلف بين الطرفين، ورغم أن كل ما تقوم به الفلسفة صحيح في رأي الدين كذلك، ولكنه اعترف أن بعض عقائد الدين لا يمكن إثباتها بالعقل كالتثليث والتجسيد وما إليهما، وهو لا يتردد في أن يجعل القول الفصل فيما يصادف الإنسان من إشكال أو تناقض، للعقيدة الملهمة دون العقل، فعنده أن الوحي أسمى منزلة من العقل، ولكنه لا يناقضه. (3) وقد شايعه في هذا التفريق بين العقل والإلهام وما يأتيان به من حقائق تلميذه الخالد توماس أكويناس
Thomas Aquinas (1226-1274م) الذي لم يأل جهدا في أن يتخذ من فلسفة أرسطو دعامة تؤيد العقيدة المسيحية.
ليست الفلسفة واللاهوت نقيضين، ولكنهما في حقيقة الأمر خطوتين متتابعتين تكمل إحداهما الأخرى في تحصيل المعرفة؛ فإن الإنسان يبدأ في تحصيلها باستخدام ملكاته العقلية، ثم يتناول هذا الذي حصل فيمحصه بالعقيدة والإلهام، حتى يبلغ به درجة بعيدة من الكمال واليقين. فليس للإنسان محيص عن الوحي يكمل به قواه الطبيعية الناقصة العاجزة بذاتها عن الوصول إلى الحقائق العليا.
توماس أكويناس.
يرى أكويناس أن الإنسان قد استقى علمه عن العالم من مصدرين: هما العقل والوحي، أما إنتاج العقل فقد بلغ الذروة في مؤلفات أرسطو، ثم جاء الكتاب المقدس بوحي من الله عن الموضوعات التي استعصت على عقول البشر، وحسب الإنسان أن يقرأ ما كتبه أرسطو وما هو مسطور في الكتب المقدسة ليعلم كل ما هو جدير بالمعرفة.
كان أكويناس مؤمنا بكل تعاليم الكنيسة، وكل ما قصد إليه من أبحاثه أن يجد أساسا عقليا لعقائده، وبعبارة أخرى كانت مهمته أن يبين العلاقة بين الوحي والعلم، أو بين الوحي والعقيدة، فكان موقفه في النصرانية موقف الغزالي في الإسلام، وقد ذهب إلى أن العقل والعقيدة يرميان إلى غرض واحد، غير أن كلا منهما يسلك طريقا خاصة به، فشأن العلم دراسة ظواهر الكون مستعينا بما يستمده من حواسه، أعني أنه يعتمد في تحصيل العلم على التجربة الحسية، وعن هذا الطريق - طريق الحواس - يستطيع الإنسان أن يصل إلى معرفة الله وخيره وإرادته وقوته، ولكنه بعد معرفة محدودة، ولا بد لها من وحي يكملها، فبالوحي يعلم الإنسان ما هو فوق تلك المعرفة التي جاءته من العالم المحسوس، وعلى الوحي تقوم العقيدة التي يجب التسليم بها كما ينبغي أن نسلم بما يثبته العقل. وإذن فليس العقل والعقيدة ضدين، بل يستحيل أن يكونا كذلك؛ لأن رب الطبيعة هو نفسه رب الوحي وكل ما هنالك من فرق أن العقل وسيلة معرفة الجانب المادي، وأما الوحي فيعيننا على إدراك الله، باعتباره كائنا روحيا، فالعقل والعقيدة ضروريان للإنسان لتتم معرفته وتكمل. غير أن أكويناس يضع العقل في المرتبة الثانية من العقيدة؛ لأنها تسمو على العقل وتفوقه من أجل أنها تدرك المعرفة الروحية التي يعجز العقل عن الوصول إليها عجزا تاما.
Unknown page
يقول الدكتور بيلي
Dr. Baillie
في كتابه تفسير الدين
The Interpretation of Religion
ما يأتي:
هكذا نشأ مذهب العصور الوسطى في وسائل المعرفة؛ العقل والوحي، أي العلم والعقيدة. وبناء على هذا المذهب كما صاغه توماس أكويناس في شكله الأخير، يمكن للإنسان أن يصل إلى الحقائق البسيطة بإحدى طريقين مختلفتين كل الاختلاف؛ بمتابعة البحث العلمي والفلسفي من جهة، وبالرجوع إلى التعاليم المقدسة من جهة أخرى، ومن أمثلة هذه الحقائق البسيطة، وجود الله ووحدانيته وخلود الروح، والحقائق البارزة في نظرية بطليموس عن الكون، وإذن فيمكن للعقيدة والعلم إلى هذا الحد أن يسيرا جنبا إلى جنب، أما بقية الطريق فيجب أن تسير فيها العقيدة وحدها، فلا يمكننا أن نعلم شيئا عن تثليث الله، وعن نظرية الخلق، وعن نهاية الحياة الدنيا، وعن الخطة التي رسمها الله للخلاص، إلا بالرجوع إلى الكتاب المقدس. ولو سمع أرسطو بكل هذه الآراء لعدها من الخرافات، ولكنها كانت في نظر علماء القرون الوسطى حقائق لا تقل عما كان يستطيع العلم أن يبرهن على صحته؛ لأن الإنسان قد وصل إليها بطريقة هو أشد وثوقا بها من طريقة العلم.
ويذهب أكويناس إلى أن الله موجود في كل مكان، فهو حال في كل شيء من غير أن يكون جزءا من جوهره، وقد تم خلق العالم بإرادة من الله، واحتفاظ الله بالكون ورعايته لنظامه عبارة عن خلق مستمر متصل، ولكن إذا كان الله هو خالق الكون، وهو القوة التي توجه الإرادة البشرية، فليس هو الذي خلق البشر. ويرى أكويناس ما ارتآه أوغسطين من قبل، من أن الرذيلة فضيلة سالبة، وبعبارة أخرى إن الشر خير لم ينضج، وقد سمح الله بوجود الشر من أجل الخير، ولكنه لم يرده. (4) وأقوى من تصدى لنقد أكويناس ومعارضته دنس سكوتس
Duns Scotus
الذي ولد في إنجلترا أو إيرلندة حول سنة 1266م أو سنة 1274م على خلاف في ذلك، وتلقى علومه في جامعة أكسفورد، حين كانت معارضة الفلسفة التوماسية على أشدها، ثم كان فيما بعد أستاذا في أكسفورد وباريس وكولونيا، ومات سنة 1308م، ويرى أحد مؤرخي الفلسفة
Windelband
Unknown page
أن سكوتس كان أدق مفكري العصور الوسطى وأعمقهم على الإطلاق.
