تقديم
آخر أيام القوط
موجة الفتح
الأندلسيون
الشاب الداخل
النصارى الشهداء
الخليفة العظيم
الحرب المقدسة
حاضرة الخلافة
الحاجب العظيم
عودة البربر إلى الحكم
السيد المبارز
مملكة غرناطة
سقوط غرناطة
ظهور الصليب
تقديم
آخر أيام القوط
موجة الفتح
الأندلسيون
الشاب الداخل
النصارى الشهداء
الخليفة العظيم
الحرب المقدسة
حاضرة الخلافة
الحاجب العظيم
عودة البربر إلى الحكم
السيد المبارز
مملكة غرناطة
سقوط غرناطة
ظهور الصليب
قصة العرب في إسبانيا
قصة العرب في إسبانيا
تأليف
ستانلي لين بول
ترجمة
علي الجارم
عاثت بساحتك الظبى يا دار
ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر
طال اعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت النوى بقطينها
وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها (لا أنت أنت ولا الديار ديار)
ابن خفاجة الأندلسي
تقديم
شغف الناس في القديم والحديث بتاريخ العرب في الأندلس، ووجدوا في قراءته والاستماع لأحاديثه لذة روحانية عجيبة لا يجدونها في سواه، ولعل من أسباب هذا الشغف أنهم يقرءون فيه قصة رائعة للبشرية تتقلب فيها أحداث الزمان، وتصطخب صروف الأيام، ويداول الدهر فيها بين شطريه، فهو مرة صفاء لا يشوبه كدر، وابتسام لا تحوم حوله جهومة، وأمن لا يخالطه حذر، وعز راسخ، وقوة، وسلطان، ونعيم، وملك كبير، وهو في أخرى هم، ونصب، وخذلان، وبلاء مستطير.
إن قصة الأندلس عجيبة حقا، مثيرة للنفس حقا، فيها من أحاديث البطولة والإقدام ما يعجب له العجب، ويهتز له عطف العربي الكريم، فيها جرأة طارق، وإقدام عبد الرحمن الداخل، وعزيمة الناصر، وعبقرية المنصور، وفيها إلى جانب كل هذا أمثلة رائعة للصبر حين البأس، وللجلد على أشد المكروه، وللتمسك بالعقيدة والسيف معا فوق الرءوس، وللثبات في مأزق يفر فيه الشجاع.
وقصة الأندلس - ككل القصص - كما تصور الرجولة تستهوي النفوس وتسحر العيون، ترسم إلى جانبها الفسولة والجبن، والحقد والنفج الكاذب، والشره في حطام الدنيا الزائل، وبيع النفوس للشهوات في أقبح ما يصوره المصورون.
وتاريخ الأندلس كله عراك ونضال وصخب، لا تكاد تقلب صفحة من صفحاته حتى تسمع قعقعة السيوف، وصليل الرماح : صراع بين ملوك المسلمين، وصراع بينهم وبين نصارى الشمال، وصراع بين الأجناس والقبائل، وصراع بين العقائد والمذاهب، ثم صراع أخير بين الحياة والموت، وبين الأذان والناقوس.
ومن العجب أنك على الرغم من هذا الاضطراب الشامل، تقرأ في قصة الأندلس صحائف من ذهب، تتجلى فيها مدنية العرب معجزة من المعجزات وآية من الآيات.
فلقد كانت الأندلس في العصور الوسطى شعلة النور ومنار الهداية، وكانت جامعاتها بقرطبة، وإشبيلية، وغرناطة، وغيرها ملتقى طلاب العلم من الشرق والغرب، وكان فيها للأدب والشعر والفنون عامة منزلة لم تكد تصل إليها أمة، وإذا تحدثنا عن فنون العمارة، والهندسة، والنقش، وغيرها، طال بنا الكلام، وخرجنا عما قصدنا إليه من الإيجاز.
إن سقوط الأندلس لم يكن إلا سقوط النجم المتلألئ اللامع، وانهيار الجبل الأشم الراسخ، وإن دولة في الأرض لم تشيع بعبرات العيون، وحسرات القلوب، كما شيعت الأندلس، ولم يبك الشعراء ملكا طواه الزمان كما بكوا ملك الأندلس، ولم يقف المؤرخون وهم يدونون خاتمة أمة حاسري الرءوس خاشعين، يرسلون الزفرات - كما وقفوا عند قبر دولة العرب بالأندلس.
خفقت الجوانح بحب الأندلسيين على الرغم مما يزعمه التاريخ من أنهم أعطوا ملكا فلم يحسنوا سياسته، واستناموا إلى الشهوات، واستعان بعضهم على بعض بالأعداء، على أنه يجدر بأهل الرأي ألا يتعجلوا في الحكم على أهل الأندلس وهم لم يعيشوا في بيئتهم، ولم يدرسوا أتم الدرس الأحوال التي مرت بهم، ولم يدققوا النظر في نظام الحكم الذي التزمته الأمم في هذه الأزمان.
إن المسلمين بالأندلس كانوا في أرض غير أرضهم، وفي إقليم اجتمعت فيه كل صنوف الفتنة والجمال، وكان أعداؤهم من الإسبان يحيطون بهم من كل جانب، وأعداؤهم في المشرق ينصبون لهم الحبائل، أفبعد هذا نصب عليهم اللوم حميما، ونحملهم وزر تصاريف الزمان، وتحكم البيئة، وسيطرة الأحوال التي وضعتهم فيها يد القدر؟!
إن العرب عاشوا في هذه الفتن الجائحة نحو ثمانمائة عام، قل أن تستطيع أمة سواهم البقاء في مثلها، ليقل الشعوبية ما شاءوا، وليقس ابن خلدون وأمثال ابن خلدون على العرب كما أرادوا، أليس من التجني على الحقائق أن يدعي ابن خلدون أن العرب لا يصلحون لسياسة الأمم، وأنهم أمة جهل وتدمير، وأنهم إذا نزلوا بلدا أسرع إليه الخراب؟!
إن سماحة حكم العرب بالأندلس، وجمال مدنيتهم، واتساع مدى ثقافتهم أسمى من أن يصل إليه إنكار منكر أو جحود جاحد، وإن في آثار قرطبة، وإشبيلية، وغرناطة - التي لا تزال ماثلة إلى اليوم من معجزات البناء والهندسة - ما يخجل كل من يدعي أن أمة العرب أمة خراب وتدمير، وأنهم يهدمون القصور ليتخذوا من أحجارها أثافي للقدور، ومن خشبها أوتادا للخيام، أين هذه الأثافي وأين تلك الخيام من جنات الأندلس الباسمات، وقصورها الشامخات؟! ثم أين هي من عظمة دمشق أيام الأمويين، وجمال بغداد في حكم العباسيين، وازدهار القاهرة في عهد الفاطميين؟!
إن العرب يبنون ولا يهدمون، وإن الهدامين لآثارهم ومدنياتهم إنما هم أعداؤهم من البربر، والإفرنج، والتتار، وغيرهم، وإذا كانت دول العرب قد منيت بالانحلال السريع في الشرق والغرب، فإن أكثر السبب في هذا - فيما يغلب على الظن - إنما يعود إلى نظام الحكم الذي كان قائما، لا إلى طبائع العرب أنفسهم، ولو نظرنا في عهودهم إلى الأمم حولهم في أقطار الأرض، لرأينا أنها أصيبت بما أصيب به العرب.
والآن نعود إلى قصة الأندلس فنرى أن ما كتبه الأولون فيها لا يشفي نفس القارئ، ولا يبل غلته، وهذا كتاب نفح الطيب - وهو خير كتاب ألف في تاريخ الأندلس - كله اضطراب، واستطراد، وتكرار، والتواء، وتشتت؛ لهذا كانت خزائن الكتب العربية في أشد الحاجة إلى مثل كتاب «إستانلي لين بول» الذي سماه قصة العرب في إسبانيا، والذي قرأته فأحسست بدافع نفسي يلح بوجوب ترجمته إلى لغة العرب، وشعرت بأن النكول عن هذه الرغبة عقوق لحسبي وقومي وتاريخي، وإذا كان هذا القلم الذي جردته أربعين عاما لا يجيد إلا تنميق قصيدة في الغزل، أو المديح، أو الرثاء، ولا يصول إلا فوق صفحات من الأدب واللغة، حتى إذا جاء كاتب إنجليزي محقق فألف كتابا بلغته فيه إنصاف للعرب وتاريخهم ، وفيه إشادة بحكمهم وعلمهم وأدبهم وحضارتهم - انكمش في دواته وأدركه الحصر، فأجدر بهذا القلم أن يحطم، وأحرى بسنانه أن يقصف، وأخلق بصاحبه ألا يباهي مرة أخرى بعروبته!!
إن إستانلي لين بول يحب العرب ويتغنى بمجدهم، ويؤلف لأبناء أمته في تاريخهم كتابا، أو قل قصيدة طويلة الذيول كلها ثناء وإطراء، وحب وإعجاب، وعطف وحنان، ولوعة وبكاء، فهل كان يصح في حكم البر بالعربية أن يبقى أبناؤها محجوبين عن هذا الكتاب دهرا طويلا؟!
ترجمت الكتاب فارتاحت نفسي؛ لأني في حين واحد أذعت فضل العرب على لسان رجل ليس منهم، ثم أذعت فضل هذا الرجل؛ لأنه جدير بإعجاب العرب.
أما طريقة لين بول في التأليف فجامعة بين التحقيق العلمي وربط الحوادث بعضها ببعض، وتأدية قصة الأندلس كاملة متصلة الأواصر، في أسلوب شائق وسياق رائع، فإنه بعد أن قرأ تاريخ الأندلس في مراجع شتى بين عربية وإفرنجية، ولقي ما لاقى في اجتياز ذلك الخضم المضطرب بالروايات والحوادث - استطاع أن يخرج للأدب والتاريخ قصة بديعة الأسلوب، متماسكة الحلقات، لها - مع صدق حقائقها - كل ما للقصص الخيالية من فتنة وسحر.
وقد يداخلك بعض الريب في أن المؤلف متعصب للعرب، محتطب في حبلهم؛ لأنك تراه يقتنص الفرص أو يخلقها للإشادة بدينهم، وسياستهم للأمم، ثم بآدابهم ومدنيتهم التي يعدها شعلة النور في أرجاء أوربا بعد أن خمدت مدنية الرومان، وزالت حضارة اليونان، ثم إنه رسم لعبد الرحمن الداخل، والناصر، والمنصور بن أبي عامر صورا من القوة والحزم، والعدل والدهاء، لم يستطع مؤرخ عربي أن يجمع ألوانها، وإذا غمز بعض المحسنين من الأمراء بنقد، كان خفيف المس رفيقا، حتى إنه لم يبخل بفضلة من عطفه على ملوك الطوائف الذين بددوا شمل الدولة، فأحسن رثاء دولتهم، وبكى فيهم الهمة والسخاء، وإنهاض العلوم، وإعلاء شأن الأدب والشعر، أما حديثه عن مملكة غرناطة وأفول شمس العرب بالأندلس، فلم يكن إلا أنات وزفرات ودموعا.
وقف على أطلال الأندلس كما يقف العاشق المحزون، فبكى مدنية زالت، وفنونا بادت، وعزا طاح مع الرياح، وملكا كأن لم يمض عليه إلا ليلة وصباح، ومجالس أنس كانت نغما في مسامع الدهور، ودروس علم هرعت إليها الدنيا وتلفتت العصور.
نعم، إن إستانلي لين بول كان يحب العرب حقا، ولكن هذا الحب لم يجاوز به الحق، ولم يخدعه عن نفسه، ولم يسلبه صفة المؤرخ المحقق، وكل ما في الأمر أنه كان صريحا في نشر الحقائق، فصدع بها حين أنكرها أو شوه من جمالها كثير ممن يكتمون الحق وهم يعلمون، إن لين بول لم يكن متعصبا للعرب، ولكنه كان لهم منصفا، وعلى تاريخهم أمينا، ولهم أخا وصديقا، حين قل الأخ وعز الصديق، على أن في الكتاب عتابا في مواطن العتاب، ولوما في مواضع اللوم، وتعنيف المحب المخلص حين يحسن التعنيف.
ومما تجمل الإشارة إليه أن المؤلف في حديثه عن الإسبان خاصة وأهل أوربا عامة، إنما كان يتحدث عن حياة قوم في العصور الوسطى، أو في أيام حكم البربون، قبل أن يتسع نطاق المدنية، وينبلج فجر العصر الحديث الذي غير كثيرا من أخلاق الناس وعقولهم ونظرهم إلى الأشياء، فإذا نقد المؤلف رجال العهود الماضية بأوربا وإسبانيا، فإنه لن يتردد اليوم في الحكم بأن الزمن دار دورته، وأن التاريخ لو نظر إلى الخلف لرأى مدنية جديدة وقوما آخرين.
وقد قصدت في ترجمة هذا الكتاب إلى ترجمة المعاني مع الحرص على الروح التي أملته، فإن لكل لغة بيانا، وحسب النقل أن يدرك الغاية، ويصيب اللباب، والله سبحانه المستعان.
علي الجارم
جزيرة الروضة
7 من أكتوبر سنة 1944
آخر أيام القوط
بقيت بلاد العرب آمنة مطمئنة لها عرين، ولا يباح حماها، عندما كانت جيوش الإسكندر الأكبر تغير على الإمبراطوريات الشرقية القديمة؛ فلزم سكان شبه الجزيرة العربية صحراءهم في عزلة وأنفة، لا يبعثون إلى الفاتح العظيم رسلا، ولا يقدمون إليه طاعة ولا خضوعا، وعقد الإسكندر العزيمة على إذلال هؤلاء العرب المستكبرين، وأخذ الأهبة لغزوهم ووطئهم تحت قدميه، وما كاد يهم بذلك حتى أدركته المنية،
1
فحالت دون أمنيته، وبقي العرب أعزاء لا يغلبون.
كان ذلك قبل السيد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، والعرب من ذلك الحين وقبله أعزاء مستقلون بصحرائهم الواسعة، لا يخضعون لسطوة فاتح جبار، وقد مر بهم زهاء ألف سنة في هذه العزلة الهادئة التي قل أن يكون لها مثيل بين بقاع الأرض، وقامت من حولهم إمبراطوريات جديدة، فأنشأ خلفاء الإسكندر المملكة السورية، وكان بها السلاسدة (the Seleucids)
وأبناء الأسرة المصرية من البطالسة، وتوج أغسطوس إمبراطورا لرومة، وأصبح قسطنطين أول إمبراطور مسيحي لبيزنطة، وخضع حشود البربر لإمبراطورية القياصرة البعيدة الأطراف واندمجوا فيها، كل ذلك والعرب متحصنون بشبه جزيرتهم، لا يزعزع لهم أمن، ولا يطرقهم طارق، ولا يحاول غزوهم فاتح، وإذا دانت بعض مشارف بلادهم وثغورها بشيء من الطاعة أحيانا لأكاسرة الفرس وقياصرة الروم، وجاست بعض الفرق الرومانية بين الحين والحين خلال بعض مفاوزها، فإن شيئا من ذلك كان ضئيلا متقطعا، لم يمس استقلال البلاد ولم ينل من عزتها.
وهكذا ربض العرب في جزيرتهم لا تزعجهم صائحة، وطفقوا وقد أحاطت بهم الممالك الضاربة الظامئة إلى الغزو والفتوح، وادعين بصحرائهم، مستلئمين بشجاعتهم التي لا تقهر، وبقي لذلك تاريخ العرب مغمورا منذ أزمان بعيدة في القدم إلى القرن السابع الميلادي، فلم يعرف عنهم إلا أن لهم وجودا، وإلا أن أحدا من الغزاة لم يحاول غزوهم، إلا قعدت به الوساوس وساوره خوف الهزيمة، ثم حدث فجاءة في أخلاق العرب تطور جديد، فلم يعودوا يرغبون في العزلة كما كانوا، بل انطلقوا يجابهون الدنيا، وأخذوا في جد وحزم يحاولون غزو العالم.
نشأ هذا التطور من عزيمة رجل واحد هو محمد بن عبد الله، فإن هذا النبي العربي شرع في طليعة القرن السابع ينشر الإسلام، فلقيت دعوته آذانا واعية، وعظم تأثيرها في قلوب العرب، فأثارت في طبائعهم وأخلاقهم ثورة عنيفة شاملة، وكان ما يدعو إليه محمد سهلا حنيفا، قريبا إلى النفوس، يتفق مع شريعة اليهود التي كان لها أحبار بالجزيرة، وقد أبطل كثيرا من الأحكام والعادات، وأضاف أحكاما جديدة كان العرب في حاجة إليها، ودعا إلى الوحدانية، فكان ذلك فتحا جديدا بين قوم مردوا على عبادة الأوثان.
ويصعب علينا في هذه الأيام أن ندرك التأثير الشديد الذي بعثه هذا الدين الهادئ في قلوب العرب، ولكننا نعرف أن هذا التطور الديني قد تم فعلا، وأن للأنبياء الصادقين دائما قوة غريبة في اجتذاب النفوس، ولقد كان محمد حين دعا قومه صادقا، ولقد بلغ دينه الذي يراه الدين الحق أمينا مثابرا، ولقد كان في الدين من السمو، وفي النبي وأصحابه من الرغبة الحافزة في نشره ما أثار موجة ملكت على العرب شعورهم، وأجج في نفوسهم جذوة يسميها الناس اليوم بالتعصب الديني.
وكان العرب قبل بعثة محمد أشتاتا من شعوب وقبائل متطاحنة، تتنافس في الشجاعة الوحشية، والكرم والبطولة، وتعيش من الغارات وانتهاب الغنائم، فحولهم النبي في طرفة عين إلى قوم مسلمين، وملأ قلوبهم بحماسة الشهداء، ووصل حبهم الفطري للدنيا والمغانم بطموح نبيل هو تبليغ الدين إلى الناس كافة.
خضعت جزيرة العرب كلها لمحمد قبل أن يلاقي ربه، وانتشرت القبائل التي وحد كلمتها في الممالك المجاورة للجزيرة، وألقى أهلها لهم القياد دهشين مشدوهين، ثم اكتسحت جيوش خلفائه بلاد الفرس، ومصر، وشمال إفريقية، حتى بلغوا منه المكان المعروف بأعمدة هرقل، وردد المؤذنون أذانهم من وراء نهر جيحون بآسيا الوسطى إلى شواطئ المحيط الأطلنطي.
وصدت الهجوم العربي بآسيا الصغرى قوات إمبراطور الروم، ولم يتح للمسلمين أن ينالوا من هذه البلاد حظا إلا في القرن الخامس عشر، حين بلغوا ما طال إليه تشوقهم من فتح القسطنطينية التي دكت حصونها شجاعة الترك العثمانيين وشدة مراسهم، وفي النهاية المقابلة من بحر الروم، صد أحد قواد الروم تيار العرب إلى حين، فاتجه العرب الفاتحون إلى ممالك شمالي إفريقية، وكبحوا جماح أمة البربر الشامسة العنيدة بعد جهاد عنيف، وأخضعوها لسلطانهم، ولم يقف في وجوههم إلا قلاع سبتة وحصونها، وكانت سبتة كغيرها من بلاد جنوبي بحر الروم، تحت حكم إمبراطور الروم، غير أنها لبعدها من القسطنطينية كانت تتوجه إلى مملكة إسبانيا بطلب المعونة، فهي تابعة للروم من حيث الحكم، مضافة في الحقيقة إلى ملك طليطلة لحمايتها والدفاع عنها، ولم يكن في حكم الظن أن تكون معاونة إسبانيا لها كافية لصد أمواج العرب الفاتحين، على أنه حدث فوق هذا أن كان هناك شقاق بين «يوليان» حاكم «سبتة» و«لذريق» ملك إسبانيا ففتح هذا الشقاق الباب واسعا لدخول العرب، وذلل سبيل الفتح للغزاة.
كان يحكم إسبانيا في ذلك الوقت القوط الغربيون، وهم قبيلة متوحشة كغيرها من القبائل التي اكتسحت ممالك الإمبراطورية الرومانية إبان ترنحها للسقوط، أما القوط الشرقيون فقد احتلوا إيطاليا، وتركوا أبناء عمومتهم من القوط الغربيين يأخذون مكان بعض القبائل الجرمانية الجافية، ويدقون أطناب حكمهم بإسبانيا في القرن الخامس الميلادي.
وكانت إسبانيا عندما دخلها القوط منحلة العرا، غارقة في ألوان من الترف الفاجر، والنعيم الذي يسلب الرجولة، وبمثل هذا العبث وذلك الفجور ذهبت ريح دولة الرومان قبلهم، فإن الرومان كغيرهم من رجال الحروب، حينما انتهوا من غزواتهم الكثيرة المتعاقبة بالنصر والغلب ورأوا الدنيا تحت أقدامهم، انصرفوا إلى الراحة بعد الجهد الشاق، والجهاد المضني، وألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم، وناموا في ظل ظليل من الغنى الواسع والأمن الشامل، فذهبت أخلاقهم، وماتت فيهم حمية آبائهم الشجعان البسل الذين كانوا يرضون بالكفاف، ويتركون آلة الحرث ليجردوا السيوف ماضية بتارة، إذا دعاهم أحد القياصرة لحماية بلادهم، أو لغزو قارة جديدة.
كانت الطبقة الغنية بإسبانيا في عهد الرومان قد خلعت العذار لأنواع الترف والشهوات، حتى لكأنها لم تخلق إلا للطعام والشراب، واللهو والقمار، ولكل ما يثير النفس العابثة ويرضي نزعاتها، وكانت الطبقة الدنيا تشمل العبيد وأحلاس الأرض الذين أخلدوا إلى زراعتها حتى كأنهم قطعة منها لا يفارقونها حياتهم، فإذا انتقلت إلى مالك جديد، انتقلوا إليه معها.
وبين هاتين الطبقتين - طبقة الأثرياء، وطبقة العبيد والأحلاس - كانت الطبقة الوسطى من سكان المدن الأحرار تلاقي من سوء الحال وضنك العيش ما كان شرا مما يلاقي العبيد وأشد نكرا، فعليهم كان يقع عبء الإنفاق على الدولة، فهم الذين يؤدون الضرائب، ويقومون بخدمة الدولة وما تتطلبه المدن من الأعمال، وهم الذين يجمعون الأموال للأغنياء ليبعثروها في لذائذهم، وبديهي أن دولة تصاب بهذا الفساد وذلك الضعف لن تكون بها منة على صد فاتح بطاش شديد الشكيمة.
كان النبلاء والأغنياء - وهم في غمرة من النعيم ورفاغة العيش - لا يسمعون ما يلغط به الناس من اقتراب الأعداء، وكانت سيوفهم قد صدئت من طول ما مكثت في أغمادها، وكان العبيد لا يأبهون لتغلب حاكم على حاكم؛ لأنهم وصلوا إلى حال من الذل والبؤس بحيث لا يستطيع حاكم جديد أن يصيبهم بشر منها، وكانت الطبقة الوسطى ساخطة حانقة، وقد بهظها ما كانت تحمل من تكاليف الدولة، وما كان يقع عليها من الغرم من غير أن تنال من الغنم شيئا.
وإن شعبا هوى إلى هذه الهوة، وتدهور في هذا الدرك لا يستطاع في حكم البديهة أن يؤلف من رجاله جيش قوي مكافح؛ لذلك دخل القوط إسبانيا واستولوا عليها بدون عناء، وفتحت لهم المدن أبوابها عن طواعية، وخضعت لهم الحضارة الرومانية العليلة دون أن تمد للدفاع كفا، وفي الحق إن طريق القوط إلى الفتح كانت قد مهدت بمن نزل قبلهم بإسبانيا من متوحشي الأللان والوندال والسوابي، فلم يكلفهم الغزو جهدا، أو يحملهم عنتا؛ فقد علم الرومانيون من سكان إسبانيا حق العلم، ما يجر وراءه غزو المتوحشين من نكبات وأوزار، فكم رأوا مدائنهم والنار تلتهمها التهاما، وكم رأوا زوجاتهم وأولادهم يساقون إلى الذل والأسر، وكم رأوا قوادهم يقتلون صبرا، رأوا عواقب هذه الحروب ولعناتها، وما يتصل بأذيالها من الطواعين والمجاعات والقحط وشيوع الفوضى الضاربة، وعلمتهم هذه الكوارث درسا لم ينسوه، فألقوا القياد للقوط خاضعين.
وكان للقوط بإسبانيا أكثر من مائتي سنة حينما وصل العرب في أوائل القرن الثامن إلى شواطئ المحيط الأطلنطي بإفريقية، وعبروا بأبصارهم مضيق هرقل، فشاهدوا من بعد ولايات إسبانيا المشرقة.
وكان للقوط منذ أن فتحوا إسبانيا متسع من الوقت لإصلاح ما فسد من شئونها، وبعث روح جديدة في الشباب، وكان عليهم أن يستفيدوا من مدنية الرومان، فكثيرا ما استفادت العناصر المتوحشة التي كملت فيها صفات الرجولة من اندماجها في المدنيات القديمة الذابلة، وكان هناك أسباب خاصة تدعو القوط إلى إصلاح أحوالهم، فإنهم لم يكونوا شجعانا أشداء فحسب، بل كانوا - فيما يزعمون - نصارى مخلصين، والحقيقة أنهم عندما استولوا على إسبانيا لم تكن النصرانية فيها إلا صورة ورسما؛ لأن قسطنطين اكتفى بجعل النصرانية دين الإمبراطورية الرومانية، ولم يعن بتقوية دعائمها في الممالك الغربية، وكان في حكم الظن أن يكون هبوط دين جديد على أمة جاهلة كالقوط جديرا بأن يثير حماستها، ويملأ صدورها بالأمل بعد أن رزحت تحت أثقال الوثنية طويلا، حتى لقد طمع قساوسة الكاثوليك في أن يكون لهم ولكنائسهم في العهد الجديد شأن مذكور، ولكن النتائج لم تؤيد المقدمات، فإن القوط جعلوا من أعمالهم الدينية ذرائع لغفران ما يجترحون من ذنوب وآثام، وأعدوا لكل إثم نوعا من التوبة، واقترفوا الذنب ليتوبوا منه من جديد، دون أن يجدوا لذلك في صدورهم حرجا!
وجملة القول أنهم كانوا كأشراف الرومان الذين سبقوهم عادة وسوء خلق، ولم تدفعهم النصرانية إلى شيء من الخير والإصلاح، فكانت حال أحلاس الأرض اللازمين خدمتها أسوأ مما كانت في عهد الرومان؛ لأنهم لم يكتفوا بإلزامهم خدمة أرض بذاتها، أو سيد بعينه، بل حتموا عليهم ألا يتزوجوا إلا برضاء السيد، وأنهم إذا أصهروا من ضيعة مجاورة قسمت ذريتهم بين صاحبي الضيعتين. وحملت الطبقة الوسطى - كما كانت الحال في حكم الرومان - عبء الضرائب، فجر ذلك إلى خراب هذه الطبقة وإفلاسها، وكانت الأراضي في قبضة عدد قليل من الأغنياء، يقوم على خدمتها وزراعتها عدد عديد من العبيد البائسين الذين يعيشون بلا أمل في الانتعاش من كبوتهم، أو حلم في الخلاص من بؤسهم، وحسبك أن رجال الدين كانوا يخطبون ويشيدون بالأخوة المسيحية بعد أن أثروا وملكوا الضياع الواسعة، اتبعوا السياسة الموروثة، وعاملوا عبيدهم وخولهم بالعسف والشدة كما كان يفعل أثرياء الرومان، ثم إن أغنياء القوط غرقوا في صنوف من النعيم أفقدتهم الحس، ونافسوا الوثنيين في الفجور، ففلجوا عليهم حتى أدركهم ذلك السبات الذي أطاح بدولة الرومان.
يقول بعض المؤرخين - وهو يحاول تمحيص الأسباب التي أدت إلى تغلب المسلمين على المسيحيين: «إن الملك ويتزا «غيطشة» علم إسبانيا كيف تقترف الآثام»، ولكن إسبانيا كانت قد تعلمت ذلك على أحسن وجوه العلم قبل «غيطشة» بزمن بعيد، وربما لم يكن هذا الملك أسوأ من سابقيه الذين أغرقوا في الشهوات، وترخصوا في كل ما أصاب الدولة من الفساد والتدهور، ولما كانت آثام القوط المتوحشين قريبة الشبه جدا من مآثم الرومان الدائلين، لم تشعر المملكة عند انتقال الحكم من الرومان إليهم بشيء جديد.
هكذا كانت إسبانيا حينما اقترب المسلمون من حدودها، طبقة فاسدة مفسدة من الأغنياء، قسمت الأرض بينها ليزرعها العبيد وأحلاس الأرض البائسون اليائسون، ثم طبقة من سكان المدن لم يبق لها الظلم والعسف رطبا ولا يابسا.
2
هكذا كانت إسبانيا حينما كان جنود الإسلام يقيمون على الجانب الآخر من بحر الزقاق الذي عرف فيما بعد بمضيق جبل طارق، وهم قوم بسل أشداء، تلتهب نفوسهم حماسة لدينهم، وتتأجج شوقا إلى ما في أرض الكفار الخصيبة من غنائم وخيرات، وقد تدربوا على السلاح منذ نعومة أظفارهم، وعاشوا في صحرائهم عيشة خشنة جافية، وإن موازنة بين هذين الفريقين لا تترك مجالا للشك فيمن سيكون له النصر والغلب، على أن الخيانة التي جاءت بعد ذلك فساعدت الفاتحين على اقتحام البلاد، أزالت كل أثر للشك في انتصارهم.
خلع لذريق غيطشة من عرشه،
3
وبدأ حكمه بداءة حسنة، ولكنه خضع آخر الأمر لإغراء الثروة والقوة، وجمح به النهم في الشهوات الدنيئة حتى نفرت منه القلوب، وأصبح كل ما حوله مستعدا للاشتعال، لا ينتظر إلا شرارة صغيرة لينفجر ويذهب بمملكته.
وكانت العادة بين أمراء المملكة أن يرسلوا ببناتهم وأبنائهم إلى القصر لتهذيبهم وأخذهم بكل ما يثقف النفس ويغرس الخلق الكريم! فأرسل الكونت (يوليان) حاكم سبتة، ابنته فلورندا إلى قصر لذريق بطليطلة لتنال قسطا من التربية بين وصائف الملكة، وكانت فلورندا غاية في الجمال فشغف لذريق بها، ودنس عفافها ذاهلا عما يوجبه عليه الشرف من حمايتها كما يحمي إحدى بناته،
4
وزاد في بشاعة الجريمة أن زوج يوليان كانت بنت غيطشة، فكان في فعلة لذريق تلطيخ للشرف الملكي بالعار.
وقد كتبت الفتاة إلى أبيها حينما شعرت بجسامة الكارثة، ودعت غلاما تثق به وأوصته أن يسرع بالكتاب، وأن يصل ليله بالنهار حتى يضعه في يد أبيها، ثم منته الأماني.
ولم يكن يوليان يحب لذريق؛ لأن صلته بالملك المعزول - أو المقتول على الأرجح - صدته عن الميل إلى الغاصب، ثم جاء العبث بشرف ابنته فزاد نار حقده اشتعالا، وأغراه بالكيد والانتقام، وقد استطاع أول الأمر أن يقف في وجه غارات العرب، ولكنه عزم الآن على ألا يدفع عن مملكة أثيم ثلب عرض ابنته، وصمم على أن يترك العرب يملكون إسبانيا إذا أرادوا، ثم زاد فقرر في قرارة نفسه أن يرشدهم إلى الطريق، فأسرع وحب الانتقام يملأ صدره، إلى لذريق - بعد أن أسكت غضبه وأخفى ما في نفسه - فأحس الملك بشيء من الندم، ووثق في نفسه من أن فلورندا كتمت سره وسرها، وأخذ يغمر يوليان بصنوف من الإجلال والتكريم، ويستشيره في كل ما يتصل بحماية المملكة، ويصيخ إلى ما يزوق له من الخديعة والختل، حتى إنه أرسل أكرم خيوله وخير عتاده إلى الجنوب؛ لتكون تحت إمرة يوليان إذا هجم الفاتحون.
وغادر الكونت طليطلة ومعه ابنته، محفوفا بعطف الملك ورضاه، وطلب لذريق منه عند افتراقهما أن يرسل إليه نوعا خاصا من البزاة المعلمة، فأجاب يوليان بأنه سيرسل إليه بزاة لا عهد له بها، وبهذه الإشارة الخفية إلى قدوم العرب عاد أدراجه إلى سبتة.
وما كاد يصل إليها حتى زار موسى بن نصير، الوالي من قبل الخليفة على شمال إفريقية، الذي طالما اشتبكت سيوفه بسيوفه في حروب مشتعلة الأوار، فأخبره أن الحرب بينهما قد وضعت أوزارها، وأنهما منذ اليوم صديقان حميمان، ثم أخذ يملأ أذني القائد العربي بأحسن القصص عما في إسبانيا من الجمال والثروة، ويحكي عن أنهارها ومروجها، وأعنابها، وزيتونها، وعظمة مدنها وقصورها، وما فيها للقوط من كنوز، ثم قال إنها أرض تموج باللبن والشهد، وليس على موسى إلا أن يخطو فينالها بقبضته، وأخذ يوليان على نفسه أن يرشده إلى الطريق، ويعد له السفن، وكان القائد العربي داهية شديد الحذر، فخشي أن تكون هذه الدعوة خديعة واستهواء إلى الوقوع في شرك أو كمين؛ لذلك أرسل إلى الخليفة بدمشق رسلا ليرى رأيه في الأمر، واكتفى فيما بين ذلك سنة 710م/91ه بإرسال خمسمائة رجل بقيادة (طريف) أبحروا في أربع سفن ليوليان للإغارة على شاطئ الأندلس، ولم يرض موسى أن يعرض من رجاله للخطر أكثر من هذا العدد؛ لأن العرب لم يكونوا قد اعتادوا بعد الإبحار في بحر الروم.
عاد طريف في شهر يوليه بعد أن نجح في الغرض الذي أرسل من أجله، فقد أرسى سفنه في المكان الذي لا يزال يسمى باسمه، ونزل الجزيرة الخضراء وانتهبها، ورأى بعينه ما كفى لاقتناعه بصدق ما قاله الكونت يوليان من فقدان وسائل الدفاع بإسبانيا، وبأن إخلاصه للفاتحين لا يقبل الشك.
ولكن موسى على الرغم من هذا لم تمل نفسه إلى المخاطرة في سبيل فتح جديد، وجاء كتاب من الخليفة بدمشق يأمره بألا يقذف بجيش المسلمين في أخطار مجهولة العاقبة، وعهد إليه أن يكتفي بإرسال فرق قليلة من آن لآن للإغارة المفاجئة.
ولكنه بعد أن ملأه نجاح طريف ثقة بالنصر والتغلب، عزم على أن يوسع نطاق غزوه.
فحين علم في سنة 711م/92ه أن لذريق مقيم بشمال مملكته لقمع ثورة البشكنس، أرسل أحد قواده، وهو طارق البربري، ومعه سبعة آلاف رجل جلهم من البربر للإغارة على الأندلس، فنال من هذه الإغارة فوق ما كان يتوقع؛ فإنه أرسى سفنه عند صخرة الأسد التي حملت اسمه منذ ذلك الحين، فدعيت جبل طارق، وبعد أن ملك كارتية توغل في داخل البلاد، ولم يسر بعيدا حتى رأى جيوش القوط بقيادة لذريق تقترب لنزاله، فالتقى الجيشان على شاطئ نهير سماه المسلمون وادي بكة، بالقرب من نهر وادي لكة الذي يصب في المضيق عند رأس الأغر.
5
وتقص علينا الأساطير أن الملك لذريق قبل هذه الموقعة كان جالسا على سرير ملكه بمدينة طليطلة، فدخل عليه رجلان جلل الشيب رأسيهما، وهما في ثياب بيض من نسج قديم، وكان حزاماهما مزينين بصور مواقع النجوم وما لها من شأن في تصاريف القدر، وقد علق بهما كثير من المفاتيح، فلما مثلا بين يدي الملك قالا له: اعلم أيها الملك أن هرقل منذ الزمن القديم، وحين نصب صنمه عند مضيق البحر أنشأ حصنا قويا بالقرب من طليطلة القديمة، وأخفى فيه طلسما جعل عليه بابا من الحديد ثقيلا، له أقفال من الصلب توكيدا لحفظه، ثم إنه أمر أن يقوم كل ملك جديد بإضافة قفل جديد لهذا الباب، وأنذر بالويل والثبور كل من يهم بكشف هذا الطلسم، وقد قمنا وقام أسلافنا بحراسة باب الحصن منذ أيام هرقل إلى هذه الساعة، وعلمنا أن بعض الملوك حاول كشف هذا الطلسم فكانت عاقبة أمرهم الموت أو الجنون، ولم يصل واحد منهم إلى أبعد من عتبة بابه، وقد جئنا الآن أيها الملك لنرجوك أن تضع قفلك على باب الحصن كما فعل جميع الملوك قبلك، ثم انصرف الشيخان.
وحينما فكر لذريق فيما قالاه ثارت في نفسه الرغبة في دخول هذا الحصن المسحور، على الرغم من تحذير بطارقته ووزرائه الذين قالوا له: إن كنت تظن أن فيه مالا فقدره ونحن نجمع لك من أموالنا نظيره، ولا تحدث علينا بفتحه حادثا لا نعرف عاقبته، وقد علمت أن قيصرا الأكبر على جرأته لم يحاول دخوله ...
ولن يفتح الحصن إلا لمن
قضى الله في ملكه بالزوال
ممالكه زال سلطانها
بنشر الفساد وكيد الرجال
فنالت من الله شر انتقام
وآب بنوها بشر المآل
ولكن الملك أصر وصمم على الرغم من هذه النصيحة، فركب يوما مع فرسانه إلى الحصن، وكان فوق صخرة عالية تحيط به مهاو سحيقة، وكانت حيطانه من المرمر الذي إذا واجهته الشمس كاد شعاعه يذهب بالأبصار، وكان مدخله في طريق منحوت في الصخر، وقد أغلق عليه باب عظيم من الحديد، غطي بالأقفال الصدئة من عهد هرقل إلى أيام غيطشة.
ووقف الحارسان إلى جانبي الباب، وحاول فرسان الملك وبعض الحراس فتحه، فاستطاعوا بعد لأي فك أغلاقه قبيل الغروب، ودخل الملك وحاشيته من الباب إلى بهو في نهايته باب آخر، وقف أمامه تمثال من البرنز ضخم هائل المنظر، بيده رمح عظيم أخذ يحركه ويضرب به ما حوله من الأرض.
ولما رأى لذريق هذا التمثال هاله منظره، وأخذه البهر، وتملكته الدهشة والعجب، ولكنه حينما قرأ ما كتب على صدره وهو: «إني أقوم بواجبي» استرد شجاعته، وأمر التمثال أن يفسح له الطريق زاعما أنه لم يأت لاستباحة حرمة المكان، وإنما جاء ليعرف سر ما فيه، فهدأت عندئذ ثائرة التمثال ورفع رمحه، فمر الملك ومرت حاشيته من تحته إلى حجرة ثانية، فوجدوا جدرانها مغطاة بكريم الأحجار، ورأوا في وسطها مائدة عظيمة من ذهب وفضة مكللة بالجواهر، وعليها تابوت من الفولاذ به قفل علق به مفتاحه، وقد كتب عليه: «في هذا التابوت طلسم الحصن، ولن تفتحه إلا يد ملك، ولكن ليحذر هذا الملك، فإن أشياء عجيبة ستصور له ما يحصل له قبل موته».
وحين فتح الملك التابوت لم يجد به سوى رق به صور فرسان عابسي الوجوه مسلحين بالقسي والخناجر، وقد كتب فوق هذه الصور: «انظر أيها الطائش الأرعن إلى هؤلاء، فإنهم سيثلون عرشك ويخضعون مملكتك»، وبينما كان الملك وأصحابه يحدقون في الصور إذ سمعوا زمازم الحرب ولجبها، ورأوا أن الصور طفقت تتحرك كأنها في غمام حتى أخذت هيئة حرب في ميدان.
6
رأى لذريق في هول وحزن
بهذا المنظر السحري حربا
عواقبها تراها العين جهرا
وإن كانت من القدر المخبا
ثم أبصروا ميدانا عظيما يتفانى فيه المسيحيون والمسلمون في موقعة طاحنة، وسمعوا أصوات جري الخيل ووقع حوافرها، وزعق الأبواق والصنوج، وما يصم الآذان من ضرب آلاف من الطبول بين بريق السيوف والقضب وحفيف السهام وصليل الرماح، ورأوا أن النصارى يتضاءلون أمام أعدائهم الذين تدفقوا عليهم كما يتدفق السيل، فتبدد شملهم، وسقط إلى الأرض بيرق الصليب، وديس علم إسبانيا تحت الأقدام، وامتلأ الجو بصيحات الانتصار يخالطها صراخ الغضب وأنين المحتضرين.
