هوامش
السيد المبارز
لقد آن لنا أن نتجه إلى أعداء العرب في الشمال ، وقد ذكرنا آنفا ما كان من أمر (بلاي)، وكيف أنه جمع ما بقي من القوط في كهفه الذي لا ينال ومعقله بصخرة جبال (أستورياس)، وكيف أن هذه الفئة القليلة اجتازت بعد قليل حدودها، وشجعها على التحدي والنضال ما شجر من الخلاف بين قبائل البربر، الذي انتهى بهزيمتهم عند الحدود الشمالية للدولة العربية.
جدد شيء من ذلك الحياة في هذه الفئة وقوى من عزمها، فاستعادت بالتدريج أكثر الأراضي التي في شمال جبال وادي الرمل، وأسست مملكة ليون، ومقاطعة قشتالة، وكان مملكة نافار تبعد نحو الشرق عند سفح جبال البرت (البرانس)، وذكرنا أيضا كيف أن هذه الممالك المسيحية كانت في حرب مستمرة مع جيرانها المسلمين، وأنه كان في باب الظن أن تكون هذه الحروب خطرا على العرب لولا ذلك الانقسام المستمر والخلف الدائم بين المسيحيين، مما حمل بعض ملوكهم أن يلتزم الحيدة ويتجنب القتال، وكان من السهل اليسير على المسلمين أن يصونوا دولتهم مهيبة عزيزة الجانب لو بقيت مملكة قرطبة قوية غير متفرقة الأهواء، ولكن حينما سقطت قرطبة وأصبحت الأندلس نهبا مقسما بين ملوك الطوائف الذين لم يفكروا إلا في أنفسهم أولا، ثم - إذا دعت الحال - في المملكة الإسلامية - تجرأ النصارى وتمكنوا من أن يستعيدوا من العرب عددا غير قليل من البلدان، وقد شهدنا كيف أن النصارى زحفوا على أرض المسلمين بجيوشهم المظفرة، وضربوا الإتاوات على أعاظم ملوكهم، حينما ازداد الاضطراب وعمت الفوضى في القرن الحادي عشر، وأصبح لكل مدينة دولة ولكل دولة أمير ووزراء، في هذا الوقت جمع فرديناند الأول القسم الأعظم من الشمال تحت رايته، فألف بين الولايتين المتعاديتين: ليون، وقشتالة، وأضاف إلى ملكه أستورياس، وغاليسية، وكان في هذا الحين أقوى ملك بإسبانيا جميعها، وقد ضم إلى مملكته مدن البرتقال: لورميجو، وبازو، وقلمرية، وأخذ الإتاوات من ملوك سرقسطة، وطليطلة، وبطليوس، وإشبيلية.
نعم، إن رأيه السقيم في تقسيم مملكته بين أبنائه الثلاثة وبنتيه جر على الشمال بعد موته ويلات متصلة الحلقات من الحروب الأهلية، ولكن ألفونسو السادس «الشجاع» تمكن في النهاية من ضم أشتات المملكة فانتعشت القوى المسيحية، وأصبح تغلبها على أعدائها من الحتم المحقق.
ولم يمنع المسيحيين من قهر الأندلس واستردادها في هذا الحين الذي ضعفت فيه العرب إلا ما كان يبعث به إليهم ملوك الطوائف من الرشا التي تأبى على الحصر ليشتروا بها كفهم أو عونهم، وإلا ما كان يظهر في الأفق البعيد من جيوش المرابطين، وعلى أية حال لم يكن ملوك الطوائف حكاما مستقلين؛ لأنهم وقعوا بين شقي رحا: من الخوف من ألفونسو، ثم من الخوف مما هو أعظم خطرا من ألفونسو، وهو تغلب حلفائهم المرابطين، ولكنهم في النهاية اضطروا إلى اللجوء إلى المرابطين.
ويظهر لنا في هذا الوقت تدخل النصارى في أكثر شئون المسلمين السياسية، ونرى التحالف بين الفريقين مشتبك العرا، وأن كثيرا من جنود النصارى المرتزقة كانوا ينضمون إلى جيوش العرب في حروب مدمرة للولايات المسيحية، وأن كثيرا من العرب كانوا يعينون جيوش النصارى على إخوانهم المسلمين.
وقد نخطئ خطأ بالغا إذا قدرنا لجنود ليون وقشتالة منزلة تقرب من المثل الأعلى للبطولة والفروسية، وأكبر في باب الخطأ أن نتخيلهم رجالا مهذبين مثقفين، فإن نصارى الشمال كانوا من كل وجه على النقيض من منافسيهم العرب؛ لأن العرب - وإن قدموا الأندلس في جفوة طبائع القبائل وخشونتها - رقت أخلاقهم بالاختلاط بالأندلسيين، وبميلهم الطبيعي إلى المرح والترف، فوصلوا إلى قمة المدنية وأغرموا بالشعر والأدب، وتجردوا لطلب العلم، وأحبوا فوق ذلك أن يتمتعوا بكل لذائذ الحياة.
وقد كان ذوقهم العقلي والأدبي مرهفا دقيقا، وكان لهم ذلك الإحساس الذي لا يشعر به من نشأ نشأة سامية في العلم والأدب، وقد كانوا واسعي التصور خياليين شعريين مفكرين، يمنحون من المال على مقطوعة شعرية رائعة ما يكفي للإنفاق على فرقة من الجنود، وكانوا ينظرون باحتقار إلى أقوى ملوكهم وأشدهم بطشا إذا لم يكن شاعرا، أو لم يوهب له ذوق فهم الفكاهة الشعرية والبلاغة العربية، ومنح هؤلاء القوم البارعون استعدادا طبيعيا في الموسيقى، والخطابة، ودقائق العلوم، والنقد، وإدراك التوريات البعيدة التي نعدها اليوم من ميزات الأمة الفرنسية.
أما نصارى الشمال، فكانوا على الخلاف من ذلك بقدر ما يتصور العقل من خلاف، كانوا في بداوة الأمم الناشئة على الرغم من أنهم أخلاف أمة قديمة، فكانوا جفاة غير مثقفين، وقليل من أمرائهم من كان له حظ من مبادئ العلم، وكانوا من الفقر وعسر الحال أعجز من أن يتمتعوا بفنون الرفه التي يتمتع بها أمراء العرب، غير أنهم كانوا رجال حرب وجلاد، لا يقل نزوعهم إلى القتال عن نزوع أعدائهم المسلمين، وقد يفوقون هؤلاء في استعدادهم للنضال واحتمالهم الحرب الطويلة الأمد، وجرأتهم اليائسة المستميتة.
Unknown page