وبلغ من اتساع الخلف بين أكويناس وسكوتس أن كان لكل منهما أشياع ومؤيدون، فنشأت مدرستان فلسفيتان متعارضتان تعرفان باسمي هذين الزعيمين وهما: التوماسيون
Thomists
والسكوتيون
Scotists .
أما موضوع الخلاف بين هاتين المدرستين فكان هذا: أيهما أشرف مقاما بين قوى النفس: الإرادة أم العقل؟ أما التوماسيون فقد رفعوا من شأن العقل وأحلوه منزلة فوق منزلة الإرادة، وذهب السكوتيون إلى عكس ذلك، فوضعوا الإرادة فوق العقل، وحجة التوماسيين في تفضيل العقل أن العقل لا يقتصر على فهم فكرة الخير فحسب، ولكنه فوق ذلك يعرف ما هو الخير في كل حالة من الحالات، وبتلك المعرفة لناحية الخير يستطيع أن يوجه الإرادة في طريقها. إن الإرادة تجاهد في عمل ما تعلم أنه الخير، وإذن فهي معتمدة على علم الخير، أي على العقل؛ لأنه أداة العلم، ولكن معارضيهم ينكرون هذا القول إنكارا؛ لأنه لو صح لذهبت عن الإنسان كل مسئولية أخلاقية، ولكان مجبرا؛ لأن الإرادة على هذه الحال تكون خاضعة للعقل، لا تملك من أمرها شيئا. إن المسئولية الأخلاقية أساسها أن العقل لا يستطيع أن يضطر الإرادة أو يجبرها على هذا السلوك أو ذاك، ومهمة العقل لا يجوز أن تزيد على أن يعرض أمام الإرادة حالات مختلفة، ولها أن تختار من بينها ما تشاء.
ولم يقتصر الخلاف بين المدرستين في موضوع الإرادة والعقل على الدائرة السيكولوجية في الإنسان، ولكنه اتسع حتى شمل الله، وأصبح الخلاف أيهما أقدم وآصل، إرادة الله أم عقله، وفي ذلك يعترف توماس أكويناس وأتباعه بحقيقة الإرادة الإلهية، ولكنهم يعتبرونها نتيجة ضرورية لازمة للعقل الإلهي، إن الله لا يخلق إلا ما يعلم بحكمته أنه الخير، أي أن علقه يفكر أولا، والإرادة تعمل ثانيا، وإذن فالإرادة الإلهية يحدوها ويسيرها العقل الإلهي. أما دنس سكوتس وشيعته، فيرون في هذا المنظر تحديدا لقوة الله التي يجب أن تكون مطلقة من كل قيد، وأن يكون سلطانها مطلقا لا يقف دونه شيء. إن الله حين خلق العالم لم يخلقه إلا بإرادته وحدها، وكان يستطيع أن يخلقه في أية صورة شاء، وفي إمكانه اختيار هذه الصورة أو تلك، لا يملى عليه شيء خارج إرادته.
ثم لم يقف اختلاف المدرستين عند ذلك، بل تعداه أيضا إلى الأخلاق، فالمدرستان متفقتان على أن القانون الأخلاقي مفروض على الناس من الله فرضا، ولكن التوماسيين يذهبون إلى أن الله قد أمر بالخير لأنه خير، وهو خير لأن حكمته ارتأت ذلك، في حين يرى السكوتيون أن الخير قد أصبح خيرا لأن الله قد أراد له أن يكون كذلك، فقبل أن يأمر به الله لم يكن الخير خيرا، ثم اكتسب خيريته بعد إرادة الله، ومعنى ذلك أن التوماسيين يرون أن الواجب أو الأخلاق نظام معين يمكن للعقل أن يدرك أسسه وقواعده. أما السكوتيون فيذهبون إلى نقيض ذلك؛ حيث يقررون أن العقل عاجز كل العجز عن تحصيل علم الخير؛ لأن معرفته لا يمكن أن تكون إلا بالوحي والإلهام.
وهذا بعينه ما كان من الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة في القرن الثاني الهجري وعبروا عنه بالحسن والقبح، هل حسن الأشياء وقبحها ذاتيان يمكن العقل إدراكهما أو هما شرعيان لا يدركان إلا بالشرع؟ •••
لقد رأيت من هذا أن الفلسفة المدرسية كانت تتجه - على العموم - نحو محاولة التوفيق بين العقيدة والعقل، أي بين الدين والفلسفة، وقد قامت إلى جانب الحركة المدرسية حركة أخرى تتطلب أن يعيش الناس حياة كلها ورع وزهد وعبادة وتأمل، وتعرف هذه الحركة بالحركة الصوفية، ومن أبرز رجالها فرانسيس أسيسي
Unknown page
Francis of Assisi ، كان يرى المثل الأعلى للحياة المسيحية في التأمل والذهول والاستغراق في آلام المسيح، وفي محاكاة حياته المتواضعة محاكاة دقيقة، ومن بينهم كذلك إكهارت
Eckhart
وغيرهما كثيرون.
وكان خاتمة هذه الفلسفة المدرسية وليام أوكام
W. Occam (1270-1349م) أحد تلاميذ دنس سكوتس، فقد كانت آراؤه داعية لانحلال الفلسفة المدرسية، وذلك بمناصرته للمذهب الاسمي وغلوه في ذلك غلوا بعيدا، ومناداته بقصور العقل عن إدراك الحقائق. يقول أوكام: إن كل معرفتنا لا تعدو ظواهر الأشياء، وليس في الكون من الحقائق إلا الأشياء الجزئية الفردية وحدها، أما الكليات فهي ألفاظ فارغة جوفاء لا تزيد في مؤداها عن الرموز الجبرية. ويصرح بأننا لو طبقنا المنطق على التعاليم المسيحية لوجدنا بينها من التناقض شيئا كثيرا، فلندع العقل جانبا، ولنؤمن بما أتى به الوحي، وقد جاءنا الوحي بالعقيدة في الكتاب المقدس، ثم أكدته الكنيسة وأيدته، فليس إذن ما يبرر وجود العقل واستخدامه. (5) نهضة الفلسفة
نهض الإنسان من رقدته وحطم أغلاله التي غل بها طوال العصور الوسطى، وأطلق فكره حرا يستطلع أسرار الطبيعة، ويستجلي أوجه الحياة؛ لعله يجد نفسه، ويحقق وجوده بعد أن أنفق قرونا وهو همل، لا يحسه الوجود، ولا يكاد يحس الوجود. فتعددت نواحي النشاط في الإنسان، وتنوعت ألوان تفكيره، وأخذ يتعقب المعرفة وينشدها لا من أجل الكنيسة ورجالها، ولكن ليظفر بالمعرفة لذاتها.