ورأى الملك لذريق بين هذه الفرق الفارة من الميدان فارسا متوجا، كان ظهره إليه، ولحظ أن سلاح هذا الفارس وعدته تشبه سلاحه وعدته، وأنه كان يركب جوادا أشهب يشبه جواده «أوريليا».
ثم رأى أن الفارس بعد قليل سقط عن جواده في هرج الحرب ومرجها فلم يعد يرى، وأن أوريليا أخذ يعدو في الميدان بغير راكب.
وحينما خرج الملك وحاشيته من الحصن دهشين خائفين اختفى التمثال من الوجود، وسقط الشيخان الحارسان ميتين عند مدخل الحصن، وكان من إرهاص الطبيعة الغاضبة أن التهمت النار الحصن، فتأجج كل حجر فيه وآض رمادا تذروه الرياح، ويقول القصاصون إنه كلما سقط رماد من هذه الأحجار في مكان، وجد بجانبه نقطة من الدم المسفوك.
أولع مؤرخو العصور الوسطى من النصارى والعرب بالإفاضة في هذه الحادثة وإمدادها بكثير من صور الخيال وضروب الإرهاص كما قيل:
كم من رؤى وأساطير مزوقة
بها وعيد وإرهاص وإنذار
فيها تلاقى خيال العرب مازجه
ما خيلته لأهل القوط أشعار
وكم قرأنا أن كلا الفريقين قبيل الموقعة كان ينشرح صدره أو ينقبض بالفأل والطيرة، وزعموا أن النبي نفسه ظهر لطارق في المعركة وحثه على الإقدام، وأمره أن يضرب ويغلب، إلى غير ذلك من أمثال هذه الروايات.
وكيفما كانت رؤى الجيشين وأحلام رجالهما، فإن نتيجة القتال حين وقف الجيشان بالقرب من وادي لكة، كان لا يشوبها شك ... نعم إن طارقا أمد بخمسة آلاف مقاتل من البربر، فبلغ جيشه الصغير اثني عشر ألفا حينما كان جيش لذريق يبلغ ستة أمثاله في العدد، لكن الفاتحين كانوا شجعانا مغاوير أشداء، مرنوا على الحروب، وكان قائدهم بطلا باسلا، بينما كان الإسبان خليطا من العبيد المستضعفين في الأرض، وكان بين قوادهم بعض الخونة من الأشراف، فإن أقرباء غيطشة - وإن أطاعوا لذريق في ظاهر الأمر وحضروا المعركة - كانوا عازمين على الانضمام إلى الأعداء عندما ينكشف لهم وجه القتال، ولم يخطر لهم ببال أن في فعلهم هذا خيانة لإسبانيا، فقد ظنوا واهمين أن الغزاة لم يقصدوا إلا إلى النهب والغنيمة، وأنهم عند انتهاء الغارة وحصولهم على الأسلاب يذهبون توا إلى إفريقية، فتعود سلالة غيطشة إلى عرشها القديم المغصوب ،
7
وبهذا الظن الخاطئ عاونوا من حيث لا يشعرون على وضع أجمل ولايات إسبانيا نحو ثمانية قرون تحت حكم العرب.
وقد سقطت قلوب المسلمين بين جنوبهم ذعرا حينما رأوا الجيش اللهام الذي أعده لذريق لنزالهم، وحينما رأوا الملك في درعه الفاخرة وفوقه المظلة الملكية، ولكن طارقا صاح في رجاله: «أيها الناس؛ العدو أمامكم والبحر وراءكم، وليس لكم والله إلا الجلد والصبر.» فاستنجد المسلمون بشجاعتهم وصاحوا: «إنا وراءك يا طارق.» ثم هجموا خلف قائدهم يقذفون بأنفسهم في وطيس الحرب وأتونها، واستمرت المعركة أسبوعا، أظهر فيه الفريقان كثيرا من ضروب الشجاعة والإقدام، وكان لذريق يستحث قومه مرة بعد أخرى، ولكن فرار أتباع غيطشة رجح كفة الميزان، فصار الميدان صورة محزنة للدمار والهزيمة.
ومزق جيش لذريق وخارت
بمن فيه العزائم والقلوب
وحين رأى الهزيمة فر يعدو
وحيدا مستكينا لا يؤوب
عليه من غبار الحرب ثوب
ومن لون الدماء به لهيب
وتحمل كفه سيفا خضيبا
كمنشار أفلته الحروب
فلامة صدره فيها شقوق
وخوذة رأسه فيها ثقوب
أطل بقمة فرأى دمارا
له كادت حشاشته تذوب
وأعلاما ممزقة تبدت
وكل بالدم القاني خضيب
وجال بسمعه للعرب صوت
بنصر الله ردده السهوب
رأى قواده فروا وأبقوا
جريحا أو قتيلا لا يجيب
وأنى عينه لمحت مكانا
بدا للعين فيه دم صبيب
فقال وقد بكى: قد كنت ملكا
وماذا ينفع الآن النحيب؟
ونمت الأمس فوق فراش عز
وفرشي اليوم تجفوه الجنوب
جثا الخدام أمس أمام عرشي
وليس اليوم لي منهم عريب
فيوم ولادتي يوم عبوس
ويوم ولايتي يوم عصيب
فما أشقى نهاري حين أرنو
لشمس الأفق يحجبها المغيب!
فعجل أيها الموت المرجى
فما لي اليوم في الدنيا حبيب
هكذا تقول الأنشودة الإسبانية، ولكن نهاية لذريق بقيت سرا خفيا إلى اليوم؛ فقد وجد فرسه وخفاه عند شاطئ النهر بعد يوم من المعركة ولم يظهر له أثر، ومن المحقق أنه غرق، وأن النهر حمل جثته إلى المحيط، ولكن الإسبان يأبون أن يصدقوا هذا، فقد ألبسوا الملك الراحل حللا قدسية خفية الأسرار لم يخلعوها عليه في حياته، وجعلوا منه معينا فياضا لكثير من القصص والروايات، وخلعوا عليه صفات المنقذ المخلص، كما فعل الإنجليز بالملك آرثر، فاعتقدوا أنه سيعود مرة أخرى من مقره في بعض جزائر المحيط بريئا من جراحه ليقود المسيحيين لقتال الملحدين.
وجاء في أساطيرهم أنه قضى بقية حياته في أعمال الخير والإنابة، وأن ثعابين أخذت تبتلعه شيئا فشيئا عقابا لما كان يقترف من إثم حتى محيت ذنوبه «فإن عقاب البدن ينقذ الروح من الآلام»، ثم إنه حمل إلى الجزيرة الهادئة المطمئنة، ولا يزال رجاله منذ ذلك الحين ينتظرون أوبته إليهم كما يؤوب الظافر المنتصر.
هوامش
موجة الفتح
لم يكن هذا فتحا كغيره من الفتوح يا أمير المؤمنين، فإن الوقعة كانت أشبه باجتماع الحشر يوم القيامة ...
هكذا كتب موسى بن نصير أمير إفريقية إلى الخليفة الوليد في وصف انتصاره بموقعة وادي لكة.
وليس عجيبا أن يدهش المسلمون لنصرهم المؤزر الحاسم، أو أن يتملكهم الزهو بهذا الفتح المبين؛ لأننا إذا ألقينا جانبا الأساطير والأوهام التي لفقها مؤرخو الإسبان حول سقوط لذريق، ورجعنا إلى التاريخ المتئد غير المتحيز، رأينا أن انتصار المسلمين في وادي لكة ألقى بإسبانيا كلها في أيدي العرب؛ فقد ربح طارق ومن معه من الاثني عشر ألف بربري الجزيرة جميعها، ولم يكن في حاجة إلا إلى قليل من الجهد ليقضي على المقاومة الخائرة في بعض المدن.
ولم يضع طارق وقتا في متابعة انتصاره؛ فقد تقدم هذا القائد المجدود بلا تردد متحديا أمر موسى الذي كان يتحرق حسدا لما ناله جنديه البربري من المجد الذي لم يكن يخطر له ببال، وقسم طارق قوته ثلاث فرق أو كتائب وبثها جميعا في شبه الجزيرة، فأخضع مدينة إثر مدينة بعد مقاومة لا تكاد تذكر.
وأرسل مغيث بن الحارث على سبعمائة فارس لامتلاك قرطبة، فأخفى جنوده حتى إذا جاء الليل تقدم نحو المدينة، واتفق في ذلك الحين أن سقط هاطل من البرد أخفى وقع سنابك الخيل، فعد المسلمون ذلك عناية من الرحمن ، والتقوا براعي غنم أرشدهم إلى ثغرة في سور المدينة، فعزموا أن يجعلوا منها منفذا لهجومهم، وتسلق رجل منهم كان أكثرهم نشاطا وأشدهم حمية شجرة تين كانت تحت الثغرة، ثم وثب منها إلى السور حتى إذا استقر به خلع عمامته، وأرسل بطرفها إلى بعض أصحابه، ثم جذبهم إليه واحدا واحدا، حتى إذا نزلوا من السور إلى داخل المدينة دهموا حراس الأبواب ففتحوها للفاتحين، وتم الاستيلاء عليها دون عناء.
وعندما دخل المسلمون قرطبة التجأ حاكمها وحرسها إلى دير يعصمهم من العدو، ولزموه ثلاثة أشهر محاصرين، حتى إذا انتهى أمرهم إلى التسليم بقيت المدينة بأيدي اليهود الذين أثبتوا صدق إخلاصهم للمسلمين فنالوا عطفهم ورعايتهم، ونظر العرب إليهم نظرتهم إلى الصديق، فلم يضطهدوهم كما اضطهدهم قساوسة القوط إلا في العهد الأخير، فحيثما اتجه سلاح المسلمين سار اليهود من ورائه متابعين متزاحمين، فالعرب يحاربون واليهود يتجرون، حتى إذا ألقت الحرب سلاحها رأيت اليهود والعرب والفرس وقد اجتمعوا على إنماء التعليم، والفلسفة، والآداب، والعلوم، إلى غير ذلك مما ميز حكم العرب، وأرسل شعاعه في العصور الوسطى منيرا وهاجا.
وجرت فتوح طارق شوطا بعيدا بمعاونة اليهود وشدة فزع الإسبان، فاستولى على أرشذونة دون أن يلقى مقاومة، وفر سكانها إلى التلال، وألقت القياد مالقة، وعصفت الحرب بإلبيرة (بالقرب من مكان غرناطة الآن).
ودافع تدمير
Theodemir
حينا عن شعاب جبل مرسية بشجاعة وصبر، ولكنه دفع إلى ترك معقله والاشتباك مع العرب في موقعة طاحنة حطم فيها جيشه تحطيما، وفر مع خادم له إلى مدينة أوريولة، وهناك فكر في أن يلقى مطارديه بخديعة بارعة، فإنه حينما رأى أن الحرب لم تكد تبقي على رجل بالمدينة لسقوط شبان مرسية في المعركة جميعا، جمع النساء وألبسهن ثياب الرجال ووضع الخوذ على رءوسهن وسلحهن بقصب يشبه الرماح، وأمرهن أن يضعن شعورهن فوق الذقون كاللحى، ثم وزعهن على أسوار المدينة، فلما اقترب المسلمون في دغش الشفق، سقط في أيديهم لما رأوا من قوة الدفاع عن المدينة، وبعدئذ حمل «تدمير» بيده راية الهدنة، وألبس خادمه عباءة يلبسها السفراء، وذهبا لمفاوضة القائد المسلم الذي لم يعرف الأمير الإسباني فأحسن استقبالهما، ثم قال له تدمير: «لقد قدمت نائبا عن حاكم المدينة لأفاوض في شروط تليق بعظيم تسامحك وشرف منزلته، فأنت ترى أن المدينة جديرة بأن تثبت أمام حصار طويل، ولكن الحاكم شديد الرغبة في الإبقاء على حياة جنوده، فعدني بأن يغادروا المدينة أحرارا دون أن يمسهم سوء أسلمها إليك غدا بغير حرب، وإلا فقد وطدنا العزم على القتال إلى آخر رجل.» فقبل القائد ما عرضه عليه.
ثم وضعت شروط التسليم كما أحب، وبعد أن ختمها القائد وأمضاها تدمير، التفت إلى القائد قائلا: «انظر إلي فأنا حاكم المدينة.»
وعند الفجر فتحت أبواب المدينة، واتجه المسلمون ليروا الحامية القوية خارجة منها، ولكنهم لم يروا إلا تدمير وخادمه في درع محطمة، وخلفها جمع من الشيوخ والنساء والأطفال، فسأله القائد العربي: «أين الجنود ورجال الحامية الذين رأيتهم حول الأسوار البارحة؟» فأجابه: «ليس لدي من الجند أحد، أما رجال الحامية فها هم أولاء أمامك فانظر إليهم، فبهؤلاء النسوة حصنت أسواري، أما هذا الخادم فهو سفيري وحارسي وحاشيتي.» فأخذ القائد العجب من جرأته، وسر من براعة حيلته فعينه حاكما لمقاطعة مرسية التي سماها العرب بعد ذلك باسمه.
وتدل هذه القصة على كرم العرب ورقة طباعهم، ولا ريب فقد كانوا مثلا عالية للفروسية الحقة التي طالما ازدانت بها أعمالهم، وكانوا يمتازون بالعفو عند المقدرة وبكثير من صفات البطولة والنجدة التي حملت الإسبان بعد تغلبهم عليهم على أن يلقبوهم «بفوارس غرناطة وبالغطارفة، وإن كانوا عربا».
وفي هذه الأثناء كان يضغط طارق على طليطلة قصبة القوط؛ لأنه كان يجد في طلب أشراف القوط، فقد بحث عنهم في قرطبة ففروا قبل جيئته، ولما دخل طليطلة التي أسلمها إليه اليهود لم يجد بها للأشراف أثرا، فقد غادروا المدينة قبل دخوله والتجئوا إلى صخرة أشتورش (أستورياس) ولم يبق بطليطلة إلا الخونة من أسرتي غيطشة ويوليان الذين كوفئوا بمناصب في الدولة، أما سراة المملكة فقد هجروها وأسلموها للعرب فصارت ولاية تابعة للدولة الأموية التي جعلت مقر حكمها بدمشق ووسعت رقعة مملكتها من جبال الهند إلى أعمدة هرقل.
وترك لموسى بن نصير إخضاع ما بقي من الأندلس، فإنه حينما سمع بفوز طارق المطرد عبر المضيق على عجل بجيش من العرب في صيف سنة 93ه/712م لينال نصيبه كاملا من المجد، وكان عدد رجاله ثمانية عشر ألفا، فاتصل بطارق في طليطلة بعد أن أخضع قرمونة وإشبيلية وماردة، ولم تكن مقابلة القائد الأعلى الفاتح مقابلة ود وصداقة، فإن طارقا حينما سارع إلى لقاء موسى في حفاوة وتكرمة عاجله هذا بالسوط، وأخذ يقرعه ويعنفه على مجاوزة أوامره معلنا أنه لن يستطيع أن يضمن سلامة المسلمين في يد قائد مخاطر مثله، ثم زج به في غيابة السجن.
1
ولما علم الخليفة الوليد بما وقع لطارق وما أصابه من الظلم الذي أثارته الغيرة وصبه الحسد استدعى موسى إلى دمشق، وأعاد طارقا إلى القيادة بإسبانيا.
وقبل أن يعود موسى إلى الشام، كان قد بلغ جبال البرت (البرانس)
2
وأطل منها، فجالت بخياله صورة لفتح أوربا كلها، ولكن دعوة الخليفة عاقته عن الاستمرار في تقدمه، فقام بهذا الأمر غيره.
3
ذلك أن حاكما
4
عربيا تملك في سنة 719م/101ه القسم الجنوبي من الغال المسمى «سبتمانيا» بما فيه من مدينة قرقشونة، وأربونة ... وأخذ من هذين المركزين يغير بجيشه على برغاندي، وأقيتانية، غير أن يوديس دوق أقيتانية استطاع قهر العرب عند أسوار طلوشة (تولوز) سنة 721م/103ه، فلم يفت هذا الغلب في عضدهم، بل حفزهم إلى الاتجاه نحو الغرب، فنهبوا بونة وفرضوا الضرائب والإتاوات على سان، واستولوا على أفينون سنة 730م/112ه وتوالت غاراتهم على الولايات المجاورة.
وقد وطد العزم عبد الرحمن حاكم أربونة الجديد على التغلب على كل بلاد الغال، فإنه بعد أن وقف تقدم يوديس الذي حاول بعد انتصاره في طلوشة أن يغزو أرض المسلمين، هجم على طركونه وفتح أقيتانية، وهزم يوديس عند شواطئ الجارون.
واستولى على برديل (بوردو) عنوة عندما سمع بالكنوز المذخورة بدير القديس مارتن، وقابل شارل بن بيبين الذي كان في الواقع ملك فرنسا الفعلي؛ لأن ملكها كان ضعيف العزم يكاد يكون محجورا عليه من رئيس القصر.
وتقدم المسلمون إلى الغزو فرحين مستبشرين ظانين أنهم سيلاقون من النصر ما لاقوه في موقعة وادي لكة، وتوقعوا أن يروا فرنسا الجميلة من كاليه إلى مرسيليا وقد سقطت فريسة في أيديهم، وفي الحق إن مصير أوربا كان في الميزان، حتى لقد عدت هذه الموقعة من المواقع الخمس عشرة الفاصلة في حياة البشر، وكان السؤال العظيم الذي كان جوابه في شفار السيوف وأسنة الرماح هو: «أتصبح أوربا مسيحية أم مسلمة؟ أتكون نوتردام التي لم تبن بعد كنيسة أم مسجدا؟ أتردد كنيسة سنت بول تراتيل المسيحية، أم تدوي بها أصوات المصلين من المسلمين؟» ذلك أنه لم يكن هناك من سبب يدعو مطلقا إلى وقوف الفاتحين عند ساحل المنش إذا لم تصد جيوشهم عند تور، ولكن قضت الأقدار بأن مد الغزو الإسلامي قد بلغ غايته، وأن الجزر أخذت تبدو مظاهره للعيان.
لم يكن شارل والإفرنج من أتباعه من الصنف الخائر العزيمة الضعيف المخنث كبقايا الإسبان والرومانيين والقوط، بل كانوا في الشجاعة والشدة أكفاء للعرب أنفسهم وأمثالا، وكان لهم من بسطة الجسم وعنفوان القوة ما كان له أكبر الأثر في أعدائهم.
وقد قضى الجيشان ستة أيام في المناوشة، واشتد الالتحام في السابع وحمي الصدام، فاخترق شارل صفوف العرب بصولة لا تقاوم، ثم أخذ يرسل يمينا وشمالا ضرباته القوية التي سمي من أجلها: بشارل مارتل، أو إن شئت «شارل المرزبة أو المطرقة»، وسرت روحه في جنوده فانقضوا على المسلمين بقوة ساحقة، فتمزق جيشهم ولاذوا بالفرار، ودعي بين الحزن والذعر مكان هذه الموقعة ببلاط الشهداء حينا من الدهر طويلا.
زال الخطر عن غرب أوربا لأن كارثة العرب كانت فادحة حتى إنهم لم يفكروا طوال القرون التي حكموا فيها في الجنوب أن يغزوا فرنسا، نعم إنهم احتفظوا بأربونة والجهات المشارفة للسفوح الشمالية لجبال البرت (البرانس) حتى سنة 797م/181ه، ثم خاطروا بإرسال غزوات على بروفانس، ولكن طموحهم لم يصل بهم إلى أبعد من هذا، فإن موقعة «تور» حققت استقلال فرنسا، ووقفت سدا أمام الفتوح العربية.
لقد غمرت حشود العرب الأرض كما يغمرها مد البحر، وكانت جيوشهم تملأ كل مكان، ولكنهم الآن بعد هزيمتهم الساحقة أصبحوا يسمعون صوتا غريبا يرن في آذانهم صائحا: «هنا ستقفون، وهنا ستستقر أمواجكم المزهوة المغرورة».
وكان ملوك فرنسا مع كل هذا يثقون بشجاعة جيرانهم العرب ويخشون بأسهم، حتى إنهم - وإن فرحوا أحيانا بانتصارهم عليهم في وقائع صغيرة - لم يحاولوا إخضاع إسبانيا إلا مرة واحدة، ذلك حينما فقد قارله (شارلمان) - الذي شبهوه بالإسكندر - راحته وأحس بقلقه لشدة مناعة العرب في الجانب الآخر من جبال البرت، وظن أن من واجب المسيحي أن يستأصل شأفة الملحدين، ورأى أنه - وهو الملك العظيم المظفر - لا يجمل به أن يحتمل إلى جانبه دولة مستقلة بالأندلس، وقد سنحت له الفرصة في النهاية حينما ثار بإسبانيا بعض القبائل لتولية أول أمير أموي، وقد دأبت القبائل طيلة أيام العرب بالأندلس على السخط والهياج، فدعي شارلمان للتدخل في الأمر وطرد الأمير الغاصب.
ويزعم مؤرخو الإسبان أن ألفونسو ملك أشتورش (أستورياس) هو الذي استنجد بملك فرنسا، ولكن الأرجح أن الدعوة جاءت من بعض زعماء المسلمين الذين خابت آمالهم وانعكست مطامعهم في عبد الرحمن الداخل الأموي،
5
حتى أصبحوا يؤثرون الخضوع لعدو الإسلام اللدود على قبول هذا الأمير الجديد.
وكان ما طلبوه من شارلمان محبوبا إلى نفسه، ملائما للفرصة التي كان يتوقعها، وكان الدهر في هذا الحين مبتسما لشارلمان؛ لأنه أتم إخضاع السكسون ونفى زعيمهم «وتكند» وأقبلت الألوف من أصحابه إلى بادربون للدخول في المسيحية زمرا، وأصبحت يد الفاتح حرة طليقة تتجه أنى شاءت للغلب والانتصار.
فتم الاتفاق بين المتآمرين على أن يغزو شارلمان إسبانيا، بينما يعمل الزعماء الساخطون على توجيه الجيش العربي إلى ثلاث جهات متباعدة، وكان من حسن طالع أمير قرطبة أن هذا الاتفاق الخطر لم يتم منه شيء، فإن حلفاء شارلمان أخطئوا في حسبان الزمن، ثم تنازعوا وصاحت صائحة الحرب بينهم، فلما اخترق شارلمان البرت سنة 777م/161ه لم يجد ناصرا ولا معينا، فأخذ يحاصر سرقسطة، وبينما هو عند أسوارها إذ وصلت إليه الأخبار بأن «وتكند» عاد وأثار السكسون وتقدم بهم حتى وصل إلى كولون، فلم يجد شارلمان بدا من أن يعود أدراجه لحماية مملكته، فاقتحم بجيشه شعاب الجبال، وفي شعب رونسسفال
6
نزلت بمؤخرته كارثة فادحة قضت عليها، فإن البشكنش - وقد أحرقت صدورهم العداوة القديمة الدائمة للإفرنج - وضعوا لهم كمينا في أغوار صخور البرت، وانتظروا حتى إذا مرت مقدمة الجيش من الشعب انقضوا على المؤخرة وكانت بطيئة السير محملة بالأثقال، فاستأصلوا رجالها حتى لم يكد يفر منهم أحد من يد الموت.
ويقص علينا المؤرخون المسيحيون ما تقشعر له الأبدان من مذابح هذا اليوم، وذكروا أن المسلمين وفرسان ليون تعاونوا على تحطيم جيش الإفرنج، وتصور لنا أنشودة إسبانية كيف أن البطل برناردو كان يقود فرسان ليون في مذبحة جيش الإفرنج فتقول:
مشى برنارد في جيش خضم
يسوق إلى الفرنج به أسودا
ليحمي أرض إسبانيا ويعلي
شعار «بلاي» والشرف التليدا
وإنا سادة الأحرار لكن
رضينا أن نكون له عبيدا
نتابع ريش خوذته ونمضي
قريبا كان يقصد أو بعيدا
وعاهدناه أن نفنى جميعا
وإنا خير من حفظ العهودا
أنلقي بالبنين لمستبد
يطيح بهم ويرهقهم صعودا
وبين ضلوعنا قلب جريء
يمد إلى العدا زندا شديدا؟!
أيطمع شارل أن يبقى مليكا
لعرش ليون جبارا عنيدا؟!
لقد كذبت أمانيه فإنا
سنحصد جمعه حتى يبيدا
ويبقى شعب ألفونسو شريفا
ويبقى ملك ألفونسو مجيدا
حارب العرب كتفا إلى كتف لاستئصال الإفرنج مع أبطال ليون الذين أبوا أن ينضموا إلى أمير أستورياس في خضوعه لشارلمان، ويحدثنا أبسيدو تربن في تاريخه القصصي لشارلمان وأرلاندو «بهجوم ثلاثين ألفا من العرب على جيش المسيحيين، وقد امتلئوا غضبا وحقدا، وكان المسيحيون مجهدين يترنحون للسقوط لطول ما قاتلوا من قبل، فحصد المسلمون رجالهم، ولم يبقوا منهم على أحد، فمنهم من نفذت الرماح من أحشائه، ومنهم من هشمته القضبان، ومنهم من طاح رأسه بالسيف، ومنهم من سلخ حيا، ومنهم من شنق فتدلى من الأشجار».
كانت المذبحة مفجعة، ولم تمح ذكرى هذا اليوم من أخيلة سكان هذه الجهة على طول الدهر حتى إن الجيش الإنجليزي حينما تعقب قواد نابليون في شعب رونسسفال سمع الناس يتغنون بالأنشودة القديمة التي قيلت في هذه المعركة الطاحنة، وأخذ شعراء إسبانيا الجوالون يضيفون إليها كثيرا من الحوادث إن صدقا وإن كذبا، ومن أشهر الأناشيد أنشودة أمير البحر جارينو التي سمعها الدون كيشوت، وشانكو بانزا تغنى بتوبوسو، وهي:
يا فرنسا قد كان يومك حقا
عند رونسسفال يوما عصيبا
كان برنارد فيه سيفا فولى
وسنانا لشارلمان صليبا
وجرينو قد كبلته قيود
فهو يدعو فلا يلاقي مجيبا
حوله سبعة من العرب أبطا
ل يرى بينهم أسيرا غريبا
وهكذا تمضي الأنشودة فتقص علينا قصة أسر جارينو، ثم انتقامه بذبح آسره في المبارزة، ثم فراره إلى فرنسا.
وكان ممن ذبحوا في هذا اليوم الأيوم رولند الشجاع، وهو من قواد شارلمان الاثني عشر وقائد حدود بريتاني، وقد صوره خيال الشعراء بطلا في قصة شارلمان، ونسب إليه من أعمال الفروسية والشجاعة ما يتردد العقل في قبوله.
فقد قيل إنه حارب طول اليوم وقذف بنفسه في أشد مواقع المعركة التحاما ضاربا بسيفه «ديورندا» إلى اليمين وإلى الشمال، ولكن شجاعته لم تغن عنه شيئا ولم تكسبه المعركة، فارتمى إلى الأرض جريحا محاطا برجاله وأخذ يجود بنفسه، ويقولون إنه قبل أن يسلم الروح استل سيفه الأمين من قرابه وكان به ضنينا، يؤثر أن يفقد الذراع التي جردته على أن يفقده وشرع يقول:
أيها الحسام الذي لم يماثله سيف في بريقه وصفاء مائه وعظمته ولينه، ثم في قبضته العاجية البيضاء المزينة بصليب ذهبي فاخر، فوقه تفاحة زبرجدية، حفر بها اسم الله الأقدس، لقد منحت مضاء، واستأثرت بمزايا ليست في سواك، من ذا الذي سيشهرك في المعارك بعدي؟! ومن هذا الذي سيكون لك صاحبا؟ فإن مالكك لا يغلب ولا ترهبه الأعداء ولا تخيفه الأوهام، فإذا صحبك وصحبته معونة الله حطم المسلمين، وأعلى كلمة المسيح، وبلغ قمة المجد.
يا أيها السيف السعيد، يا أمضى المواضي، لقد عز لك النديد والنظير، فإن القين الذي طبعك لم يطبع لك أخا، وإذا ضربت لم يستطع الفرار من ضربتك أحد.
ثم ضرب به صخرة قسمته نصفين مخافة أن يسقط في يد جبان أو مسلم، ثم نفخ بجمع قوته في بوقه الذي كان صوته يحطم الأبواق، حتى انفجرت أوداجه.
وأرسل بوقه المحزون صوتا
فردد فونترابيان صداه
ووصل الصوت إلى أذن شارلمان وهو في معسكره على ثمانية أميال غير عالم بالمصيبة التي حلت بمؤخرة جيشه، وكاد الملك يهم بنجدة صاحب البوق المستصرخ، لولا أن أحد الخونة أخبره بأن رولند ينفخ في بوقه للصيد، وهكذا لم يسعف شارلمان قائده الأمين الذي فاظ بعد أن رتل صلاته وأدى اعترافه، ثم أسرع بولدوين إلى شارلمان - وكان من نبلاء فرنسا - وأخبره بما حاق بمؤخرة الجيش وبموت رولند وأوليفر، عندئذ حول الملك عنان فرسه وعاد بجيشه إلى رونسسفال، فرأى الجثث مبعثرة في الميدان، ورأى جثة البطل ممددة على هيئة الصليب وبوقه وسيفه المحطم إلى جانبه، فوقف يندبه في حزن وأسى، وهو يردد الزفرات، ويعول إعوال الثكالى، ويضرب كفا بكف، وينتف لحيته، ويقول:
يا يدي اليمنى، يا فخر الإفرنج، ويا سيف العدل، ويا رمحا لا يلين ودرعا لا تحطم، يا ترس الطمأنينة والسلام، يا حامي المسيحية وسوط عذاب الإسلام، يا حائط القساوسة، وصديق الأرامل واليتامى، يا أمين الرأي، ويا صادق الحكم، ويا أشرف قومك، ويا أشجع قائد لجيش، لم تركتك هنا لتموت؟ كيف أراك ميتا ولا أموت بعدك؟! لماذا تركتني حزينا وحيدا، وخلفتني ملكا بائسا مسكينا؟ ولكنك رفعت إلى السماء، وأصبحت تسعد بصحبة الملائكة والشهداء.
وهكذا ظل شارلمان يبكي رولند ويندبه طيلة حياته، ثم أقام الجنود في البقعة التي مات بها، وضمخوا جسده بالبلسم والطيب، وسهر الجيش على حراسته يرتل الأدعية ويتلو الأناشيد ويوقد النيران على قمم الجبال حوله، ثم حمله الجنود معهم واحتفلوا لدفنه كما يحتفل للملوك، وهكذا انتهى هذا اليوم الأسود ...
حيث رونسسفال كانت
للفرنج الحمس لحدا
أليفر لاقى بها الحت
ف ورولند تردى
ولم يشد التاريخ بعمل قليل الشأن كما أشاد بهذه الحركة، حتى لقد جعلها منبعا لأساطير البطولة وأناشيد الشعراء، فهي ثرموبيلى
7
جبال البرت (البرانس) في التغني بها وطول الحديث عنها، وإن لم يكن لها ذلك المجد ولا هذا المغزى.
هوامش
الأندلسيون
وضع انتصار شارل مارتل سنة 733م/511ه سدا أمام غزو المسلمين لأوربا، فلم يعودوا يفكرون في دفع فتوحهم إلى الأمام، واتجهوا إلى توحيد المملكة التي افتتحوها وجمع أطرافها، وبعد أن وقعت الواقعة بجيش شارلمان عاشوا في بلادهم آمنين لا ينازعهم منازع مدة ثلاثمائة سنة، نعم إن أبناء القوط المنهزمين تمسكوا باستقلالهم في المقاطعات الجبلية الشمالية، وأخذوا من آن لآن يستردون أجزاء من مملكتهم القديمة، ولكن هذه الغارات - وإن ضاقت بها صدور العرب - لم تكن إلى الآن خطرا عليهم؛ لأنهم كانوا يقطنون القسم الأعظم من إسبانيا في رخاء وبلهنية، ولم يتحقق خطر المقاطعات إلا في القرن الحادي عشر.
وقبل الفاتحون أول الأمر الاعتراف باستقلال هذه المقاطعات، وعدوا ذلك شرا لا بد منه؛ لأن انتزاعها من أيدي الإسبان كان يكلفهم دماء أغلى ما تستحق، فتركوا للمسيحيين جليقية (غاليسية)، وليون، وقشتالة، ومقاطعات غسقونية، وقنعوا بأحسن قسم في إسبانيا، وأرغموا المسيحيين على التمتع بمفاوز الشمال الموحشة الباردة، وصخوره القاسية الجافية على ألا يطمحوا أو يمدوا أعينهم إلى ما ينعم به العرب من الولايات الجنوبية والشرقية الدفيئة الخصيبة.
ومنذ نهاية القرن الثامن - حينما وقفت حدود مملكة العرب عند غاية، إلى أن زحف المسيحيون على ممالك الإسلام في القرن الحادي عشر - كان الحد بين المسلمين والمسيحيين على التقريب عند امتداد شارات وادي الرمل
1
التي تمتد في اتجاه شمالي شرقي من قلمرية في البرتقال إلى سرقسطة، ويمكن أن يعد نهر إبره حدا تقريبيا، فكان المسلمون ينعمون بالسهول الخصيبة لأنهار تاجه، ووادي يانه، والوادي الكبير، وهو الاسم الذي سمى به العرب هذا النهر لعظمه، وكانوا يملكون إلى جانب مدن الأندلس الشهيرة مزايا الثروة، ورواج التجارة، واعتدال الجو إلى غير ذلك مما اشتهر به هذا القسم من عهود الرومان.
وهذا التقسيم طبيعي، فقد تميز القسمان تميزا جغرافيا منذ القدم لاختلاف أجوائهما، فالشمال موحش معرض للرياح الهوج والأمطار الهاطلة والبرد الشديد، وهو على جودة بعض المروج والمراعي به لا يصلح كثير من أراضيه للزراعة، أما الجنوب وإن كان مهددا بالرياح الحارة التي تهب من إفريقية، فمزدهر كثير المياه صالح للزراعة، وبين القسمين مساحة واسعة كان المسلمون ينتفعون بها على الرغم من أن ملكيتها كانت موضع شك وجدال، وأبغض العرب - وهم عشاق الشمس المتألقة - هذه المساحة الباردة، فتركوها لقبائل البربر أصحاب طارق، وكان هؤلاء دائما موضع زراية العرب الخلص الذين جنوا ثمرات الفتوح.
ملك المسلمون ثلثي شبه الجزيرة وسموها بالأندلس، وأنشأوا بها مملكة قرطبة العظيمة التي كانت أعجوبة العصور الوسطى، والتي حملت وحدها في الغرب شعلة الثقافة والمدنية مؤتلقة وهاجة وقت أن كانت أوربا غارقة في الجهالة البربرية، فريسة للشقاق والحروب.
ويجب ألا يجول ببال أحد أن العرب عاثوا في البلاد أو خربوها بصنوف الإرهاق والظلم كما فعل قطعان المتوحشين قبلهم، فإن الأندلس لم تحكم في عهد من عهودها بسماحة، وعدل، وحكمة كما حكمت في عهد العرب الفاتحين.
وقد يسأل المرء نفسه دهشا: من أين جاء لهؤلاء العرب كل هذه المواهب السامية في الإدارة والحكم؟ فقد جاءوا مباشرة من صحرائهم العربية ولم تترك لهم فتوحهم المتوالية من الزمن إلا قليلا لدراسة فنون سياسة الأمم المغلوبة، نعم، إن بعض رجال دولتهم كانوا من اليونان والإسبان، ولكن هذا لا يبطل العجب؛ لأن هؤلاء لو تركوا وحدهم أو عملوا في ميدان آخر بعيد عن العرب لعجزوا عن أن يكون لهم أمثال هذه النتائج الباهرة، وكل ما هيئ للعقول الإسبانية من القدرة الإدارية لم يكف لجعل الحياة أيام دولة القوط محتملة هنيئة، ولكن الأمة الإسبانية على النقيض من ذلك كانت في ظلال حكم العرب راضية هانئة كما يمكن أن يرضى ويهنأ شعب مغلوب يحكمه غاصب، بل إنها كانت أسعد حالا وأرخى بالا مما كانت عليه حين كان حكامها القوط يدينون بدينها الذي تراءوا باسمه دون حقيقته، فإن اختلاف الدين كان في الحق أقل المصاعب التي لاقاها العرب في أول حكمهم، وإن أصبح بعد ذلك مثار عنت واضطراب؛ لأن ميول الإسبانيين للمسيحية كانت لا تقل عن ميولهم للوثنية، فقد فرض عليهم قسطنطين المسيحية فرضا، فبقي الناس متشبثين برومانيتهم، ولم يترك الدين في نفوسهم إلا أثرا ضئيلا، وهم في الواقع لم يكونوا في حاجة إلى دين جديد، بل كانوا في أشد الحاجة إلى القدرة على أن يعيشوا حياتهم في أمن ورغد، وقد منحهم ساداتهم المسلمون هذين.
وفي بداءة الفتح، مر بالأندلس وقت قصير مضطرب، شوهته حوادث الإحراق والقتل والمصادرة، غير أن حكام العرب أسرعوا إلى وقف كل ذلك، ورأت الرعية بعد أن استقرت الأمور في نصابها أن حياتها على كل حال لم تكن أسوأ مما كانت عليه من قبل، ثم أخذ الناس بعد قليل يشعرون بأنهم أفادوا من تغير الحكم، فقد كان للإسبانيين أن يحتفظوا بشرائعهم وقضاتهم، وعين لهم حكام من أنفسهم يديرون المقاطعات ويجمعون الضرائب ويفصلون فيما شجر بينهم من خلاف، وأصبح سكان المدن لا يكلفون إلا الجزية والخراج - إن كانت لهم أرض تزرع - بعد أن كانوا في عهد القوط يحملون وحدهم عبء الضرائب والأموال التي تنفق على الدولة، وكانت الجزية متدرجة على حسب منزلة المطالبين بها، فكانت تبتدئ من اثني عشر درهما إلى ثمانية وأربعين في العام، أو من نحو ثلاثة جنيهات إلى اثني عشر، وقد قسمت اثني عشر قسطا، يجبى قسط في كل شهر للتخفيف عن الرعية، وقصرت الجزية على المخالفين في الدين من النصارى واليهود، أما ضريبة الأراضي التي كانت تتفاوت على حسب قدرة إنتاج الأرض، فإنها فرضت بعدل ومساواة على النصارى واليهود والمسلمين جميعا، ولم تمتد يد المسلمين في الغالب إلى أملاك المدن والأهلين التي كانت لهم قبل الفتح، نعم، إن أملاك الكنائس صودرت، وكذلك الأملاك التي فر أصحابها إلى جبال الشمال، ولكن العرب تركوا عبيد هذه الأراضي يعملون بها على أن يؤدوا إلى ساداتهم المسلمين نسبة من الحاصل تتفاوت بين الثلث وأربعة الأخماس، وعومل بعض المدن كماردة وأريولة معاملة خاصة، وفازت من الفاتحين بخير الشروط، فاحتفظ السكان فيها ببضائعهم وأراضيهم على أن تؤدى إلى الحاكم إتاوة في كل عام، ولم يكن المسيحيون على أسوأ الفروض ملزمين دفع ضرائب أكثر مما كان يدفع جيرانهم المسلمون، على أنهم قد ظفروا بحق لم يكن لهم أيام ملوك القوط، فأصبحوا في عهد الإسلام قادرين على نقل ملكية أراضيهم لغيرهم، أما التسامح الديني فلم يدع للإسبانيين سببا للشكوى، فقد تركهم العرب يعبدون كما يشاءون من غير أن يضطهدوهم أو يلزموهم اعتناق عقيدة خاصة كما كان يفعل القوط باليهود، وكانت الجزية كبيرة الفائدة لخزانة الدولة، حتى إن بعض أمراء قرطبة كانوا يميلون لتثبيط عزائم المتحمسين من المسلمين الذين أخذوا يدعون إلى الإسلام؛ لأن هذه الدعوة كانت تحرم الدول منبعا غزيرا من موارد جبايتها.
وكان من أثر هذه المعاملة وذلك التسامح أن رضي المسيحيون بالنظام الجديد، واعترفوا في صراحة أنهم يؤثرون حكم العرب على حكم الإفرنج أو القوط، حتى إن القساوسة أنفسهم لم يكونوا شديدي التألم لحكم العرب كما يدل على ذلك التاريخ المنسوب إلى (إيزيدور) الباجي
2
الذي كتب بقرطبة سنة 754م/137ه فإن هذا الراهب الصالح لم يتحرج من تدوين تلك الصلة غير الجائزة من زواج أرملة لذريق بابن موسى ابن نصير،
3
وأسطع الأدلة على رضا المسيحيين عن حكامهم الجدد أن ثورة دينية واحدة لم تحدث في خلال القرن الثامن.