ولم تكن هذه النهضة الفكرية حادثة مباغتة جاءت عرضا بغير تمهيد، إنما هي نتيجة طبيعية لثلاث حركات كبرى شهدتها أوروبا وهي: بعث الآداب القديمة، والإصلاح الديني، ونشأة العلوم الطبيعية. وليست هذه الشعب الثلاث في حقيقة الأمر إلا مظاهر مختلفة لنهضة واحدة شملت أوروبا بأسرها، فبعثتها بعثا جديدا. (1) أما النهضة الأدبية فهي ثورة جارفة عنيفة قصدت إلى تحرير الحياة مما أصابها إبان العصور المظلمة من عقم وجمود، وأرادت أن تنهض العقل من عثاره، وأن تنفخ فيه روح الحرية والحياة والنشاط، فالتمست له غذاء في آداب اليونان والرومان، وانكب الناس عليها انكبابا واستوعبوها دراسة وبحثا.
ولعل أول من حمل لواء هذه النهضة المباركة هما بترارك ودانتي وغيرهما من رجال الأدب الذين جاءوا آحادا في عهود متعاقبة في أواخر القرون الوسطى، فكانوا طلائع حياة فكرية جديدة بشروا قومهم بقدومها. ومما عجل بظهور النهضة، واستحث خطاها فرار طائفة من علماء القسطنطينية حين فتحها الأتراك سنة 1453م، فلجئوا إلى إيطاليا وغيرها من دول الشمال، فقويت بهم الحركة، واتسع نطاقها، وكان مركزها مدينة فلورنسا بإيطاليا، وبخاصة في عهد رئيس جمهوريتها كوزيمودي مديتشي
Cosimo di Medici
فقد كان عالما وفيلسوفا وفنانا، وبذل جهدا محمودا في حماية الآداب القديمة وبعثها، وأسس لهذه الغاية «أكاديمية» في حدائق قصره.
Unknown page
جاليليو في سجنه. (2) وساير النهضة الأدبية في خطاها حركة إصلاح في الدين نبتت بذورها في ألمانيا، ثم ذاعت منها في سائر الأرجاء، وانتهت بالناس إلى الثورة على الكنيسة وسلطتها، ووجوب حرية الفرد واستقلاله في الرأي، وأن يتصل بالله اتصالا مباشرا، فلا يحتاج في توبته إلى وساطة راهب أو قسيس. فلم تعد بالناس حاجة إلى رجال الدين يتوسطون بينهم وبين ربهم ما دام الإنجيل قد ترجم إلى لغاتهم التي يفهمونها، وما دامت المطبعة التي كان قد تم كشفها حديثا تعمل على نشر كتاب الله وذيوعه نشرا استطاع معه الزارع الحقير أن يقرأ بنفسه الإنجيل، وأن يستوعبه ويحتكم إليه. (3) وتناصر مع هذين العاملين عامل ثالث كان عظيم الخطر بعيد الأثر في توجيه الفكر الحديث، وأعني به نشأة العلوم الطبيعية، ودراسة ظواهر الطبيعة بالتجربة العملية، وكان العالم حينئذ قد امتد أفقه، واتسع نطاقه بكشف أمريكا والطريق البحرية إلى الهند، وبما انتهى إليه كوبرنكوس
Copernicus
في دراسته الفلكية من اعتبار الأرض كوكبا بين كواكب المجموعة الشمسية، وربما اهتدى إليه جاليليو
Galileo
وكبلر
Kepelr
وغيرهما من النتائج العلمية؛ فقد أدى ذلك كله إلى توجيه العقل اتجاها جديدا؛ إذ هبط به عالم الغيب الذي كان يحلق في سمائه، ويخبط في بيدائه، إلى هذه الطبيعة المحسوسة الواقعية التي نلمسها ونراها بالأيدي والأبصار.
أينع العلم وازدهر، وأنتج طائفة قيمة من النظريات الجديدة والمخترعات - كالطباعة، والبوصلة، والمجهر - فكانت أكبر عون للإنسان على إزاحة نير الفلسفة المدرسية عن عاتقه المكدود، واتخذ العصر الجديد أساسا جديدا للبحث هو «التجربة» والملاحظة، وقد كان «ديكارت» و«بيكون» أول من صاح بالناس هذه الصيحة التي جذبت أنظارهم إلى ملاحظة الطبيعة، ونبهت أذهانهم إلى اتخاذ «التجربة» وسيلة للبحث والتحقيق، فلا ينبغي للإنسان أن يقبل شيئا مما يفرض عليه دون أن يخبره بمخبار العقل ويتثبت بالتجربة. وكان طبيعيا أن يتنازع الدين الذي يأمر الإنسان بالتسليم، والفلسفة التي أصبحت لا تقنع بغير التجربة، ولكنه نزاع لم يدم طويلا؛ إذ تركت الفلسفة للاهوت علم الغيب وشئون اليوم الآخر غير المحسوس؛ لأن ذلك خارج عن نطاق بحثها، وقصرت مجهودها على هذه الطبيعة وحدها. فإن كان عمل الدين أن يتحدث عن الغيب كما يبدو في كتابه المقدس، فإن عمل الفلسفة أن تدرس كيف يتجلى الله في الطبيعة المحسوسة، وهكذا بدأت العلوم الطبيعية صوفية النزعة متأثرة بالأفلاطونية الحديثة، فهي العالم كله وحدة إلهية، أو هو كائن حي عظيم، الله مبدؤه ومنتهاه.
بهذا الطابع تميزت الفلسفة في عصر النهضة كما يبدو في أقوال فلاسفة ذلك العصر: برونو
Bruno
Unknown page
وبوهمه الألماني
Böhme
ومونتاني الفرنسي
Montiagne ، وجدير بنا أن نلم بذكرهم إلمامة قصيرة عاجلة. (5-1) برونو (1548-1600م)
ولد جيوردانو برونو
Gordano Bruno
في نولا
Nola (بلد في جنوبي إيطاليا بالقرب من نابلي)، ولم يكد يبلغ سن الخامسة عشرة حتى التحق بأحد الأديرة الدينية، وهنالك درس الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى، فضلا عن نظرية كوبرنيك في الفلك، فما بلغ عامه الثامن عشر حتى أخذ يبدي علائم النفور من بعض تعاليم الكنيسة، ولبثت هذه الثورة تتأجج في نفسه وتضطرم، حتى كان عامه الثامن والعشرون، وعندئذ أعلن شكه، فرماه رجال الكنيسة بالزندقة، ولكنه لاذ بالفرار من ديره، وقضى عامين في إيطاليا متنقلا بين مدنها يكسب رزقه خلالها من اشتغاله بالتدريس، وبعدئذ غادر إيطاليا، وقصد فرنسا، ولكن مقامه لم يطب بها لتعصب الفرنسيين لدينهم، فرحل إلى جنيف، ولكن أولي الأمر فيها لم يسمحوا بإقامته بين ظهرانيهم إلا إذا اعتنق مذهب كالفن الديني، فقفل راجعا إلى فرنسا، حيث لبث عامين أستاذا للفلسفة في جامعة تلوز، وقضى ثلاثة أعوام أخرى في بعض وظائف الحكومة، ثم انتقل إلى إنجلترا في ركاب السفير الفرنسي، وهنالك أقام سنتين كانتا أهنأ فترة في حياته المضطربة، وأوفرها إنتاجا، واضطر إلى العودة إلى باريس مع السفير، ولكنه لم يستطع هذه المرة أن يقيم بين أهلها لما عرف عنه من تشيع لمذهب كوبرنيك فارتحل إلى ألمانيا، وأنفق في ربوعها خمسة أعوام يحاول عبثا في خلالها أن يعين أستاذا في إحدى جامعاتها، وأخيرا جاءته دعوة من نبيل شاب في البندقية هو
Mocenigo ، وشاءت خسة ذلك النبيل أن يشي بالفيلسوف إلى محكمة التفتيش، فقدم للمحاكمة، ولما سئل عن عقوقه الديني أجاب بأنه لا يتردد في قبول كل المذاهب الدينية التي أنكرها من قبل، ثم سئل عن رأيه بأن هنالك من العوالم - غير عالمنا هذا - عددا لا يقع تحت الحصر، وكلها آهل بالسكان، فأجاب بأنه يتمسك برأيه هذا، ولا ينزل عنه مهما أنزلوا به من عقاب، فحكمت عليه المحكمة بالموت «دون أن تراق قطرة من دمه» فأعدم إحراقا بالنار، وقد أقيم له فيما بعد تمثال تذكاري في «نولا» وآخرون في روما في نفس المكان الذي فارق فيه الحياة.
جيوردانو برونو.
Unknown page
قرأ برونو فيما قرأ ما كتبه كوبرنيك في الفلك، فألفاه يميل في جملة رأيه إلى اعتبار الكون محدودا في مكان، فلم يرضه منه هذا الرأي، ونهض من فوره ينشر في الناس مذهبه الفلسفي الذي أساسه أن المكان لا نهائي، وتتحرك فيه أجرام لا عدد لها ولا حصر، وما دام في الكون عدد عديد من الشموس، يدور حولها من الكواكب ملايين وملايين، وكلها يتألف من نفس المادة التي تتكون منها هذه الأرض التي نعيش فوق ظهرها، فمن الخطل أن يحسب الإنسان أن هذه الأرض، أو هذه الشمس للكون الذي يستحيل عقلا على أن يكون له حدود ينتهي عندها، هذا وإن الكون وحدة متصلة لا تنفصل فيها أرض عن سماء، كما ذهب الظن بالناس طوال القرون الوسطى، فكل شيء في الكون وحدة متصل بكل شيء ونفس القوة التي تعمل هنا هي القوة التي تشرف هناك.
إذن فهذا الكون اللانهائي المتحد تشرف عليه قوة لا نهائية واحدة لا تختلف في مكان عنها في مكان آخر، ومجموع هذا الكون بكل ما فيه هو الله، فالله هو مصدر كل شيء وسبب كل شيء. الله هو الكون وهو في الوقت منشئه ومكونه، وكل شيء في الوجود - إنسانا وغير إنسان - مرآة صافية مجلوة تنعكس فيها صور العالم بعنصريه: عنصر العقل وعنصر المادة، وكل ذرة بالغة ما بلغت من الدقة والصغر تمثل الله، وتعلن عن وجوده بظهوره فيها، وهي جسدية وروحية في آن واحد - لأنها صورة من الله - وإذن فهي خالدة تستعصي على الفناء، وكل شيء في الوجود يتبع في سيره ومسلكه قانونه الخاص به، وهو في نفس الوقت يسير وفق قانون عام ينتظم العالم بأسره، كما يدور الكوكب حول محوره وحول الشمس في وقت واحد.
يضيف إلى نظرية ديمقريطس الذرية (التي تقول إن الكون مكون من عدد لا نهائي من الذرات) أن المكان مليء بأثير سيال، وهو يتصور أن هذا الأثير يمكن تقسيمه إلى ذرات (ولو خيالية) لا نهاية لعددها، ويسمي كل واحدة من تلك الذرات الأثيرية
Monad
ومعناها على وجه التقريب «ذرة روحانية» وهذا الأثير هو الذي يعمل على أن تتخذ الذرات المادية أشكالها وصورها.
العالم كله كائن حي، تتغلغل الروح العالمية في كل جزء منه. وينكر برونو أشد الإنكار أن يكون جزء واحد في الوجود بغير روح وحياة وإحساس، ولا شك أن هناك ينبوعا فياضا تتدفق منه الألوان المختلفة من المخلوقات، كما تنبعث الأشعة من الشمس، وإليه تعود كلها مرة ثانية، فالله كل ممثل في الأجزاء، هو حال في نجم النبات الضئيل وهو في حبة الرمل الصغيرة، بل وفي الهباءة السابحة في شعاع الشمس، حلوله في الكون كله باعتباره وحدة متصلة لا متناهية.
فليست طبيعة العالم في رأي برونو إلا هذا الاتساق المنسجم بين أجزائه، والانسجام هو أخص خصائص الكون، ومن يستطيع أن يدرك هذا الاتساق بين أجزاء الكون، وأن يفهمه على وجهه الصحيح، تلاشت أمام عينيه عيوب الأجزاء التفصيلية في جمال «الكل»، وإن من يشكو من قبح العالم أو نقصه لعاجز أن يسمو بنفسه، بحيث يرى «الكل» في انسجامه واتساقه. والعالم كامل لأنه هو حياة الله، فلا يجوز أن يشوبه شيء من نقص. وواجب الفلسفة وغايتها ينحصران في كشف هذا الانسجام التام بين المادة والصورة، وينبغي ألا تكون عبادة الفيلسوف وديانته إلا في تسريح الطرف في جمال الطبيعة الخلاب، فاعبد الله بالنظر في هذا الكون الذي ترى. (5-2) بوهمه
Böhme (1575-1624م)
ولد من أبوين فقيرين، وكان في طفولته يرعى الماشية، فلما شب صار حذاء يصلح النعال البالية، ولكنه امتاز منذ صباه بالتواضع والتقوى وخشية الله ، وكان لا يقرأ من اللغات إلا لغة قومه، ولم يكن يطالع من الكتب إلا الإنجيل، وقليلا من كتب المعاصرين والأسلاف، كان بينهما ما كتبه كوبرنيك في نظام الكون، فذهب معه إلى ما ذهب إليه من استحالة أن تكون الأرض أو أن يكون الإنسان مركزا لهذا الكون العظيم، فليس الإنسان في محيط الوجود إلا قطرة يسيرة.