أما فرح العبيد بما طرأ على نظام الحكم من التغير فقد كان عظيما حقا بعد أن لاقوا من ضروب العسف والقسوة من القوط والرومان ما تقشعر له الأبدان، فإن الرق في رأي المسلمين الأخيار نظام إنساني رفيق، حتى إن النبي
صلى الله عليه وسلم
حينما لم يجد بدا من الإبقاء على هذا النظام العتيق الذي يعارض مبادئ الإسلام بذل كل جهد في تخفيف ويلاته في كثير من الوصايا والأحاديث، فهو يقول في الأرقاء: «إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإذا كلفتوهم فأعينوهم.» وعن أبي مسعود الأنصاري قال : «كنت أضرب غلاما لي فسمعت من خلفي صوتا يقول: اعلم أبا مسعود: لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار.»
ولم يكن بين القرب التي يتقرب بها المسلمون إلى الله أجل من إعتاق العبيد، وكثيرا ما حض النبي على تحريرهم، وقد جعل الإسلام إعتاقهم كفارة لبعض ما يجترح من الذنوب.
سعد العبيد بدخول العرب، وأصبحوا في رق المسلمين بمنزلة صغار الزراع، فتركهم سادتهم أحرارا يزرعون الأرض كما يشاءون على أن يؤدوا إليهم نصيبا من الغلة؛ لأنهم كانوا مشتغلين بالحروب، ولأنهم كانوا بطبيعتهم يأنفون من أعمال الفلاحة، أما عبيد المسيحيين الذين ظلوا يائسين من التخلص من الرق طول حياتهم، فقد مهد أمامهم اليوم طريق إلى الحرية من أسهل الطرق وأهونها، فليس عليهم إلا أن يذهبوا إلى أقرب محتسب أو قاض وينطقوا أمامه بالشهادتين، فيصبحوا في التو أحرارا فإن الحرية تتبع الإسلام، فليس عجيبا إذا أن نجد العبيد الإسبانيين مسرعين إلى إعلان دينهم الجديد ليتخلصوا من ربقة العبودية، ولم يبذل القساوسة في الماضي إلا جهدا ضئيلا لغرس المسيحية في قلوب هؤلاء الأرقاء، فقد كان لديهم من العمل والإشراف على ضيعاتهم ثم من العناية الدينية بالنبلاء ما صرفهم عن الاهتمام بهؤلاء الجهلاء، ثم إن الانتقال من مزيج الوثنية والمسيحية إلى إدراك ضعيف للإسلام لم يكن صدمة شديدة للعقل المقلد.
ولم يكن العبيد وحدهم هم الذين تسابقوا إلى الدين الجديد؛ فقد أسلم كثير من كبار الملاك والسراة؛ إما للفرار من الجزية، وإما للمحافظة على ضياعهم، وإما لأن نفوسهم مالت مخلصة إلى الإسلام وأحبت ما في التوحيد من جلال ويسر، وكان هؤلاء الداخلون في الإسلام أو المتسلمون
4
سببا لإثارة القلاقل في الدولة كما سيتلى عليك بعد، فإن إسلامهم وإن تضمن مساواتهم بالمسلمين لم يصل بهم إلى التمتع بحقوق المسلمين وميزاتهم كاملة؛ فقد حيل بينهم وبين مناصب الدولة، ونظر إليهم نظرة اشتباه وحذر كما ينظر إلى من يبيع نفسه رخيصة يريد عرض الحياة الدنيا. وقد زالت هذه الفروق في النهاية، ولكن بعد أن أحدثت نزاعا خطيرا وثورات متعاقبة.
كان فتح العرب للأندلس في جملته نعمة ورخاء على الأندلسيين المحكومين؛ لأنه أبطل ما كان يملكه كبار النبلاء ورجال الكنيسة من الضياع الواسعة، وحولها ملكيات صغيرة، ثم رفع عبء الضرائب عن الطبقة الوسطى، واقتصر منها على الجزية على غير المسلمين، والخراج على المسلمين وسواهم، ثم حث على تحرير العبيد والرفق بهم، وإصلاح أحوالهم فأصبحوا زراعا مستقلين في خدمة ساداتهم المسلمين.
وكان الفتح على النقيض من ذلك شرا وبلاء على الحاكمين، فليس هناك أبعد شططا من أن تتخيل أن العرب الذين انتشروا بهذه السرعة فوق نصف العالم المتمدين كانوا متحدين على أي معنى مقبول من معاني الاتحاد، فإن ذلك لم يكن صحيحا، وقد بذل محمد جهده، وكد بكل ما أوتي من حكمة وحزم وشخصية مهيبة عجيبة ليحافظ جهد المستطيع على صورة للوحدة العربية؛ لأن العرب كانوا شعوبا وقبائل، وكان بين هذه القبائل حروب وترات دامية استمرت طويلا، وكان للنعرة القبلية التي لم تنطفئ شعلتها بعد الإسلام أكبر سلطان على نفوسهم، ولو بقيت دولة الإسلام في حدود بلاد العرب ولم تتجاوزها، ما بقي شك في سرعة انتقاضها وزوالها؛ لكثرة ما كان يقع بين القبائل من التنافس والتحاسد، وقد تبع وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
خروج عام من القبائل.
والحق أن الإسلام لم تثبت أركانه ولم يصبح دين الدنيا إلا حينما سلح نفسه وأصبح دينا محاربا، فنجا من الانتكاس بتوالي انتصاراته؛ لأن العرب إذ ذاك ألقوا إلى حين تحاسدهم المدمر القاتل جانبا ليتعاونوا في اقتناص الغنائم، على أنه من المحقق أن تحمسهم للفتوح كان يؤججه عنصر قوي من التعصب للدين والرغبة في نشره؛ فقد حاربوا لأنهم يقاتلون أعداء الله ورسوله، وحاربوا لأن مثوبة الشهداء وكئوس السعادة والنعيم كانت تنتظر من يقتلون في سبيل الله، غير أننا لا نستطيع أن ننكر أن ثروة القياصرة والأكاسرة، والأراضي الخصبة، والمدن العامرة في الممالك المجاورة - كانت عاملا كبيرا في تحمس المسلمين لنشر الإسلام.
وحينما استقر لهم الملك وهدأت موجة الفتوح، عادت إليهم الشحناء، وتحركت فيهم عقارب الحسد والغيرة والتفريق التي كانت استلتها جلبة الحروب وغنائم الفاتحين، فانطلقت بعد احتباسها منذرة بالشر والدمار، فإن روح العنصرية القبلية انتشر في كل جزء من أجزاء المملكة التي أخضعوها، وتأثر به الخلفاء بدمشق، فكان تعيين الأمراء في الولايات يتبع هذه النزعة القبلية، وكان اختلاف القبائل وتعصبها بالأندلس داعية لكثير من الفوضى واضطراب الأمن والنظام في أثناء الخمسين سنة الأولى من حكم العرب حينما كان حاكم إفريقية أو الخليفة نفسه يعين أمير الأندلس، فكان هؤلاء الأمراء يبقون في مناصبهم، أو يعزلون، أو يقتلون تبعا لميول بعض العشائر والقبائل الذين كانوا يعارضون مرة أن يكون الأمير مدنيا، ومرة في أن يكون قيسيا، وثالثة في أن يكون يمنيا، واستمرت هذه النعرة تقذف سمومها طول مدة حكم العرب بالأندلس.
يضاف إلى ذلك، أن الأندلس كان بها إلى جانب العشائر العربية المختلفة حزب آخر عظيم الخطر يجب أن يحسب له حساب، فإن طارقا لم يتم له فتح الجزيرة إلا بجيش جمهرته من البربر؛ لذلك أصبح هؤلاء عنصرا عظيم الشأن في الحياة الجديدة، ولم تكن أمة البربر ضعيفة خائرة كالإسبان الذين اصطبغوا بصبغة الرومان، ولكنهم كانوا ممتلئين حياة وعزما وإقداما، وحينما غزا العرب بلادهم، قاومهم عديد من قبائلهم الباسلة في معاقلهم الجبلية وفي السهول الممتدة من مصر إلى المحيط الأطلنطي مقاومة عنيدة كانت أشد عنفا من مقاومة الفرس وجنود رومة المدربين، وكانوا يشبهون العرب في كثير من الوجوه، فكان لهم قبائل كما كان لهؤلاء، وكانت ميولهم السياسية ديمقراطية كالعرب، غير أنهم كانوا يجلون الأسر الشريفة إجلالا ذهب بخطر الديمقراطية بين قوم جاهلين، وكانت صفاتهم الحربية عربية في أكثر مظاهرها، واستمر القتال بين هذين الفريقين من الرعاة المنتجعين سبعين سنة، حتى إذا تغلب عليهم العرب في النهاية كان هذا الفوز عن رضا من البربر أكثر من أن يكون هزيمة محققة، فسمح البربر للأمير العربي أن يجعل دار حكمه قريبة من الساحل، ولكنهم حتموا إبقاء حكومتهم القبلية للفصل في شئونهم كما كانت، وطلبوا أن يكونوا إخوانا لا خولا ولا عبيدا للفاتحين.
واستمر هذا النظام الأجوف قائما مدة من الزمن، وتسابق البربر إلى الإسلام، وتحمسوا له حماسة تفوق تحمس العرب أنفسهم، وبعد قليل أصبحت بلادهم عشا للمذاهب الدينية المبتدعة التي بدلت بالأصول الإسلامية الفطرية عناصر وهمية مثيرة للعواطف، يدسها أصحاب العقول البعيدة الخيال في كل دين، ووجد المبتدعون - بعد أن طردوا من حظيرة الدين الحق - في عقول السذج من البربر أرضا خصبة لإنماء مذاهبهم، وقديما عرف البربر بسرعة قبولهم لما يلقى عليهم من المذاهب الدينية، وبشدة تأثرهم بها وتحمسهم لها، ذلك التأثر الذي ذهب بهم أفواجا إلى اعتناق الإسلام، والذي مكن طارقا واثني عشر ألفا منهم من فتح الأندلس.
وقد استغل هذه السذاجة في حركته السياسية الدينية زعيم المرابطين الذي قدم إلى المغرب ليبث في نفوس القوم نفوذا أقوى من نفوذ رؤساء قبائلهم، ويخضعهم بسطوة فوق سطوة حاكمهم، ولم يكن يحتاج هذا الزعيم إلى أكثر من كرامات زائفة ليسوق قطيعا من المصدقين الدهشين إلى حظيرته.
وتحقق أحد حكام العرب من رواج هذا الدجل بين قبائل البربر حين رآهم يخضعون لامرأة تدعي الولاية وتؤيد دعواها بألاعيب من الشعوذة، فأخذ يدرب نفسه على مثل هذه الألاعيب حتى برع في أساليب الحواة، فنال من طاعة القوم واستسلامهم فوق ما كان يبتغي، ومثل هؤلاء يتبعون كل صائح، ويستمعون لكل داع، ويسرعون خفافا إلى الثورات العنيفة التي يشعلها زعيمهم بكلمة واحدة، وكان البربر سببا لكل التطورات التي حدثت في شمال إفريقية، فإنهم أقاموا دولة الفاطميين، ثم لحقوا بجيوش المرابطين فسارت منتصرة الأعلام حتى ملكت بلاد البربر وإسبانيا، ثم أسقطوا المرابطين وأحلوا محلهم الموحدين.
وشرع البربر في الأندلس - منذ حكم العرب - يناصبون الحكام العداء، وحدث أن أحد هؤلاء بالغ في إرضاء ميوله بالتمتع والإغراق في النعيم، مرهقا في سبيل ذلك رعيته، فأغضب ذلك العلماء والفقهاء فأثاروا البربر عليه، فما كانت إلا لحظة حتى هب للسلاح جميع سكان نصف الساحل الغربي لبحر الروم، وحتى دهي العرب بالأندلس بهزيمة نكراء، وأقبل من الشام ثلاثون ألفا من الجنود لاستعادة الولايات التي احتلها البربر، فحيل بين معظم هؤلاء ومن انضم إليهم من العرب بإفريقية والذهاب إلى الأندلس، وأعمل فيهم البربر السيف ذبحا وتقتيلا، وفرت فلولهم إلى سبتة بأرواحهم، فكان يهددهم في كل لحظة عدوان من الجوع والقتل.
وتأثر بربر الأندلس بوثيق اتصالهم بإخوانهم في الساحل الإفريقي بهذه الثورة التي قامت بإفريقية سنة 741م/124ه وكان يتغلغل في نفوسهم حسد قديم للعرب؛ لأنهم نالوا نصيب الأسد من غنائم إسبانيا التي لم تدن قطوفها إلا بقسي البربر ورماحهم، ورأوا أن العرب الذين لم يدخلوا البلاد إلا وقت اجتناء ثمرات الفتح اختصوا أنفسهم بكل الولايات الخصبة الباسمة من شبه الجزيرة، وتركوا لهم أبغض الأجزاء إلى النفس من سهول إسترامادور العفر، وجبال ليون الثلجية، فأقاموا بها مرغمين في جو قارس لا يحتمله من عاش في حر إفريقية، ثم إنهم رأوا أنفسهم في وضع يجعلهم دائما حامية دفاع بين حلفائهم العرب ونصارى الشمال.
تأثر البربر بكل هذا، وقام مونوسا البربري - أحد قواد طارق الذي تزوج بنت يوديس دوق أقيتانية - فأشعل نار الثورة لما أصاب إخوانه بإفريقية من الظلم، وبعد أن فاز بربر إفريقية بمطالبهم هبت ثورة عامة في الولايات الشمالية بإسبانيا، وحمل السلاح بربر غاليسية، وماردة، وقورية، وتقدموا للهجوم على طليطلة، وقرطبة، والجزيرة الخضراء، وصمموا على أن يبحروا منها إلى إفريقية للاتصال بأبناء وطنهم.
وكان الموقف شديد الخطر عصيبا، وجد فيه عبد الملك بن قطن الفهري
5
أمير الأندلس نفسه أمام مشكلة تكاد تستعصي على الحل؛ لأنه كان قد أبى أن يمد يد المساعدة لجنود الشام بسبتة، فأصبح الآن أمام أمرين أحلاهما مر وخيرهما شر: إما أن يخضع للبربر العصاة، وإما أن يستجدي معونة جنود الشام الذين رفض معاونتهم، والذين قد يكونون إذا أذن لهم بنزول الأندلس أشد بلاء وشرا من هؤلاء الذين جاءوا لطردهم، ولكنه صمم آخر على إرسال سفن لنقل جنود الشام بعد أن أخذ عليهم عهدا أن يعودوا من حيث أتوا بعد التغلب على البربر، وبعد أن قوي جيش العرب بهذا المدد، كر على البربر فاستأصل شأفتهم، ثم تعقبهم في كل مكان وبين معاقلهم الجبلية، كما يتعقب الصائد الوحوش الضارية، حتى شفى نفسه بنيل الثأر منهم.
غير أن الخطر الذي أراد عبد الملك أن يتوقاه ظهر وأبدى ناجذيه؛ فقد أبى جنود الشام أن يستبدلوا بالمروج الخضر والحدائق الفيح بالأندلس، صحراء إفريقية القاحلة؛ حيث تنوشهم رماح البربر المتغلبين، فتحدوا عبد الملك وقتلوه، واختاروا للأندلس أميرا منهم،
6
وكان من نتائج ذلك أن شب بين العرب القدماء والجنود الداخلين صراع عنيف طويل المدى، كثرت فيه المذابح، وعم الدمار، ولم ينته هذا الصراع إلا بعد أن أرسل الخليفة بدمشق أميرا
7
قديرا فرق بين القبائل المتطاحنة بإعطاء كل من الفريقين مدنا تبعد عن مدن الآخر، ثم بنفي أكثر زعماء الفريقين عنادا وشغبا، فنزل المصريون الذين كانوا بجند الشام مرسية وسموها مصر، ونزل الفلسطينيون شذونة، وحل أهل الأردن بمالقة، وأقام الدمشقيون بغرناطة، واستقر أهل قنسرين بجيان، وبهذا الوضع زال سبب من أسباب النزاع الحزبي بالأندلس، ولكن الروح القبلية لم تضعف سيطرتها بعد، وبقيت الثورات تتغلب على الحكومات وتستبد بها، واستمرت الحال على هذا حتى نزل الأندلس حاكم من طابع جديد، سلاحه الجلال والمهابة، يحمل بين جنبيه عزة الخلفاء الأمويين، وتجري في عروقه دماؤهم، قدم إلى الأندلس ليحمل صولجان الحكم في مملكة مضطربة منحلة الأواصر، وليجمع في حقبة من الزمن كل القبائل والعشائر تحت لواء أمير قرطبة ... هذا الشاب هو الأمير الجديد الذي جاء شارلمان لقتاله فآب بالخيبة، هذا الشاب هو عبد الرحمن الأموي!!
هوامش
الشاب الداخل
استمر الخلفاء يحكمون القسم الأعظم من المملكة الإسلامية ستة قرون، وكان هذا الحكم في أول الأمر قويا واسع السلطة، فكان الخليفة يعين أمراء الولايات ويعزلهم إن شاء ومتى شاء من إسبانيا إلى حدود الهند.
ولكن المملكة وقد امتدت رقعتها كانت أوسع من أن تجتمع أمدا طويلا حول محور واحد؛ لذلك أخذ عدد من الأمراء في الفينة بعد الفينة، يعمل مستقلا مع إظهار الولاء الأكيد للخليفة، ومنحه كل ما يجب من تشريف وتبجيل إلا الطاعة، ودار الزمن دوراته ففقد الخلفاء هذا التشريف وذلك التبجيل، ونبتت سلالات من الأمراء انتحلت مذاهب دينية مبتدعة، فجحدت سلطة الخليفة الدينية وعدته وعدت أبناءه من الغاصبين، ثم جاء زمن كانت سلطة الخلفاء الزمنية فيه أشبه بسلطة البابا برومة في الضعف والخور، حتى إن حراسهم المرتزقين الذين استأجروهم لحمايتهم من أعدائهم كانوا يحبسونهم أحيانا في قصورهم، وقد وقع شيء من ذلك بعد نحو ثلاثمائة سنة من ابتداء الخلافة، أما فيما بعد ذلك، فكان الخلفاء رمزا قليل القيمة، يلعب به كبار أمراء المملكة كيف شاءوا، وكانوا لا ينالون شيئا من الحفاوة إلا يوم توليتهم، ثم محا المغول في القرن الثالث عشر الخلافة بآسيا، ولم يعد للمسلمين اليوم خليفة بالمعنى الصحيح، على الرغم من تمسك سلطان تركيا بهذا اللقب.
1
وكانت الأندلس أول ولاية نفضت عنها سلطة الخليفة، ولكي نفهم هذا يجب أن نذكر أن الخلفاء لم يتبع بعضهم بعضا في سلالة متصلة الوراثة، فبعد الخلفاء الراشدين: «أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي» الذين نالوا الخلافة بقليل أو كثير من رغبة الأمة واختيارها - نصب أهل الشام معاوية خليفة بدمشق، فكان من نسله الخلفاء الأمويون، وكان عددهم أربعة عشر، حكموا من سنة 661م/41ه إلى سنة 750م/132ه ثم أسقط السفاح دولتهم، فكان أول العباسيين المنسوبين إلى جدهم العباس عم النبي
صلى الله عليه وسلم ، ونقل العباسيون مركز الخلافة من دمشق إلى بغداد، واستمرت خلافتهم حتى أسقطها المغول سنة 1258م/656ه.
وكان عبد الرحمن الداخل من الأسرة الأموية المغلوبة التي طاردها العباسيون واستأصلوا شأفة أبنائها، وتتبعوهم في كل نواحي الأرض يذبحونهم بلا رحمة ولا هوادة، ففر عبد الرحمن
2
كما فر غيره، ولكنه كان سعيد الطالع؛ إذ وصل إلى شواطئ الفرات سالما بعد جهد وأين، وبينما كان ذات يوم جالسا في خيمته يرقب ابنه الصغير وهو يلعب في فنائها، جرى إليه الصبي خائفا مذعورا، فخرج عبد الرحمن ليتعرف سبب خوفه ، فرأى القرية في اضطراب، ورأى العلم العباسي الأسود يرفرف في الأفق، فاجتذب ابنه في عجلة وفر من القرية، ووصل إلى النهر فقذف بنفسه ومن معه فيه، واقترب الأعداء إلى شاطئ النهر وصاحوا بهم أن لا بأس عليكم فلن يصيبكم منا أذى، فصدقهم أخ له صغير كان معه وكان قد أجهدته السباحة، فذهب إليهم فاحتزوا رأسه في التو والحين، ولكن عبد الرحمن طفق يجاهد حاملا ابنه ووراءه خادمه بدر حتى وصل إلى الشاطئ الآخر، فلما وضعت أقدامهم على اليابسة أخذوا يسيرون ليلا ونهارا حتى بلغوا إفريقية حيث تبعه بقية أهله هناك، وحيث وجد ذلك الناجي الوحيد من الأمراء الأمويين وقتا للتفكير فيما يكون في غده.
كانت سنه إحدى وعشرين سنة، وكان كبير الأمل طموحا، وكان يتحلى إلى سداد الرأي بامتداد القامة، والوسامة، والقوة والشجاعة، ويضيف بعض مؤرخي العرب إلى هذه الصفات ما لا نحب أن يتصف به بطلنا، كالعور، والخشم.
3
وكان قومه يتحينون له ملكا بالمغرب، ويرون فيه علامات لذلك،
4
وهو الآن على الرغم مما أصاب قومه من الهلاك قوي العزيمة غير مستكين، وقد اتجه نظره إلى إفريقية أولا؛ لأنه رأى أن قوة العباسيين لم تدع له فرصة في الشرق،
5
فلما بلغها بقي سنين هائما على سواحل البربر، تحقق في خلالها أنه لا يستطيع التغلب على أمير إفريقية،
6
وأن ثوار البربر في المغرب لن يتخلوا عن الاستقلال الجديد الذي نالوه ليحظوا بالشرف الأجوف بتولية أحد الأمويين عليهم.
عند ذلك حول نظره إلى الأندلس؛ حيث كان الصراع الدائم بين القبائل والعشائر المتنافسة جديرا بأن يفتح بابا لعبقري مثله، يؤيده النسب الأموي وتزكيه الهمة العالية؛ لذلك أرسل خادمه بدرا إلى زعماء حزب الشام بإسبانيا، وكان بينهم كثير من موالي الأمويين الذين يوجب عليهم الشرف العربي نصر من ينتمي إلى ساداتهم الأولين، ورأى بدر من هؤلاء الزعماء رغبة في استقبال الأمير الشاب بعد أن فاوضوا القبائل المعادية من اليمن فوعدت بنصرته، عندئذ عاد بدر إلى إفريقية.
وكان عبد الرحمن يصلي على سيف البحر حينما رأى السفينة التي تحمل خير الأخبار مقبلة إليه، وكان يميل إلى الأخذ بالفأل كجميع المشارقة الذين طبعوا على التفاؤل والتطير، واتفق أن أول رسول أندلسي قدم مع بدر كان اسمه أبا غالب تماما، فلما عرف عبد الرحمن اسمه صاح: «تم أمرنا وغلبنا بحول الله وقوته.» ثم نزل إلى السفينة فأبحرت به إلى إسبانيا في سبتمبر سنة 755م/138ه وكان دخول هذا الناجي الفذ من بين السلالة الأموية الأندلس أشبه بصفحة من قصة عجيبة، وهو يشبه وصول الشاب الذي ادعى ملك إنجلترا إلى أسكتلندة سنة 1745م.
وانتشر خبر دخوله الأندلس انتشار النار في الهشيم، فتزاحم عليه المناصرون القدماء للدولة الأموية يقدمون الطاعة، ووضع أبناء موالي الأمويين أنفسهم تحت أمره، وتأثرت قبائل اليمن التي لم تكن تشعر بانعطاف نحو الأمير الشاب، بحماسة أنصاره، فانتقلت إليها العدوى، وعقدت الخناصر على البر بوعدها، وتواثقت على نصرته.
ورأى أمير الأندلس معظم جنوده وقد انصرف عنه، فاضطر إلى انتظار جيش جديد، على أن الأمطار في هذا الفصل من السنة جعلت القتال مستحيلا، فترك ذلك لعبد الرحمن متسعا من الزمن يجمع فيه جنوده، ويدبر أمره.
بدأ الصدام شديدا في ربيع السنة التالية، واستقبل عبد الرحمن بحماسة وترحاب في أرشذونة وإشبيلية، فأعد جيشه للهجوم على قرطبة، وزحف الأمير يوسف بن عبد الرحمن الفهري لوقف تقدمه، ولكن الوادي الكبير كان فياضا بماء المطر، فتسابق الجيشان على كلا شاطئيه، أيهما يكون أسبق وصولا إلى قرطبة.
7
ولكن عبد الرحمن خدع يوسف بحيلة لا تليق بالأبطال، فطلب منه أن يتركه يجتاز النهر بعد أن هبط ماؤه ليعقد معه صلحا، فلما وصل إلى الشاطئ الآخر انقض على جيش يوسف بعد أن وثق الأمير بوعده، فتغلب عليه ودخل قرطبة ظافرا، وكان له من الهيبة والشهامة والنخوة ما منع الجند من النهب والتخريب، وحمل نساء الأمير المهزوم وأسرته إلى مأمنها، ولم تمض السنة إلا وهو مسيطر على جميع ما احتازه المسلمون من أرض إسبانيا، وبهذا الإقدام النادر وبهمة عبد الرحمن قدر للدولة الأموية بقرطبة أن تستمر في الحكم نحو ثلاثة قرون.
ولم يثبت أمير قرطبة الجديد فوق عرشه بغير جهاد أو نصب، فإن الذي أجلسه على العرش وذلل سبيله إليه لم يكن إلا حزبا صغيرا من الأحزاب الكثيرة التي اقتسمت المملكة فيما بينها، غير أن عبد الرحمن كان أكثر استعدادا وأوسع حيلة من سواه للاحتفاظ بملكه بين هذه العناصر المضطربة المشاغبة، فإنه كان سريعا عند الخطب، قوي العزيمة، غير متحرج إذا صمم، شديد البطش، لا يرعى إلا ولا ذمة، سياسيا داهية، أعد لكل مفاجأة عدتها، وكثيرا ما دهمته الحوادث فرأت فيه بطلا هماما.
ولم يستقر بعرشه طويلا حتى اجتاز العلاء بن مغيث من إفريقية ليرفع العلم العباسي بإسبانيا، ولم ينزل برجاله في ولاية باجة حتى اتخذ له مناصرين من بين الساخطين المستعدين دائما للانضمام إلى من يدعوهم لغنم جديد، فحاصر عبد الرحمن شهرين في قرمونة، وكان هذا الحصار شديد الخطر؛ لأن كل يوم يمر فيه كان يحمل إلى الأعداء مددا جديدا، ولكن عبد الرحمن كان عبقريا، فما كاد يسمع أن الأعداء خففوا بعض التخفيف من مراقبتهم وحذرهم حتى جمع سبعمائة من أشجع أصحابه، ثم أوقد نارا عظيمة وصاح فيهم: «إننا الآن بين حالين: فإما إلى نصر مؤزر، وإما إلى موت محقق.» ثم ألقى بقراب سيفه في اللهب، وتأثر رجاله فألقوا بقربهم في النار معه معلنين أنهم لن يضعوا سيوفهم في أغمادها حتى يفك حصارهم ويصبحوا أحرارا، ثم انطلقوا خلف قائدهم، وانقضوا على محاصريهم بالأسنان والأظافر، فمزق الجيش العباسي وذهب بددا.
8
وأمر عبد الرحمن في إحدى نوبات قسوته التي شوهت من سيرته، أن توضع رءوس قوادهم في جوالق، وأن يعلق بكل أذن صك يرقم عليه اسم صاحبه، وأن يبعث بهذا الجوالق مع أحد الحجاج ليوصله إلى الخليفة المنصور نفسه، وذهب الحاج وبلغ حضرة المنصور وسلم إليه الجوالق.
9
فلما رأى الخليفة ما به اشتد غضبه، واحتدم وجهه بالغيظ، ولكنه لم يستطع إلا أن يقول: «الحمد لله أن كان يفصل بيني وبين هذا الرجل بحر.» وعلى الرغم من شدة ألم المنصور لفوز أمير قرطبة، لم يجد بدا من أن يطري مهارته وشجاعته، حتى إنه سمى عبد الرحمن (صقر قريش)، وكان يقول: «لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع طول مراسه وقوة أسبابه، فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذي الفذ في جميع شئونه، وعدمه لأهله ونشبه، وتسليه عن جميع ذلك ببعد مرقى همته، ومضاء عزيمته، حتى قذف بنفسه في لجج المهالك لابتناء مجده، فاقتحم جزيرة شاسعة المحل نائية المطمع، عصبية الجند، ضرب بين جندها بخصوصيته، وقمع بعضهم ببعض بقوة حيلته، واستمال قلوب رعيتها بسياسته، حتى انقاد له عصيهم، وذل له أبيهم، فاستولى فيها على أريكته ملكا على قضيته، قاهرا لأعدائه، حاميا لذماره مانعا لحوزته، خالطا الرغبة إليه بالرهبة منه ... إن ذلك لهو الفتى كل الفتى، لا يكذب مادحه.»
وتوالت بعد هزيمة العباسيين انتصارات للأمير الجديد، فإنه أغرى أهل طليطلة الذين امتنعوا عليه طويلا، بأن يعقدوا معه صلحا، وأن يبعثوا إليه برؤسائهم، وما كاد يصل إليه هؤلاء الرؤساء حتى صلبهم جميعا، وكان رئيس اليمانية شديد الخطر، فمنحه عبد الرحمن الأمان، ثم استهواه إلى قصره وحاول أن يقتله بنفسه فلم يستطع؛ لأن الرجل كان قويا شديد الأسر، فدعا إليه بحرسه فقتلوه.
10
وبعد ذلك بقليل ثار البربر في الشمال ثورة جامحة، فقضى عبد الرحمن عشر سنين في كبح جماحهم وتذليل شماسهم، وكانت نار الغضب لم تخمد بعد في قلوب اليمانية لقتل رئيسهم، فهبوا للثأر، واغتنموا غيبة الأمير في الشمال، وكانوا يجهلون نشاط الرجل ودهاءه ومكره، فإنه بعد أن أطفأ ثورة البربر في الشمال وأذلهم ببث الفتنة بينهم، أخذ يعمل للتفريق بين اليمانية، فخدع البربر الذين كانوا قوام جيشهم، ومناهم الأماني، فتركوا القتال عند اشتداده، فانقض بجيوشه على اليمنيين فاستأصلهم، وقتل منهم ثلاثين ألفا، دفنوا جميعا في قبر عظيم بقي الناس يزورونه مدة من الزمان، ثم تلت هذه المعركة المعاهدة المنذرة بالخطر التي عقدها شارلمان مع ثلاثة من زعماء العرب الساخطين، والتي كادت تدمر الصرح الذي بناه عبد الرحمن بعد جهد وآلام، ولكن هذه المعاهدة لم تتم، وانحل عقدها في معارك سرقسطة، ورونسسفال من غير أن يضرب فيها الرجل الذي اجتمعوا لسحقه ضربة واحدة.
ومنذ ذلك الحين أخذ الأمير ينعم فيما يشبه السلم بثمرات جهاده وانتصاره؛ فقد أخضع بعزيمته الفولاذية كل العناصر المعادية له بإسبانيا، وأسقط كل زعيم صلف أصيد جرؤ على أن يستل لحربه سيفا، وقتل وذبح قواد البربر، وأثبت غير منازع أنه سيد الموقف، ولكن ظلما قاسيا ناكثا للعهد كظلم عبد الرحمن لا بد أن يجر وراءه عقابه وآلامه، فإن الظالم قد يستطيع إخضاع قومه ولكنه لن يستطيع أن يفوز بإخلاصهم، والملك الذي ينال بالسيف لا يبقى إلا بالسيف؛ فقد نفر الناس من الأمير الأموي بعد أن تجرعوا مرارة حكمه، وأبى الأمناء من رجال الدولة أن يدخلوا في خدمة رجل خداع فتاك مثله، وانصرف عنه أنصاره الأولون الذين آزروه ورحبوا بمقدمه حينما رأوا ظلمه صارخا، وقسوته مهتوكة الأستار، ودبر له المكايد مرة بعد أخرى أهله الأقربون الذين احتموا بقصره من العباسيين، لما ظهر لهم من عسفه الذي لا يطاق، ففقدوا في سبيل ذلك رءوسهم.
11
نبذ الناس عبد الرحمن فبقي وحيدا محزونا، هجره أصدقاؤه، ويئس منه أعداؤه فصبوا عليه لعناتهم، ونصب له الحبائل أهله وخدامه.
وقد تكون حروبه الطويلة للقبائل قد أفسدت طبيعته العربية السمحة، وقد يكون قد فطر هكذا على أخلاق شرسة لا تلين، فهو الآن لا يستطيع أن يندمج كعادته في زحام شوارع قرطبة، وإذا مر بهذه الشوارع فإنما يمر راكبا محاطا بحراس أقوياء من الغرباء، مشتبها في كل شيء، ومتهما كل إنسان، تنتابه أفكار مظلمة، وتزعجه ذكريات الدماء، فكان له أربعون ألف حارس من مرتزقة البربر يحمونه من أعدائه الذين سحقهم تحت قدميه، وكان إخلاص هؤلاء الحراس المأجورين لمولاهم يعادل بغضهم لجميع الأهلين الذين أذلهم سيدهم وألصق آنافهم بالتراب.
وقد نظم عبد الرحمن في وحدته هذه القصيدة يناجي فيها نخلة نقلها من أرض أجداده وغرسها بالأندلس؛ لأنه كان يقول الشعر، وهو في أبياته يحنو على النخلة في منفاها ويقول:
تبدت لنا بين الرصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت: شبيهي في التغرب والنوى
وطول ابتعادي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
أدرك الغرض الذي سعى إليه في ميعة طموحه، فأخضع العرب والبربر، وأعاد إلى الملك عدلا ونظاما، ولكنه كسب كل هذا فخسر قلوب رعيته.
فوارحمتا لذلك الفتى الوسيم الذي دخل الأندلس بطلا مقداما ففاز بطاعة أهلها وإخلاصهم، ثم وارحمتا له وهو يدلف إلى قبره بعد اثنتين وثلاثين سنة، بغيضا جبارا، يحمي عرشه الملطخ بالدماء بسيوف المرتزقة الذين يبيعون إخلاصهم بالذهب، لقد حكم إسبانيا بالسيف، وعلى خلفائه أن يجروا على هذا السنن.
وقد رأى أكبر مؤرخ للأندلس: «أنه كان من الصعب على عبد الرحمن أن يسلك سبيلا أخرى لتوطيد الحكم بين مشاغبي العرب والبربر، وأنه لم تكن لديه وسيلة لاجتثاث الفوضى إلا أن يقابل هذه الفوضى بالشدة والعسف؛ لأن كلا الفريقين لم يعتد الحكم المنظم».
ومهما يكن من شيء فإن استمرار ظلم كهذا يخلق جوا من الحزن واليأس على الرغم من بهجة الانتصارات التي تشع في جوانبه.
وقد أعطانا ابن حيان - وهو مؤرخ قديم للأندلس - صورة لأمير قرطبة فقال:
كان عبد الرحمن راجح الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعا مقداما، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغا مفوها، شاعرا محسنا، سمحا سخيا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتم به ويؤثره، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضرا الجمع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم.
هذا هو بلا شك عبد الرحمن الشاب قبل أن تجعله المقاومة والدسائس قاسيا جافيا كثير الفزع والشكوك، وللقوة دائما طرق مروعة في عقاب أصحابها.
وكلما مات ملك جبار تساءل الناس: من يخلفه؟ والجواب العام في مثل تلك الحال هو: ثورة وفوضى، إن العرش الذي يثبت على رءوس الحراب لا ينتقل في سهولة من الأب إلى الولد، ومع هذا لم تسقط دولة عبد الرحمن بموت مؤسسها المستبد، وكان من المتوقع أن تثور القبائل المناجزة التي كبح جماحها بمشقة وجهد بعد أن أطلقت من عقالها بموته، ولكن شيئا من ذلك لم يكن؛ لأن الرعب الذي غرسه في قلوبهم كان شديدا، فلم يستطيعوا أن يتخلصوا من هوله، أو لأنهم رأوا في ولي عهده أميرا محبوبا يتحلى بصفات تضاد صفات أبيه؛ فقد كان هشام الذي تولى الملك بعده سنة 788م/172ه، وهو في الثلاثين من عمره - مثالا لجميع الفضائل، وزاده ميلا إلى عمل الخير وبذل العناية في الإصلاح، ما تكهن له به أحد المنجمين من أن ما بقي من عمره لا يزيد على ثماني سنوات؛ لذلك تفرغ الأمير في هذه المدة القصيرة للاستعداد للدار الأخرى، وكان قصره في أيام نشأته الأولى يموج بالعلماء والشعراء والحكماء، فأثرت فيه هذه النشأة، والولد كما يقولون أبو الوالد، وكان له من أعمال التقوى والصلاح ما لا يحصر عدا، ورأى في حماه الغاضبون والمضطهدون معقلا وملاذا، وكان يرسل من يثق به من الوعاظ والدعاة إلى جميع أجزاء مملكته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعين بالمدن عسسا لمنع الشجار وارتكاب الجرائم، ورأى أن تقسم الغرامات المفروضة على الأشرار يبن الأتقياء الذين لا يمنعهم مطر أو برد من غشيان المساجد، وكان يعود المرضى، وكثيرا ما كان يخرج في الليالي العاصفة وهو يحمل الطعام لمريض من الزهاد، حتى إذا بلغ داره جلس بجانب فراشه يراعيه ويرعاه.
ثم هو مع كل هذا لم يكن جبانا ولا زميلا، بل كان يقود جيشه بنفسه لمحاربة نصارى الشمال، كما يفعل العربي الصميم، ولقبه الناس بالشفيق وبالعادل لسهولة خليقته، ولكنه كان إذا جد الجد، وهددت ملكه مؤامرات أعمامه، ثابت العزم، قاسيا لا يلين، وزاد في عدد حرسه من المماليك، فكان يقف منهم على شاطئ النهر ألف فارس لحراسة قصره ليلا ونهارا، وكان بارعا في الصيد ، شديد التحرج من الشبهات، سمع بعد أن أعاد بناء قنطرة قرطبة الباقية إلى اليوم أن الناس يهمسون بأنه إنما أقام هذا البناء العظيم ليسهل عليه الوصول إلى الصيد، فأقسم ألا يعبر القنطرة مرة أخرى، وقد بر في قسمه، وقبل أن تمر ثماني السنوات اختاره الله إلى جواره تقيا نقيا.
12
وإذا نبت الشر من الخير فإن أعمال هذا الملك الخيرة كانت أكبر حافز على إثارة عامل جديد للثورة والعصيان بالأندلس، ونشأ هذا الخطر الجديد من السلطة التي وضعت في أيدي الفقهاء والعلماء، وقد سميناهم بقساوسة الإسلام، وإن لم يكن هذا الاسم صحيحا؛ لأن الإسلام لا يعرف هذه الطائفة بالمعنى الدقيق الذي تريده المسيحية الكاثوليكية، فليس المسلمون الذين يؤدون الصلاة في المساجد ويخطبون الناس يوم الجمعة إلا قوما عاديين، يؤخذون من متاجرهم أو غيرها من الأعمال ويطلب إليهم في أي وقت أن يؤموا المصلين، فالدين الإسلامي لا يفرق بين رجل الدين وغيره، على أن بالإسلام شيئا يقرب قليلا أو كثيرا مما يقصد من معنى الكهنوت، فإن بالممالك الإسلامية دائما قوما تجردوا للدين وخصصوا حياتهم به، قد يكونون دراويش لهم مذهب ديني خاص، أو طلاب شريعة وفقه، أو أتباعا لإمام مشهور يتحمسون لمذهبه ويذودون دونه، وقد يكونون من حفظة القرآن الكريم أو شيوخا يلقنون الناس العلم، نجد هذه الطائفة في كل أقطار الإسلام، وهي طائفة يخشى جانبها في كل مملكة، فطالما أظهر شيوخ الأزهر بالقاهرة وطائفة الصوفطة
13
بالقسطنطينية والمولوية في كثير من مدن الشرق - ما للحماسة الدينية من الشأن في أوقات الاضطراب، واليوم أخذت تظهر هذه النعرة بالأندلس خطيرة منذرة بالسوء.