وقد خالف بوهمه أولئك الذين يزعمون أن طبيعة الله وحدة متشابهة لا يداخلها شيء من تباين أو خلاف، ويرى أن الله هو أساس التنوع والاختلاف بين أنواع المخلوقات المتضاربة المتنافرة، فالوحدة الإلهية فيها عنصران متضادان مختلفان، وكل شيء في الوجود له ضد ونقيض، ولما كان الله هو علة كل شيء، لزم أن يكون في طبيعته هذان الجانبان المتناقضان، ففيه الشر إلى جانب الخير، ولكنه شر وجد ليكشف عن الخير كما يكشف الإناء المعتم ضوء الشمس اللامع، فبغير الشر يستحيل أن يكون هنالك في الوجود حركة أو حياة؛ إذ كانت تنطمس معالم الأشياء التي تميز بعضها من بعض، وكان يستحيل الكون كله إلى وحدة متشابهة رتيبة.
Unknown page
وهذا التضاد بين عنصري الله قد جعلا منه المجرد والمحسوس في وقت معا، ولولا تلك الإثنية في طبيعة الله لما خلق هذا العالم المادي الذي نعيش فيه. (5-3) مونتاني
Montaigne (1533-1592م)
جاءت النهضة الأدبية، فأعلنت معها حرية الإنسان فيما يفكر، وانطلق العقل من قيود الفلسفة المدرسية إلى حيث الطبيعة يجلوها ويتفكر في جوانبها، وسرعان ما تنبه الإنسان إلى قيمة نفسه وعظيم قدره بين الكائنات حتى نشأ لذلك مذهب خاص يعرف بالمذهب الإنساني
Humanism
يرفع الإنسان إلى أرفع المراتب، ويضع مصلحته فوق كل شيء آخر. وكان مونتاني هو لسان هذا المذهب بما آتاه الله من بيان رائع أخاذ، وكان من خير ما أحدثه أنصار مذهب «الإنسانية» نمو الفردية، أعني قوة شعور الإنسان بشخصيته، واعتقاده أنه فرد ذو روح حساسة، له أن يعارض السلطة وذويها، وعليه أن يفكر بنفسه لنفسه.
نظر مونتاني فإذا بالحواس مخطئة فيما تنقل إلى صاحبها من ألوان المعرفة، فهي لا تبعث على اليقين، ولا تقدم إلينا من الحقائق ما نقطع بصحته ونركن إليه ركونا مطمئنا، وهي عاجزة أن تكشف لنا عن طبيعة الكون عجزا يكاد يكون تاما، وليس في مقدور الإنسان أن يصل عن طريقها إلى قانون طبيعي يتفق على صحته الناس جميعا. فلكل فرد نظرة إلى العالم بغير أن تسفر هذه النظرات المختلفة عن معرفة يقينية يقرها الجميع، هذا وليس العقل البشري بأحسن من الحواس حالا، فهو ضعيف أعمى، وعلمه خداع يعتمد على التقليد، وإذن فليس حقيقا أن يتخذ سبيلا إلى المعرفة المؤكدة الثابتة.
الحواس مخطئة والعقل خداع، فلا محيص للإنسان عن الشك والارتياب، وأقل ما يتمتع به الشاك الحرية المطلقة من قيود التقاليد. وهكذا كان مونتاني داعية إلى الشك بين قومه، فلكل إنسان الحق في أن يفكر لنفسه، وأن يتخذ من نفسه حكما لنفسه، لا سلطان عليه ولا رقيب.
الفلسفة الحديثة
رأينا أن وجهة الفكر في القرون الوسطى كانت دينية محضة، وكان الدين هو الذي يحدد أغراض العلم ويسن نظم البحث، وكان البحث الفلسفي إنما يدور حول الآخرة وعالم الغيب، حتى إذا كانت عوامل النهضة والإحياء دعا داعي الثورة والانقلاب، فاشتد الهياج على النظام الموجود، والمبادئ القائمة، وزاد سخط الناس على ما لديهم من عقائد عتيقة، فأعلنت الحرب على كل نوع من أنواع السلطات، وطولب بحرية الفكر، وأصبح الحق في نظر الناس ليس ما اعتبر حقا منذ قرون، ولا ما قال عليه فلان إنه حق سواء كان القائل أرسطو أو غيره، إنما الحق ما برهن لي عليه، واقتنعت بكونه حقا، وبدت طلائع الفلسفة الحديثة التي كانت في أول عهدها أميل إلى الاتجاه نحو الطبيعة، وانصرف الفكر الحديث - بدافع الروح اليونانية - إلى الطبيعة وعلومها ينظر نظرا غير متحيز، وقويت الرغبة في تعرف العالم من جديد.
هذا ولم تكن الفلسفة الحديثة طبيعية فحسب، بل كانت فردية كذلك؛ فقد كان من خواصها لفت عقل الفرد وتحريره من رق رجال الكنيسة، وكان من أغراض الحركة الحديثة تقرير حق الأفراد في الحكم على الأشياء، فلكل فرد أن يبحث وينتقد غير مقيد ذلك بأية سلطة خارجية. ومعنى هذا كله أن النهضة الفكرية قررت أن يكون لعقل الفرد القول الفصل، وعلى هذا الأساس قامت الفلسفة الحديثة، وكان أول من حمل لواءها «بيكون» و«ديكارت».
Unknown page
اتفق هذان الفيلسوفان في الغرض، ولكنهما اختلفا في الوسيلة المؤدية إليه، فبينا يذهب بيكون إلى أن المصدر الوحيد للحقائق هو ملاحظة العالم الخارجي وتجربة ظواهره، إذا بديكارت يعترف بأن يكون العقل معينا تتدفق منه المعرفة إلى جانب العالم الخارجي الذي ينتقل إلينا علمه بالحواس، وكان بذلك بيكون مؤسس الفلسفة التجريبية، كما كان ديكارت واضع الأساس لفلسفة عقلية جديدة. (1) المذهب الواقعي في إنجلترا (1-1) فرنسس بيكون
Francis Bacon
شهدت إنجلترا في القرن السادس عشر عصرا ذهبيا زاهرا بلغ أوجه في عصر الملكة إليصابات، إذ لم تكد تستكشف القارة الأمريكية حتى تحول مجرى التجارة من البحر الأبيض إلى المحيط الأطلسي، فارتفع شأن الأمم المتاخمة لذلك المحيط - إسبانيا وفرنسا وهولندا وإنجلترا - وتبوأت في عالم التجارة والمال تلك المكانة الرفيعة التي كانت تنعم بها إيطاليا من قبل، حينما كانت القارة الأوروبية تتخذ منها ثغرا يبادل التجارة بينها وبين الشرق.
انتقلت التجارة من البحر الأبيض إلى المحيط الأطلسي، فانتقلت معها النهضة من فلورنسا وروما وميلان والبندقية إلى مدريد وباريس وأمستردام ولندن، ثم لم تكد تتحطم القوة البحرية الإسبانية سنة 1588م حتى تخلصت إنجلترا من أقوى منافسيها، فاتسع نطاق التجارة الإنجليزية اتساعا فسيحا، وخفقت أعلامها على متون البحار من أقصى الأرض إلى أقصاها، وأخذت مدنها تعج بالصناعة وتزخر، وبدأ ملاحوها يطوفون حول الأرض روادا كاشفين. وقد شاء الله ألا يكون نهوض الأمة الإنجليزية في عصرها الذهبي مقصورا على انتعاش التجارة، وازدهار الصناعة، وارتقاء الملاحة، بل اتسع حتى شمل الآداب التي أينعت وبلغت أقصى ذراها، وناهيك بعصر يتغنى فيه بالشعر والأدب شكسبير، ومارلو، وبن جونسون، وسبنسر، وغيرهم عشرات وعشرات من أئمة القلم وأرباب البيان.
في ذلك العصر الزاهر الزاهي، ولد فرنسس بيكون في الثاني والعشرين من شهر يناير سنة 1561م في مدينة لندن، من أسرة كريمة مجيدة، فقد كان أبوه السير نكولاس بيكون يتربع في منصب من أسمى مناصب الدولة، وكان نابغا نابها ذائع الصيت واسع الشهرة، فإن يكن قد خفت اسمه فما ذاك إلا لأن ذكر ابنه قد طغى عليه، فبدده في ظلاله كما يقول ماكولي الكاتب الإنجليزي المعروف: فكأنما كانت أسرة بيكون تسير نحو العبقرية صاعدة جيلا بعد جيل، حتى بلغت الذروة في فرنسس بيكون. وكانت أمه سليلة بيت عريق، حصلت من العلم وأصول الدين قدرا محمودا، فأخذت ترضع ابنها من رحيق علمها الواسع، ولم تدخر وسعا في تنشيئه وتكوينه منذ نعومة أظفاره لتخرج منه رجلا قويا. ولما بلغت سنه الثانية عشرة أرسل إلى جامعة كامبردج، حيث لبث أعواما ثلاثة، ترك الجامعة بعدها ساخطا ناقما على مادة التدريس، وطريقته على السواء، فقد كره ذلك الجدل الفارغ العقيم الذي لا ينتهي في أغلب الحالات إلى شيء ذي غناء، وصحت منه العزيمة - وهو ذلك اليافع الصغير - ألا يدخر مجهودا في إنقاذ الفلسفة من ركودها الذي كان يدنو بها إلى جمود الموت، وصمم أن ينقل جذورها من أرض «المدرسية» الجدبة القاحلة فيغرسها في تربة أغنى وأخصب، إلى حيث تكون الفلسفة سبيلا إلى خير الإنسان وسعادته.
فرنسس بيكون.
ولكنه لم يبلغ السادسة عشرة من عمره، حتى انخرط في سلك الوظائف السياسية، فعين في السفارة الإنجليزية في فرنسا، وظل عاملا بها إلى سنة 1579م إذ باغت القدر أباه فعجل بموته قبل أن ينفذ ما كان اعتزمه من توريث ابنه فرنسس ضيعة من أرضه تكفل له اليسر والثراء، فما سمع بيكون بفجيعته في أبيه حتى عاد مسرعا إلى لندن، وكان لا يزال في عامه الثامن عشر، وهنالك ألفى نفسه وحيدا بين اليتم والعدم، وهو ذلك الناعم الذي نشأ بين أحضان الترف، فعز عليه أن يروض نفسه على خشن العيش، والتمس في أعمال القضاء سبيلا للحياة ، وألح في الوقت نفسه على ذوي السلطان من أقربائه أن يهيئوا له عملا في إحدى مناصب الدولة السياسية، لعلها تزيح عن كاهله عبء الحياة الذي ثقل حتى أبهظه وأعياه.
ولكن الله قد أراد للعبقرية ألا يطول بها أمد الخمول، فما هو إلا أن أخذ بيكون يصعد إلى ذروة المجد صعودا متصلا لا يلويه عن طريقه شيء، فقد انتخب سنة 1583م عضوا في مجلس النواب، وسرعان ما جذب إليه الأنظار لبلاغته الساحرة وبيانه الخلاب، فأحبه ناخبوه حبا شديدا، وأعادوا انتخابه عنهم مرة بعد مرة. وهكذا لبث بيكون يشق لنفسه طريقا في معترك السياسة حتى كان عام 1595م فأهداه صديق له معجب بنبوغه، هو الإرل إسكس
Earl of Essex
ضيعة واسعة درت عليه ثروة طائلة عريضة هيأت له أسباب الترف والنعيم. وكانت هذه الهبة العظيمة من ذلك المحسن الكريم جديرة أن تأسر بيكون، ولكن حدث لهذا الصديق الواهب أن فترت بينه وبين الملكة إليصابات ما كان بينهما من روابط وصلات، واستحكمت بينهما الخصومة واشتد النفور، فدبر إسكس هذا مؤامرة خفية يريد بها أن يزج الملكة في ظلمات السجن، ثم يرفع إلى العرش ولي عهدها. وكاشف إسكس بيكون بما صحت عليه عزيمته، وهو لا يشك أنه إنما يكاشف صديقا محالفا سيتفانى في مظاهرته وتأييده، ولكنه لشد ما دهش حين أجابه بيكون باحتجاج صارخ على هذه الجناية الشائنة ضد مليكة البلاد، وبإنذاره أنه سيؤثر ولاءه للملكة على عرفانه للجميل.