وتأجج أول عصيان بعد موت عبد الرحمن من حيث لا يرتقب، لم يحدث من المسيحيين، ولم يحدث من قبائل العرب وعشائر البربر، وإنما حدث من أبناء الإسلام المخلصين، حدث من فقهاء قرطبة، وكان معظم هؤلاء الفقهاء من المتسلمين أو أبنائهم، وقد ذكرنا آنفا أن الإسبانيين أسلموا برغبة وحماسة فأصبحوا كشأن كل داخل في دين جديد أكثر تعصبا من المسلمين أنفسهم، وكان عبد الرحمن أبعد نظرا وأكثر علما بالحياة من أن يسمح لهؤلاء الفقهاء - وبخاصة الإسبانيون منهم - بنفوذ له وزن أو قيمة، ولكن التقي هشاما لم ير الخطر الذي كان يخشاه أبوه، ولو رآه ما عده خطرا، فكان يميل إلى وضع ثقته في رجال الدين المحافظين عليه، المتبعين طريقه، الذين لم ير في أعمالهم بادرة ميل إلى الدنيا أو حب للظهور، وكان على رأس الفقهاء في هذا الحين رجل عبقري المواهب وافر العقل، كان تلميذا محبوبا لأحد أئمة المدينة المنورة،
14
وقد تملك نفسه من الحماسة الدينية والطموح السياسي مزيج طالما جر الممالك إلى الخراب، هذا الشيخ هو يحيى بن يحيى الليثي
15
الذي رأى في إخلاص هشام وتقواه فرصة لرفع الفقهاء بقرطبة إلى قمة من القوة والنفوذ لو علم بها عبد الرحمن الداهية لتفزز في قبره.
وكانت الأمور تسير سيرا حسنا ما نالت هذه الطائفة رغباتها، غير أنه في سنة 796م/180ه بعد أن انتقل هشام إلى رحمة ربه، طرأ على قصر الخلافة تغير عظيم، لم يكن الأمير الجديد «الحكم» قليل الاهتمام بالدين أو خليعا مستهترا، ولكنه كان مرحا يحب الحياة ويتمتع بها كلما أقبلت عليه، ليس به صفة من صفات الزهد والتقشف، وكانت هذه الأخلاق وأشباهها بغيضة إلى المتزمتين، فانطلقوا يتحدثون بمثالب الأمير في ذعر وإشفاق ويدعون له بالمغفرة والتوبة، ثم تجاوزوا الحد فسبوه في وجهه وصبوا عليه اللعنات، ولما يئسوا من إصلاحه تآمروا على عزله وإجلاس آخر من أسرته مكانه، ولكن المؤامرات خابت، وكان جزاء المتآمرين أن صلب الأمراء الذين اشتركوا في المؤامرة وبعض الفقهاء المتعصبين، وقد كان يكون مثل هذا كافيا لولا أن الفقهاء عادوا إلى الثورة، فعاد الأمير إلى إطفائها باستئصال مشعليها، ولكن القرطبيين لم يرعووا بعد كل هذا، وبقيت مراجل الثورة تغلي في قلوبهم، ولم يرعبهم ما سمعوه مما أصاب زعماء طليطلة الذين أظهروا العصيان كعادتهم، والذين استدرجهم ولي العهد بالحيلة والخديعة، حتى إذا قبض عليهم أفناهم ذبحا وتقتيلا.
بقيت ذكرى يوم الخندق «الذي سميت به مذبحة طليطلة» كابحة جماح المتعصبين والمشاغبين في قرطبة سبع سنين، ولما نصلت ذكرى ذلك الخندق المخيف الذي قذف فيه بجثث زعماء طليطلة، شرعت الفتنة تطل برءوسها في قصبة الأندلس، ولم يزدد بغض الأهلين للأمير؛ لأنه أبى أن يلبس الخشن من الثياب، وأبى أن يتراءى بالزهد والتقوى أمام أمته، بل كان يتجه هذا البغض أكثر ما يتجه إلى مماليك الأمير الذين كانوا يدعون «بالخرس»، سموا بذلك لأنهم كانوا من الزنوج وأشباههم الذين كانوا لا يستطيعون التكلم بالعربية، وكان هؤلاء الزنوج لا يجرؤون على السير في شوارع المدينة إلا جماعات؛ لشدة كراهية الناس لهم وتحفزهم لإيذائهم، وإذا خرج جندي وحده كان عرضة للضرب أو القتل، وحدث يوما أن ضرب أحد هؤلاء الجنود بعض العامة فثارت ثورتهم جميعا، وهجموا بقلب رجل واحد على القصر، يقودهم آلاف من الفقهاء الذين كانوا يسكنون الربض الجنوبي لقرطبة، وصاح الشر بينهم وطاشت عقولهم وصمموا على أن يقتحموا القصر على الرغم من حصونه وحراسه، فأطل الحكم من إحدى النوافذ فرأى بحرا زاخرا من الوجوه، وأبصر - والدهش يملأ نفسه - شدة مكافحة العامة لهجمات فرسانه، ولكنه لم يفقد هدوءه في هذه الساعة المحفوفة بالمخاطر، وتلك ميزة العظماء وشنشنة النسب الكريم، فعاد إلى بهوه، وأمر خادمه الخاص أن يحضر له قارورة الغالية، وأخذ في تؤدة وثبات يضمخ رأسه ولحيته، ولم يستطع فتاه يزنت أن يكتم عجبه من فعل سيده وهو يسمع تهشيم الشعب المفترس للأبواب، فقال: أهذا وقت الغالية يا مولاي؟! ولكن الحكم قاطعه قائلا: اسكت أيها الغر، كيف تتصور أن يتعرف العصاة رأسي بين بقية الرءوس إذا لم يتميز بريحه العطرة؟! ثم نادى قواده وشرع في اتخاذ الوسائل للدفاع، وكانت هذه الوسائل غاية في السهولة وقوة الأثر، فقد أرسل ابن عم له مع بعض الفرسان من طريق خلفية إلى الربض ، فأشعل فيه النار، فلما رآها المشاغبون غادروا القصر وأسرعوا في ذعر وفزع لإنقاذ زوجاتهم وأطفالهم من اللهيب، فانقض الحكم وحراسه على مؤخرتهم، ووقع العصاة بين قوتين فحطموا تحطيما، وجال بينهم «الخرس» يقتلون بالمئات ولا يستجيبون إلى توسلاتهم وصياحهم المؤلم بطلب الرحمة، وانتهت الثورة بمذبحة عامة، ونجى الحكم بهذه الضربة القاصمة قصره وسلالته.
وكان الأمير كريما فقبض يده عن الإيذاء بعد انتصاره، ولم يجاوز به الحد، واكتفى بهدم دور العصاة بالربض ونفيهم، فرحل بعضهم إلى الإسكندرية وكانوا نحو خمسة عشر ألفا غير النساء والأطفال، وبعد أن أقاموا بها قليلا أبحروا منها إلى إقريطش (كريت) ورحل ثمانية آلاف إلى (فاس) وكانت جمهرة هؤلاء المنفيين من أبناء الإسبانيين المتسلمين الذين كانوا يرحبون بكل فرصة يظهرون فيها بغضهم لحكم العرب، وترك الفقهاء - وهم أس العصيان والثورة - بلا عقاب، إما لأن كثيرا منهم من أصل عربي، وإما لمنزلتهم الدينية، وقد جر أحد زعمائهم إلى القصر جرا، فصارح الحكم في حدة غضبه وتعصبه بأنه ببغضه للأمير إنما يطيع أمر الله، فأجابه الحكم جوابه المأثور إذ قال: «إن الذي أمرك - كما تزعم - ببغضي أمرني بالعفو عنك، اذهب في رعاية الله.»
هوامش
النصارى الشهداء
مات الحكم في سنة 822م/207ه. بعد أن قضى في الحكم ستا وعشرين سنة، ترك وراءها الملك هادئا بعض الهدوء لابنه عبد الرحمن الأوسط؛ فقد أخضع المتسلمون في قرطبة بالسيف ثم نفوا، وتلقى المتزمتون من الفقهاء درسا لا ينسى، ولم يبق إلا إطفاء الاضطراب الدائم على التخوم المسيحية، وورث عبد الرحمن الأوسط ميل أبيه إلى التمتع باللذات والاستنامة إلى النعيم، ولكنه لم يرث منه قوة الخلق التي تحوط هذا التمتع وتلك الاستنامة من أن تكون ضعفا،
1
فقد أغرق في اللهو، وحول قرطبة إلى بغداد ثانية، وأخذ يحاكي إسراف هارون الرشيد الذي كان قد انتقل من عهد قريب من عالم الدنيا، ومن مشاهد لهوه ومسراته، إلى عالم نأمل أن يكون خيرا له وأبقى.
2
بنى عبد الرحمن القصور، وغرس الحدائق، وجمل مدينته بالمساجد والقناطر، وأولع بالشعر كغيره من ملوك الإسلام المثقفين، وكان يرى أن شعره لا يقل في منزلته عن شعر المجيدين، وإن زعم بعض المؤرخين أن كثيرا منه كان من أقلام غيره، وكان الأمير نقي الذوق، لين الخلق، سهل القياد، ملك زمامه طول حياته أربعة نالوا عنده الحظوة الكاملة، وهم: مغن، وفقيه، وامرأة، وعبد أسود، وكان أشد هؤلاء تسلطا عليه الفقيه يحيى بن يحيى الليثى، وهو هو نفسه الذي أثار الفقهاء على أبيه الحكم، ولكنه أصبح اليوم صاحب التأثير المطلق والكلمة التي لا ترد لدى الأمير الجديد، وكانت للأميرة «طروب» وعبده «نصر» سلطة نافذة في شئون الملك، أما «زرياب» المغني فإنه استغل حظوته عند عبد الرحمن في إنهاض الفنون والثقافة، وأبى أن يزج بنفسه في أمور الدولة التي قد تكون سيئة المغبة.
3
كان فارسيا، وكان تلميذا لإسحاق الموصلي المغني المقدم ببغداد، فحدث ذات يوم لسوء طالعه أن فاق أستاذه في غناء صوت بحضرة الرشيد، فحنق عليه إسحاق وخيره بين الموت والنفي، فاختار النفي ورحل إلى الأندلس، فأحسن عبد الرحمن استقباله وبالغ في إكرامه والإغداق عليه، وقرر له راتبا ضخما، ووهب له الدور، وأدر عليه الأرزاق، ومنحه الكثير من الميزات والهدايا، حتى بلغ الذروة في الجاه والثروة، وزاد إعجاب الملك بمواهبه حتى إنه كان يجلسه إلى جانبه ويؤاكله وينصت ساعات إلى غنائه وإلى ما يقص عليه من أخبار الأولين، ومن الحكم والأمثال التي وعتها حافظته من قراءاته الكثيرة.
وكان يحفظ في الغناء أكثر من ألف صوت، ويقول إن الجن تلقنه إياها، وهو الذي أضاف إلى العود وترا خامسا، وكان في ضربه العود منقطع النظير، يوشك من يستمع لضربه مرة أن يأبى الإنصات إلى سواه، وكانت له طريقة غريبة مع المبتدئين من تلاميذه، فكان يأمر من يريد تعلم الغناء أن يجلس ويغني بأعلى صوته، فإن كان ضعيف الصوت أمره أن يعقد حزاما حول خصره ليزيد في قوة صوته، فإذا كان ألص الأضراس لا يقدر أن يفتح فاه واسعا، أو كانت عادته أن يزم أسنانه عند النطق، أمره أن يضع في فمه قطعة خشب عدة ليال حتى ينفرج فكاه، فإن استطاع بعد ذلك أن يصيح بكلمة (آه) بأندى ما يكون من الصوت وأن يستمر صوته بمثابة واحدة في العلو، قبل أن يعلمه ويمرنه، وإلا أمره أن يذهب إلى حال سبيله، وبذ زرياب الناس جميعا في تهذيبه وفكاهته وحسن محاضرته، فأصبح أشهر رجل بالأندلس، وتحكم في الأزياء والعادات كما كان يتحكم فيها «بيترونيس»
4
و«برومل» الوسيم،
5
من ذلك أنه أبطل عادة إعفاء الشعر وإسداله مفروقا إلى الحاجبين والصدغين، وأدخل بالأندلس بقلة الهليون (أسباراجس) وزاد في الأطعمة لونا كانوا يسمونه بالنقايا، وهو يصنع بماء الكزبرة مع السنبوسق والكباب، ولونا آخر سموه تقلية زرياب، يطبخ فيه الدجاج أو الأرانب في ماء كثرت به التوابل والأفاويه، وأبدل بالأكواب المعدنية الأكواب الزجاجية، وابتدع النوم على أسرة من الجلد، وابتكر أن تكون أسمطة الطعام من جلد كذلك، إلى كثير من وسائل الرفاهية والنعيم، ثم إنه أرشد الناس إلى التأنق في تغيير الملابس بحيث ينزل غلظها على التدريج، من أصفق الملابس في زمهرير الشتاء، إلى أخفها في هجير الصيف، وكانوا يغيرون ملابسهم مرة عند الشتاء وأخرى عند الصيف، وقصارى القول إن هذا الأبيقوري
6
المرح لم يبتدع شيئا إلا رآه الأندلسيون ضروريا جميلا.
وبينما كان القصر ورجاله منهمكين في تذوق ألوان جديدة من الطعام متأنقين في قص شعرهم، كان فريق من أهل قرطبة يفكر وينهمك فيما هو أعظم وأبعد أثرا؛ لأن الخطر في هذا الحين لم يدهم الدولة من خارج حدودها، فإن عبد الرحمن الأوسط - على علاته - لم تعوزه الشجاعة التي تدفعه إلى خوض معامع القتال، فكثيرا ما قاد الجيوش إلى نصارى الشمال الذين كانوا بزعامة لويس الجميل الخلق والخلق لا يفتأون يغيرون على الحدود، وكثيرا ما حلق النصر حول رايته،
7
على أن هذه المناوشات لم يكن لها الآن من الشأن والخطر ما يهز ركن الدولة الوطيد، فإن الاضطراب في عهود الدولة الأولى لم يجئ إلا منها نفسها، وقد جاءت الزعازع في هذه الآونة من عدد قليل من النصارى بقرطبة التهبت نفوسهم غيرة وتعصبا لدينهم، أما جمهرة النصارى بالأندلس فلم يصابوا بشيء من هذه الغيرة العنيفة؛ لأنهم رأوا أنهم يعاملون خير معاملة، وأن المسلمين قد تركوهم أحرارا فيما يعبدون، وأن الحكام لا يتدخلون في شيء من عقائدهم، وأنهم يتجرون كما أرادوا، ويجمعون الثروة حيثما وجدوها، وأنهم يعيشون كما يعيش إخوانهم المسلمون، فما الذي بقي لهم من أمانيهم؟ لا شيء، اللهم إلا إذا كانوا يتطلعون إلى استرجاع ملكهم، وشيء من هذا يعد الآن من المستحيلات، فقنعوا بالأمور كما هي، واجتهدوا أن يستفيدوا من سماحة حكامهم ولينهم.
كان هذا الميل عاما بين نصارى الأندلس، وإن ظهر هنا وهناك روح طموح متحمس أغاظه هذا الخنوع لحكم المسلمين، وطافت بخيال أصحابه أطياف من قوتهم الماضية وعلو شأن الكنيسة، ولم يستطع القساوسة أن يكبحوا جماح بغضهم للمسلمين الذين سلبوهم عزهم وسلطانهم، وأبدلوا بالنصرانية دينا جديدا، ومن العجب أن تسامح المسلمين كان يزيد في سخط النفوس المتعصبة، فلقد كان أصحاب هذه النفوس يؤثرون أن يعذبوا وأن يضطهدوا كما اضطهد القديسون من قبل، وكانوا يتشوفون إلى الاستشهاد تشوف الظمآن إلى الماء الفرات، وينقمون من المسلمين أنهم لم «يعذبوهم في سبيل دعوتهم الحقة» حتى يضمنوا لأنفسهم الفوز في جنات النعيم، وكان أشد ما يكره هؤلاء المتشددون المتزمتون ما شغف به العرب من التمتع بلذائذ الحياة، والإغراق في اللهو والسرور، والعيش في ظلال الرفه والنعيم، فكان تمتعهم بالحياة وزينتها وحبهم للغناء والموسيقى وولوعهم بالعلوم من أكبر ما يثير بغض هؤلاء الزهاد وحقدهم، فإن حياة المؤمن الحق عندهم يجب أن تكون سوط عذاب، وصوما متصلا، وتوبة وبكاء، وتطهيرا بالآلام، وإماتة للجسد في سبيل إحياء الروح.
واكتفى هؤلاء أول الأمر بإظهار جانب الزهادة المسيحية والتحرج بين الأهلين، ولكن الأيام دارت دورتها ونشأ في المسيحية جيل جديد، فإذا تحمس مفاجئ عميق الغور يأخذ مكان التهاون القديم، وإذا حمى حب الموت والاستشهاد في سبيل المسيحية تظهر في كل مكان.
وكان من المحزن المستدر للرحمة حقا أن ترى رجالا يقذفون بأرواحهم وأرواح غيرهم في سبيل حلم كاذب، فإن هذا الانتحار الديني لم يكن أكثر تعقلا أو أدخل في باب الدين، مما كان يقاسيه قساوسة «بال» الذين كانوا يقطعون أجسامهم بالسكاكين، أو مما يفعله زهاد الهنود الذين كانوا يدخلون أظفارهم في راحهم ثم يتركونها لتنمو فيها، وجنون الشهداء في سبيل أشرف وأعلى من سبيل هؤلاء لن يجعلهم أقل منهم جنونا، إن المسيحية لا تعلم دعاتها أن يطوحوا بحياتهم هدرا لمحض التمتع بالتعذيب والقتل، على أن نصارى الأندلس لم يضطهدوا ولم يحل بينهم وبين شعائر دينهم حائل، ولم يكن المسلمون يجهلون المسيحية أو يحتاجون إلى من يلقنهم تعاليمها؛ فقد كانوا يعرفون من الكتاب المقدس أكثر مما يعرف نصارى الأندلس أنفسهم، وكانوا لا يذكرون اسم عيسى من غير أن يتبعوه بالصلاة والتسليم؛ لأن قدسية المسيح وإحاطة اسمه بالإجلال والتبجيل من أظهر مبادئ الإسلام، وكل ما في الأمر أن المسلمين كانوا يؤثرون دينهم، فلم يكن للنصارى من عذر في الظهور بمظهر المضطهدين المستذلين بعد أن ترك لهم المسلمون دينهم، وفي الحق إننا لا نجد سببا معقولا لتهافت النصارى على الموت ما دام المسلمون قد سمحوا لهم بإقامة شعائرهم، وأجازوا لهم أن يعظوا وأن يعلموا من غير عائق أو حائل.
ليس هناك من علة مشروعة لبحث هؤلاء عن حتفهم بظلفهم، إلا إذا أرادوا أن يتنكبوا عمدا طريق الإنجيل، وأن ينبذوا جانبا تعاليم المسيح الذي يقول: «أحبوا أعداءكم، اعملوا الخير لمن يبغضكم، واستغفروا لمن يظلمونكم أو يضطهدونكم.» إنهم لم يظلموا ولم يضطهدوا ولم يمس المسلمون جمهرة النصارى بسوء، نعم إن بعض العامة كان يسخر أحيانا من القساوسة، ولكن طبقات المسلمين الأخرى لم تشترك في شيء من هذا، مع كل هذا التسامح وهذا العطف واللين أبى هؤلاء النصارى المساكين أن يحبوا أعداءهم، وتجاوزوا جادة الصواب في سبهم ولعنهم وإثارة غضبهم، لا لشيء إلا لحملهم على قتلهم ليموتوا شهداء في سبيل الدين.
ومن الأحكام المعروفة في بلاد المسلمين أن يعاقب من يسب النبي أو دينه بالقتل، نعم إنه حكم شديد قاس، ولكن الدنيا شهدت من القوانين ما لا يقل عنه قسوة وشدة؛ فقد كان الناس يحرقون بين صيحات السرور في إسمثفيلد وأكسفورد في عصور تلي هذا العصر الذي نكتب فيه.
8
ليس من المسيحية أن تثير عمدا عراكا دينيا أو تسب دينا غير دينك، وليس استشهادا بل انتحارا أن تتعدى مختارا حدود شريعة يجر تعديها إلى الموت، إن الرحمة التي تثير نفوسنا لشهداء قرطبة هي بعينها الرحمة التي تخالجنا لمن أصيبوا بالخباط (الهيستريا)؛ لأن من قتل منهم كان في الحقيقة شهيدا لمرض نفسي، وحال هذا تستدعي من الرحمة ما يستدعيه موت المستشهد في سبيل الدين.
كان يولوجيوس الروح المثيرة لهذه الانتحارات، وهو قسيس ينتمي إلى أسرة عريقة بقرطبة، اشتهر بحماسته الدينية؛ فقد قضى سنوات في الصوم والصلوات والإنابة وتعذيب النفس، حتى وصل إلى حال من الذهول دفعته في سبيل إخلاصه لدينه إلى الجرأة والتهور، وعزف به الزهد عن الميل إلى الحياة الدنيا، فلم يفكر يوما في نفسه، ولم يطمح إلى مأرب دنيوي، بل كانت كل أمانيه ومقاصده أن يصب اللعنات على دين المسلمين، وأن يوقظ روح التضحية السامية بين النصارى، وأعانه على الوصول إلى غايته شاب غني بقرطبة يدعى «الفارو» ثم عدد قليل من متحمسي القساوسة والرهبان والنساء والمسيحيين، وكان بين من أعجبوا بهذا القسيس الشاب المخلص فتاة على غاية من الجمال تدعى «فلورا» كان أبوها مسلما وأمها نصرانية، فنشأتها سرا على النصرانية، وبقيت فلورا عدة سنين مسلمة في ظاهر أحوالها، ولكنها فرت بعد ذلك من دار أخيها، وكان أبوها قد فارق الحياة، والتجأت إلى النصارى متأثرة بروح التضحية والتعصب التي أثارها يولوجيوس في سامعيه، وبما سمعت من بعض فقرات في الكتاب المقدس هاجت شعورها مثل: «إن الذي يجحدني أمام الناس سأجحده أمام أبي في السماء.»
ولما افتقدها أخوها المسلم بحث عنها في كل مكان فلم يجد بحثه شيئا، فاتهم القساوسة فقذف كثير منهم في السجن لتآمرهم على اختطافها، ولما لم ترد فلورا أن يؤذى أحد في سبيلها عادت إلى دارها وأعلنت نصرانيتها في صراحة وجرأة، وبذل أخوها أشد الوسائل وأعنفها لقسرها على العودة إلى الإسلام فلم يفلح، حتى إذا يئس في النهاية ساقها إلى القاضي متهما إياها بالردة، ومن المقرر أن الإسلام يعد ابن المسلم مسلما وإن كانت أمه نصرانية، ويعاقب على الردة بالقتل، ولا يزال هذا الحكم قائما إلى اليوم بتركيا، وإن تغافل الحكام عن تنفيذه من أربعين سنة.
ولن ينتظر من عرب الأندلس الذين سبقوا عهد الترك بألف سنة أن يكونوا أكثر تسامحا من الترك نحو المرتدين، ومع هذا أظهر القاضي الذي حضرت أمامه فلورا بعض الشفقة على الفتاة التعسة فلم يحكم بقتلها كما يوجب الدين، ولم يحكم بسجنها، ولكنه أمر بها فضربت ضربا شديدا، وطلب من أخيها أن يأخذها إلى داره ويلقنها تعاليم الإسلام، ولكنها فرت ثانية والتجأت إلى بعض أصدقائها، وهناك قابلت أول مرة يولوجيوس الذي أكن لهذه الفتاة الجميلة البائسة المخلصة حبا طاهرا حنانا يشبه حب الملائكة، فإن سمو نفسها وورعها وشجاعتها التي لا تغلب جعلتها قديسة في عينيه، حتى إنه بعد ست سنوات من هذه المقابلة لم ينس ما تركته في نفسه من الأثر حينما كتب إليها:
لقد تفضلت أيتها الأخت القديسة أن تريني عنقك وقد مزقته السياط، وقد قص الظلمة من حوله تلك الخصل الجميلة التي كانت تتدلى فوقه كأسلاك الذهب، فعلت ذلك لأنك عددتني أبا روحانيا، واعتقدت أن نفسي كنفسك صافية طاهرة، وقد وضعت يدي برفق على هذه الجروح، ووددت أن أبرئها بشفتي لو استطعت، وحينما فارقتك كنت كمن يمشي في حلم، واستمرت زفراتي وتأوهاتي.
نقلت فلورا مع أخت لها تماثلها في الرأي والتعصب إلى مكان خفي أمين، فلم يرها يولوجيوس فترة من الزمن.
وفي هذه الأثناء كان تعصب النصارى بقرطبة قد نضجت ثمرته؛ فقد أغرم قسيس مختبل هو برفكيوس بسب الإسلام، فأخذ وشنق في عيد الفطر حينما كان المسلمون رجالا ونساء يحتفلون بهذا اليوم وينعمون فيه بكل ما يبعث الابتهاج والسرور، وقد زاد شنق هذا القسيس في مرح الحشود التي زحمت الشوارع أو ركبت القوارب في النهر أو لعبت بالسهل الفسيح خارج المدينة.
مات هذا القسيس المسكين شجاعا مرسلا آخر أنفاسه بسب النبي ودينه، محاطا بزحام عظيم من المسلمين الساخرين الشامتين، وجاء أسقف قرطبة ووراءه جيش من القساوسة والمخلصين، فحمل جثته ودفنها مع آثار القديس إسيسكلوس من شهداء ديوكلتيان، وكان برفكيوس واعظا بكنيسته، ثم خلع عليه لقب القديس، وفي مساء ذلك اليوم غرق مسلمان فعد ذلك غضبا من الله لقتل برفكيوس، ومات نصر العبد الأسود في أثناء السنة وكان مشرفا على تنفيذ الإعدام، فزعم المسيحيون في شماتة بأن برفكيوس هو الذي قضى عليه، وأن موته كان انتقاما آخر.
وطلب بعد ذلك بقليل راهب يدعى إسحاق مقابلة القاضي بحجة أنه يريد الدخول في الإسلام فأذن له، وما كاد القاضي ينتهي من شرح مبادئ الإسلام وأصوله حتى انبرى له ذلك الذي جاء ليتسلم، وأخذ يصب على الإسلام أقذر الشتائم والسباب، فلم يكن عجيبا من القاضي - وقد أخذته الدهشة - أن صفعه على قفاه ثم قال: أتعلم أن ديننا يأمر بقتل كل من يجرؤ على أن يقول ما قلت؟! فأجاب الراهب: نعم، أعلم ذلك، فاحكم علي بالقتل فإنني أتشوق إليه، لأنني أعلم أن الله يقول: «ما أسعد الذين يضطهدون في سبيل الحق، إن لهؤلاء مملكة السماء.» حزن القاضي للرجل، وألح على الأمير أن يتجاهل ذنبه فلم يفلح، وقطع رأس إسحاق فأصبح قديسا، وكان المسيحيون عامة ينسبون إليه كثيرا من الخوارق، ويدعون أن هذه الخوارق لم تظهر منذ طفولته فحسب، بل ظهرت من قبل أن يولد!
ثم ظهر بعد ذلك سانشو (شانجة) أحد حراس الأمير، وكان تلميذا ليولوجيوس فسب محمدا وفقد رأسه، وفي يوم الأحد التالي أسرع ستة من الرهبان إلى مجلس القاضي وصاحوا: إن رأينا كرأي أخوينا القديسين إسحاق وسانشو فاقتلنا، ثم أخذوا يسبون محمدا ويصرخون بالقاضي: انتقم لسيدك محمد، وعاملنا بكل ما لديك من وحشية، فقطعت رءوسهم، وتقدم يوم القصاص من هؤلاء ثلاثة من القساوسة أو الرهبان أصيبوا بحمى الانتحار فقدموا أعناقهم إلى الجلاد مغتبطين، وهكذا قتل أحد عشر رجلا في أقل من شهرين في صيف سنة 851م/237ه.
أخذت الدهشة جمهور المسيحيين من تعصب إخوانهم الطائش إذ لم يكن يعرف عن الإسبانيين شيء من هذا التحمس حتى هذا الحين؛ فقد مستهم المسيحية مسا خفيفا، حتى إن الكثير منهم هرعوا إلى الإسلام راغبين راضين، فامتزج الدينان وعاش الفريقان في خلطة وصداقة وحسن معاملة، وأخذ النصارى يبغضون لغتهم اللاتينية القديمة ويصدفون عن آدابها، فتعلموا العربية واستطاعوا بعد حين أن يكتبوا بها كما يكتب العرب أنفسهم، وقد ندد يولوجيوس نفسه بهذه الحال؛ إذ يقول: «إن النصارى يولعون بقصائد الشعر العربي وقصصه، ويهجرون الكتاب المقدس وآثار القديسين، ومما يوجب الحزن والأسى أن الجيل الناشئ لا يعرف غير العربية، فهو يقرأ كتب المسلمين بشغف وينشئ لها الخزائن ويراها جديرة بالإعجاب، في حين أنه يبخل بنظرة إلى كتاب مسيحي.» ثم يقول: «لقد نسي النصارى لغتهم، ومن العسير أن نجد واحدا منهم في كل ألف يكتب حرفا لاتينيا كتابة سائغة، وهم مع هذا يستطيعون أن ينظموا شعرا عربيا رائعا.»
وفي الحق إن النصارى وجدوا في قصص العربية وشعرها متعة ألهتهم عما كتبه آباء الكنيسة، وكانوا يتدرجون إلى الاستعراب ويقتربون من العرب شيئا فشيئا، حتى أصبحوا أعظم مدنية وأتم صقلا وأكثر تهاونا بالفروق الدينية، وكانوا يشكرون للعرب رفقهم بهم وحسن معاملتهم إياهم إلى أن صدمهم العداء الفجائي الذي أظهره إخوانهم المتعصبون، فحاولوا جهدهم صد تلك العاصفة الهوجاء قبل هبوبها، وأخذوا يصارحون إخوانهم بعقم ما يعملون، ويجادلونهم ويذكرونهم بسماحة المسلمين ولينهم، وينبهونهم على ما جاء في الكتاب المقدس من الدعوة إلى الرفق والسلام، فإن من آياته: «لا يدخل الشتامون العيابون مملكة السماء»، ويحدثونهم بأن المسلمين لا يأبهون لمن يقتل من المسيحيين؛ لأنهم يرون أن دينهم لو كان حقا لانتقم الله لشهدائه.
كان هذا رأي جمهور المسيحيين الذين لم تسيطر عليهم وساوس التعصب، والذين لم يروا في الدنيا خيرا من أن يحسنوا إلى جيرانهم وأن يؤدوا صلواتهم في هدوء وسلام، وهؤلاء حاولوا جهد المستميت أن يردوا من جماح المتعصبين فلم يفلحوا، وخافوا مغبة الأمر؛ لأنهم أدركوا أن استمرار الطعن في الإسلام وما يتبعه من عقاب متوال سيؤدي حتما إلى اضطهاد حقيقي للمسيحيين، ولكن يولوجيوس الذي نصب نفسه للرد على كل ما اعترضوا به عليه مستدلين بنصوص الكتاب المقدس وكتاب حياة القديسين - كان يتمنى هذه العاقبة، وكان أمثاله من المتعصبين لا يرغبون في شيء رغبتهم في انتشار اضطهاد المسلمين للنصارى وتأجج ناره، غير أن سلطات الكنيسة أبت أن تسمح باستمرار روح العصيان من غير ردع، وكانت في ذلك متأثرة بالفريق المعتدل وبسماحة الحكم العربي، فاجتمع الأساقفة في مجلس يرأسه أسقف إشبيلية وأصدروا قرارا خطيرا لم يوجهوا فيه نقدا لحوادث الاستشهاد السابقة؛ لأن الكنيسة دونت أسماء أصحابها في سجل الشهداء، ولكنهم أمروا أن يمنع كل شغب من هذا القبيل، وذاع هذا القرار بين الناس، وكان من أثره أن ألقي المتعصبون في غيابات السجون.
وفي هذا الحين، التقى يولوجيوس بفلورا مرة ثانية، ذلك أنها بينما كانت تصلي في الكنيسة بقنوت وخشية إذ رأت إلى جانبها زميلة متعصبة، هي ماري أخت إسحاق الراهب الذي لقي حتفه في طليعة الشهداء، فأخبرتها ماري بشدة رغبتها في اللحاق بأخيها بمملكة السماء، وعزمت فلورا أن ترافقها في هذه الرحلة، فذهبتا إلى القاضي، وبذلتا ما في وسعهما لإثارة غضبه بالإكثار من سب محمد ودينه، وكانتا فتاتين جميلتين تدينان في ورع وإخلاص بالدين الذي يدعو إلى «السلام في الأرض وبذل الخير والمحبة للناس»، وقد وقفتا أمام القاضي وشفاههما تقذف بالحقد والسباب ونعت دينه بأنه من عمل الشيطان، ولكنهما لم تثيرا غضب هذا القاضي الكريم بالسهولة التي ظنتاها؛ فقد مجت نفسه هذا الجنون الخباطي، وكثيرا ما تصامم حينما كان الناس يحاولون قذف أنفسهم إلى الموت، فأشفق على هاتين الفتاتين، وتمنى لو كانتا أقل طيشا وجنونا، وحاول أن يقنعهما بالرجوع عن رأيهما أو أن يتجاهل إقذاعهما، ولكن الفتاتين أصرتا على التمسك بما زعمتاه من بطولة وتضحية، فاضطر إلى إلقائهما في السجن.
وقد أثرت مدة السجن الطويلة في الفتاتين أشد تأثير، فأوشكت أن تخفف من غلوائهما وأن تزحزحهما عن حماستهما القاتلة، لولا اتصالهما بيولوجيوس الذي قواهما وقضى عليهما.
ولقد كان عمله هذا أشق عمل في الحياة، ذلك أنه كان يستحث إلى خشبة الجلاد المرأة التي أحبها وسكنت سويداء قلبه؛ لأنه - على الرغم من كل شعور طبيعي أو إنساني - راض نفسه على إثارة التعصب والنفخ في نار الاستشهاد، وانغمس في هذا العمل المضني المؤلم دون أن يهن أو يضعف لاعتقاده أنه السبيل الحق لنصرة الدين، حتى إنه كتب مقالا رائعا لفلورا يقنعها فيه بجلال الاستشهاد وجماله الروحي، وما كانت فلورا في حاجة إلى إقناع أو تحريض، واستمر ليله ونهاره يقرأ ويكتب ليطرد من قلبه الشعور بالرحمة والحب اللذين كانا يهددان عزيمته بالتردد والخور، ولكنها كانت أثبت من الجبال.
وثبتت فلورا وماري على عزمهما فلم تتحولا عنه على الرغم مما بذله القاضي من جهود لإنقاذهما، فحكم عليهما بالموت، وقبل أن يحكم عليهما قابل يولوجيوس فلورا آخر مرة، وقد كتب عن هذا اللقاء فخورا بهذا الفوز الروحي: «لقد تصورتها ملكا كريما، وقد أحاطت بها هالة قدسية وأشع وجهها بالسعادة والفوز، كأنما كانت تحس بمباهج جنات النعيم، ولقد حاولت حينما سمعت الكلمات التي تحدرت من فمها العذب أن أثبت إيمانها، فأريتها التاج الذي أعد لاستشهادها، لقد عبدتها وجثوت أمام هذا الملك السماوي، ثم رجوتها أن تذكرني في صلواتها، وحينما بعث حديثها في نفسي قوة واعتزاما عدت إلى سجني الموحش.»
قتلت فلورا وصاحبتها في الرابع والعشرين من نوفمبر سنة 851م/237ه وكتب يولوجيوس بعد موتها قصيدة تفيض بالسرور والبهجة تمجيدا لهذا الحادث الذي ظنه انتصارا عظيما للكنيسة.
بعد ذلك بقليل أطلق سراح يولوجيوس وغيره من القساوسة، وفي السنة التالية مات عبد الرحمن الأوسط وخلفه ابنه محمد، وكان قاسيا جامد العاطفة موصوفا بالأثرة، مصادرا لوزرائه، فأبغضه الناس عامة، ونعوا عليه جشعه وفسولته، ولم يحبه إلا الفقهاء؛ لأنهم توسموا أنه سيبطش بالمسيحيين الذين سخروا من المسلمين ومن دينهم، وكان هذا التوسم صادقا؛ فقد هدمت الكنائس، واتخذت وسائل عنيفة للاضطهاد، فأسلم كثير من النصارى بعد الأفواج التي دخلت في الإسلام حينما قرر مجلس الأساقفة استنكاره حوادث الانتحار الذي دعي استشهادا.
واغتبط يولوجيوس والفارو بهذه الشدة، وزعما أنها دعت كثيرا من المتسلمين إلى العودة إلى المسيحية، وتغيرت تلك السياسة الحكيمة الشفيقة، سياسة عبد الرحمن الأوسط ووزرائه التي كانت تغمض العين عن نزوة المسيحيين وطيشهم، وتلتها سياسة قاسية عسوف، فلم يكن عجيبا أن يفر المسيحيون بأنفسهم إلى الإسلام.
ولكن كل هذا لم يطفئ جذوة المتعصبين؛ فقد زادها الاضطهاد اشتعالا، وامتد شررها إلى خارج قرطبة، ورسمت طليطلة يولوجيوس أسقفا لها، وحينما أبى الأمير الموافقة على هذا القرار، ترك مكان الأسقفية خاليا حتى تسنح الفرصة ليولوجيوس بشغله.
وقدم على قرطبة راهبان فرنسيان ليستجديا شيئا من آثار الشهداء، ثم عادا بحقيبة مملوءة بعظامهم لتعرض في باريس، ولكن عاصفة أخرى كانت موشكة الهبوب على المتعصبين، فقد هجرت فتاة أخرى أبويها لتلحق بيولوجيوس، فأحضرت هي وأستاذها أمام القاضي، وكانت تهمة يولوجيوس إغواء الفتاة على الارتداد، فعوقب بالجلد بالسياط، ولم يكن هذا القسيس الضعيف الناحل ممن يتحملون السياط، إنه كان شديد الخشوع لله متقبلا في سبيله كل تضحية، راغبا أن يلقى في نصرة دينه كل ضروب العذاب، ولكنه لم يحتمل أن يسوطه المسلمون، فصاح أمام القاضي: عجل بسيفك أيها القاضي، وابعث بروحي إلى ربها، وإياك أن تظن أن ألقي بجسدي إلى سياطك، ثم أخذ يقذف الإسلام بسيل من الشتائم والسباب.
وهنا تحرج القاضي وأبى أن يحمل تبعة قتل زعيم مثله، فأمر بعرضه على مجلس الدولة، وفي هذا المجلس أخذ بعض الأعضاء يحاجه ويهدئ من ثورته، ويعجب كيف أن رجلا عاقلا مثقفا مثله يقذف برأسه طواعية، بين أنياب الموت، ثم قال له: لو فعل هذا رجل أبله أو مجنون ما أثار عجبي، ولكن صدوره من مثل يولوجيوس هو العجب كله، ثم همس في أذنه قائلا: «أنصت إلي؛ إني أرجوك أن تخضع مرة للضرورة، وأن ترجع عما قلته أمام القاضي، قلها كلمة واحدة، تجد نفسك حرا طليقا.»
ولكن هذا النصح جاء بعد أوانه، نعم إن يولوجيوس كان يؤثر تخريج الشهداء وإثارتهم على أن يخط لهم المثال بنفسه، ولكنه رأى أنه لا يستطيع الآن التقهقر موفور الكرامة، وأنه يجب أن يصابر ويثابر إلى النهاية ، وحينما أبى أن يتراجع حكم بقتله، فمات شجاعا مخلصا في الحادي والعشرين من مارس سنة 859م/244ه وحين فقد المسيحيون زعيمهم سرى اليأس إلى قلوبهم، ولم نعد نسمع لهم ضجيجا مرة أخرى.
هوامش
الخليفة العظيم
قد يشعر القارئ بشيء من خيبة الأمل حين يرى أننا قد بلغنا هذا القدر من الكتاب ولم نسرد له إلا قليلا من أعمال البطولة وأحاديث الحروب، وأننا بدل أن نقص عليه سير الأبطال، طغى بنا القلم إلى الإسهاب في اضطراب حركات الأجناس، وثورات الأديان، نعم؛ إننا بدأنا بداءة تستثير العاطفة وتحبس الأنفاس بذكر طارق وجنده من البربر الذين لم تكن فتوحهم اللامعة من أساطير الخيال، ولم تكن في صحة حوادثها أقل من تاريخ القرن التاسع عشر، وقفينا على ذلك بذكر الموقعة الكبرى الفاصلة، موقعة طلوشة (تولوز) وهي حقا من الوقائع المؤثرة وإن أعوزها كثير من الإسهاب التاريخي، ثم ألممنا بموقعة العرب مع الإفرنج، وبمعركة رونسسفال التي أبعد وصفها في الخيال، وغشاها غمام من خطرات الأوهام، ومر على هذه المعركة مائة عام، فوصلنا إلى مقتل يولوجيوس، وإلى خمود حركة الاستشهاد الدينية.