Unknown page
مضى إسكس فيما هو ماض فيه، ساخطا على بيكون أشد السخط لهذا الجحود المنكر، ولكن مؤامرته فشلت وقبض عليه، ثم أطلق سراحه، فحشد جيوشا مسلحة، وسار بها إلى لندن، وحاول أن يشب الثورة بين أهلها، وهنا خاصمه بيكون خصومة عنيفة، وأخذ يقاومه ويعارضه ويؤلب عليه القوم، فاندحر إسكس وقبض عليه للمرة الثانية، وكان بيكون قد تربع في منصب كبير في القضاء، فلم يتردد في اتهام الرجل الذي أكرمه وأحسن إليه حتى حكم عليه بالموت.
وإنما نسوق هذه القصة بين بيكون وإسكس؛ لأنها تشغل من كتب التاريخ والأدب فراغا كبيرا، وقد اختلف الأدباء والمؤرخون في موقف بيكون من صديقه. فهذا يهجوه أقذع الهجاء، وذاك يؤيده ويدافع عنه. ولعل أبلغ ما قيل في هذا ما كتبه الشاعر الإنجليزي بوب
في وصف بيكون حيث قال: «إنه أعظم وأحكم وأخس إنسان بين البشر.»
وكان موقف بيكون هذا قد أثار في نفوس قومه نقمة عليه وكراهية له، وكانوا جميعا يتربصون به الدوائر، ويصبون عليه السخط والغضب، ولكنه ازدرى بالناس، ومضى غير عابئ بما تكنه له صدورهم من غل، وأخذ يروح ويغدو بين مظاهر العظمة التي أغرم بها، فأسرف فيها إسرافا أدى به إلى الاستدانة، حتى سيق آخر الأمر إلى السجن وفاء لدين عجز عن وفائه، ولكن نجمه رغم ذلك كله أخذ في الصعود حتى ظفر بأعلى مناصب الدولة وأرفعها مقاما.
وقد شاء القدر لهذا الرجل الذي وضع أساس المذهب التجريبي أن تكون التجربة آخر مشهد له في حياته الزاخرة، فقد حدث في شهر مارس من سنة 1626م، أن كان مسافرا من لندن إلى إحدى المدن القريبة، فأخذ يفكر تفكيرا عميقا في إمكان حفظ اللحم من التعفن بتغطيته بالثلج، وأراد رجل التجربة أن يجرب ذلك بنفسه، فنزل من عربته عند كوخ صادفه في بعض الطريق، وابتاع منه دجاجة ذبحها وملأها بقطع الثلج ليرى كم تعيش الدجاجة دون أن يصيبها الفساد، وبينا هو مشتغل بذلك إذ داهمه مرض مفاجئ أعجزه عن أن يعود إلى لندن، فنقل إلى منزل مجاور لأحد الأثرياء، حيث رقد رقدة الموت، وقد كتب على سرير الموت هذه العبارة: «لقد نجحت التجربة نجاحا عظيما.» وكان ذلك آخر ما خطه قلمه، ثم أسلم الروح في التاسع من أبريل سنة 1626م وهو في الخامسة والستين، وقد كتب هذه الجملة قبل موته: «إنني أضع روحي بين يدي الله وليدفن جسدي في طي الخفاء، وأما اسمي فإني باعث به إلى العصور المقبلة وإلى سائر الأمم.»
وها هي العصور والأمم قد تقبلت اسمه بالتمجيد والتخليد. (1) مقالات بيكون
صعد بيكون في مناصب الدولة منصبا بعد منصب حتى بلغ أوجها، فكاد يحقق بهذا حلم أفلاطون عن الملك الفيلسوف الذي يجمع في شخصه الفكر والسلطان جميعا؛ ذلك لأنه بينما كان يرقى في المناصب السياسية كان كذلك يرقى في فلسفته حتى بلغ منها أرفع الذرى، فالتقى فيه الطرفان اللذان تمنى أفلاطون أن يلتقيا يوما في إنسان، وهما المعرفة والنفوذ. وإنه لعجيب حقا أن تتسع حياة هذا الرجل الزاخرة الصاخبة لما أنتجه من علم وافر وأدب غزير. فليس هينا ولا يسيرا أن توفق بين حياة الفكر والتأمل التي لا بد لها من الفراغ والهدوء، وبين الحياة السياسية التي تقتضي صاحبها أن يخوض غمار الحياة العملية بكل ما فيها من صخب وضجيج، ولكن بيكون قصد منذ أول الأمر إلى الحياتين معا، فأراد أن يكون كما كان «سنكا» فيلسوفا ورجلا من رجال السياسة أيضا، على الرغم من خوفه أن يحد هذا من ذاك فيقصر في كليهما على السواء. ولبث يتردد حينا أيهما يؤثر: أيؤثر حياة العزلة والتأمل، أم يؤثر الضرب في معمعان الحياة العملية؟ وتساءل: ألا يستطيع أن يمزج بين الحياتين؟ ولكن موقف التردد لم يطل، فقد أيقن يقينا ثابتا لا يتزعزع أن من السخف أن تكون الدراسة النظرية غاية في نفسها، وأن تكون حكمتها محصورة فيها؛ لأن العلم الذي لا يجد طريقه إلى التطبيق العملي ليس إلا عبثا وغرورا. وفي ذلك يقول بيكون في مقاله «في الدراسة» ما يأتي: «... أما أن تنفق في الدراسة (النظرية) وقتا طويلا فضرب من الخمول، وأما أن تزدان بها فحب للظهور، وأما أن تصدر في رأيك عن قواعدها وحدها دون غيرها، فذلك جانب الطرافة من العالم ... إن الدراسة (النظرية) لا تعلم كيفية استخدامها؛ إذ استخدامها حكمة خارجة عنها، وهي خير منها، وتكتسب بالملاحظة.» ولعمري إن هذه الأسطر القليلة التي جرى بها يراع بيكون لصيحة داوية تضع حدا للفلسفة المدرسية؛ لأنها تنادي بالتفرقة بين العلم واستخدامه، وهي ترفع من شأن الملاحظة والنتائج العملية للدراسة العلمية، وتلك سمة تميز الفلسفة الإنجليزية تمييزا واضحا. وضع أساسها بيكون، وما انفكت تتسع وتزداد حتى بلغت نهايتها في فلسفة البراجماتزم في العصر الحديث. ولكن هذه الدعوة إلى التجربة العملية التي صاح بها بيكون ليست تعني أنه رغب عن الكتب، وانصرف عن حياة التأمل ، بل بقيت الدراسة والتفكير موئله الذي يلجا إليه الحين بعد الحين، فاسمع إليه كيف يقول في مقدمة كتاب «حكمة القدماء»: «إنني لا أطيق الحياة بغير فلسفة.» ثم اقرأ هذه العبارة التي يصف بها نفسه: «إنني رجل خلقت أقرب إلى الأدب مني إلى أي شيء آخر.»