ولم نكن في غضون هذا القرن نقرأ في تاريخ الأندلس إلا صراعا عنيفا بين العشائر والمذاهب الدينية المختلفة التي تمثل الشعب الإسباني، ومهما يكن من شيء، فإن أعمال البطولة نادرة دائما، وكثيرا ما تكون من خلق الشعراء، فإن عقولهم الروحانية كثيرا ما تلبس بعض حوادث الحرب العادية أثوابا من البطولة لا تدركها الأفهام، في حين أن الصراع بين قبيل وآخر أو مذهب وآخر هو كل ما شهدته الدنيا منذ وجد الإنسان، فمن الحق إذا ألا ننساق مع أنفسنا في اعتقاد أن تاريخ الحركات العظيمة خال من الروعة لأنه خال مما يسحر النفس من أعمال البطولة الفردية؛ فقد كان لكثير من المغمورين من الرجال والنساء في غضون عصر الاستشهاد الديني إخلاص وجهاد وبطولة تفوق أعمال الفرسان في ساحة القتال؛ لأنه من السهل أن تكون شجاعا في معركة تغلي فيها الدماء، أما أن تبصر نذر الهلاك وتحتمل السجن الطويل المدى، وتنتظر بشجاعة وجلد يوم الإعدام وأنت ثابت القلب رابط الجنان - فشيء فوق طاقة كثير من الناس.
أخطأ شهداء المسيحيين في رأيهم جادة الصواب، وقذفوا بأرواحهم في غير مقذف، ولكن شجاعتهم مع هذا كانت جديرة بالإعجاب كما كانت عقولهم جديرة بالرحمة.
كانت فلورا بطلة حقا، كما لو ضحت بحياتها في سبيل حقيق بالتضحية، وخلق يولوجيوس من طينة الأبطال على الرغم من تعصبه وتزمته، وكم في كل هذه الثورات السياسية والدينية التي مرت بنا من أعمال تجلى فيها الإخلاص والثبات والعزم والاحتمال! وهذه - وإن فرت من عين المؤرخ - لا تقل عن أعمال البطولة اللامعة في ميادين القتال.
إن أشق واجبات الإنسان لا يظهر غالبا إلا في صغار حوادث البطولة، وإن في المعارك والتحام الجيوش فرصا لا تعد لتكوين الأبطال.
ويسهل جدا أن ترى البطولة واضحة في شخص من أن تراها في شعب أو مدينة، وها نحن أولاء بصدد حياة رجل يعد بين قليل ممن قربوا من المثل الأعلى في عظمة الملك وقوة السلطان.
إن الملك العظيم أثر الحاجة الملحة والخطب العظيم، فإذا اشتدت آلام الأمة وطال بأسها، وازدحمت أيامها بالكوارث، ورف غراب الدمار بجناحيه في الأفق، جاء الملك العظيم لينقذ قومه من بين براثن الخطر، وليعيد إليهم الرفاهية والهدوء والأمن، وليحكم مملكة كتب لها أن تنهض بهمته ومساعيه إلى القوة والسعادة بعد الضعف والانتكاس، وقد كانت الحاجة بالأندلس إلى مثل هذا الملك شديدة في طليعة القرن العاشر، فقد تلت ثورة المسيحية التي اشتعلت بقرطبة ثورات، وانتشر العصيان في ولايات الأندلس، وتناوب عرش المملكة أمراء لا خير فيهم، ولا غناء عندهم،
1
وقضي على السياسة النشيطة العاملة التي قام بها المنذر الذي خلف أباه في سنة 886م/273ه بقتله في سنة 888م/275ه وجاء بعده أخوه عبد الله الذي دبر مقتله، فكان أضعف من أن يقف على قدميه في وجه الخطر الذي كاد يذهب بملكه؛ لأنه كان متقلبا مضطربا، وكان يناوب بين الشدة والاستخذاء فلم ينجح في كليهما، وكان حقيرا قاسيا شريرا، فأجمع الناس لأول مرة على كراهيته ونبذ طاعته، ولم تمض ثلاث سنوات من حكمه حتى كان القسم الأعظم من الأندلس مستقلا، فإن الأحزاب المختلفة التقت على معارضته، واهتبل كل نبيل أو زعيم من العرب أو البربر أو الإسبان فرصة ضعفه وسوء حكمه وما أصبحت فيه الأندلس من الفوضى الطخياء الشاملة - فاختص نفسه بقسم من المملكة، وقام يتحدى الأمير من وراء حصونه.
وكان عظماء العرب من أبناء الفاتحين قليلي العدد، فلم يمنعهم ضعفهم، ولم تقعد بهم قلتهم عن أن يقلبوا للأمير ظهر المجن، فاستولوا على بعض إمارات منها إشبيلية التي أصبحت منافسا مخيفا لقرطبة، أما في المدائن الأخرى وحيث كان العرب أضعف من أن يقاوموا الأمير، فإنهم خضعوا له خضوعا صوريا، واستقل حاكما لورقة وسرقسطة استقلالا حقيقيا، ولم يبق للأمير من يستنصر به إلا الجنود المرتزقة الذين أخضعوا له أهل قرطبة إخضاعا ظاهريا، بحيث إذا جاوز المرء قرطبة لم يجد عربيا واحدا يرجى منه أن ينصر الأمير أو يدافع عن الدولة الأموية.
وكان البربر أكثر عددا من العرب، وأشبه بهم في السخط والعصيان، فخلعوا ربقة الطاعة للأمير، وعادوا إلى نظام القبائل، واستقلوا بالولايات الغربية مثل: استرامادور، وجنوب البرتغال، واحتلوا مراكز عظيمة الشأن في الأندلس نفسها كمدينة جيان، وكانت أسرة ذي النون البربرية تتألف من أبيهم موسى وهو شرير كبير ولص بغيض، ثم من أولاده الثلاثة الذين أشبهوه في قوته وقسوته
2
فدهمت هذه الأسرة الأندلس كلها بالسيف والنار، وعاثت بالفساد في جميع نواحيها تحرق وتنهب وتقتل أينما سارت.
وكان الإسبان المتسلمون الذين صقلتهم مدنية العرب بعض الصقل، أقل وحشية من البربر وإن لم يقلوا عنهم في بغض الحكومة، فاستولوا على ولاية الجرف في الزاوية الجنوبية الغربية من شبه الجزيرة، وملكوا عددا عديدا من المدن والولايات المستقلة بالأندلس، وفي الحق إن معظم المدن العظيمة كانت في ثورة مقنعة أو سافرة، فقد اتحد حكام العرب وزعماء البربر والإسبان المتسلمين على معارضة الأمير والاستهانة بأمره، وكان ابن حفصون أكثر هؤلاء قوة وأشد مراسا، وهو مسيحي
3
أثار سكان الجبال بغرناطة، وأقام في حصانة معقله ببشتر (بوباستور) يحكم ويشرع للبلاد حوله، وطالما جرد الأمير عليه جيوشا فآبت بالخذلان والهزيمة، ثم التجأ الأمير آخر الأمر إلى مصالحته وملاينته، ولكن ابن حفصون كان في هذه الناحية أوسع منه حيلة وأشد مكرا،
4
وكانت مرسية مستقلة يحكمها أمير متسلم، حكما رفيقا حازما، فأحبته رعيته، ولم يغفل مع ولوعه بالشعر والأدب عن تحصين مملكته بجيش عظيم، عدته خمسة آلاف فارس، وكانت طليطلة كعادتها ثائرة صاخبة، ولم يعق نصارى الشمال عن الاستيلاء عليها واسترداد ملكهم المسلوب إلا ما شجر بينهم من خلاف وانقسام.
هكذا كانت حال الأندلس، وهذا ما آل إليه أمرها؛ فقد أصبحت ممزقة الأشلاء، منبتة الأواصر، تبعثرت فيها المقاطعات المستقلة التي صارت أشبه بالضياع منها بالولايات التي تكون دولة قوية، وصارت أعجز من أن تقف في وجه فاتح قوي عزوم.
وكانت تلتمع أحيانا أشعة من النور في ظلام هذه الفوضى القاتمة؛ فقد ذكرنا آنفا أن حاكم مرسية كان أديبا مثقفا كما كان يشتهر حاكم قسطلونة بإغداقه على الشعراء ورجال الفنون، وكان يعيش في قصر فوق أعمدة من الرخام، غطيت حيطانه بزخارف من المرمر والذهب، واشتمل على كل ما تشتهي النفس من النعيم.
أما ابن حجاج حاكم إشبيلية فإنه اضطر الأمير إلى مصالحته ومصادقته وحمل أعباء الحكم كريما نبيلا، وأخذ رعيته بالرفق، فرفرف فوقها علم السلام والطمأنينة، وعاقب المجرمين بعدل وصرامة، وأقام مراسم الملك في جلال وعظمة، وبلغ حرسه خمسمائة فارس، وكان رداؤه الملكي من الحرير المنسوج بخيوط الذهب والفضة، كتب عليه اسمه وألقابه بالذهب الخالص، وذاعت شهرته فراسله الملوك من وراء البحر وبعثوا إليه بهداياهم، وتوافد عليه العلماء والفقهاء من المدينة المنورة، وازدان قصره بأشهر المغنين من بغداد، وكانت جاريته «قمر» البغدادية شاعرة رائعة الحسن، بديعة الصوت، فصيحة اللسان، مرهفة الحس، وهي التي تقول فيه:
ما في المغارب من كريم يرتجى
إلا حليف الجود إبراهيم
أنى حللت لديه منزل نعمة
كل المنازل ما عداه ذميم
وقد اجتذب إلى قصره الشعراء، فأمه جميعهم، حتى شعراء قرطبة الذين وثقوا من كرمه وتكريمه، وأعرض مرة عن شاعر وأنبه لأنه أراد أن يسره بهجاء منافسيه من أشراف قرطبة، وكان من قوله له: لقد كذبتك نفسك يا هذا إن ظننت أن رجلا مثلى يهش لسماع هذا الهجاء الدنيء.
ولكن كل هذه الأشعة اللامعة من الحياة الأدبية والثقافية لم تخفف إلا قليلا من اضطراب الفوضى العامة التي شملت ربوع الأندلس وصيرتها فريسة للكوارث التي منها ضعف حكومة قرطبة، وخروج كثير من حكام الأقاليم عن الطاعة، وانتشار عصابات اللصوص وقطاع الطرق بالبلاد، حتى صارت المملكة إلى حال تستنزف الدمع من الشئون، وأصبحت قرطبة نفسها - وقد توالت عليها غارات ابن حفصون ورجال عصائبه - في حزن مقعد مقيم، وكانت وإن لم تحاصر بالفعل تقاسي ما هو شر من الغزو وأشد من الحصار، ويقول مؤرخو العرب:
كانت حال قرطبة تشبه حال ثغر تعرض لهجمات الأعداء، فكثيرا ما فزع سكانها من نومهم في جوف الليل لصياح الزراع على شاطئ النهر وقد وثب عليهم لصوص الطرق يغمدون سيوفهم في رقابهم.
وكتب بعض من حضر هذا العهد يقول: «لقد أصيبت المملكة بانحلال شامل؛ فقد تلت المصائب المصائب فهي لا تنقطع، واستمر النهب والسرقات، وجرت زوجاتنا وأولادنا قسرا إلى الأسر والعبودية.»
وعمت الشكاية من تهاون الأمير وضعفه وضعته، وتذمر الجنود لمنع أعطياتهم، وضنت الولايات بإرسال حاصلاتها، وخلت خزائن الدولة من المال فأصبحت قفرا يبابا، وكل ما استطاع الأمير أن يقترضه من المال رشا به بعض العرب الذين كانوا يراءونه ويصطنعون له الإخلاص، وأظهر خلاء الأسواق من الأقوات ما أصاب التجارة من الضرر الفادح والبوار، وأصبح ثمن الخبز فوق متناول الخيال، وعاد الناس - وقد ملكهم اليأس - لا يفكرون إلا في يومهم، أما الفقهاء والمتزمتون فقد عدوا ذلك من سخط السماء، وأن ابن حفصون لم يكن إلا آلة لنقمة الله وغضبه، ثم أخذوا ينشرون بين الناس تكهنات مفجعة محزنة، وكم صاحوا يقولون:
ويل لك يا قرطبة، ويل لك يا بؤرة الفساد ونذير الزوال، يا موطن الفجائع والاضمحلال، لقد أصبحت بلا صديق أو حليف، ستحل مصيبتك حينما يصل إلى أبوابك القائد الكبير الأنف، الدميم الوجه، الذي يحرسه المسلمون من أمامه والكافرون من خلفه، فإن في وصول ابن حفصون إلى أسوارك القضاء المبرم والفناء المحتوم.
وحينما ازدادت الأمور حلكة وظلاما، سطع شعاع من الأمل لليائسين من سكان قرطبة، فإن الأمير عبد الله الذي تملكه اليأس كما تملك رعيته حاول أول مرة أن يعزم على عمل سياسي جريء، وأن يخرج من المأزق الذي وضع فيه نفسه، فنهض بما عزم
5
على الرغم من تثبيط أتباعه له وكثرة عدد الأعداء المحيطين به من كل جانب، ولكنه بعد قليل عمل خيرا من كل هذا، عمل ما كان يجب أن يعمله لأمته من زمن بعيد، ذلك أنه مات في الخامس عشر من أكتوبر سنة 912م/300ه بعد أن بلغ الثامنة والستين، وبعد أن قضى في الحكم أربعة وعشرين عاما كلها حزن وشقاء؛ فقد رأى بعينيه من تدهور سلطان الأمويين - وكان تدهورا سريعا مفاجئا - ما يصعب علاجه على المصلحين، ولكن الله قدر لحكم خليفته أن يرى أيضا لهذا السلطان بعثا سريعا مفاجئا كاملا شاملا.
كان الخليفة عبد الرحمن الناصر حفيدا لعبد الله، وقد ولي الحكم في الحادية والعشرين من عمره، وكان يظن أن يزاحمه عمه وأقاربه على الإمارة وهو في هذه السن وفي هذا الوقت العصيب، ولكن شيئا من ذلك لم يكن، واستقبلت الأمة ولايته بصيحات الاستبشار والرضا من كل ناحية.
وكان الخليفة الجديد محبوبا من الشعب ورجال القصر، تضافرت وسامة طلعته، وحسن سمته، وكرم أخلاقه، وقوة إدراكه، على أن تجعل منه خليفة تعشقه الجماهير، وأحس القرطبيون - وهم البقية الباقية من رعيته - بتجدد الأمل فيهم وهم يرقبون بواكير أعماله.
ولم يحاول عبد الرحمن إخفاء مراميه ومآربه، فقد هجر سياسة جده إلى غير عودة، وكان تناوحها بين الضعف والقوة سببا في دمار البلاد، وأعلن مكانها في صراحة أنه لن يسمح بأي عصيان في أي جزء من أجزاء المملكة الأموية، ثم دعا الساخطين ورؤساء القبائل إلى الخضوع لسلطانه بعد أن أرسلها كلمة صريحة بأنه لن يترك جزءا من مملكته يتحكم فيه العصاة، وكان في برنامجه من الجرأة ما ينعش آمال أكثر المتفائلين، وإن خاف كثير منهم من أن هذا البرنامج قد يؤلب العصاة في جميع أنحاء المملكة، ويجمعهم عصبة واحدة لسحق هذا الأمير الشاب العنيد، ولكن عبد الرحمن كان يعرف أخلاق أهل مملكته، فلم يكن في جرأته عابثا أو متهورا.
لقد مضى جيل منذ أن رفع ابن حفصون وأشياعه علم الثورة، واعتقد أكثر الناس أن فيما نالهم من أوزارها ما يكفي، وفوق الذي يكفي، وبردت تلك النار التي كانت تتأجج في قلوب الإسبان المتسلمين والمسيحيين وتدفعهم إلى الكفاح في سبيل الاستقلال، وأمثال هذه البدوات لن تعيش إلا إذا بلغت غاية الفوز عند أول اشتعالها، لقد كان الزعماء الآن بين ملحود لا يعود،
6
وشيخ لا يرجى، فهدأت الروح الثائرة في نفوس أتباعهم، وأخذ الناس يسائلون أنفسهم عما حصلوا عليه من جراء ثوراتهم؟ إنهم لم يطهروا الأندلس من الكفار، ولكنهم على النقيض أسلموها إلى أكثر من الكفار شرا، إلى زعماء اللصوص والمجرمين المخاطرين؛ فقد منيت المملكة في جميع جهاتها بعصابات من اللصوص أتلفت الزرع والكروم، وتركت الأراضي وراءها قفرا يبابا، وأحس الناس أن كل شيء كيفما كان خير من تحكم هذه العصابات، وأن الأمير لن ينقل الأمور إلى أسوأ مما هي عليه؛ لذلك اتجهوا إليه ينظرون إلى ما يستطيع عمله لإصلاح هذه الحال.
وكان من أثر كل هذا أن الخليفة حينما هب يقود جيوشه لمحاربة الولايات الخارجة عليه، رأى أن أكثرها أقرب إلى الخضوع من العصيان، وزاد في حماسة جنوده أن رأوا أميرهم الشاب الشجاع في مقدمتهم، وهو شيء لم يعهدوه من عبد الله جده، فساروا وراءه معجبين مستميتين، وأخذت المدن بالأندلس تفتح للأمير أبوابها واحدة إثر واحدة، فسلمت الولايات التي في جنوب قرطبة أولا، ثم ألقت إشبيلية بقيادها، وأجبر البربر في الغرب على الطاعة، وأسرع أمير الجرف بإرسال الإتاوة، ثم تقدم الأمير لقتال النصارى بمقاطعة ريه (ريو) حيث يسكن منذ ثلاثين عاما رعايا ابن حفصون الشجعان في معاقلهم الجبلية، وكان عبد الرحمن أعرف الناس بأن مثل هذه المعاقل لن ينال بظفر سريع؛ لذلك خطا خطوات متئدة حتى أخضعها لسلطانه، فسلم إليه معقل بعد معقل، بعد ما رأى أعداؤه ما بهرهم من عدله وشرفه، وأنه قد حافظ على معاهدته مع النصارى أكرم محافظة، وأنه أظهر غاية الحلم والصفح لكل من سلموا إليه، ولكن ابن حفصون بقي في معقله متحديا مغالبا كعادته، غير أنه كان قد شاخ فأدركته المنية، وأصبح استيلاء الخليفة على حصن «ببشتر» أمرا هينا موكولا إلى الزمان.
وحينما وقف الأمير على مشارف هذا الحصن المنيع بعد استيلائه عليه، ونظر من بعده الشاهق إلى القمم الشديدة الانحدار التي تحيط به، ثار وجدانه، وغمرته عواطفه، فسجد لله شكرا على هذا الفتح المبين، وبقي مدة إقامته بالحصن صائما، وشمل أعداءه بالصفح والغفران.
ثم ألقت مرسية بالقياد وخضعت للخليفة، أما طليطلة فبقيت على تحديها وعصيانها ورفضت في كبرياء وغرور ما عرضه عليها عبد الرحمن من الهدنة، وانتظرت الحصار بصبر وجلد، ولم يخطر ببال أهل المدينة أنهم منوا بأمير يخالف طابعه من عرفوهم من القواد الضعفاء الذين طالما آبوا بالعار والخيبة أمام حصونها المنيعة.
هجم الخليفة على طليطلة ووقف بجيشه لحصارها، ثم أراد أن يفهم من لم يكن يفهم أن هذا الحصار لم يكن محض تهديد، فأمر أن تبنى مدينة صغيرة فوق الجبل المقابل لها سماها «الفتح» وربض ينتظر عواقب الحصار، فلما اشتد الجوع بالسكان سلمت المدينة ودخلها عبد الرحمن فكانت آخر مدينة دانت له بالطاعة في المملكة التي ورثها من سميه عبد الرحمن الداخل، والتي بلغت الآن في سنة 930م/318ه غاية امتدادها.
وقد اقتضته إعادة ما ضيعه أسلافه من المملكة ثمانية عشر عاما، غير أنه فاز بما أراده وأتمه، وعادت سلطته قوية الدعائم بين العرب والبربر والإسبان والمسلمين والمتسلمين، ومن هذا الحين أبى أن يخص أي حزب من رعيته بميزة أو يرفعه فوق غيره، وشدد الضغط على زعماء العرب، فابتهج الإسبان بإذلالهم، وأصبح الملك اليوم خالصا للخليفة وحده، فحكم مستقل الرأي مستبدا، وقابلت الأمة استبداده بسرور وغبطة بعد عدة سنوات قضتها في الاضطراب والفوضى، وبعد أن استراح الناس من العصابات التي كانت تغير على زروعهم وكرومهم.
وإذا كان الخليفة مستبد السلطان، فإنه لم يتجاوز الحد في استبداده الذي أعاد الناس إلى حياة الأمن والثروة، وأطلق عقالهم لينالوا من الغنى ورغد العيش ما يشتهون على النحو الذي يشتهون.
هوامش
الحرب المقدسة
كان مذهب عبد الرحمن الناصر في نظام الحكم أن يحتفظ لنفسه بالسلطة كاملة، وأن يختار لتصريف أمور الدولة رجالا من صنائعه، الذين رفعهم بعد ضعة، وأعزهم بعد مهانة،
1
وحرص قبل كل شيء على أن يجرد زعماء العرب الذين لعبوا بالأمراء قبله من كل قوة، فكان رؤساء دولته من المحدثين في النعمة الذين لم يرفعهم نسب ولم تنهض بهم في المجد سابقة، فتوثقت عراهم بسيدهم كما يتشبث الضعيف بالقوي؛ إذ لولاه لداستهم الأسر العربية بالأقدام، ثم إنه حاط ملكه بجيش عظيم جرار، انتقى قواده من خيار رجال حرسه من الصقالبة، وأضاف إليهم رجالا من الفرنجة، وغاليسية، ولومبارديا، وغير هؤلاء من أجناس شتى، وكان تجار الإغريق والبندقية يجلبون هؤلاء الأرقاء ويبيعونهم صغارا للخليفة ليهذبهم وينشئهم في الإسلام، وكثير منهم من أصبح كامل الثقافة شديد الإخلاص لمولاه، وهم يشبهون من نواح كثيرة مماليك خلفاء صلاح الدين بمصر، الذين اختاروهم لحراستهم، والذين بلغوا في النهاية ذروة المجد، فكانوا سلاطين لمصر والشام، نعم يشبهونهم فيما كان لهم من عبيد ينصرونهم، وفي أن الخليفة أقطعهم ضياعا يقوم على زراعتها الخول والعبيد، وفي أنهم كانوا دائما يستجيبون لدعوة سيدهم إذا دعاهم للحرب، فيقبلون مسرعين على رأس أتباعهم وعبيدهم، ثم يشبهونهم في أنهم وصلوا بعد حين من الدهر إلى قمة السيطرة والنفوذ، فاغتنموا فرصة ذبول الدولة وتدهورها بعد موت عبد الرحمن الناصر وخليفته، وأسسوا لأنفسهم دولة، فكان لهم بذلك سهم بين السهام، ويد بين الأيدي التي قضت على حكم الإسلام بالأندلس.
استطاع الأمير مستعينا بالصقالبة أن يطهر البلاد من عصابات السوء، وأن يسل منها روح التمرد، ثم أن يشعل حربا ضروسا على نصارى الشمال ويعود مظفرا منصورا؛ فقد كانت مملكة الإسلام في أيامه مهددة بخطر أشد من خطر الفوضى والثورات؛ ذلك أنها كانت محصورة بين مملكتين متحديتين شديدتي المراس، تتطلب كلتاهما شدة اليقظة والحذر، ففي الجنوب ربضت مملكة الفاطميين في شمال إفريقية متنمرة متوثبة، وكان من الطبيعي أن يذكر حكام الساحل البربري أن العرب قبلهم جعلوا من إفريقية معبرا إلى إسبانيا، كما أن السياسة المتوارثة بين حكام البربر كانت توسوس إليهم دائما أن يضموا - إذا استطاعوا - ولايات إسبانيا المشرقة إلى إفريقية.
ورأى الخليفة أنه لا يستطيع التخلص من الفاطميين أو تجنب شرورهم إلا ببث الفتن وإشعال نار الخلاف بين قبائل البربر، فنجح في ذلك أيما نجاح، وأخضع بدهائه قسما كبيرا من ساحل البربر، وتملك قلعة سبتة الحصينة، ثم إنه خصص مقدارا كبيرا من دخل الدولة ببناء أسطول عظيم، نازع به الفاطميين سلطتهم في بحر الروم.
أما في الناحية المقابلة نحو الشمال، فكان على المسلمين أن يقابلوا عدوا هو أشد من الفاطميين كيدا، وأبعد خطرا؛ فقد نبتت نصارى أستورياس وتأثلت من حفنة من الرجال زاد عددهم في هذه الأيام واشتد ساعدهم، فاعتزوا بالكثرة والقوة، ونما في نفوسهم حافز قوي إلى استرجاع وطنهم المسلوب.
وقصة ذلك: أنهم حينما اصطدموا بالمسلمين عند الفتح، فقدوا صوابهم، وطارت نفوسهم شعاعا، وتمزقوا شذر مذر مذعورين من هؤلاء الشياطين، فالتجئوا إلى جبال أستورياس وأقاموا بها، فكان لهم من قلة عددهم ووعورة الجبال التي نزلوها شفيع ذاد المسلمين عنهم، ولم يجتمع حول زعيمهم «بلاي» في كهف «دونجا» إلا ثلاثون رجلا وعشر نساء، فلم ير العرب أن مثل هذه الطغمة القليلة من الفارين تستحق المطاردة والاقتناص، فتركوهم وشأنهم يقيمون في مغاور هذا الكهف الذي لا ينال إلا من شعب ضيق لا يرقى إليه إلا بسبعين درجة، ودارت الأيام وتعاقبت الأعوام، وهم يتكاثرون ويتناسلون، حتى استطاعوا بعد حين أن يؤلفوا في معقلهم الحصين جيشا تاما.
ووصف ابن حيان المؤرخ نشأة هذه الدولة المسيحية في حزن وأسى فقال :
وفي ولاية عنبسة بن سحيم الكلبي،
2
قام بجليقية علج خبيث يدعى (بلاي) فعاب على العلوج طول الفرار، وأذكى قرائحهم حتى سما بهم إلى طلب الثأر، ودافع عن أرضه، ومن وقته أخذ نصارى الأندلس في مدافعة المسلمين عما بقي من أرضهم، والحماية عن حريمهم، وكانوا لا يطعمون في ذلك، وقيل إنه لم يبق بأرض جليقية قرية لم تفتح إلا الصخرة التي لاذ بها هذا العلج، ومات أصحابه جوعا إلى أن بقي في مقدار ثلاثين رجلا ونحو عشر نسوة، وما لهم عيش إلا من عسل النحل في جباح (خلايا) معهم في خروق الصخرة، وما زالوا ممتنعين إلى أن أعيا المسلمين أمرهم، واحتقروهم، وقالوا: ثلاثون علجا ما عسى أن يجيء منهم؟! فبلغ أمرهم بعد ذلك في القوة والكثرة والاستيلاء ما لا خفاء به.
ويقول مؤرخ آخر: «كم تمنينا على الله لو أن المسلمين أطفئوا - دفعة واحدة - شرارة هذه الجذوة التي قدر لها أن تلتهم دولة الإسلام بالأندلس!»
تقوت هذه العصابة الفارة شيئا فشيئا، وزاد في بأسها وفود النصارى إليها من أقطار الشمال، وحينما شعرت بالقوة، واطمأنت إلى الثقة بنفسها، خرج رجالها من معقلهم وأخذوا يناوشون البربر النازلين بحدود الأندلس، حتى اضطر العرب في النهاية إلى أن يزحفوا على كهف هؤلاء المغيرين البسلاء ليستأصلوهم، ولكنهم لم يظفروا بطائل؛ فقد هزمهم المسيحيون في هذه المحاولة وغنموا منهم مغانم كثيرة، وفي سنة 751م/134ه تزوج ألفونسو (الأذفونش) صاحب كانتابريه (التي لم ينفذ إليها العرب) بابنة بلاي، فوحد هذا الزواج كلمة المسيحية، وهب ألفونسو فأثار الولايات الشمالية على العرب، وشن بجنود من أهل غاليسية على المسلمين حروبا متعاقبة دفعتهم إلى التقهقر نحو الجنوب، واسترد من أيديهم مدن براجا، وبورتو (مدينة البرتقال)، واستروجة، وليون، وطلمنكة، وزمورة، وليدسمة، وسلادانة، وشقوبية، وآبلة، وأوسما، وميراندة، وامتد الحد المسيحي إلى الجبال الكبرى وأصبحت حصون الحد الإسلامي مدن: قلمرية، وقورية، وتالاڨيرة، وطليطلة، ووادي الحجارة، وتدلة (تيوديلة)، وبنبلونة.
والحقيقة أن ألفونسو استرد ولايات قشتالة، وليون، وأستورياس، وغاليسية، غير أن هذه العصابة بعد أن ملكت ما ملكت، خلت إلى أنفسها فرأت أيديها صفرا من المال، ورأت أنه لم يكن لها من العبيد والخول من يقومون ببناء القلاع واستنبات الأرض في تلك البقاع الواسعة التي استرجعتها، فخطر لها أن تتركها للعرب على أن تكون حدودا بينهما غير ثابتة، وارتدت إلى المقاطعات حول خليج غسقونية حتى يحين الوقت الذي تسوغ لها فيه كثرة العدد والمال احتلال بقاع أوسع.
وجاء القرن التاسع وأحس المسيحيون بما يحفزهم إلى استعادة البقاع التي تغلبوا عليها من قبل، فانتشروا بمقاطعة ليون وابتنوا لصد أعدائهم قلاع زمورة، وسان استيبان، وأوسما، وسيمنقاس، ثم تقدموا فضيقوا فسحة الحدود بينهم وبين العرب حتى لقد كانت تتلاصق جيوش الفريقين في بعض المواطن، وحاول العرب في بداءة القرن العاشر أشد محاولة أن يستردوا أراضيهم بما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل، ولكن المسيحيين هزموهم شر هزيمة، وتواثبوا على حدودهم بعد أن استعانوا برجال من طليطلة، وبعد أن شد أزرهم سانشو (شانجة) ملك نافار (بنارة) الذي أصبح موئل المسيحية في الشمال.
وكانت حروب المسيحيين نقمة وسوط عذاب على أعدائهم؛ فقد كانوا جفاة أميين، وكانت أخلاقهم على اتساق مع أميتهم، وما كان يتوقع من هؤلاء الجفاة المتوحشين إلا التعصب والقسوة، فإنهم لم يؤمنوا مستجيرا، ولم يتركوا فارا، ولم يبقوا على جريح، وهذا يذكرنا - والحزن ملء صدورنا - بما كان للعرب من بطولة ورفق وسماحة خلق، فكثيرا ما عفوا عن أعدائهم نبلاء متكرمين، بينما نرى اليوم رجال ليون وقشتالة العتاة يذبحون جميع رجال الحاميات، ويستأصلون مدنا مليئة بالقطان، حتى إذا نجا أحد من سيفهم لم ينج من استعبادهم.
لم تمر سنتان من حكم عبد الرحمن الناصر حتى زحف أردون الثالث صاحب ليون بجيوشه على العرب، وأثار حربا شعواء بلغ بها أسوار ماردة، واشتد هلع أهل بطليوس لمقدمه، فأسرعوا إلى مصالحته بالمال لاتقاء شره، واشتد الخطر على المسلمين لقرب هاتين المدينتين من قرطبة، ولم يكن يحول بين جيوش أردون وبينها إلا شارات مورينا الشاهقة، فكان الموقف شديد الحرج على المسلمين، ولو أن الأمير كان جبانا لتلمس لنفسه الأعذار في نكوصه عن القتال؛ لأن ماردة لم تكن تعترف بعد بسلطانه، فأي شأن له إذا وثب النصارى على ولايات خارجة عليه؟! ولكن شيئا من هذا لم يكن من نحيزة عبد الرحمن ولا من خلقه، فوثب في الحال وجمع جموعه وأرسل بعثا إلى الشمال فشن غارات قاسية على مملكة المسيحيين، وأرسل في السنة التالية سنة 917م/305ه حملة أخرى لم يكن لها من التوفيق ما كان للأولى، فهزمها أردون أمام أسوار سان استيبان، واستخلص من المسلمين كثيرا من الغنائم.
وحينما رأى القائد العربي المغوار
3
طلائع الهزيمة قذف بنفسه بين الأعداء ومات وسيفه في يده، وكان من جبن ملك ليون ووحشيته أن أمر بحز رأس هذا الجندي الشجاع وتسميره بباب القلعة إلى جانب رأس خنزير، ثم أطغى الانتصار جيوش ليون ونافار، فعاثوا في السنة التالية فيما حول طليطلة، وتغلب عليهم جنود قرطبة في أثناء ذلك في موقعتين، وفي هذا الحين عزم عبد الرحمن على أن يستكمل عدته؛ لأنه رأى أن التغلب على المسيحيين يتطلب جهدا أعظم وأمضى، فقاد في سنة 920م/308ه الجيوش بنفسه، ومضى مسرعا متسلحا بمهارته وحسن رأيه، فدهم أوسما وسوى قلعتها بالأرض، ودمر سان استيبان بعد أن فرت حاميتها، ثم اتجه إلى نافار ونازل سانشو (شانجة) ففر أمامه من الميدان مرتين، ثم جاءت النجدة من ليون إلى جيوش نافار، وكان المسيحيون في موقع طبيعي يمكنهم من العرب، ولكن الأمير نازلهم في وادي القصب واستأصل جموعهم، وأثارت منعة حدود المسيحيين غضب المسلمين فوضعوا السيف والنار في حامية ميوز.
ومن الحق أن نقرر آسفين أن العرب في بعض هذه الوقائع حاكوا أعداءهم في أعمال القسوة والعنف، وبخاصة حينما كانت تضم جيوشهم عددا من الإفريقيين الذين اشتهروا بالوحشية والشراسة، ولكن عود المسيحيين كان صلبا لا يلين، فلم تستطع الهزائم أن تفل من عزمهم أو تكسر من شوكتهم، ولن يفوق شيء عزم المسيحيين المغلوبين؛ فقد كانوا على توحشهم يمتازون بشجاعة الرجال، فكم حطمت جيوشهم مرة بعد مرة وهم ينهضون في إثر كل هزيمة بقلب ثابت جديد؛ لذلك لم يمض على كارثتهم في موقعة وادي القصب إلا سنة واحدة حتى وثب أردون الذي كان يمثل روح المقاومة المسيحية، وشن بجيوشه حربا ضروسا على الحدود.
وفي سنة 923م/311ه زحف سانشو ملك نافار واستحوذ على بعض القلاع القوية، فأثار ذلك همة الأمير، فقاد جيوشه مرة أخرى نحو الشمال وقد تملكه في هذه المرة عزم عابس، وأدركه غضب الأسود ديس عرينها، فانتهب وأحرق كل ما مر به من المدن والقرى، وملأ الرعب منه النفوس فأخذ الناس يجلون عن المدن كلما شعروا باقترابه، وفتحت له قصبة بنبلونة أبوابها بعد أن فر أهلها، ومزق جيش سانشو فتراجع منهزما مدحورا، وقام المسلمون إلى كنيسة القصبة فهدموها ودمروا كثيرا من دورها، وأصبحت نافار بمن فيها وما فيها تحت قدمي الأمير.
وفي هذا الوقت مات أردون ملك ليون، وثارت الفتنة بين أبنائه واشتعلت بينهم حرب أهلية أعطت الأمير متنفسا وفسحة للنظر في شئون أخرى.
ولما عاد عبد الرحمن الناصر من هذه النصرة اتخذ لنفسه لقبا جديدا فقد كان حكام الأندلس قبله يلقبون بالأمراء، ولم يدع أحد من حكام بني أمية حقا في الخلافة - على الرغم من إنكارهم خلافة العباسيين الذين ثلوا عرشهم بالمشرق - لأنهم رأوا أن لقب الخليفة لا يستحقه إلا من يحكم الحرمين، فقنعوا على كره منهم بأن يتركوا للعباسيين لقبهم غير منازعين فيه، غير أنه حينما شاع في الأندلس أن الخلفاء العباسيين أصبحوا وليس لهم شيء من النفوذ في خارج حدود بغداد، وأنهم يعيشون بها عيشة السجناء لتشتت أجزاء المملكة، ونشوء الأوطان المستقلة
4
أسرع عبد الرحمن فدعا بنفسه خليفة على المسلمين وسمى نفسه الناصر لدين الله.
5
انتحل الخليفة هذا اللقب قبل موته بثلاثين سنة ملئت بالحكمة والعدالة والحزم، وصخبت بحروب مستمرة كانت تشن كل عام على المسيحيين، فرفعت من قدره وجعلته جديرا بلقبه الناصر لدين الله.
ولكن الحروب الأهلية التي حدت زمنا من قوة أهل ليون انطفأت الآن وسكن غبارها، وظهر من خلالها ملك مسيحي عسي بالمنصب، جدير بأن يكون خليفة لأردون العظيم ؛ فقد ولي الملك راميرو الثاني (ردمير) في سنة 931م/319ه وبرزت فيه صفات الفروسية بعزمه الصارم على مقاومة جيوش الخليفة، وبعد قليل عقدت في الشمال بين المسيحيين وأمير سرقسطة
6
معاهدة شديدة الخطر سيئة المغبة، فأسرع عبد الرحمن إلى تمزيق هذه المعاهدة وإخضاع سرقطسة في سنة 937م/327ه ثم زحف على نافار، ونشر الرعب والفزع أينما سار، حتى إن الملكة الوصية (طوطة) أسرعت إليه لتقدم خضوع المحكوم للحاكم، ولكن راميرو لم يشترك في شيء من هذا الاستسلام، فلم شتات جيشه وتغلب على المسلمين وقهرهم في موقعة الخندق، وكانت كارثة على المسلمين، فسقط منهم خمسون ألفا في الميدان، ونجا الخليفة بنفسه وما كاد ينجو، وفر بأقل من خمسين فارسا، وبقيت هذه السنة المشئومة عهدا طويلا بالأندلس تسمى بسنة الخندق.
7
ولو أن المسيحيين سايروا تغلبهم وجاروا تقدمهم، لجاز أن يكتب اليوم لإسبانيا تاريخ آخر، ولكنهم كشأنهم شغلتهم العداوة والبغضاء، ووقع النزاع بين أمرائهم، فحمى ذلك الخليفة من شرهم، واقتنص فرصة تدابرهم للانتعاش من كارثته ولم شعت ما تفرق من جيشه، وأخذ الأهبة لهجوم جديد؛ فقد كانت الفتنة متأججة في قشتالة لمقاومة سيطرة أهل ليون، وكان حاكم قشتالة في هذا الحين فرناندو غونزاليز المشهور
8
الذي غنى بمدحه كثير من الشعراء، فإنه كان بطلا من أبطال إسبانيا، تزوج ببطلة خلصته مرتين من السجن بعد أن ألقاه فيه بعض الحسدة من جيرانه أصحاب نافار وليون، وكانت حيلتها في خلاصه في المرة الثانية أن ارتدت ثياب زوجها وعرضت نفسها للوقوع في أيدي السجانين، أما خلاصه في المرة الأولى فكان قبل زواجها به حينما كان في طريقه ليخطبها من أبيها غرسية ملك نافار الذي قبض عليه أول ما رآه وألقاه في السجن.
وتقص علينا أنشودة إسبانية خبر خلاصه من محبسه فتقول:
لقد حملوا بعيدا كونت قشتالة العظيم إلى نافار، ثم قيدوا رجليه إلى يديه قيدا مؤلما، وطار بهم الفرح، وأولموا الولائم لاقتناصه
حقا إن سجن الملك غرسية يضم أشجع بطل بإسبانيا
ثم يستمر الشاعر فيقص علينا أن فارسا نورمانديا كان مارا بنافار :
ثم جاء وهو يرجو أن يقارع العرب بسيفه في سبيل نصرة المسيح
ثم يقول الشاعر إن هذا الفارس أخبر بنت غرسية بأسر غونزاليز وعدد لها ما في أسره من الضرر الذي يلحق بالمسيحيين بإسبانيا:
إن أسره بهجة ومسرة لقلوب العرب، ولكنه لنا حزن أليم ...