نعم كان «بيكون» إلى جانب الحياة العملية مفكرا عميق الفكر كاتبا رائع البيان، وأجمل إنتاجه الأدبي طائفة من «المقالات» دبجها بأسلوب بارع أخاذ، حتى جاءت في جمال لفظها وجمال معناها مجموعة نفيسة نادرة من أروع ما أنتجه الفكر الإنساني منذ نشأته إلى اليوم. فقد بلغ فيها من جودة النثر ما بلغه شكسبير من روعة الشعر. وإن كانت الكتب تنقسم إلى مراتب ثلاث كما قال بيكون: «بعض الكتب ينبغي أن يذاق، وبعضها يجب أن يزدرد، وبعضها القليل خليق أن يمضغ ويهضم.» لقد كانت «مقالاته» بغير شك من هذا القليل النادر الذي يستحق المضغ والهضم. وهي في مجموعها صورة صادقة دقيقة لكاتبها، تمثل جوانبه كلها ففيها تصوير لفلسفته الأخلاقية التي تنزع إلى القسوة المكيافيلية أكثر منها إلى الحب المسيحي، وتصوير لنزعته الدينية التي يذهب فيها إلى العقيدة بأن العقل يكفي وحده دون الوحي والإلهام لتنظيم الكون. وقد اتهمه معاصروه بالإلحاد، ولكنه ينكر ذلك في مقال كتبه في الإلحاد يقول فيه: «... إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان؛ ذلك لأن عقل الإنسان قد يقف عند ما يصادفه من أسباب ثانوية مبعثرة، فلا يتابع السير إلى ما وراءها، ولكنه إذا أمعن النظر فشهد سلسلة الأسباب كيف تتصل حلقاتها لا يجد بدا من التسليم بالله.» وأما رأيه السياسي كما يظهر في «المقالات» فهو محافظ جامد، وليس ذلك بعجيب من رجل يطمح إلى مناصب الحكم، فهو لهذا ينشد قوة مركزية متينة، ويرى أن الملكية خير أنواع الحكومة، وهو يحب الحرب، ولا يميل إلى السلم، ولذا تراه يسب تقدم الصناعة التي أخذت في عهده تنتشر في أنحاء البلاد انتشارا واسعا؛ لأنها تبعث على السلام الذي يقتل الشهامة والشجاعة في الرجال.
1
وينصح بيكون كما نصح أرسطو من قبله باجتناب الثورات ما أمكن ذلك. وخير سبيل لهذا هو التوزيع العادل للثروة بين الناس: «إن المال كالسماد لا يجود إلا إذا انتشر.» ولكنه لا يرمي بهذا إلى اشتراكية أو ديمقراطية؛ لأنه لا يؤمن بمقدرة الدهماء الذين بلغ من ازدرائه لهم أن قال: «إن أخس ضروب الرياء هو مصانعة الدهماء.» «ولقد أصاب فوقيون
Unknown page
حين أبدى الدهماء إعجابهم به في أحد مواقفه، فتساءل: ترى أي خطأ أتيت؟» يشير بهذا إلى أن عامة الشعب لا يمكن أن يتعلق إعجابها بالعمل الكامل، ولا تصفق إلا لنقص. لذلك لا يريد بيكون أن تسود المساواة بين الناس جميعا، ويقترح أن يمنح المزارعون ملكية أرضهم، ثم يقوم على رأسهم أرستقراطية تدبر أمرهم، ثم يحكم هؤلاء وأولئك جميعا ملك فيلسوف، ولعله تمنى أن يكونه. (2) أساسه الجديد في البحث
كانت الفلسفة طوال القرون الوسطى تقوم على أساس خطأ لا يمكن أن يؤدي إلى علم جديد، فقد اتخذت القياس المنطقي سبيلا لتأييد المذاهب والآراء، (والقياس المنطقي وسيلة عقيمة في كثير من وجوهه؛ لأنك مضطر أن تسلم بمقدماته تسليما لا يجوز فيه الشك)، فمهما أمعنت في البحث والاستنتاج فأنت محصور في حدود المقدمات التي سلمت بها بادئ بدء، فإذا أريد الإصلاح وانتشال الفلسفة من الهوة التي تردت فيها، فلا بد من ثورة تهدم أسلوب البحث العتيق البالي، لهذا نهض بيكون ووضع أساسا جديدا للبحث كانت أولى خطاه الملاحظة والتجربة، وقد اشترط فيهما أن تستخدما في بطء شديد، وحذر شديد، والبطء والحذر هما أبرز ما يطبع بيكون بطابعه الخاص الذي يميزه من أسلافه في العصور الوسطى والقديمة، فكثيرا ما بدأ الفلاسفة بالملاحظة، ولكنهم كانوا يفسدون هذا البدء الصحيح بالتسرع بأن يقفزوا من ملاحظة الجزئيات إلى الأحكام الكلية العامة قفزا لا يحتاطون فيه بالحذر، فقد كانت تكفيهم مجموعة قليلة من الأمثلة التي يستجمعونها بالملاحظة ليقيموا على أساسها ما شاءوا من نظريات فلسفية عامة، أما بيكون فيحذر الناس ويوصيهم بالأناة والصبر، فلا يبدءون في مرحلة التعميم إلا إذا جمعوا من الأمثلة الجزئية أكبر عدد مستطاع.
أراد بيكون أن يضع للعقل الإنساني خطة جديدة يسير عليها، ولكنه قبل أن يقوض الأطلال القديمة ليقيم في مكانها بناءه الجديد، عمد إلى تطهير العقول من كل ما يشوبها من تعصب وجمود، فإن أردنا أن نفكر تفكيرا سليما، وأن نبحث بحثا منتجا صحيحا، فلا بد أن نتخلص من هذه الأخطاء والأوهام الباطلة التي تحول دون سلامة التفكير. (3) الأوهام الأربعة
Idols
2
يريد بيكون بادئ بدء أن يسجل عوامل الخطأ، وأسباب الزلل قبل أن يمضي في رسم خطته الجديدة، وهو يحصرها في مجموعات أربع يطلق عليها هذه الأسماء: (1)
أوهام الجنس
Idols of the race . (2)
أوهام الكهف
Idols of the cavs . (3)
Unknown page