لقد فقدت فيه إسبانيا حارسا، كما فقدت فيه قشتالة زعيما
إن جيوش العرب تتدفق تدفق السيول في النهر
لعنة الله على الأغلال المسيحية التي تغل يدي غونزاليز
ثم أخذ الفارس النورماندي يرجو الأميرة في تخليص السجين:
لم تجب السيدة إلا قليلا غير أنها في حنادس الليل
وقد نام كل الخدم نهضت وانسابت من القصر
ثم أغرت حارس السجن بحليها وذهبها
فباع لها ذلك الحارس الفسل سجينه
وهكذا أخرجت الأميرة الكونت من سجنه وفرا معا إلى قشتالة.
وتعد هذه القصة في هذا الوقت الذي نؤرخ حوادثه قديمة؛ لأن غونزاليز كان قد تزوج بها منذ سنين، وصمم على أن تكون قشتالة مستقلة لا سيطرة عليها لليون.
وفي هذا الحين قبض عليه راميرو ولم ينج من سجنه إلا بعد أن تبين لراميرو أن القشتاليين لا يقبلون سواه حاكما، وأنهم يؤثرون الخضوع لتمثال زعيمهم على أن يدينوا بالطاعة إلى ملك ليون؛ لذلك أطلقه بعد أن أخذ عليه المواثيق أن يبقى خاضعا لمملكة ليون، وأن يزوج ابنته من أردون أحد أبناء راميرو، وقد فترت همة فرناندو بعد هذا الإذلال عن أن يقابل العرب في صفوف ليون، وعزم على أن يترك الليونيين لينالوا نصيبهم من الإذلال والمهانة، غير أن ذلك لم يكن في عهد راميرو الذي فاز بانتصار على العرب في سنة 950م/339ه بالقرب من طلبيرة، ومات في السنة التي تليها شامخ العز وافر المجد.
وبعد موته اتخذ غونزاليز لنفسه صناعة «عمل الملوك» فأخذ على عاتقه حماية سانشو (شانجة)
9
من أخيه أردون الثالث، وحينما خلف سانشو أخاه في سنة 957م/346ه انقلب عليه غونزاليز وطرده من ليون، ووضع على العرش مكانه أردون الرابع، وكان كسيحا ينبزه الناس بالأثيم، فالتجأ سانشو إلى جدته «طوطة» ملكة نافار ، ولم يلبثا إلا قليلا حتى استنجدا بخليفة قرطبة ليأخذ بناصرهما في هذه الشدة
10
وكان سانشو عظيم الضخامة والسمنة، لا يكاد يستطيع المشي خطوات إلا مستندا إلى شخصين، فعزم على أن يستشير الأطباء البارزين بقرطبة الذين طارت شهرتهم في جميع الأقطار، وبعثت الملكة «طوطة» برسل إلى عبد الرحمن في هذا الشأن، فعزم على أن يرسل إليه بحسداي وهو طبيب يهودي بارع،
11
ولكنه اشترط لذلك شروطا، منها: تسليم عدد من القلاع، وحضور سانشو والملكة طوطة إلى قرطبة.
وقد صعب على الملكة أول الأمر أن تسافر إلى حاضرة المسلمين؛ لأن وجودها سيكون مظهرا من مظاهر قوة الخليفة وعظم سلطانه، ولكنها بعد كل هذا سافرت مع ابنها ملك نافار وحفيدها المنفي ملك ليون، فاستقبلهم عبد الرحمن باحتفال عظيم لما طبع عليه من الكرم والأدب الجم، ولم يتخلص سانشو سريعا من سمنه فحسب، بل عاد إلى الشمال مؤيدا بجيوش من الخليفة استرد بها في النهاية عرش ليون سنة 940م/349ه.
وفي السنة التالية مات الخليفة العظيم عن سبعين عاما بعد أن حكم نحو خمسين سنة أتم بها من وجوه الإصلاح وجلائل الأعمال في الدولة ما يعجز الخيال عن تصوره، فإنه حين تولى الملك شابا في الحادية والعشرين كانت المملكة فريسة لزعماء العصابات والمفسدين في الأرض، فاستقلت الولايات واختارت حكامها، وتحدت الأحزاب سلطة الأمراء وفرقت الدولة فرقا، وعاثت الفوضى وعم النهب البلاد.
ففي الجنوب كانت الدولة الفاطمية بإفريقية تهدد بابتلاع إسبانيا وضمها إلى ملكها، وفي الشمال أخذ أمراء النصارى أهبتهم للزحف على مملكة أجدادهم وطرد العرب من البلاد ، فبين هذه الفوضى الجائحة ومظاهر هذا الدمار الشامل، ظهر عبد الرحمن فبدل بكل هذا الضعف قوة، وبكل هذا الفساد نظاما وفوزا مبينا، وقبل أن يمر النصف الأول من سني حكمه أعاد السلم إلى نصابه، وثبت دعائم حكومة عادلة في طول المملكة الإسلامية وعرضها، وقضى على سلطة الأحزاب، ونشر نفوذه مهيبا مستبدا بين جميع طبقات رعيته.
وفي النصف الثاني من حكمه حاط مملكته بالقوة والمهابة، فأرهب أعداءه في الخارج وأزاح الإفريقيين العتاة عنه بعيدا، وأنشأ حامية بسبتة تقف في وجوههم، وقاسمهم السيطرة على البحر مقاسمة النظير للنظير، وفي الشمال عصف بالقوة النامية لنصارى ليون وقشتالة ونافار، وكانت له اليد العليا عليهم، حتى إنهم كثيرا ما قدموا عليه لحل مشكلاتهم واسترداد حقوقهم.
12
نعم، إن عبد الرحمن أنقذ الأندلس من نفسها ومن أعدائها، ولم يكتف بإنقاذها من الدمار، بل خلق منها دولة عزيزة الجانب، ولم تكن قرطبة في عهد من عهودها أغنى ولا أكثر ازدهارا مما كانت عليه في عهد الناصر، ولم تكن الأندلس قبل أيامه في تلك الحال من الخصب والإمراع والإنتاج وتوالي الخيرات التي نماها ووصل بها إلى الكمال كد أهلها ومهارتهم في الصناعة، ولم يكن الحكم الأندلسي في يوم من أيامه أبهر انتصارا على الفوضى، ولم تكن قوة القانون أكثر نفوذا إلى القلوب وأعظم هيبة مثلما كانت في أيام عبد الرحمن، فقد تسابق إلى أبوابه الرسل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا ليقدموا إليه تحية الإجلال والتمجيد.
وكانت قوته وحكمته وثروة مملكته مضرب المثل في أوربا وإفريقية، وبلغت شهرته أقصى حدود المملكة الإسلامية بآسيا، وكان مصدر كل هذا الانقلاب العجيب رجلا واحدا عانده كل شيء فقهره، ووقف في طريقه كل شيء فحطمه، بعث الأندلس من حضيض البؤس إلى قمة القوة والازدهار، ولم تصل البلاد إلى كل هذا إلا بذكاء الخليفة عبد الرحمن الناصر وصدق عزيمته.
ويلون مؤرخو العرب صورة هذا الرجل الهمام بألوان لا تكاد تتفق مع ما كان له من سياسة عنيفة مسيطرة، على أنهم كانوا أمناء في وصفه «بأنه كان أرحم من حكم مملكة في الأرض، وأكثر الملوك علما، وبأن أحاديث حلمه وكرمه وعدله سارت في الناس مثلا شرودا، وبأنه لم يفقه أحد ممن سبقوه في الشجاعة والغيرة على الدين، وبأنه كان محبا للعلم مكرما لأهله معاشرا لهم».
ويتناقل الناس قصصا كثيرة في صرامته في الحق وبعده عن المجاملة فيه، ويحدثنا ابن خلدون عن هذا الخليفة العظيم فيقول: «وجد بخط الناصر رحمه الله أن أيام السرور التي صفت له دون تكدير كانت يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، ويوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، وعدت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوما، فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها، وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها، هذا الخليفة الناصر حلف السعود، المضروب به المثل في الارتقاء في الدنيا والصعود، ملكها خمسين سنة وستة أو سبعة أشهر وثلاثة أيام، ولم تصف له إلا أربعة عشر يوما! فسبحان ذي العزة القائمة، والمملكة الدائمة، لا إله إلا هو.»
هوامش
حاضرة الخلافة
يقول أحد مؤرخي العرب: «إن قرطبة عروس الأندلس، بها من الجمال والزينة ما يبهر العين ويسر النفس، فأمراؤها المتعاقبون تاج مجدها، وقلادتها نظمت من درر استخرجها شعراؤها من بحر اللغة الخضم، وحلتها أعلام الآداب والعلوم، وأهداب حلتها أصحاب الفنون والصناعات.»
وهكذا يصور المؤرخ الشرقي مدينته المحبوبة بما شاء من خيال الشرق البعيد.
ولقد كانت قرطبة أيام الخليفة العظيم حاضرة جديرة بالفخر والإعجاب، وإذا استثنينا بيزنطة فلن نجد في أوربا مدينة تساميها في جمال أبنيتها، أو في حياتها الرخية المترفة، أو فيما تزخر به من أنواع العلوم وفنون الآداب.
إن الموجز الذي نحن بصدد نقله عن مؤرخي العرب في وصف قرطبة وما كانت فيه من نهضة وازدهار ومجد، إنما يعود زمنه إلى القرن العاشر، وإذا لحظنا أن أسلافنا السكسون في هذا العهد كانوا يسكنون الأكواخ ويفترشون القصيل، وأن لغتنا لم تكن تكونت بعد، وأن القراءة والكتابة كانتا محصورتين في عدد قليل من الرهبان - عرفنا ما كان للعرب من مدنية عجيبة، وحضارة منقطعة النظير ، وتظهر المقابلة جلية غريبة بين حاضرة الأندلس وغيرها من المدن إذا ذكرنا أن أوربا كلها في هذا العهد كانت غارقة في حمأة من الجهل وخشونة الأخلاق، وأنها لم يكن بها شيء من آثار المدنية إلا ما بقي للإمبراطورية الرومانية من أطياف في القسطنطينية وبعض أجزاء إيطاليا.
ويقول مؤرخ عربي آخر: «إن قرطبة مدينة حصينة، تحيط بها أسوار من الحجر ضخمة شاهقة، وهي جميلة الشوارع، وكانت في الزمن القديم مقر سلاطين الكفار، وكانت دورهم داخل سورها المحيط بها، ويشتهر سكانها بالرقة والظرف وكرم الخلق وحدة الذكاء، ولهم الذوق الكامل في مآكلهم، وملابسهم، وانتقاء خيولهم، وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر، إذ كانت مركز الكرماء وميدان العلماء والشعراء، ولم تزل تملأ الصدور منها والحقائب، ويباري فيها أصحاب الكتب أصحاب الكتائب، ولم تبرح ساحتها مجر عوال ومجرى سوابق، ومحط معال وحمى حقائق، وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، والزور من الأسد.»
وهذا المديح الشرقي عرضة للمبالغة والإغراق، ولكن قرطبة كانت جديرة بكل ما ينثر عليها من الإطراء والثناء، ولن تستطيع إذا رأيتها الآن أن تدرك ما كان لها من جمال رائع أيام الخليفة العظيم، فإن شوارعها الضيقة ودورها المبيضة بالجص لا ترسم إلا صورة ضئيلة لما كان لها من العظمة واستبحار العمران؛ فقد تهدم «القصر» واتخذ الإسبان أطلاله بعد العز السامق سجنا للمجرمين، ولا تزال القنطرة ماثلة فوق الوادي الكبير إلى اليوم، كما لا يزال المسجد الجامع الذي بناه أول الأمويين عجبا من العجب، ومصدر دهشة للسائحين، ومن المحقق أنه كان أجمل روعة أيام عبد الرحمن الناصر أو بعدها بقليل، حينما زاد الوزير الأعظم (المنصور بن أبي عامر) في بنائه.
واختلف المؤرخون في مقدار اتساع رقعة المدينة، والأرجح أن طولها لا يقل عن عشرة أميال، وكانت شواطئ الوادي الكبير متلألئة بالقصور المبنية بالرخام والمرمر، وبالمساجد والحدائق التي عني فيها أشد عناية بالأزهار والأشجار النادرة المجلوبة من الممالك الأخرى، وأدخل العرب بالأندلس نظامهم في الري الذي لم يصل الإسبانيون إلى مثله من قبل ولا من بعد،
1
ونقل أول أمراء الأمويين نخلة من الشام لتذكره بموطنه، ونظم فيها قصيدة محزنة يندب فيها بعده عن أهله ودياره كما بعدت النخلة عن أهلها وديارها، وقد غرسها في حديقة حاكى بها حديقة جده هشام بدمشق التي كانت ملعب لهوه في أيام صباه، وأرسل رسلا في كل بقاع الأرض ليجلبوا إليه أندر ما في البلاد من الشجر والنبات والبذور، وكان بستانيوه غاية في المهارة والذكاء، فنمت هذه الأنواع الغريبة واعتادت الإقليم وانتقلت من حديقة القصر إلى كل بلاد الأندلس، وعرف الرمان ونما وكثر بالأندلس بعد أن جاء في هدية لعبد الرحمن الداخل من دمشق، فأخذت حبوبه واستنبت بحديقته.
2
وكانت هذه الحديقة تروى بأنابيب من الرصاص، تصب الماء منها تماثيل مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضة الخالصة والنحاس المموه في أحواض الرخام الرومية المنقوشة العجيبة، فترسله إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة.
ويحدثنا المؤرخون بكثير من أعاجيب قصور الأمير عبد الرحمن وما كان بها من الأبواب الفاخرة التي تفتح على الحدائق حولها أو على النهر، أو التي يمر منها الأمير إلى المسجد الجامع في طريق فرشت بالبسط الثمينة ليؤدي صلاة الجمعة.
وكان بعض هذه القصور يسمى «بالزاهر»، وبعضها «بالمعشوق»، وبعضها «بالمؤنس»، ورابع «بقصر التاج» وهكذا، بينما احتفظ قصر خامس باسم حاضرة الأمويين بالشرق وهو «دمشق»، وكان يقوم على أعمدة من الرخام، وقد رصفت أرضه بالفسيفساء وبلغ غاية الروعة والجمال حتى ليقول فيه بعض الشعراء:
3
كل قصر بعد الدمشق يذم
فيه طاب الجنى ولذ المشم
منظر رائق وماء نمير
وثرى عاطر وقصر أشم
بت فيه والليل والفجر عندي
عنبر أشهب ومسك أحم
ولبعض بساتين قرطبة أسماء مغرية تدعو المرء إلى الاضطجاع بجانب جداولها المتدفقة، والتمتع بشذى أزهارها وأثمارها، ف «منية الناعورة» توحي إليك بإحساس نحو الراحة والنعيم، منصتا إلى صوت الماء وهو ينصب من الساقية إلى حياض البستان، و«مرج الخز» كان بلا شك بستانا ساحر المنظر لأهل قرطبة بأزهاره المختلفة الألوان، وكان جريان الوادي الكبير مصدر بهجة وسرور لهم؛ لأن الشرقيين لا يحبون شيئا في الدنيا أكثر من أن يروا منظرا يسمعون فيه تمتمة الأنهار، وعرب إسبانيا شرقيون في كل شيء إلا في موقعهم الجغرافي.
وقد امتد بين شاطئ النهر جسر فخم به سبع عشرة قنطرة، وهو لا يزال ماثلا إلى اليوم يشهد بمهارة العرب في علوم الهندسة، وكانت المدينة مزدحمة بالدور الفخمة، قيل إنه كان بها أكثر من خمسين ألف قصر للعظماء ورجال الدولة، وأكثر من مائة ألف بيت للعامة، ونحو سبعمائة مسجد، وتسعمائة حمام.
وللحمامات شأن كبير في المدن الإسلامية؛ لأن النظافة عند المسلمين ليست من الإيمان فحسب، بل هي شرط لازم لأداء الصلوات والعبادات عامة، ذلك في حين أن كان مسيحيو العصور الوسطى ينهون عن النظافة ويعدونها من عمل الوثنيين، وكان الرهبان والراهبات يفخرون بقذارتهم حتى إن راهبة دونت ببعض مذكراتها في صلف وعجب أنها إلى سن الستين لم يمس الماء منها إلا أناملها عندما كانت تغمسها في ماء الكنيسة المقدس، نقول: بينما كانت القذارة من مميزات القداسة، كان المسلمون شديدي الحرص على النظافة، لا يجرؤون أن يقفوا لعبادة ربهم إلا إذا كانوا متطهرين، وحينما عادت إسبانيا إلى الحكم المسيحي أمر فيليب الثاني زوج ماري ملكة إنجلترا بهدم كل الحمامات العامة؛ لأنها من آثار المسلمين!
وكان لا يزال للمسجد الجامع المنزلة الأولى بين مباني قرطبة الضخمة الجميلة، فقد أنشأه عبد الرحمن الداخل في سنة 784م/168ه وأنفق في بنائه ثمانين ألف دينار حصل عليها من غنائم القوط، ثم أتم هذا المسجد ابنه التقي هشام في سنة 793م/177ه بما اغتنمه من حروب أربونة، وكان كل أمير بعده يضيف جمالا جديدا إلى هذا المسجد الذي يعد أبدع مثال في العالم للفن الإسلامي في أول عهوده؛ فمن الأمراء من صفح السواري والحيطان بالذهب، ومنهم من أضاف إليه مئذنة، ومنهم من زاد في رقعته ليتسع للعدد الضخم من المصلين، وكان عدد بواكيه
4
تسع عشرة من الشرق إلى الغرب، وإحدى وثلاثين من الشمال إلى الجنوب، وبه واحد وعشرون بابا طليت بالنحاس الأصفر اللماع، وثلاث وتسعون ومائتان وألف سارية، وقد أجريت الفضة
5
في حيطان محرابه المزين بالفسيفساء، وصب في سواريه الذهب الإبريز واللازورد، أما المنبر فقد صنع من العاج ونفيس الخشب، وهو مؤلف من ستة وثلاثين ألف قطعة منفصلة، رصع أكثرها بالأحجار الكريمة وسمر بمسامير من الذهب، وكان يصل الماء من الجبال إلى الينابيع التي أعدت لوضوء المصلين، وكانت هذه الينابيع تقذف بمائها ليلا ونهارا.
وبنيت دور إلى الجانب الغربي من المسجد لنزول فقراء المسافرين وأبناء السبيل، وبالمسجد مئات من الثريات التي صنعت من نحاس أجراس الكنائس للإضاءة ليلا، وكان به شموع ضخمة زنة الواحدة منها خمسون رطلا، كانت تشتعل ليلا ونهارا إلى جانبي الخطيب أو الواعظ في شهر رمضان، وكان بالمسجد ثلاثمائة خادم لإيقاد البخور من العنبر والعود، ولإعداد الزيت العطر لإضاءة عشرة آلاف فتيل للقناديل، وقد بقي كثير من جمال هذا المسجد ماثلا إلى الآن، فإن السائحين يقفون اليوم دهشين أمام هذه الغابة من السواري، فيروعهم فيها منظر لا يكاد ينتهي من كل جانب، ولا تزال سواري الصوان اللامع والرخام المجزع في مواضعها، ولا يزال الزجاج الفاخر الذي استحضره صناع ماهرون من بيزنطة يلمع لمعان الجواهر، ولا يزال المحراب بقبابه المتلاقية يملأ العيون والقلوب، ولا تزال أشجار البرتقال مورقة بصحن الجامع تساير امتداد السواري، فإذا وقف المرء أمام عظمة هذا المسجد وجماله، عادت به الذكرى إلى أيام مجد قرطبة وازدهارها، أيام الخليفة العظيم التي لن تعود.
وأشد بعدا في باب الغرابة مدينة الزهراء - وإن لم تكن أكثر من المسجد حسنا - بناها عبد الرحمن الناصر في أحد أرباض قرطبة؛ لأن إحدى زوجاته - وقد كان مشغوفا بها - تمنت عليه أن يبني لها مدينة باسمها، وكان الخليفة العظيم كغيره من ملوك المسلمين مولعا بالبناء والتجديد فأجاب طلبتها، وأنشأ مدينة في سفح الجبل المسمى بجبل العروس على بضعة أميال من قرطبة
6
كان ينفق عليها كل سنة ثلث دخل المملكة
7
مدة خمس وعشرين سنة، ثم استمر ابنه من بعده في الإنفاق عليها مدة عشر سنين، وكان عدد العمال في كل يوم عشرة آلاف، وكان جملة ما يبنى منها في كل يوم من الصخر المنجور المعدل ستة آلاف صخرة، ويعمل في عمارتها في كل يوم نحو ثلاثة آلاف دابة، وأقيم بها من السواري أربعة آلاف كان كثير منها هدية من إمبراطور القسطنطينية
8
أو من رومة، أو قرطاجنة، أو سفاقس، أو غيرها، إلى جانب ما كان يؤخذ من مقاطع طركونة والمرية.
وكان بالزهراء خمسة عشر ألف باب ملبس بالحديد أو النحاس المموه، وكان سقف بهو الخليفة بالزهراء وحيطانه من الرخام والذهب وبفوارته تمثال عجيب أهداه إليه ملك الروم، وبعث إليه معه بدرة نادرة، وفي وسط البهو حوض ملئ بالزئبق الرجراج، إلى كل جانب منه ثمانية أبواب من العاج والآبنوس قد رصعت بالجواهر، فإذا دخلت أشعة الشمس من هذه الأبواب ولاقت اهتزاز الزئبق، ملأت البهو ببريق يشبه لمعان البروق، حتى لقد يحجب رجال الدولة عيونهم بأيديهم لشدته.
9
ويجد مؤلفو العرب متعة في التحدث بعجائب الزهراء فيقول بعضهم: «لقد يمتد بنا الحديث إذا اقتصرنا على عد ما بالزهراء من جمال وفن: فهناك الجداول الدافقة، والأمواه المتعرجة، والبساتين الزاهرة، والقصور الفخمة لسكنى رجال الدولة، وهناك صفوف الجند والخدم والعبيد من كل بلد وملة وهم في ملابس الحرير بين إقبال وإدبار في شوارعها الفسيحة، ثم هناك ازدحام القضاة والفقهاء والشعراء وهم يمشون في وقار ورهبة في أبهاء القصر الفخمة وأفنيته الكثيرة.»
وقد قدر عدد الفتيان من خدم القصر بخمسين وسبعمائة وثلاثة عشر ألفا، يصرف لهم في كل يوم من اللحم نحو ثلاثة عشر ألف رطل، حاشا أنواع الطير والحوت، وقدر عدد نساء القصر من كل جنس وطبقة - بما في ذلك نساء الخليفة ووصيفاتهن - بأربع عشرة وثلاثمائة وستة آلاف، وكان بالقصر من الخدم الصقالبة والخصيان خمسون وثلاثمائة وثلاثة آلاف، خصص بهم من اللحم أو الدجاج أو الطيور ثلاثة عشر ألف رطل، فمنهم من كان يصرف له عشرة أرطال، ومنهم من كان يصرف له أقل من ذلك على حسب منازلهم، وكان يقذف لحيتان بحيرة الزهراء اثنا عشر ألف رغيف في اليوم، غير ستة أقفزة من الحمص الأسود تنقع لها في كل يوم.
وعجائب هذا القصر دونت بإسهاب في كتب مؤرخي هذا العهد، وخطب بها الخطباء ونظمها الشعراء الذين استنفدوا كنوز البلاغة في أوصافهم «وقد أطبق كل من رأى قصر الزهراء على أنه لم يبن مثله في الإسلام البتة، وما دخل إليه أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة من ملك وارد، أو رسول وافد، أو تاجر، أو جهبذ - وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة - إلا وكلهم قطع أنه لم ير له شبيها، بل لم يسمع، بل لم يكن يتوهم كون مثله، ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب، والقبة وعجيب ما تضمنته من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف وبراعة الأثاث والفرش والسجف ما بين مرمر مسنون وذهب مصون، وعمد كأنها أفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص لا تهتدي الأوهام إلى استقصاء التعبير عنها - لكفاه بعض ذلك شرفا ونبلا، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلة لكي يري الغافلين عنه من عباده مثالا لما أعده لأهل السعادة في دار المقامة التي لا يتسلط عليها الفناء ولا تحتاج إلى الرم، لا إله إلا هو المنفرد بالكرم».
وقد استقبل الخليفة بقصر الزهراء ملكة نافار وسانشو (شانجة) في حفل عظيم، وبه جلس ليحيي رسل ملك الروم الذين بعث بهم إلى حضرته، وقعد للقائهم يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة 338ه/949م في بهو المجلس الزاهر - قعودا حسنا نبيلا، وكان قد أمر كبار رجال الدولة وقواد الجيوش أن يعدوا لهذه المقابلة خير إعداد وأفخمه، وكان البهو في أكمل زينة، والعرش في وسطه يلمع ذهبه، وتتلألأ نفائس جواهره، ووقف إلى يساره أبناؤه، فالوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا، ثم الحجاب من أهل الخدمة، وأبناء الوزراء والموالي ورجال خاصة القصر وغيرهم.
وقد فرش صحن الدار بعتاق البسط وكرائم الدرانك، وظللت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور، فوصل رسل ملك الروم حائرين من بهجة الملك وفخامة السلطان، ثم تقدموا خطوات وقدموا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية العظمى، قسطنطين بن ليون، وهو في ورق سماوي اللون كتب بالذهب بالخط الإغريقي.
ولما احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه ليذكروا جلالة مقعده وعظيم سلطانه، ويصفوا ما تهيأ من توطيد الخلافة في دولته.
وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه وولي عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، وقام خطيب وأخذ يحاول التكلم فهاله وبهره هول المقام وأبهة الخلافة فلم يهتد إلى لفظة، وغشي عليه وسقط إلى الأرض، ثم قام آخر فحمد الله وأثنى عليه ثم انقطع به القول فوقف ساكتا مبهوتا،
10
وقد بذل الخليفة جهده في بناء الزهراء وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع ثلاث مرات متواليات، وحينما ذهب إلى المسجد بعد ذلك أنذره الخطيب بالعذاب الأليم في نار الجحيم لتعطيل الجمع.
11
ورونق قصور قرطبة وبساتينها - مع استهوائه القلوب - يغرينا بجمال آخر لا يقل عن رونقها الظاهر، فقد كانت عقول أهل قرطبة كقصورها في الحسن والروعة، فإن علماءها وأساتذتها جعلوا منها مركزا للثقافة الأوربية، فكان الطلبة يفدون إليها من جميع أنحاء أوربا ليتلقوا العلم عن جهابذتها الأعلام، حتى إن الراهبة «هروسويذا» - وهي بعيدة في ديرها السكسوني بجودرشيم - حينما أخبرت بشنق يولوجيوس لم تستطع إلا أن تثني على قرطبة وتسميها «ألمع مفخرة للدنيا»، وكان يدرس بقرطبة كل فرع للعلوم البحتة، ونال الطب بكشف أطباء الأندلس وجراحيها من النمو والازدهار نصيبا أعظم مما ناله قبلهم منذ أيام جالينوس، وكان أبو الطيب خلف جراحا ذائع الصيت في القرن الحادي عشر، وبعض عملياته الجراحية يطابق اليوم العمليات الحديثة، وجاء ابن زهر
12
بعده بقليل، فكشف عن أساليب كثيرة في العلاج والجراحة، أما ابن البيطار
13
العالم النباتي، فإنه سافر إلى كل بقاع الشرق للبحث عن العقاقير الطبية، وألف في ذلك كتابا جامعا، وكان الفيلسوف ابن رشد
14
الحلقة الأولى في السلسلة التي وصلت فلسفة قدامى اليونان بفلسفة أوربا في العصور الوسطى، وكانت علوم الفلك، والجغرافيا، والكيمياء، والتاريخ الطبيعي تدرس بمثابرة وجد بقرطبة.
أما الأدب العربي فإن أوربا لم تر في عهد من عهودها حفاوة بالأدب وأهله كما رأت في الأندلس حين كان الناس من كل طبقة ينظمون الشعر، ويظن أن هذا الشعر هو الذي أوحى للشعراء المغنين بإسبانيا بأناشيدهم القصصية وأغانيهم، وهو الذي حاكاه شعراء «بروفانس» و«إيطاليا ».
ولم تكن تعد الخطبة أو الرسالة كاملة إلا إذا تضمنت أبياتا ترتجل أو تختار من مأثور الشعر الرصين، ويظهر أن العالم الإسلامي اتجه بروحانيته إلى آلهة الفنون، فمن الخليفة في عرشه إلى النوتي في سفينته، كنت تسمع النظم الفائق في مشاهد الأندلس وجمال مدنها، ثم في روعة خرير الأنهار وسحر الليل الساجي وقد هدأت فيه النجوم، ثم في نشوة الحب والخمر ومجتمع الأنس وقد اختلس المحب ساعة لقاء بفاتنته التي ترمي بقوس حاجبها القلوب.
15
وقد بلغت الأندلس الغاية في الفنون فبناء مدينة كالزهراء أو مسجد كالمسجد الجامع، ما كان ليتم على هذا الوضع الرائع إلا إذا بلغ العمال قمة المهارة في صناعاتهم، وكانت صناعة الحرير من الصناعات الممتازة بالأندلس، فقد قيل إن عدد النساجين بلغ في قرطبة وحدها مائة وثلاثين ألفا.
واشتهرت المرية بمنسوجاتها الحريرية وبسطها، ووصلت الفخارة في الإتقان حدا عجيبا، فقد انتهى الفن بالصناع بجزيرة ميورقة إلى أن أبرزوا أواني فخارية تلمع ببريق معدني، ومنها استعارت إيطاليا اسم أوانيها التي دعتها بالميورقية، وكانت تصنع الأواني النحاسية والحديدية والزجاجية المزججة والمذهبة بالمرية، ولا يزال لدينا بعض نماذج من العاج المحفور وقد كتب عليها أسماء عظماء قرطبة.
نعم، إن هذه الفنون نقلت من الشرق بغير شك، ولكن صناع الأندلس كانوا تلاميذ نجباء لأساتذتهم من البيزنطيين، والفرس، والمصريين، فوصلوا إلى درجة النبوغ في صناعة الحلي، وبقي من ذلك إلى اليوم أثر عجيب من آثار ابن الخليفة العظيم، لا يزال يحفظه الإسبان فوق المذبح الأعلى لكنيسة قرطبة، وهو علبة ملبسة بالفضة، مرصعة بالدر، وقد كتب عليها بالعربية دعاء وتمجيد لأمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله، وهو دعاء يعد غريبا فوق مذبح للمسيحية.
وكانت الحلي ومقابض السيوف دقيقة الصنع بارعة الفن، كما يدل على ذلك سيف الأمير أبي عبد الله آخر أمراء غرناطة، واشتهر المسلمون دائما بصناعة المعادن حتى إن بعض الأشياء التافهة كالمفاتيح، كانت جميلة الصنعة فائقة الحلية، والثريا البديعة التي صنعت لمسجد أمير غرناطة محمد الثالث والتي لا تزال ماثلة بمجريط (مدريد ) خير مثال لتفوق العرب في نقش البرنز وإتقان زخارفه.
ووصلت الأندلس إلى منزلة في صناعة المخرمات لم تصلها إلا دمشق والقاهرة، ولا نزال نقرأ في كثير من أمكنة غرناطة تلك العبارة «لا غالب إلا الله» وهي شعار أمرائها، وقد سبق أن تحدثنا عن الأبواب النحاسية بقصور قرطبة، وبعض هذه لا يزال باقيا إلى اليوم بكنائس إسبانيا.
وطالما سمع الناس عن سيوف طليطلة ومهارة أهلها في صناعة الصلب، وهذه الصناعة - وإن كانت في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي - زادت تقدما في أيام الخلفاء والأمراء بقرطبة، واشتهرت المرية، وإشبيلية، ومرسية، وغرناطة بصنع الدروع وآلات الحرب.
وجاء بوصية الدون بدرو: «وأوصي أيضا لابني بسيفي القشتالي الذي صنع بإشبيلية ورصع مقبضه بالذهب ونفيس الجوهر.»
وقصارى القول إن قرطبة كانت بحق «مفخرة للدنيا» في الفنون والعلوم وأسباب المدنية جمعاء.
هوامش
الحاجب العظيم
كبير الوزراء
كان عبد الرحمن الناصر آخر عظماء الأمراء من بني أمية بالأندلس، وكان ابنه الحكم دودة كتب، ودود الكتب من الناس - وإن أفادوا جدا فيما اتجهوا إليه - قلما يكونون حكاما عظماء، فإن منصب الملك لا يهيئ لصاحبه أن يبلغ الذروة في العلم، فقد يعرف الملك كل شيء تحت الشمس، وقد يصرف فراغه كما كان يفعل ملوك قرطبة في الشعر والموسيقى، غير أنه يجب ألا يدفن نفسه في خزائن كتبه، أو أن يعنى بالمخطوطات أكثر من عنايته بالحروب، أو أن يؤثر تجليد الكتب ورتقها على رتق مواطن الألم من رعيته، وكان الحكم في شدة انصرافه إلى الكتب كذلك .
إنه لم يكن ضعيف القلب أو غافلا عن تبعاته الجسام، ولكن انهماكه في الدرس سلبه الاهتمام بالغزو والتشوق إلى الظفر في الحرب، فقد أغرق في إلقاء العنان لطبيعته الميالة إلى الاطلاع حتى تكونت له أذواق وميول فنية، هي أثر الدراسات العلمية ونتيجتها.
ولم يضر طبعه الهادئ ومزاجه العلمي مملكته كثيرا، فقد كان ابن الخليفة العظيم حقا حينما كان يقود جيوشه لمحاربة نصارى ليون إذا نقضوا عهودهم، وكان الرعب الذي غرسه أبوه في القلوب عظيما، والشعور بقوة الخلافة شاملا، حتى إن أمراء نصارى الشمال ألقوا بزمام أمورهم إلى الحكم، وقدم أحدهم إلى قرطبة يتوسل إليه ويرجوه في إعادته إلى عرشه.
وتم الصلح بين النصارى والمسلمين فاتسع الوقت للحكم، فعاد إلى جمع الكتب لخزائنه، وكان يرسل رسلا إلى كل بقاع الشرق ليبتاعوا له المخطوطات النادرة ويعودوا بها إلى قرطبة، وكان رسله ينقبون عن الكتب العزيزة المنال عند وراقي القاهرة، ودمشق، وبغداد، وإذا لم يستطع الحصول على كتاب بأي ثمن أمر بنسخه، وكان يسمع أحيانا بكتاب لا يزال في دماغ مؤلفه، فيرسل إليه بهدية ثمينة ويسأله أن يبعث بالنسخة الأولى إلى قرطبة، وقد جمع بهذه الوسائل ما لا يقل عن أربعمائة ألف كتاب، وذلك في وقت لم تعرف فيه الطباعة، وحين كان الخطاطون يلاقون عنتا في كتابة الكتب بالخط الواضح الجميل.
ولم يكتف الحكم بالحصول على هذه الكتب، ولكنه خالف جميع جماعي الكتب بقراءتها جميعا والتعليق عليها، وكان واسع العلم حتى إن تعليقاته كانت تعد عند العلماء من أجل ما يكتب وأنفسه، وكان تدمير البربر لقسم عظيم من هذه الخزائن كارثة على الأدب العربي.
وكان مما يطمئن له الظن أن يستريح خلف الخليفة العظيم وينعم بما جناه له أبوه من ثمار النصر ويمتع نفسه بالدراسة الهادئة، بينما كان أعداؤه في الخارج يرقبون غزوه لبلادهم من حين إلى حين؛ لأن العمل الذي أتمه عبد الرحمن الناصر لم يستطع خليفة واحد أن ينقضه، ولم ينتقض إلا بعد أن تداوله خليفتان بعده، حينذاك هوى ذلك الملك الأثيل إلى الأرض مرة أخرى.
حكم الحكم المستنصر بالله أربع عشرة سنة،
1
وحين مات كان ابنه هشام المؤيد في الثانية عشرة
2
حينما جلس على العرش، ولا يستطيع حادس أن يقدر ما كان يكون عليه هذا الخليفة الصغير لو لقي ممن حوله حبا وإخلاصا، والتاريخ يذكر له بعض المخايل التي كانت تبشر بالذكاء وحسن الرأي، وبأنه باستعداده جدير بأن يترسم خطوات جده،
3
ولكن حياة (الحكم) العلمية وتهاونه سلبت ابنه ووليه أية فرصة لقوة السلطان، فإن الحكم حينما كان في شغل بجمع الكتب وتجليدها، كان عظماء القواد بمملكته يتدرجون في النفوذ ورفعة الشأن وغير ذلك من الأمور التي لو حدثت في أيام عبد الرحمن الناصر لوقف تيارها، وكان من آثار أعمال الحكم أيضا أن أخذت زوجاته يفرضن نفوذهن على رجال الحكومة.
إن عبد الرحمن بنى مدينة لزوجته الزهراء، ولكنه كان يدهش جدا لو أنها جرؤت على أن تقترح عليه اسم شخص يوليه رياسة الشرطة، وحينما مات الحكم كان نفوذ نساء القصر عظيما، وكانت (صبح) أم الخليفة هشام أعظم من بالمملكة سلطانا، وكان من صنائعها شاب قدر له بعد حين أن يكون أبعد منها نفوذا وشأنا، وذلك هو ابن أبي عامر الذي سندعوه من الآن بالمنصور، وهو اللقب الذي اتخذه لنفسه بعد أن أحرز انتصارات كثيرة على المسيحيين.
بدأ المنصور حياته طالبا مغمورا بجامعة قرطبة، وكان أبوه بها فقيها، ويرجع أصله إلى أسرة طيبة المنبت، وإن لم تكن ذات نفوذ، وقد عزفت نفس الشاب عن أن يحصر مطامحه في الوصول إلى المنزلة التي رضيها أبوه لنفسه، وكان له وهو طالب آمال وأحلام وطموح، حتى إنه همس في أذن بعض إخوانه من الطلبة بأنه سيكون في يوم حاكم الأندلس، ثم جاوز الحد في أحلامه، فسأل بعض الطلبة عما يختارون من المناصب لو ألقيت إليه أزمة الحكم ووعدهم بتحقيقها، وقد صدق وعوده عندما تحققت آماله.
4
ونشأة المنصور مثال رائع لما يمكن أن يعمله الذكاء والشجاعة والأثرة في مملكة إسلامية حيث كانت الطريق إلى المعالي ممهدة للعبقريين كيفما كانت بدايتهم موئسة مثبطة؛ فقد كان المنصور في أول أمره يعيش من كتابة الرسائل لخدم القصر، وما زال يتدرج بلباقة حتى اتصل بكبير الحجاب الذي كانت له في هذا القصر سلطة رئيس الوزراء، فعين في مناصب قليلة الشأن اكتسب فيها بسحر أخلاقه ومهارته في الملق محبة نساء القصر، وبخاصة السيدة «صبح» التي هامت به حبا، ثم ما زال يرقى منزلة منزلة بإظهار الخضوع للأميرات وتقديم الهدايا النفيسة إليهن، وكان يشتريها أحيانا من مال الدولة حتى وصل إلى المناصب الرفيعة، ولما بلغ الحادية والثلاثين كان يشغل عدة مناصب، من بينها الإشراف على أملاك ولي العهد، وقضاء مدينة أو مدينتين، والنظر في الزكاة والمواريث، وسحر المنصور كل من لقيه برفيع أدبه وتواضعه، وكريم عطائه، ورقة إحساسه، ومساعدته للبائسين، وبذلك تمكن من اجتذاب عدد عظيم من الناس بينهم كثير من كبار الدولة.
وحينما عظم نفوذ السيدة «صبح» بموت الحكم وأصبحت أم الخليفة الصغير، وجد المنصور الفرصة التي كان يترقبها لتوسيع مدى سلطانه، فعمل الاثنان معا واستطاعا إجلاس الطفل هشام على العرش بقتل من كان ينازعه فيه،
5
ثم تمكن المنصور من القضاء على مؤامرة رجال القصر الصقالبة الذين كانوا يأبون خلافة هشام.
وكان المصحفي
6
الحاجب في هذه الفترة رئيس الحكومة، فأعان المنصور على الصعود والترقي في مناصب الحكم، وعمل المنصور في جد وإخلاص على إنفاذ سياسته، وزاد في محبة الأمة لهما ما تجردا له من كسر شوكة الصقالبة وتشتيت كثير منهم؛ لأنها كانت تبغض الجنود الغرباء، ولكن الوفاق بين الرجلين لم يكن طويل الأمد، فإن المنصور كان ينتظر أن يرى طريقه واضحة للتخلص من الحاجب ويتحين الفرص للقضاء عليه من غير تردد أو خشية؛ لأنه كان يريد أن يصل إلى القمة، وأن تذيع شهرته وترتفع مكانته بين الناس.
وقد لاحت له لائحة فاقتنصها في شجاعة وحزم؛ ذلك أن نصارى الشمال عادوا إلى الشغب والمغالاة بقوتهم، ولم يكن المصحفي جنديا فتحير في اختيار من يصد اعتداءهم، والمنصور القاضي لم يكن أمهر منه في إدارة الحرب ولكنه نبع من أسرة قوية النبعة إذ كان أحد أسلافه من العرب الذين صحبوا طارقا في غزو إسبانيا؛ لذلك لم يتردد لحظة ولم يخالجه شك في كفايته حينما طلب أن يقود الجيش بنفسه، وكانت غارته على ليون موفقة، وكان إغداقه على الجنود عظيما، حتى إنه حينما عاد إلى قرطبة لم يكن القائد المظفر فحسب، بل كان موضع محبة الجيش وإجلاله.
ثم جردت حملة أخرى على نصارى الشمال، وكانت القيادة في الحقيقة ل «غالب» قائد الجنود الغرباء، وكان شجاعا باسلا اجتذبه المنصور إليه معتزا بصداقته، فأعلن غالب في صراحة وجرأة أنهم ما فازوا في المعارك إلا بعبقرية المنصور وذكائه، وبالغ في مواهبه وأغرق
7
حتى اعتقد الناس جميعا أن تحت رداء الفقيه القديم نبوغا عسكريا، وكان الأمراء كذلك من غير شك.
وحينما أحس المنصور بالقوة بعد هذه الانتصارات المتوالية وبعد معاضدة غالب له واحتطابه في حبله - أقدم على عزل ابن المصحفي، وكان رئيسا لشرطة قرطبة، وأحل نفسه مكانه فأحسن القيام على الشرطة حتى إن المدينة لم تر في عهودها عهدا استتب فيه النظام، وخضع الناس فيه لأمر الحاكم كما رأت في عهده؛ لأنه كان شديد العنف في الحق، حتى إنه ضرب ابنه حتى مات حينما تعدى حدود الشرع، وما أشبهه بجيونيس برونس
8
الذي كان لا يتجاوز عن صغيرة في تنفيذ القانون، وقد أعلت هذه السياسة من شأنه وزادت في محامده؛ لأنه بعد أن اكتسب قبل ذلك محبة الجيش والأمة فاز برضا المتشددين في أحكام الشريعة.
ونضجت الثمرة وآن له أن يضرب ضربة سياسية جديدة، فأخذ في مهارة يلعب بغالب والمصحفي ويوقع ما بينهما حتى اتسعت شقة الخلف بين القائد المحنك والمصحفي رئيس الوزراء، وكانت الضربة القاصمة أن أغرى القائد على العدول عن تزويج ابنته من المصحفي واتخذها زوجة له، وفي سنة 978م/368ه بعد وفاة الحكم بسنين رمى المنصور بآخر سهم في كنانته، فاتهم المصحفي بالخيانة والسرقة وأثبت عليه ذلك بأدلة كثيرة وألقاه في السجن حيث بقي به خمس سنوات في أسوأ عيش وأذل مكانة، ثم مات أشنع ميتة مسجى برداء ممزق للسجان، ويقال إن المنصور دس له السم، وهكذا كانت نهاية كل من جرؤ على أن يقف في طريق مطامح المنصور؛ فقد آل تعس الطالع بالمصحفي الحاجب إلى الفقر والعار بمكايد هذا الشاب المحدث الذي لم يقف خمول أصله في وجه عبقريته بعد أن وصل الحاجب إلى قمة المجد والسلطان، وجثت الآلاف من الراجين عند قدميه، وحاول ملك ليون المعزول تقبيل يديه.
وفي اليوم الذي قبض فيه على المصحفي جلس المنصور في مكانه، فوصل إلى ذروة القوة وأصبح في الحقيقة حاكما للمملكة الإسلامية بالأندلس، وكانت تتألف حكومة الأندلس من الخليفة ووزرائه، ولكن المنصور قصر الخليفة بالقصر، وطوى الوزراء بآرائهم ومشورتهم في شخصيته العاتية، وكان يحكم المملكة كلها من قصره في أحد أرباض قرطبة،
9
وأصدر الكتب والأوامر باسمه، ودعي له على المنابر، وضربت باسمه السكة، ولبس الملابس المنسوجة بالذهب، وقد نقش اسمه عليها شأن الخلفاء، وكيفما استوى له الأمر فإنه لم يكن بنجوة من كيد أعدائه، فإن المطامح لها خطرها، ولا بد للمضطهدين الذين ديس عليهم بالأقدام أن يثوروا يوما للأخذ بثأرهم، وهكذا كانت حال المنصور، فإن أحد الصقالبة الذين طردهم من القصر حينما رفضوا تولية الخليفة الصغير حاول اغتياله فلم يفلح، فقبض عليه مع كثير من كبار الدولة المتآمرين معه، وحبسوا ثم حكم عليهم بالموت فصلبوا.
10
وأصبح المنصور الحاكم الأعلى بقرطبة؛ لأن الخليفة الشاب لم يبد أي اعتراض على الوصاية التي فرضت عليه، وكانت أمه «صبح» لا تزال صديقة حميمة للمنصور، ولم يكن في المملكة من يزعم أنه يقارع المنصور أو يدانيه في القوة إلا غالب أبو زوجته، نعم إن الجيش أعجب بالمنصور وعجب من جرأته على قيادة الجيوش دون أن يكون له سابقة في الجندية، ولكنه عشق غالبا وفني في محبته؛ لأنه كان شجاعا حقا وجنديا بفطرته، وله من المهارة والتدابير في الحرب ما لا يغلب؛ لذلك كان غالب منافسا مخيفا للمنصور، وكان يجب أن يزل من طريقه ، فاتخذ كبير الوزراء العدة لذلك بطريقته الناعمة وعزيمته الهادئة.
وكلما حاول المنصور عملا سار فيه بثبات لا يتزعزع، وإرادة من الحديد، ومن الأدلة الغريبة على أخلاقه: أنه كان مرة جالسا في مجلس الوزراء وكان القوم يتحدثون في بعض الشئون العامة؛ إذ اشتم من بالمجلس رائحة لحم يشوى، وظهر لهم بعد ذلك أن الرئيس كان أحضر كواء لكي ساقه بينما كان يناقش زملاءه في هدوء وسكينة.
ومثل هذا الرجل لن يصعب عليه القضاء على أية عقبة ولو كانت القائد غالبا؛ فقد دبر مكايده بعناية فنجحت جميعا، وإذا رأى في وسائله من الشدة ما لا تستسيغه الأمة عمد إلى تدبير آخر فيه رضاؤها واستعادة محبتها، فحينما أطفأ المؤامرة التي قام بها عدد من كبار الدولة لاغتياله على النحو الذي سقناه آنفا، وأحس أن له أعداء بين الفقهاء ورجال الدين، أسرع إلى مهادنتهم، فدعا إلى عقد اجتماع من زعماء الفقهاء، وطلب إليهم أن يكتبوا رقا بأسماء كتب الفلسفة التي يرون فيها خطرا على الدين وخروجا عليه، وشهرة مسلمي الأندلس بشدة التحرج والتشدد في الدين معروفة، فطالما لقي الفلاسفة منهم عنتا؛ لذلك عجل الفقهاء وقدموا إليه قائمة بالكتب المقضى عليها بالإعدام، فأسرع المنصور إلى إحراقها علنا في الميادين، والمنصور كان من غير شك واسع الأفق، فسيح الصدر للفلسفة، ولكنه فاز بهذه الوسيلة السهلة بأن يدعى: حامي الإسلام، وبألا يأتمر به الفقهاء مرة أخرى.
إن رجلا مثله واسع الحيلة لن يعجز عن التخلص من غالب، فعمد أولا إلى إحداث بعض الإصلاح في نظام الجيش، فحد من سلطة القواد واختلس هذه السلطة لنفسه، ووصل إلى هذا باجتلاب جنود كثيرة من إفريقية ونصارى الشمال الذين ما كانوا يأنفون من بيع أنفسهم وسيوفهم لأي قائد مسلم، فأحبوا المنصور وأخلصوا له حينما رأوا سخاءه، وتوالت لديهم الأدلة على نبوغه الحربي، وقد كان دائما قاسيا، أمر مرة أن يقطع رأس جندي بالسيف الذي كان يحمله؛ لأنه لمح وميضه وقت أن كان يجب أن يكون مغمدا، ولكنه كان في غير أمور النظام والتدريب أبا لجنوده ما داموا يحسنون القتال ويفعلون ما يؤمرون.
وكان تأثيره في جنده لا يحد، كان مرة في خيمته فرأى جنوده يفرون في ذعر والنصارى في أعقابهم، فرمى بنفسه من كرسيه وقذف بخوذته بعيدا وجلس فوق التراب، ففهم الجند ما أبداه قائدهم من أمارات اليأس، فعادوا أدراجهم وهجموا على النصارى فاستأصلوهم وتتبعوا الفارين إلى شوارع ليون.
ثم إن الجند لم يجدوا من يسوقهم إلى مغانم كثيرة كالمنصور الذي قادهم إلى النصر في أكثر من خمسين غزوة
11
شنها على أمراء الشمال؛ لذلك ازداد تعلق الجيش به، وهوى نجم غالب وأنصاره من المقيمين بالحدود.
ثم مات غالب في إحدى المواقع، وظهر قائد آخر هو جعفر صاحب المسيلة الذي أزعج المنصور بشهرته العظيمة بين جنوده، فدعاه إلى بهو الرياسة وسقاه الخمر حتى غلبه السكر، وحينما عاد إلى داره قتل في الطريق، ولهذه الفعلة الشنيعة التي تدل على غدر المنصور وتلطخ يديه بالدماء أخوات سلبته صفة البطولة بعد أن كان يستحقها بأعماله اللامعة، وجعلت ميل القلوب إليه مستحيلا.
على أن صلابته وإقدامه وصلا بالأندلس إلى قمة من العز والصولة تبعد عن أي خيال، حتى عن خيال الخليفة العظيم عبد الرحمن الناصر، فإن هذا الرجل الذي لا ينال منه التعب ولا يمسه اللغوب شن على إفريقية حربا شعواء، فوسع رقعة الدولة على شواطئ البربر، وغزا نصارى ليون وقشتالة كل عام مرتين، مرة في الربيع وأخرى في الخريف،
12
بينما كان يضغط في قرطبة بيد من حديد على العشائر المتنازعة ويستل شوكتها، وبينما كان يتقرب إلى نفوس الشعب بزيادة المسجد الجامع زيادة فخمة رائعة، حينما شعر بأن الأمة أخذت تغضب للعزلة التي ضربها على خليفتهم الشاب، وتنصت إلى إغراء السيدة «صبح» ورجال القصر الذين سئموا المنصور وحسدوه.
وكان يشرف بعين لا يفر منها شيء على كل قسم من أقسام إدارة الدولة، ويهب كثيرا من وقته لإنماء الأدب وإنهاض الشعر، فقد كان أديبا بطبعه، وكان يأخذ كتبه أينما ذهب بسيفه، ولم تكن كتبه إلا الشعراء الذين كانوا يصاحبونه في غزواته، ولم ينل قائد ما ناله المنصور من الانتصار في كل موقعة؛ فقد قذف نصارى الشمال بالحديد والنار مؤيدا بجنوده الغرباء الأشداء، وبكثير من الجنود المسيحيين الذين جذبتهم إليه كثرة ما يصيبون في ظل قيادته من مغانم.
واستولى على ليون، وأتى على بنيان أسوارها الضخمة وقلاعها من القواعد، وقهر برشلونة، والأدهى والأمر أنه خاطر بنفسه وبجيشه في شعاب غاليسية وجعل كنيسة شنت ياقوب ركاما، تلك الكنيسة الرائعة التي كانت ملتقى الحجاج، والتي كان لها من المنزلة بأوربا ما يقرب من منزلة الكعبة عند المسلمين.
ولم يمس بسوء قبر القديس يعقوب الذي ينسب المسيحيون إلى ما فيه من آثار القديسين كثيرا من الخوارق، ويقال إن الفاتح حينما دخل المدينة بعد أن هجرها أهلها لم يجد بها إلا راهبا جاثيا أمام القبر المقدس، فسأله المنصور: ماذا تعمل هنا؟ فأجاب الراهب الهرم: إني أصلي
13
فامتنع المنصور عن قتله، ووضع حراسا لحمايته وحماية القبر من غضب الجنود الذين انطلقوا يهدمون كل شيء في المدينة.
وكان المنصور جديرا بلقبه الذي ناله بحق بعد إحدى هذه المواقع، وبتوالي الغارات على الشمال.
بقي أمراء المسيحية مغلولي الأيدي، وخضعت ليون والممالك المتاخمة لها، وأدت الإتاوات إلى قرطبة؛ فقد تكررت هزائم قشتالة وبرشلونة ونافار، واستولى المنصور على ليون، وبنبلونة، وبرشلونة، وشنت ياقوب، وحمل مرة ملك نافار على أن يجثو أمامه ذليلا على ركبتيه؛ لأن الوزير - وهو لا يتجاوز عن شيء - علم أن امرأة مسلمة مأسورة بمملكته، فأطلقت في الحال مع كثير من ضروب الذلة والاعتذار.
وحدث مرة أن المنصور كان يحارب في الشمال، فسد جيش النصارى عليه وعلى جيشه الطريق إلى قرطبة، واحتلوا موقعا حصينا لا ينال، فلم يفت ذلك في عضده، وأمر جنوده أن يعيثوا بأرض الأعداء حولهم، وأن يجمعوا ما يستطيعون لبناء الخيام واستقرار الإقامة، ولم يجرؤ النصارى على منازلتهم؛ لأنهم وثقوا من أنهم سييأسون ويسلمون، ولكنهم دهشوا حينما رأوهم يقيمون المعسكرات ويحرثون الأرض ويزرعونها، وحينما سألوهم في عجب واستنكار عما يعملون، كان الجواب الهادئ: «إننا رأينا أن الوقت لا يتسع للعودة إلى قرطبة لأن موعد الغزوة الثانية أصبح قريبا؛ لهذا عزمنا على الإقامة هذه الفترة القصيرة.» ففزع النصارى وهالهم أن يكون احتلال المسلمين دائما، ونزلوا من معاقلهم وفتحوا الطريق لهم ليعودوا إلى قرطبة آمنين محملين بما نالوه من نفل، وزاد بهم الخوف فأعطوهم كثيرا من الحقائب والبغال ليحملوا عليها الغنائم
إن المنصور الذي لم تغلبه الرجال غلبه الموت!!
فإنه مرض ومات بمدينة سالم
14
حينما كان في آخر غزواته المظفرة لقشتالة،
15
وتنفس النصارى الصعداء لموته، ودل على هذا الارتياح عبارة موجزة دونها أحد الرهبان في تقويمه، وهي «في سنة 1002 مات المنصور، ودفن في الجحيم.»
هوامش
عودة البربر إلى الحكم
تتدلى أحسن الممالك نظاما وأضبطها حكاما إلى الفوضى والاضطراب حينما تزول العزيمة التي كانت تهديها سواء السبيل، وبهذه الحقيقة وأمثالها تمسك من يرون أن خير أنواع الحكم أن يحكم الشعب نفسه، وقد قيل: إنك إذا قدت الأمة بخيط فوهى أو انقطع، فإنك لا تدري في أي طريق ستذهب الأمة، وهذه النظرية صادقة على إطلاقها، فمن الشعوب ما هو دائما في حاجة إلى خيط يقوده، وليس في العالم شعب يستغني تمام الاستغناء عن الاهتداء بعقل مسيطر، على أن هذا الاستغناء ليس في منفعة الشعوب في شيء إلا إذا عدت الركود مثلا في الحكم صحيحا.
والأندلس في أية حال لم تستطع الاستغناء عمن يقودها، فإذا مات قائدها وحاكمها سقطت معه الدولة، فهي على حد ما قيل «حينما يسقط سيزار العظيم، فإنني وأنت وجميع الأمة نسقط معه»، ولم يكن ذلك في الأندلس عن محبة للحاكم أو انعطاف نحوه، ولكن كان عن عجز وخور، فإن كثرة العشائر المتنازعة والقبائل المتنافسة جعلت الوصول إلى ما يشبه الاستقرار في حكم الأندلس مستحيلا، ولن يكبح من جماح هذه العشائر أو يفل من غرب هذه القبائل إلا يد قوية.
واعتبر هذا بما تقرأ في تاريخ إرلندة عن العداوة المتأصلة بين سكان الشمال وسكان الجنوب - تعلم أن العرب ليسوا وحدهم الذين رأوا أن من الاستحالة حكم أمة تختلف فيها العناصر والأديان بالسهولة التي تحكم بها أمة متماثلة الأفراد في الجنس والدين، وتاريخ الأندلس - كما قصصنا عليك - كان حوادث متعاقبة في صعود وهبوط؛ فقد شهدنا فيه أول الأمر غارة عنيفة رائعة لجنود موهوبين، انتهت بفتح لم يكن منتظرا ولا مرتقبا، وما كاد يتم فتح الجزيرة حتى رأينا العشائر المتنافرة التي تجمعت لهذا الفتح المبين تنطلق من عقالها، وتدمر ثمرات الفتح التي جناها السيف واغتصبها الإقدام.
ثم نرى الشمري الذي خلق ليكون ملكا - وهو عبد الرحمن الداخل - فنرى الأندلس وقد عادت مرة أخرى إلى وحدتها وقوتها.
وكان من عادة الفرس عند البدء بمخاطبة ملوكهم أن يقولوا: «أيها الملك أبقاك الله» وهذا الدعاء يوحي إلى النفس بأنه لو صح وتحقق لكان حلا لكثير من المشكلات السياسية، على شريطة أن يكون المدعو له بالخلود ملكا صالحا، وأول ملك بالأندلس لم يكن بطبيعة الحال خالدا، وكان من أثر موته ما كان يحصل دائما حينما يزول الضغط القوي الحازم، فارتكست الأمة في الفوضى والحروب الأهلية، ثم جاء ثانية الملك الملهم لإنقاذ الأمة مما هي فيه، وهو الخليفة العظيم، فألزم الناس القانون والنظام في جميع أرجاء الأندلس، وهزم الواثبين على المملكة، وداس العصاة بقدميه، وبقيت الأندلس خمسين عاما في عهده فردوس سلام وازدهار، ولو قدر لعبد الرحمن الناصر أن يكون خالدا في هذه الدنيا لبقي السلام ورفرفت الطمأنينة على ربوع الأندلس إلى اليوم، وما كنا نسمع بشيء مما حاق باليهود والعرب في ديوان التفتيش من القتل والقسوة الوحشية، ولا بشيء من أخبار الكارلوسيين.
1
ومن المحزن أن هذا الدعاء ببقاء الملوك الصالحين لا يمكن أن يتحقق، ولكن الخليفة العظيم لم يترك المملكة خلوا ممن يصلح لقيادتها، فإن إسبانيا أنقذت بالملوك مرتين، والآن ينقذها ويجمع شتاتها كبير الوزراء وهو المنصور الذي لا يغلب، والذي نفذت سلطته إلى كل زاوية من زوايا الأندلس، ولكن المنصور أيضا لم يكن خالدا، وحينما مات «ودفن في الجحيم» - كما كان يأمل الراهب المتبتل - أصبحت الأندلس التي بلغت في عهده قمة الثروة والقوة وعاشت في كنف السلامة والنظام، فريسة للقوى المتنافرة التي دفنتها عزائمه وسطواته في جحورها، ففي غضون ثمانين سنة كان يمزق الأندلس تحاسد الزعماء وظلم العتاة من البربر والعرب والصقالبة والإسبان.
نعم، إن جذور الحزبية كانت قد اجتثت من أصولها بمرور السنين، وذهب عهد التفاخر بالأنساب والقبائل؛ لأن الناس نسوا أنسابهم، ومع ذلك بقي بالأندلس من التنافس الشخصي والجنسي والديني ما يكفي لجعلها جحيما أرضيا من النوع الذي كان يتمنى الراهب المؤرخ أن يدفن المنصور فيه.
واستطاع ابن المنصور وخليفته أن يصون وحدة المملكة في مدى ست سنوات، تلاها انهمار سيل جارف من الطامعين المخاطرين، والخلفاء المتنافسين، والأدعياء الوقحين، وكان الإسبان الذين يمثلون جمهرة الأمة يؤثرون أن يحكمهم ملك، ويحبون أن يتعاقب الملوك من أسرة واحدة، ويذكرون بالإعجاب ما كان للدولة الأموية العظيمة من أثر عظيم، ولم يكن من رأيهم في الحكومة أن يكون المسيطر فيها وزيرا كيفما كان عادلا صالحا؛ لأن الملك في زعمهم يجب أن يحكم الأمة بنفسه، لذلك رفعوا راية العصيان على ابن ثان للمنصور، وزاد في غضبهم أنه أعلن حقه في وراثة العرش، فمضوا إلى الخليفة هشام المؤيد وحتموا عليه أن يقبض على أزمة الحكم بيديه الضعيفتين الواهنتين.
وقد صعب على هشام المسكين أن ينزع فجاءة من عزلته في القصر بعد أن قضى فيها ثلاثين عاما سجينا مغتبطا بسجنه، فتوسل إليهم ألا يطلبوا منه المستحيل، ولكنهم أصروا على ما يطلبون، فأطاعهم على الرغم منه، غير أنه حينما ظهر للناس جميعا أن هذا الرجل الكهل كان أضعف من طفل، طلبوا إليه أن يعتزل، وأحلوا مكانه رجلا من أسرته، وكان سقوطه في الحقيقة نهاية الدولة الأموية بالأندلس.
ثم جلس على العرش خليفة بعد خليفة في مدى عشرين عاما، فكان أحدهم لعبة في أيدي القرطبيين، وآخر لعبة في أيدي الحراس من الصقالبة، وثالث لعبة في أيدي البربر، ورابع كان صورة تخفي وراءها مطامح أمير إشبيلية، ولكنهم كانوا جميعا لعبا لبعض الأحزاب، ولم يكن لهم مظهر من النفوذ، وقد شهد بهو القصر قتلا بعد قتل كلما تلا خليفة خليفة، وأخفى مرة أحد هؤلاء الخلفاء المساكين البائسين نفسه في فرن حمامه، وحينما عرف مكانه جر وذبح أمام الخليفة الجديد الذي لم يأت بعد دوره وإن كان قريبا.
ثم ألزم هشام المؤيد المسكين - الذي نشأه المنصور وأمه «صبح» في طفولة دائمة - أن يمثل دوره في صندوق الدنيا، فوضع على العرش ثم خلع، فبدل بقيده الحريري في عزلته بين الفواتن من نساء القصر حيطانا مظلمة لسجن حقيقي، ولا يعرف إلى الآن ما جرى له بعد ذلك، فنساؤه يعلن أنه جاهد للفرار من سجنه والتجأ إلى آسيا أو مكة، لم يغر العرش ذلك الملك البائس بشيء من مغرياته؛ لأنه كان يعشق العزلة والانقطاع إلى العبادة، ولا بد أن يكون قد عرف أن بقاءه بالأندلس سيشجع مطامع أنصاره، وأن ذلك سيؤدي حتما إلى النزاع والتفرقة، فمن المعقول إذا أن يكون قد آثر أن يقضي بقية أيامه بمكة للعبادة والتبتل.
ثم ظهر دعي يشبه هشاما تمام الشبه، وزعم أنه هشام المختفي وادعى ملك إشبيلية، فاعترف به حاكمها؛ لأنه رأى فيه لعبة صالحة في يديه
2
ولكن هشاما الحقيقي اختفى إلى الأبد ولم يسمع إنسان عنه شيئا بعد اختفائه.
والذي جرى لهشام المعتد بالله عند عزله يصور لنا ما وصل إليه خلفاء بني أمية التاعسون من الذلة والمهانة بعد أن تركوا زمامهم للبربر المتوحشين، أو الصقالبة يلعبون بهم كما يلعب بقطع الشطرنج؛ فقد أمر رؤساء قرطبة أن يجر هذا الخليفة الرفيق الرقيق العاطفة هو وأسرته إلى سجن تحت الأرض مظلم متصل بجامع قرطبة، فجلس الخليفة في هذا السجن الدامس الظلمة يرتعد من البرد ويتسمم بهوائه الفاسد من العطن، وقد احتضن ابنته الصغيرة وأحاط به نساؤه يبكين ويولولن ويقضقضن في زمهرير قارص، وقد اشتد الجوع بالسجناء بعد أن تركهم السجانون القساة ساعات دون أن يفكروا في إطعامهم، ثم جاء الشيوخ ليبلغوا هشاما حكم المجلس الذي اجتمع في عجلة ليفصل في أمره، ولكن الخليفة المسكين الذي كان يجهد في أن يبعث شيئا من الدفء إلى ابنته التي كان يحملها بين ذراعيه قاطعهم قائلا: «نعم نعم، إني سأخضع إلى حكمهم كيفما كان، ولكني أسألكم لله تعالى أن ترسلوا إلي شيئا من الخبز، إن هذه الطفلة الصغيرة ستموت بين يدي من الجوع.» فتأثر الشيوخ لأنهم لم يريدوا أن يعذب الخليفة هذا التعذيب، وأمروا فأحضر إليه الخبز، ثم استأنفوا الكلام قائلين: «يا مولانا إن المجلس قرر أن تؤخذ عند الفجر لتسجن في قلعة كذا.»
فأجاب الخليفة: «فليكن، وليس لي الآن إلا رجاء واحد، هو أن تأمروا لنا بمصباح؛ لأن ظلمة هذا المكان الموحش تزعجنا وتخيفنا.» وارحمتاه!! لقد وصل الذل والشدة بحاكم المسلمين الزمني والديني بالأندلس إلى هذا الحضيض وهو أن يستجدي خبزا وشمعة.
3
وأمثال هذه الكوارث كانت كثيرة بقرطبة، فكل ثورة كان لها جناها المر من القتل والإرهاب، فإن أهل قرطبة الذين ازداد عددهم كانوا ينزعون إلى الاستقلال وفرض إرادتهم على الحكام، وهذا الاعتداد بالنفس كان نتيجة ثروة الأمة، ونمو التجارة والصناعة فيها.
فحينما أسقطوا أسرة المنصور من الحكم ثار العامة كعادتهم وشفوا غليل غضبهم بنهب قصر المنصور البديع الذي بناه في ربض قرطبة ليكون مقرا له ولرجال حكومته، وبعد أن انتهبوا ما فيه من الكنوز التي لا تقدر بثمن تركوه طعمة للنيران، واستمرت المذابح والنهب والاغتيال أربعة أيام لا ينهنه من حدتها أحد، وأصبحت قرطبة مجزرا.
وحينئذ جاء دور البربر، وانتهى حكم الصقالبة الجبارين بحكم البربر القساة الذين سمنوا ونعموا بانتهاب المدينة، فحيثما سار هؤلاء البربر سار القتل والنهب وسارت النار في إثرهم، فكم نهبوا من قصر ثم أحرقوه، وقد لاقت منهم مدينة الزهراء الجميلة التي كانت ريحانة الخليفة العظيم شر ما يلاقى؛ فقد استولوا عليها بخيانة ثم انتهبوها ثم أشعلوا فيها النيران، ولم يبق منها من بدائع الفن الرفيع التي زينها بها الخليفتان إلا كومة من حجارة سفع، ووضعوا السيف في حاميتها وفر سكانها معتصمين بالمسجد، ولكن البربر الذين خوت قلوبهم من الخشية والرحمة أحاطوا بهم، وذبحوا في بيت الله الرجال والنساء والأطفال (سنة 1010).
وفي هذا الوقت استقلت الولايات التابعة للخلافة بعد أن حطم الصقالبة والبربر العاصمة، ووضعوا على العرش خليفة بعد آخر، ونقلوا الخلافة من الأمويين إلى بني حمود، أو حاولوا تجربة حكم البلاد بمجلس يؤلف من الزعماء،
4
فأصبح لكل مدينة أو مقاطعة أمير مستقل، وذهبت في الهواء تلك الوحدة التي جمع بها المنصور مختلف الأهواء والأحزاب، ولم يرتح الإسبانيون أنفسهم لهذا الانتقال السريع، وإلى تمزيق الدولة إلى ولايات صغيرة، فرأوا والحزن ملء قلوبهم ما صارت إليه بلادهم، وكيف أصبحت نهبا مقسما بين الغرباء، فقد نعم البربر بالجنوب، وأخضع الصقالبة الشرق، أما البقية فقد سقطت بأيدي بعض محدثي النعمة والنفوذ، أو بعض الأسر القديمة التي نجت من ضربات عبد الرحمن الناصر أو المنصور القاصمة.
وكانت قرطبة وإشبيلية - وهما أعظم مدن الأندلس - تحكمان حكما جمهوريا في الصورة لا في الواقع؛ لأن سلطة رئيس المجلس كانت تشبه سلطة الإمبراطور كل الشبه، وحكم في النصف الأول من القرن الحادي عشر نحو عشرين أسرة مستقلة في نحو عشرين مدينة أو مقاطعة، ويسمى هؤلاء بملوك الطوائف، وبينهم: بنو عباد بإشبيلية، وبنو حمود بمالقة والجزيرة، والأدارسة بغرناطة، وبنو هود بسرقسطة، وكان أقوى هؤلاء بني ذي النون الذين ملكوا طليطلة، وحكموا بلنسية، ومرسية، والمرية.
وقد أحسن بعض هؤلاء الملوك الحكم وإن كان أكثرهم عتاة جبارين، غير أنه مما يعجب له أنهم كانوا جميعا غطارفة مثقفين يعضدون العلم والأدب، وكانت قصورهم مثابة للشعراء والمغنين؛ فقد كان المعتضد عالما أديبا شاعرا، ولكنه نصب ببستانه خشبا علق فوقها رءوس أعدائه الذين قضى عليهم، وكان يستبشر ويبتهج برؤيتها كل يوم.
وقصارى القول إن المملكة كانت في حالة من الفوضى والاضطراب تشبه ما وصلت إليه عند تولية الخليفة الناصر، نعم، إنه لم يقم بها عصيان من المسيحيين كما كان من ابن حفصون أيام الناصر، ولكن الفوضى كانت عامة، والخطر من سقوط الدولة وتحطمها كان بارزا للعيان؛ فإن نصارى الشمال استجمعوا للوثوب، ورأوا الفرصة سانحة فهموا لاهتبالها؛ لأن ألفونسو السادس (الأذفونش) الذي وحد تحت إمرته أستورياس، وليون، وقشتالة، كان قد فهم ما يجب أن يفعله تمام الفهم؛ فقد رأى أنه لم يكن عليه إلا أن يمد حبله لملوك الطوائف مدا كافيا ليشنقوا به أنفسهم؛ لأن هؤلاء الطغاة الذين لم ينظروا في العواقب، ولم يعنوا إلا بأنفسهم، ولم يتركوا جهدا إلا بذلوه في إضعاف منافسيهم - كانوا يجثون عند قدمي ألفونسو لاستجداء معاونته كلما ضعفوا عن مقاومة إخوانهم المسلمين؛ لذلك تقربت كل الدويلات الإسلامية إلى ألفونسو بتقديم الإتاوات، وكان ألفونسو يزيد فيها كل عام كلما زادت قوته؛ لأنها ثمن عطفه وحمايته، ولأنه كان يريد أن يرضخ المسلمون من المال ما يكفي لمحوهم ومحو آثارهم من إسبانيا.
وقد بذل ملوك الطوائف هذه الإتاوات للاستعانة بجيوش ألفونسو، أو للخوف من غاراته العنيفة التي كان يشنها في كل مكان، حتى لقد وصلت جنوده إلى قادس.
وكان شمال إسبانيا فقيرا ممحلا، وكان من أضاحيك القدر أن يجمع ألفونسو من ملوك المسلمين ما يعد به العدة لدمارهم، على أنه مهما اختلف هؤلاء الملوك وتحاسدوا؛ فقد كان لصبرهم على ألفونسو حد يقفون عنده، فإنهم تيقظوا من سباتهم وأحسوا بالخطر المحدق بهم، وعملوا على دفع الكارثة عنهم حينما علموا أن ألفونسو اخترق الأندلس على جواده آمنا مطمئنا حتى وصل إلى أعمدة هرقل فنزل ليبترد في المحيط، وحينما رأوا أنه وضع حامية تزيد على اثني عشر ألفا من الجنود الشجعان في حصن ليط، وهو في وسط بلاد المسلمين ومنه كانت تخرج جنوده لتعيث وتنهب وتغير، وحينما علموا أن لذريق البيفاري أو السيد الكمبيدور
5
احتل بلنسية مع القشتاليين، ونهب ما حولها من الأرض حتى صيرها قفرا يبابا، وحينما ظهر لهم جليا أن ألفونسو لا يقصد إلا أن يعيد إسبانيا إلى المسيحية وأن يستأصل شأفة المسلمين.
ولكن ملوك الطوائف كانوا على الرغم من تفاقم الخطب أضعف من ذات خمار، وكانوا في يأس من توحيد كلمتهم وتواثقهم على مكافحة العدو؛ لكثرة ما بينهم من تحاسد وتنافس وغيرة؛ لذلك صاروا إلى ما ليس منه بد، وهو دعوة الغرباء إلى عونهم.
وقد رأى بعضهم ما في هذه الدعوة من الخطر المحيق، ولكن المعتمد بن عباد
6
أسكتهم بقوله: «لأن أكون سائق جمال في صحراء إفريقية، خير من أن أرعى الخنازير في قشتالة!!» ولم تكن المعونة التي التمسوها بعيدة عنهم، فقد شبت ثورة في شمال إفريقية انبثق منها مذهب متعصب جديد سمي أصحابه بالمرابطين، وقد تغلب هؤلاء المرابطون على المملكة جميعها من الجزائر إلى السنغال، وكانوا من طابع طارق وأصحابه، وكانوا على أتم أهبة لاجتياز البحر والتغلب على إسبانيا الخصيبة، وأظهروا للناس أن هذا الغزو مكرمة منهم وجهاد في سبيل الله، ولم تبدر منهم بادرة تدل على رغبتهم في الأندلس، غير أنهم نزلوا بإسبانيا، ومن الهين أن ندرك أنهم نزلوها لتكون دار إقامة.
وحينما وصل المرابطون إلى الأندلس كأرجال الجراد ليلتهموا المملكة التي قدمت نفسها لهم طعاما، كانت الطريق مذللة أمامهم، وابتهج الأندلسيون حينما رأوا فيهم ساعدا أزل مفتولا، جاء ليمحو الفوضى التي بددت هناءتهم منذ أن مات المنصور العظيم، أما ملوك الطوائف أو صغار الطغاة فمنهم من دعاهم للإقامة ببلاده، ومنهم من لم يستطع مقاومتهم فصبر على مضض، ولكنهم اغتبطوا جميعا بكبح القشتاليين وكسر شوكتهم، وعندما وصل يوسف بن تاشفين ملك المرابطين
7
إلى الأندلس، وتملك مدينة الجزيرة لتكون ميناء له وقاعدة لجنوده، اخترق الولايات بجيوشه حتى التقى بألفونسو عند الزلاقة بالقرب من بطليوس في الثالث والعشرين من أكتوبر سنة 1086م/479ه وصاح ألفونسو حينما رأى جيشه اللهام: «بمثل هؤلاء أحارب الشياطين والجن والملائكة.»
على أنه مع هذا التجأ إلى حيلة ليدهم بها أعداءه من البربر والأندلسيين على غرة، ولكن يوسف لم يكن من الهين خداعه، فأحاط في مهارة وحذق بجيش القشتاليين من الأمام والخلف، ووضعهم بين نارين، فتحطم القشتاليون وهزموا شر هزيمة على الرغم من المقاومة العنيفة وأساليب الحرب التي برع فيها هؤلاء الجنود المدربون، وفر ألفونسو - وما كاد يستطيع الفرار - بنحو خمسمائة فارس، وترك آلافا مؤلفة من خيرة جنوده في الميدان، وبعد هذا النصر المبين عاد يوسف بن تاشفين إلى إفريقية، وترك بالأندلس ثلاثة آلاف من جنوده لمعاونة الأندلسيين؛ لأنه وعد ألا يضم الأندلس إلى مملكته، وبر بهذا الوعد إلا في جزيرة طريف فإنه اختارها لنفسه.
فرح الأندلسيون بمقدمه وأطروا شجاعته، وابتهجوا بنجاة بلادهم، وأعجبوا بسذاجته وتقواه؛ إذ رأوا أنه لا يعمل عملا إلا بعد استشارة الفقهاء، حتى إنه أبطل الضرائب بإسبانيا إلا ما أقره عمر بن الخطاب في عهود الإسلام الأولى، ولكن طبقة المتعلمين بالأندلس كانت تسخر من جهله وجفوة أخلاقه، فلم يكن يحسن العربية، ولم يكن يدرك مرامي الشعراء إذا أنشده شاعر قصيدة في مدحه، وليس هذا بالنقص اليسير في رأي الأدباء الأندلسيين الذين لا يغفلون عن إنشاد الشعر والاستشهاد به ولو كانوا في بحر من الدماء، فلم يكن يوسف في أعينهم إلا بربريا، غير أن نقدهم لثقافته لم يكن له وزن ما داموا في حاجة إلى سيفه، أما جمهرة الأندلسيين ففكروا في رفاهيتهم أكثر مما فكروا في علمه، وكانوا على استعداد لقبوله مسرورين ملكا على الأندلس، وفي سنة 1090م/483ه استجدى ملك إشبيلية عون المرابطين ليصدوا عنه غزوات المسيحيين الذين استمروا في عدائهم وطفقوا يرسلون غارات مستمرة من حصن ليط.
أجاب ابن تاشفين الدعوة مظهرا التثاقل وعدم الرغبة، ولكنه في هذه المرة وجه هجومه إلى ملوك الطوائف وإلى نصارى قشتالة على السواء، وملأ الملوك الأغبياء أذنيه بشكوى بعضهم من بعض وخيانة بعضهم لبعض حتى عرفهم يوسف جميعا، ولم يثق بهم جميعا، وكان يعتمد على الأمة وعلى الفقهاء الذين أحلوه سريعا من عهده بألا يضم إليه الأندلس، وغالوا فأدخلوا عليه أن مما يجب عليه - إرضاء لربه - أن يعيد السلام والرفاهية إلى هذه البلاد المنكوبة.
أطاع ابن تاشفين نصيحة الفقهاء، لما كان يخالجه من الطموح في ملك إسبانيا الذي كان يكتمه ويخفيه، فشرع في إخضاع إسبانيا قبل انتهاء سنة 1090 فدخل غرناطة في نوفمبر، ووزع على قواده الكنوز العجيبة التي لم يروا مثلها أو ما يقرب منها في حياتهم من الماس والدر والياقوت والجواهر الثمينة ، والحلي الذهبية والفضية، والكئوس الزجاجية وعتاق البسط، وغير ذلك مما لم يسمع به من النفائس، ثم سقطت جزيرة طريف في ديسمبر، وشهدت السنة التالية سقوط إشبيلية وغيرها من كبار مدن الأندلس، وجرد ألفونسو جيشا يقوده البرهانس فهزمه المرابطون، وأصبح القسم الجنوبي في أيديهم إلا مدينة بلنسية التي لم تفلح فيها محاولة ما دام السيد الكمبيدور يتولى الدفاع عنها، وفي سنة 1102م/495ه سقطت بلنسية بعد موته، فغدت الأندلس الإسلامية كلها - حاشا مدينة طليطلة ورية - تابعة لمملكة المرابطين بإفريقية.
رضي جمهور الأندلسيين إلى حين - ولحاجة في أنفسهم - عما آلت إليه البلاد بعد دعوة المرابطين إليها، ولكن قلة من عظماء الأندلس والمثقفين كانوا ساخطين على تلك الحال، فإنهم كانوا يحكمون بطائفة من الدينيين المتزمتين
8
كما كانت تحكم إنجلترا في أحد عهودها، ولكن إنجلترا ظفرت بملتون
9
شاعر هذا العهد، فخفف من شدته وعبوسه.
اشمأز الشعراء من جفوة البربر وخشونتهم وجهلهم، فإنهم لم يفهموا روائع أشعارهم، وإذا حاولوا التشبه بملوك الطوائف الأدباء البارعين في ذوقهم المرهف ونقدهم الدقيق، أتوا بما يستثير الضحك، ولم ير المفكرون في رجوع السلطة إلى الفقهاء المتعصبين ما يبعث على التفاؤل؛ فقد كان هؤلاء أصحاب الرأي والشورى عند المرابطين، فحاربوا كل ما يتصل بالفلسفة، وجمدوا على أن يفهموا القرآن من تفسير مفسر واحد،
10
أما اليهود والنصارى فإنهم أدركوا سريعا ما يفهم المرابطون من معنى التسامح؛ فقد قسوا في اضطهادهم، وجردوا عليهم سلاحين من القتل والنفي، وأما من بقي من الأسر القديمة ومن فر من السيف من ملوك الطوائف، فإنهم كانوا في يأس قاتل حينما رأوا هذا الدخيل يعيد إلى أذهانهم أعمال البربر الشنيعة آخر أيام الخلفاء بقرطبة.
ولكن جمهور الأندلسيين كانوا في غبطة وسرور لاستيلاء المرابطين على الأندلس؛ فقد أمنوا على أرواحهم وأموالهم، وذلك شيء لم يستطيعوا تخيله أيام كانت المملكة ممزقة إلى ولايات، وكان أقوى الملوك من يستطيع أن يحمي رعيته حول قلعته، وأيام كانت الطرق غاصة بعصابات اللصوص، وأيام كان النصارى يغيرون على القرى وينهبون البلاد، أما الآن فقد استتب النظام والهدوء ولو إلى حين، وخضع الناس للقانون، وهزم النصارى فعادوا إلى حصونهم، وأخذ الناس مرة أخرى يحلمون بالثروة والرفاهية.
ولكن هذا الحلم كان وهما وخيالا باطلا، فإن القدر لم يدخر نجاحا ولا سعادة لرعية المرابطين، فقد أصاب البربر ما أصاب الرومان والقوط من قبلهم، فإنهم جاءوا إلى إسبانيا غلاظا شدادا لم يعتادوا النعيم والرفه، يتفاخرون بالشجاعة والقوة، ولهم قلوب يملؤها تعصب ديني غضوب ساذج، ولكنهم لم يلبثوا بها إلا قليلا متمتعين بثمار انتصارهم حتى أصيبوا بفساد الأخلاق وانحطاط العزائم الذي أصاب جنود (هانيبال) حينما استناموا إلى لذائذ الحياة في (كابو).
11
فقد البربر الميل إلى الحرب والإقدام على الأخطار واحتمال ويلات القتال، أو أقل إنهم فقدوا رجولتهم في أقصر ما يتصور من زمن، فلم يكن لهم بعد عشرين عاما جيش يعول عليه في صد هجمات القشتاليين، بل كان جيشهم حشدا غير منظم من حطام آدمي وكسالى بائسين أدمنوا الخمر، وخدعوا فتوتهم فبددوها، وأصبحوا عبيدا لكل شهوة تجعل الرجل جبانا رعديدا.
وبدل أن يصونوا النظام كانوا هم أول العابثين بالنظام، فقطعوا الطريق على المسافرين وسرقوا كلما لاحت لهم لائحة، ووصل الضعف بحكامهم أن صاروا تحت سيطرة العواهر من النساء، والطامحين من الفقهاء، فنقضوا اليوم ما أبرموه بالأمس، ومثل هؤلاء لا يطول بهم الحكم، فإن ثورة جامحة قامت بإفريقية للقضاء على المرابطين، وجدد القشتاليون بقيادة ألفونسو «المحارب» غاراتهم على الأندلس، ففي سنة 1125 عاثت جنودهم في الجنوب سنة كاملة، وفي سنة 1133 أحرقوا أرباض قرطبة وإشبيلية وقرمونة، وانتهبوا شريش وأشعلوا فيها النار، وامتدت غزوات النصارى من ليون إلى مضيق جبل طارق، أما الدولة الإسلامية حيال كل هذا فلم تفعل شيئا؛ لذلك غضب الأهلون وثارت جموعهم وطردوا المرابطين من البلاد.
ويقول مؤرخ عربي: «وفي النهاية عندما رأى الأندلسيون تحطم دولة المرابطين لم ينتظروا طويلا، فكشفوا حجاب الرياء وأظهروا العصيان وسمى نفسه بالملك واتخذ شعار السلطان كل حاكم صغير، أو زعيم أو رجل ذي شأن يستطيع أن يجمع حوله ثلة من الأنصار، أو تكون له قلعة يحتمي بها عند الحاجة، وصار الملوك في الأندلس بعدد ما فيها من مدن: فملك ابن حمدين قرطبة، وابن ميمون قادس، وحكم ابن قسي و«ابن وزير سيدراي» بالغرب، واللمتوني بغرناطة، وابن مردنيش ببلنسية، وبعض هؤلاء من الأندلسيين، وبعضهم من البربر.
ثم اختفى جميع هؤلاء حينما ظهر علم الموحدين الذين أزاحوهم عن عروشهم وأخضعوا الأندلس جميعا لحكمهم.»
12
وكان عبد المؤمن قائد الموحدين هو الذي أزال ملك المرابطين في إفريقية وإسبانيا.
هوامش
السيد المبارز
لقد آن لنا أن نتجه إلى أعداء العرب في الشمال ، وقد ذكرنا آنفا ما كان من أمر (بلاي)، وكيف أنه جمع ما بقي من القوط في كهفه الذي لا ينال ومعقله بصخرة جبال (أستورياس)، وكيف أن هذه الفئة القليلة اجتازت بعد قليل حدودها، وشجعها على التحدي والنضال ما شجر من الخلاف بين قبائل البربر، الذي انتهى بهزيمتهم عند الحدود الشمالية للدولة العربية.
جدد شيء من ذلك الحياة في هذه الفئة وقوى من عزمها، فاستعادت بالتدريج أكثر الأراضي التي في شمال جبال وادي الرمل، وأسست مملكة ليون، ومقاطعة قشتالة، وكان مملكة نافار تبعد نحو الشرق عند سفح جبال البرت (البرانس)، وذكرنا أيضا كيف أن هذه الممالك المسيحية كانت في حرب مستمرة مع جيرانها المسلمين، وأنه كان في باب الظن أن تكون هذه الحروب خطرا على العرب لولا ذلك الانقسام المستمر والخلف الدائم بين المسيحيين، مما حمل بعض ملوكهم أن يلتزم الحيدة ويتجنب القتال، وكان من السهل اليسير على المسلمين أن يصونوا دولتهم مهيبة عزيزة الجانب لو بقيت مملكة قرطبة قوية غير متفرقة الأهواء، ولكن حينما سقطت قرطبة وأصبحت الأندلس نهبا مقسما بين ملوك الطوائف الذين لم يفكروا إلا في أنفسهم أولا، ثم - إذا دعت الحال - في المملكة الإسلامية - تجرأ النصارى وتمكنوا من أن يستعيدوا من العرب عددا غير قليل من البلدان، وقد شهدنا كيف أن النصارى زحفوا على أرض المسلمين بجيوشهم المظفرة، وضربوا الإتاوات على أعاظم ملوكهم، حينما ازداد الاضطراب وعمت الفوضى في القرن الحادي عشر، وأصبح لكل مدينة دولة ولكل دولة أمير ووزراء، في هذا الوقت جمع فرديناند الأول القسم الأعظم من الشمال تحت رايته، فألف بين الولايتين المتعاديتين: ليون، وقشتالة، وأضاف إلى ملكه أستورياس، وغاليسية، وكان في هذا الحين أقوى ملك بإسبانيا جميعها، وقد ضم إلى مملكته مدن البرتقال: لورميجو، وبازو، وقلمرية، وأخذ الإتاوات من ملوك سرقسطة، وطليطلة، وبطليوس، وإشبيلية.
نعم، إن رأيه السقيم في تقسيم مملكته بين أبنائه الثلاثة وبنتيه جر على الشمال بعد موته ويلات متصلة الحلقات من الحروب الأهلية، ولكن ألفونسو السادس «الشجاع» تمكن في النهاية من ضم أشتات المملكة فانتعشت القوى المسيحية، وأصبح تغلبها على أعدائها من الحتم المحقق.
ولم يمنع المسيحيين من قهر الأندلس واستردادها في هذا الحين الذي ضعفت فيه العرب إلا ما كان يبعث به إليهم ملوك الطوائف من الرشا التي تأبى على الحصر ليشتروا بها كفهم أو عونهم، وإلا ما كان يظهر في الأفق البعيد من جيوش المرابطين، وعلى أية حال لم يكن ملوك الطوائف حكاما مستقلين؛ لأنهم وقعوا بين شقي رحا: من الخوف من ألفونسو، ثم من الخوف مما هو أعظم خطرا من ألفونسو، وهو تغلب حلفائهم المرابطين، ولكنهم في النهاية اضطروا إلى اللجوء إلى المرابطين.
ويظهر لنا في هذا الوقت تدخل النصارى في أكثر شئون المسلمين السياسية، ونرى التحالف بين الفريقين مشتبك العرا، وأن كثيرا من جنود النصارى المرتزقة كانوا ينضمون إلى جيوش العرب في حروب مدمرة للولايات المسيحية، وأن كثيرا من العرب كانوا يعينون جيوش النصارى على إخوانهم المسلمين.
وقد نخطئ خطأ بالغا إذا قدرنا لجنود ليون وقشتالة منزلة تقرب من المثل الأعلى للبطولة والفروسية، وأكبر في باب الخطأ أن نتخيلهم رجالا مهذبين مثقفين، فإن نصارى الشمال كانوا من كل وجه على النقيض من منافسيهم العرب؛ لأن العرب - وإن قدموا الأندلس في جفوة طبائع القبائل وخشونتها - رقت أخلاقهم بالاختلاط بالأندلسيين، وبميلهم الطبيعي إلى المرح والترف، فوصلوا إلى قمة المدنية وأغرموا بالشعر والأدب، وتجردوا لطلب العلم، وأحبوا فوق ذلك أن يتمتعوا بكل لذائذ الحياة.
وقد كان ذوقهم العقلي والأدبي مرهفا دقيقا، وكان لهم ذلك الإحساس الذي لا يشعر به من نشأ نشأة سامية في العلم والأدب، وقد كانوا واسعي التصور خياليين شعريين مفكرين، يمنحون من المال على مقطوعة شعرية رائعة ما يكفي للإنفاق على فرقة من الجنود، وكانوا ينظرون باحتقار إلى أقوى ملوكهم وأشدهم بطشا إذا لم يكن شاعرا، أو لم يوهب له ذوق فهم الفكاهة الشعرية والبلاغة العربية، ومنح هؤلاء القوم البارعون استعدادا طبيعيا في الموسيقى، والخطابة، ودقائق العلوم، والنقد، وإدراك التوريات البعيدة التي نعدها اليوم من ميزات الأمة الفرنسية.
أما نصارى الشمال، فكانوا على الخلاف من ذلك بقدر ما يتصور العقل من خلاف، كانوا في بداوة الأمم الناشئة على الرغم من أنهم أخلاف أمة قديمة، فكانوا جفاة غير مثقفين، وقليل من أمرائهم من كان له حظ من مبادئ العلم، وكانوا من الفقر وعسر الحال أعجز من أن يتمتعوا بفنون الرفه التي يتمتع بها أمراء العرب، غير أنهم كانوا رجال حرب وجلاد، لا يقل نزوعهم إلى القتال عن نزوع أعدائهم المسلمين، وقد يفوقون هؤلاء في استعدادهم للنضال واحتمالهم الحرب الطويلة الأمد، وجرأتهم اليائسة المستميتة.
لقد كانوا رجال سيف ليس غير، وطالما دفعهم الفقر وحفزتهم الحاجة إلى خدمة أي إنسان كيفما كان، فكانوا يبيعون شجاعتهم لمن يدفع أغلى ثمن؛ لأنهم يحاربون ليعيشوا، وتاريخ القرن الحادي عشر لإسبانيا مملوء بالوقائع التي حارب فيها أبطال النصارى تحت راية المسلمين، ولكن ليس بين هؤلاء الأبطال من نال شهرة السيد بطل إسبانيا.
هذا السيد هو لذريق البيفاري، وقد سماه أتباعه من العرب بالسيد، وكان من أسمائه أيضا الكمبيدور ومعناها: البطل، أو المبارز المتحدي؛ لأن شجاعته الفائقة في الحروب جعلته المبارز المشهود له بالسبق في المبارزات التي كانت تسبق التحام الجيشين.
ولم يكن أحد أبعد شهرة وأكثر انتصارا في المبارزات من لذريق، أو سيدي القنبطور «كما كان يحلو لأحد قدامى المؤرخين أن يدعوه»، ومن السهل الهين أن نميز الصحيح مما شاع من الروايات عن ضروب شجاعة السيد وإقدامه التي امتلأ بها تاريخه العجيب.
وأكثر ما حبب السيد إلى نفوس القشتاليين، عزوفه عن طاعة الملك ألفونسو وإن عد ذلك مدون سيرته عيبا يحط من بطولته، فإن صاحب هذه السيرة أو المعين على جمعها وهو ألفونسو العالم لم يستطع أن يتجاوز عن صلف السيد وتحديه لسلفه ألفونسو السادس؛ لذلك نلحظ في ترجمة سوذي
1
لسيرة السيد - وهي غنية باستشهادات كثيرة من قصيدة السيد وغيرها - وقوفا مقصودا عن الاسترسال في الإطراء، وكبحا فجائيا لجماح الأناشيد والقصص الموغلة في الملق والمديح، وبهذه السيرة إسهاب كثير فيما لا يشرف السيد ، أو يربأ به عن المذمة، غير أنها تصور أخلاق البطولة الحقة بما فيها من خير وشر، وتعرض صورة شائقة عجيبة لهذا العصر المضطرب، ومثالا رائعا لهذا الفارس المعلم بين الفرسان الإسبانيين.
ولو قصدنا إلى سرد قصة السيد كاملة لملأنا بها مجلدا ضخما؛ لذلك نرى من الخير أن نقصر عنان القلم على اقتطاف بعض فقرات من سيرته.
ولسنا نعلم شيئا عن بطلنا في أيام صباه، والذي نعلمه عنه أن أول ورود لاسمه في التاريخ كان في سنة 1064 حينما فاز بلقب المبارز لانتصاره في مبارزة على أحد فرسان نافار، وأنه عين إثر ذلك قائدا لجنود قشتالة، وكان فوق العشرين بقليل، ثم نعلم أنه ساعد سانشو أمير قشتالة على قهر أخيه بمفاجأة فيها كثير من معاني الغدر والخيانة، وإن عدت من الحيل الحربية في هذا الزمن الجافي الخشن، وبعد أن قتل بليدو سانشو عند أسوار زمورة لحق السيد بخدمة خلفه، وهو ألفونسو نفسه الذي كان السيد سببا في نفيه بعد انتصار أخيه سانشو عليه، وقد أحسن ألفونسو أول الأمر لقاء فارس قشتالة المظفر في قصره، وزوجه بنت عمه، ولكن حساد السيد ملئوا صدر ألفونسو بالسخائم والحقد عليه، ولم يكن منه سليم دواعي الصدر، فنفاه من مملكته سنة 1081م/474ه، وتقص علينا سيرته ما أصابه بعد ذلك فتقول: «وبعث السيد إلى أصحابه وأقاربه وخدمه، وأخبرهم بما آل إليه حاله، وما كان من أمر الملك بنفيه، ثم سأل عمن يريد منهم أن يتبعه في منفاه، وعمن يريد منهم أن يقيم، فاتجه إليه الڨارڨانز «البرهانس» وهو من أبناء عمومته، قائلا: «إننا أيها السيد سنتبعك جميعا حيثما ذهبت، ولن نخفر لك عهدا، إننا سنسير معك في البدو وفي الحضر، وسنبذل في خدمتك بغالنا، وخيولنا، وأموالنا، وثيابنا إن شئت، وسنبقى لك أوفاء مخلصين مدى الحياة.» وأيد جميعهم مقالة الڨارڨانز فشكر لهم السيد عطفهم ومحبتهم ثم قال: إن الفلك يدور، وإن الأيام قد تمكنه من توفية جزائهم.
وعند رحيله أخذ يتلفت إلى داره فغلبه الدمع وصاح: هذا من عمل أعدائي، فالحمد لله على السراء والضراء، وزاد من شجونه أن رأى بهوه قفرا، وصناديقه مبعثرة، وأبوابه مفتحة، ومشاجبه ملقاة على الأرض، ومقاعد فناء الدار وقد رفعت، والقصور التي كانت تعلو قممها وقد طارت، ثم اتجه إلى الشرق وسجد وهو يتمتم: مريم، مريم، أيتها الأم المقدسة، ويا أيها القديسون جميعا، توسلوا إلى ربي أن يهب لي القوة لاستئصال الوثنيين، وأن يمنحني من غنائمهم ما يقدرني على مكافأة إخواني هؤلاء، ومكافأة كل من يتبعني ويعينني، ثم دعا الڨارڨانز؛ وقال له: يا ابن العم، إن الأمة المسكينة لم يكن لها يد فيما رزأنا به الملك، فاعمل على ألا يصاب أحد منها بسوء في أثناء الطريق، ثم دعا بفرسه، وكانت امرأة عجوز واقفة عند باب دارها، فمذ رأته أجهشت بالبكاء وقالت: ارحل على الطائر الميمون أيها السيد، وانهب من الغنائم ما شئت، وبعد سماع هذه الوصية الغالية، ركب جواده وقال: أيها الأصدقاء إننا سنعود بمشيئة الله إلى قشتالة متوجين بالشرف، فائزين بالغنم الكثير. وعند رحيلهم من بيڨار،
2
رأوا غرابا سانحا، فلما وصلوا إلى برغش رأوا غرابا بارحا.
ولما دخل برغش كان برفقته ستون رجلا، فهرع الرجال والنساء لمشاهدته عن بعد وهم حذرون، وأطل كثير من منافذ دورهم باكين محسورين، وصاحوا بصوت واحد: سبحان الله!! سبحان الله!! يا له من خادم كريم لو ظفر بسيد كريم!! وتمنوا أن يضيفوه في دورهم، ولكنهم لم يجرءوا؛ لأن ألفونسو في حدة غضبه أرسل رسائل إلى أهل برغش يحذرهم فيها من إيواء السيد، وينذر من يخالفه بمصادرة أمواله وسمل عينيه، واستولى الحزن والهم على النصارى حينما شاهدوا هذه المرزأة من بعيد، وأخذوا يختفون حينما قرب السيد منهم؛ لأنهم كانوا يحذرون مشافهته والقرب منه، فذهب السيد إلى «بوسادا» وهو الخان الذي كان ينزل به، فرأى صاحب الخان قد أسرع بإغلاق بابه خوفا من الملك، وعندما صاح رجاله بأبي المثوى أن يفتح الباب لم يجبهم أحد، فقرب السيد من الخان، وخلع قدمه من الركاب، وضرب الباب بها فلم يفتح؛ لأنه كان وثيق الغلق، وعندئذ خرجت فتاة صغيرة في التاسعة من إحدى الدور وقالت: أيها السيد، لقد نهانا الملك أن نؤويك فلم نستطع أن نفتح أبوابنا لاستقبالك، ولو فعلنا لفقدنا دورنا، وأموالنا، وأعيننا التي في رءوسنا، أيها السيد، إن مصيبتنا بإيوائك لن تساعدك، ولكن الله وجميع القديسين معك.
وعندما علم السيد بما أمر الملك به، لوى عنان جواده نحو كنيسة سنت ماري، وهناك ترجل وسجد، وصلى بقلب خافق يفيض رهبة وخشوعا، ثم ركب ثانية وغادر المدينة، حتى إذا كان غير بعيد من نهر أرلنسون عرس ودق أطنابه فوق الرمال؛ لأن أحدا لم يقبل أن يضيفه، فأقام بين أنصاره وصحبه كما لو كان مقيما بين الجبال التي خلت من دبيب الحياة.
وأذنت الديكة بأصواتها الندية، وبدت تباشير الصباح عندما وصل السيد إلى دير سنت بدرو، وكان إذ ذاك راهب الدير الدون سسبيوتو يؤدي صلاة الفجر، ومعه الدونة شيمانة زوج السيد في خمس من وصائفها النبيلات، يدعون الله والقديس بطرس أن يعين السيد ويشد أزره، فلما سمع الراهب صوت البطل لدى الباب كان سروره عظيما، فخرج هو ومن معه إليه يحملون المشاعل والشموع، وحمد الراهب الله أن متعه بلقائه، وأخذ السيد يقص عليه كل ما حدث له، وما رماه به الملك من النفي والاضطهاد، ثم منحه لنفسه خمسين دينارا، وأعطاه مائة دينار لزوجه وبنتيها وقال: أيها الراهب، إني أكل إلى رعايتك بنتي هاتين بعد أن أتركهما ورائي، فاخفض لهما جناح الرحمة، واعطف على زوجي ووصيفاتها، فإذا نفد هذا المال فأنفق عليهن سخيا مبسوط اليد، فإن كل دينار يصرف عليهم سيرد إلى الدير أربعة دنانير، فوعده الراهب بأنه سيفعل ما يؤمر بمشيئة الله، ثم تقدمت شيمانة إلى زوجها وهي تحمل طفلتيها، كل طفلة فوق ذراع، وجثت أمامه على ركبتيها وهي تبكي بكاء شديدا، وتومئ إلى يديه بالتقبيل، ثم قالت: انظر الآن كيف نبت بك بلادك وشمت بك الأعداء والحاسدون، وانظر الآن ما صار إليه أمري وأمر بنتي الصغيرتين، وكيف حكم علينا بالفراق ونحن أحياء؟! أقسم عليك بحق مريم إلا ما أخبرتني عما أفعل!! فحمل السيد طفلتيه فوق ذراعيه وضمهما إلى قلبه، وانتحب طويلا؛ لأنه كان شديد الحب لهما، وقال: إني سأحيا بمشيئة الله ومشيئة السيدة مريم حتى أزوج ابنتي هاتين، وحتى أقوم بشرف خدمتك أيتها الزوج النبيلة التي أحببتها كنفسي، وأقاموا في هذا الدير وليمة للبطل الكريم، وصدحت أجراس الدير برنات البهجة والسرور.
ومضت ستة أيام من المهلة التي منحها ألفونسو إياه لمغادرة البلاد، وبقي منها ثلاثة.
وكان ألفونسو صلب العود عنيدا، فلو أنه بقي في المملكة بعد انتهاء المهلة يوما واحدا ما استطاع أن ينقذه من براثنه ذهب ولا فضة، وفي هذا اليوم أولم مع أصحابه، ثم وزع عليهم في المساء كل ما يملك، فأعطى كل رجل على قدر منزلته، ثم أمرهم أن يتلاقوا بالدير عند صلاة الفجر ليرحلوا معا، وقبل أن يصيح الديك كانوا قد أخذوا أهبتهم واجتمعوا بالدير، فأدى بهم الراهب الصلاة حتى إذا انفتلوا منها أعدوا خيلهم للرحيل، وهنا أخذ السيد يعانق شيمانة وبنتيه ويدعو لهن، وكان فراقه لهن أشبه بنزع الظفر من لحم الأنامل، وعند مغادرة الدير طفق يبكي ويكثر من التلفت وترديد الزفرات، فقرب منه الڨارڨانز وقال: أين شجاعتك أيها السيد؟! لقد ولدت سعيد الطالع مجدودا!! فكر الآن في سفرنا، واعلم أن هذه الأحزان ستنقلب في يوم سعادة وسرورا.»
عرض السيد نفسه على أمير سرقسطة،
3
وكان أقوى ملوك المسلمين في الشمال، فرحب به وبرجاله وضمهم إلى جيشه.
ومن هناك قاد السيد أتباعه إلى غارة بأراغون، وكانوا قد شغفوا به ورأوا الغنم في متابعته، وكان سريع الضربة في هذه الغارة خفيف الخطا، حتى لقد قطع مسافات بعيدة في خمسة أيام، وفر بغنائمه قبل أن يشعر النصارى بمقدمه، ثم قاد العرب لمحاربة كونت برشلونة ففاز فوزا مبينا، حتى اضطر الكونت إلى محالفته.
وأعظم أعمال السيد تغلبه على بلنسية، وقصة ذلك: أن أمير سرقسطة ندبه لحماية أمير بلنسية، بعد أن اضطرب بها حبل السياسة وتفاقمت الأمور، فدخل المدينة أول ما دخلها مسالما، والسيرة تقول: «فذهب السيد إلى بلنسية، واستقبله الأمير يحيى بن ذي النون أحسن استقبال، وعقد معه ميثاقا تعهد فيه أن يمنحه كل أسبوع أربعة آلاف مرابطي
4
لقاء إخضاع أهل الحصن لطاعته حتى يؤدوا إليه الإتاوة التي كانوا يؤدونها لأسلافه من أمراء بلنسية، وعلى أن يحميه السيد من العرب والنصارى، وأن يتخذ بلنسية منزلا له ومقاما، وأن يجلب إليها ما يسطو عليه من الغنائم لبيعه بها، وأن يتخذ بها أهراءه، وقد دون هذا الميثاق حتى يكون حجة لكليهما، فأرسل السيد إلى من بالحصن يأمرهم أن يؤدوا الإتاوة إلى أمير بلنسية كما كانوا يفعلون من قبل، فقبلوا طائعين وتسابقوا إلى مرضاته.»
ومذ ظفر السيد بهذا المنصب شرع يقود جيوشه المظفرة إلى الممالك المصاقبة «فحارب دانية، وشاطبة، وقام بها في أثناء الشتاء مدمرا عاتيا فلم يدع حجرا على حجر من أريولة إلى شاطبة، وكان يبيع غنائمه وأسراه ببلنسية».
وفقد السيد سيطرته على بلنسية حينا من الدهر في أثناء هذه الحروب والغارات، ذلك أن ألفونسو سنة 1089م/482ه عاد فرضي عنه ومنحه حصونا وأقره على جميع ما استولى عليه في غزواته، وبهذا الإقرار أصبح السيد أميرا مستقلا، غير أنه لم يمض من الزمن إلا قليل حتى عاد الملك إلى الشك في أمره والأخذ فيه بالشبهة، فاقتنص فرصة غيبته بالشمال وأسرع فحاصر بلنسية، وحينما علم الكمبيدور بذلك اشتعل غضبا، ووجه انتقامه إلى مقاطعات ألفونسو، فدمر بالسيف والنار نافار، وقلهرة، وترك حصن لوكرني دكا، وجاء في بعض المدونات اللاتينية القديمة: «وعاث في الأرض جبارا نهابا ثم غادرها قفرا يبابا، بعد أن احتجن خيراتها.» فاضطر ألفونسو إلى رفع الحصار عن بلنسية، وعاد مسرعا لإنقاذ مملكته، ولكن السيد بعد أن نال مأربه من غزو ممالك ألفونسو سلك سبيلا أخرى إلى بلنسية، فوجد أبوابها مغلقة دونه.
ومن ذلك الحين ابتدأ ذلك الحصار التاريخي الذي لبث تسعة أشهر، لاقى فيها أهل بلنسية الشدائد والمحن، فاشتد بهم الجوع والظمأ، كل هذا والسيد ورجاله محيطون بأسوارهم بقلوب أشد صلابة من هذه الأسوار، لم تنفذ إليها الرحمة، ولم تعرف في الحرب لينا ولا رفقا، وآض أهل بلنسية في هذا الحصار القاتل أشباحا هزيلة خائرة القوى، أخذ منها السغب وأنهكتها المخمصة، وكان إذا وثب أحدهم من السور أو ألقاه أهل المدينة لأنه لا غناء فيه ولا معونة عنده، تلقفته سيوف أتباع السيد، أو أبقت عليه فبيع كما تباع العبيد، ويقول مؤرخو العرب: إن السيد أحرق كثيرا من هؤلاء أحياء، وتوجز سيرته في وصف هذا الحصار فتقول: «ولم يبق بالمدينة طعام يباع، وأصبح الناس بها يترنحون بين أمواج الموت، وكثير منهم من سقط في الطرق ميتا.»
وسلمت المدينة في يونيه سنة 1094م/487ه حين يئست من المقاومة، وحين لم يبق لها في قوس الصبر منزع، ووقف السيد مرة أخرى فوق حصونها وأسوارها مؤزرا منتصرا، ثم أملى على أهل بلنسية شروطا قاسية، وطرد كثيرا منهم من المدينة لتخلو أمكنتهم للقشتاليين، وفي الحق إن السيد كان جافيا في معاملة المغلوبين أشد الجفوة ناكثا بعهده،
5
ولكنه لم يدنس انتصاره بحصد الأرواح وذبح من في المدينة كما كان يفعل كثير في هذا الزمان، نعم، إن من السكان من فقدوا ما يملكون، ولكنهم جميعا نجوا بحياتهم، ولم يقتل إلا قوادهم، وأرسل السيد يستقدم زوجه وبنتيه من الدير، ودعا بنفسه ملكا على بلنسية، وحاميا للممالك حولها، وضرب إتاوات فادحة على جيرانه حتى بلغ دخله في السنة من بلنسية وحدها مائة وعشرين ألف دينار، ووصل إلى عشرة آلاف من ابن رزين صاحب السهلة، ومثلها من أمير البنت، والى ستة آلاف من أمير مربيطر، وهكذا.
وخيلت له الأحلام أن يسترد الأندلس كلها؛ فقد قال: إن لذريق خسر إسبانيا وسيعيدها لذريق آخر، وحين حاربه المرابطون شتت جموعهم، وبدد شملهم في معركة حامية.
ولكن الحظوظ تتقلب في الحروب، وكما تكون الأيام لك تكون عليك؛ فقد هزم المرابطون جنود السيد في النهاية، فمات حزنا وغما في يوليه سنة 1099م/493ه وحين مات حنطوا جثته وأقاموا بجانبها حراسا، ثم أنفذوا ما أوصى به - كما تقول الأشعار القصصية - فأقعدوه على جواده الكريم بابيكا، وأحكموا شدة السرج، فجلس عليه معتدل القامة، لم يظهر بوجهه أثر الموت، وقد أبرقت عيناه الشهلاوان، وأرسلت لحيته إلى صدره، وقبضت يده على سيفه الأمين «تيزونة» فبدا كأنه حي لا يتطرق في ذلك شك لرائيه، ثم أخذوا بلجام فرسه وخرجوا من المدينة يتقدمهم بيرو برميودز وهو يحمل علم السيد ومعه خمسمائة فارس لحراسته، وسارت خلفه شيمانة في صويحباتها وحاشيتها، فأخذوا طريقهم بين العرب المحاصرين للمدينة، ويمموا شطر قشتالة، وتركوا العرب في دهشة وعجب من هذا الرحيل الغريب؛ لأنه لم يخطر لهم ببال أن السيد ميت لا يرجى.
ولما وصلوا إلى دير سانت بدور، أجلسوا السيد على كرسي من العاج إلى جانب المذبح تحت ظلة وضعوا فوقها رنوك قشتالة، وليون، ونافار، وأراغون، ورنك الكمبيدور نفسه، وبقي السيد نفسه جالسا إلى جانب المذبح عشر سنين، كان وجهه في أثنائها هادئا نبيلا، حتى إذا تغلبت آثار الموت على الصناعة والتحنيط دفنوه أمام المذبح، وأبقوه في قبره جالسا كما كان على الكرسي العاجي، مرتديا ملابسه الملكية وسيفه تيزونة في يده، ولا تزال درقة السيد المحفورة بالزخارف وعلم انتصاره معلقين على قبره يفيضان أسى وحزنا.
هوامش
مملكة غرناطة
أصبحت عودة إسبانيا إلى حكم المسيحيين وفيهم من الجنود أمثال السيد، ومن الملوك أشباه فرديناند وألفونسو - أمرا متوقعا بين يدي الزمان.
ومن الجلي أن لكل أمة ميقاتا، وأن لكل دولة عهد نمو ثم عهد ازدهار، يتبعهما الذبول والهرم والانحلال، وكما سقطت دولة الإغريق، وكما سقطت رومة، وكما سقطت كل مملكة قديمة شهدت الدنيا نهوضها وقوتها - سقط العرب في إسبانيا وشالت نعامتهم بعد أن دنا أجلهم وحان حينهم، فقد ذهبت ريحهم، وتفاقم الخلاف وزادت الجفوة بين أمرائهم قبل أن يتملكهم المرابطون، ثم إنهم لم يكونوا أحسن حالا حينما دالت دولة المرابطين، فما كاد هؤلاء يغادرون الأندلس حتى ظهر في الميدان عدو جديد، ذلك أن الموحدين الذين تلوا عرش المرابطين بإفريقية راق لهم أن يحاكوهم في ضم الأندلس إلى ملكهم، وذلل أمامهم السبيل ما شجر من النزاع بين أمراء هذه المملكة المنكودة التي طال على تمزقها الأمد ، فأخذ الموحدون الجزيرة الخضراء سنة 1145م/541ه، وفي سنة 1146م/542ه نزلوا بإشبيلية ومالقة، وبعد أربع سنوات أصبحت قرطبة وبقية القسم الجنوبي من إسبانيا تحت رايتهم، وامتنع عليهم بعض الأمراء أول الأمر، ولكن الموحدين كانوا أعظم قوة وأشد بأسا من أن يقف في وجوههم أمير أو زعيم.
ولم يفكر الموحدون في أن يجعلوا من الأندلس قاعدة لملكهم، بل لبثوا بإفريقية وأرسلوا من حضرتهم نوابا يقومون بالأمر فيها، وكان من أثر ذلك أن ضعفت قبضتهم على الأندلس، وزلزلت أقدامهم فيها، فإن من الصعب العسير أن تضبط ولايات مضطربة متنازعة كولايات الأندلس بنواب يرسلون من مراكش، أو ببعوث الجند ترسل بين الحين والحين لصد كرات الأعداء، نعم، إن الموحدين قويت شوكتهم أول الأمر حينما قدموا إلى الأندلس بعدتهم وعديدهم، فانتصروا انتصارا مؤزرا في سنة 1195م/591ه بموقعة الأرك بالقرب من بطليوس، وقتلوا آلافا من أعدائهم، وظفروا بغنائم يخطئها العد، ولكن الحظ وهو متقلب ملول، لوى عنهم وجهه في موقعة العقاب المشئومة سنة 1212م/609ه التي قضت على ملكهم بالأندلس، فقد كان جيشهم ستمائة ألف مقاتل، لم ينج منهم إلا عدد قليل فر لينبئ بهزيمتهم ودحرهم، وسقطت مدينة إثر مدينة في أيدي المسيحيين، وضاعف كارثة الموحدين ما كان من الشغب بين قبائل البربر بإفريقية، وما توالى من وثبات المنافسين لهم فيها، فتبددت قوتهم، وطمع فيهم أمراء الأندلس الذين سئموا حكمهم المتزمت العنيف، فأزاحوهم عن الأندلس في سنة 1235م/633ه وأعلن ابن هود نفسه حاكما لأكثر بلاد الجنوب، وتملك سبتة بإفريقية، وحين قضى نحبه في سنة 1238م/636ه تحول حكم الأندلس إلى بني نصر أمراء غرناطة.
وكانت مملكة غرناطة بقية ما ملك العرب بإسبانيا بعد أن تمزقت أشلاء مملكتهم، ووقع أكثر المدن بأيدي المسيحيين، فبين سنة 1238م/636ه و1260م/658ه فتح فرديناند الثالث ملك قشتالة وجايم الأول ملك أراغون مدن: بلنسية،
1
وقرطبة، وإشبيلية، ومرسية، وأصبح حكم العرب محصورا في مقاطعة غرناطة، وهي الرقعة بين جبال نيفادا
2
وساحل البحر من المرية إلى جبل طارق، وقدر للعرب بعد هذه الفتوح أن يستمر حكمهم بغرناطة قرنين ونصف قرن.
وكان للعرب جيش ومنعة في هذه البقعة التي أحاط بها أعداؤهم من كل جانب، فإن الجنود الأشداء الذين فروا من المدن بعد استيلاء النصارى عليها هرعوا إلى الملك الباقي من ملوك المسلمين ليقدموا سيوفهم وسواعدهم لخدمته، وقد قيل إن خمسين ألفا من العرب قدموا على سلطان غرناطة من بلنسية، وشريش، وقادس، ومع كل هذه القوة وهذا السلطان كانت غرناطة تومئ لملك قشتالة بالطاعة، وتؤدي إليه الإتاوة كل عام، وكان منشئ دولة بني نصر عربيا يدعى ابن الأحمر
3
لشقرة فيه، وكان شديد المراس قوي الأسر، غير أنه لم يستطع الوقوف في وجه النصارى؛ لأن إسبانيا كلها إلا قليلا أصبحت في أيديهم، فخضع ابن الأحمر مرغما لهم، وأدى الإتاوة لفرديناند، ثم لابنه ألفونسو «العالم» وإن حاول مرات أن يخلع نيرهم ويتحدى قوتهم، وفي غضون هذه الفترة ترك ملوك المسيحية غرناطة وشأنها؛ لأنهم شغلوا بتوطيد دعائم الملك فيما فتحوه من البلاد، وبمكافحة كل دعي في الملك دخيل.
وطالما حاول العرب في حروب متعاقبة أن يتغلبوا على المسيحيين ويتفلتوا من أيديهم، ولكنهم قنعوا في النهاية بالمنزلة التي وضعهم فيها القدر، وكانت الإتاوة التي يؤديها محمد العاشر إلى المسيحيين لصيانة مملكته في سنة 1463م/868ه اثني عشر ألف دوكات.
4
وكانت لغرناطة منزلة قرطبة في إنهاض الآداب والعلوم في أثناء هذا الهدوء السياسي، فكان لبنائيها ومهندسيها شهرة ذائعة في أرجاء أوربا، فهم الذين بنوا الحمراء التي دعيت بهذا الاسم للون التربة التي أنشئت عليها، وهم الذين موهوا حيطانها بالزخرف الذهبي البديع، وزينوها بالأشكال المصبوبة ذات الهندسة العربية الفائقة التي لا تزال إلى اليوم موضع عجب الفنانين وإعجابهم في أنحاء العالم،
5
وتعد غرناطة نفسها ببرجيها السامقين لؤلؤة في جيد الزمان؛ فقد بنيت عند نهاية المرج الممرع وفي سفح جبال القمر المتوجة بالثلوج (جبال نيفادا).
وإذا أطل المرء من إحدى قمم غرناطة أو الحمراء، التي تقف دبدبانا في نهاية المرج كما يقف الأكروبول في أثينا،
6
وسرح نظره في فضاء المرج الأفيح
7
وقد تعانقت أشجاره، وتبسمت أزهاره - رأى من الجداول والكروم والبساتين وغياض البرتقال ما يملأ النفس سرورا وبهجة، وفي الحق إن غرناطة تفضل كل مدينة بالأندلس في جمال مناظرها واعتدال جوها، فإن النسيم الذي يهب عليها من الجبال الثلجية يجعل أشد أيام القيظ فيها من أجمل الأيام وألطفها، أما تربتها، فمنقطعة النظير في الخصب وقوة الإنبات، وقد أنشئ قصر الحمراء فوق شرف من الأرض تحيط به قمم عالية صعبة المنحدر، تتدفق في سفحها الشمالي أمواه نهر حدرو
8 (درو) وقد حصن القصر بأسوار غطيت بالمرمر، وشدت عند كل مسافة بحصون تشرف عليه، وتشبه الرقعة التي قامت عليها الحمراء سن رمح دقيقة الطرف عريضة الجانبين، يبلغ طولها نصف ميل من الشرق إلى الغرب.
9
ويمر الزائر من فناء الحمراء بقبة ضخمة برتقالية اللون، تضرب إلى الحمرة فينتهي إلى باب دار العدل؛ حيث كان يجلس السلاطين للفصل بين الناس
10
كما كان يفعل قضاة اليهود، وهناك على قوس من البناء لها شكل حذاء الفرس، ترتفع إلى نحو ثمان وعشرين قدما - صورتان نحتتا في صخرتين عظيمتين، إحداهما لمفتاح رمزي، والأخرى ليد ضخمة مرفوعة إلى السماء
11
فإذا اجتاز الداخل هذا الباب وصل إلى فناء مربع، فرأى إلى أحد جوانبه القصر الذي هم بإنشائه شارل الخامس ولم يتمه، ثم يمر بالطريق الموصلة إلى الحمراء، فيرى بعض أطلالها، وينتهي إلى ساحة تسمى (ساحة الريحان) لكثرة ما بها من هذا النبات، ويخرج من هذه الساحة ممر ضيق يوصل إلى فناء البركة، وطوله مائة وأربعون قدما وعرضه نصف ذلك، وبه بركة من الرخام تتألق فوقها الشمس، بها كثير من السمك ذي الألوان، وتزين جوانب هذا الفناء أعمدة ومشارف نادرة الصنعة، ويظهر إلى الشمال منه حصن «قمارش» تياها مخترقا الأفق، ويرفرف السكون والهدوء على هذا الفناء، حتى إن المرء لا يكاد يسمع فيه للماء خريرا وهو منطلق إلى البركة، وما أجمل تألق السمك الذهبي الكثير العدد بالبركة إذا واجهته أشعة الشمس!! وما أروح أن يحس المرء فيه بأنه في عزلة عن الدنيا!! فإن أثرا من آثار الحياة الصاخبة لا يصل إليه؛ إذ كل ما حوله هدوء مطلق لا يبعث في النفس الملالة، فهو طلل صامت رزين هادئ، يصور الموت والدمار، ولن يستطيع المرء وهو يراه إلا أن يشعر بالعطف والإكبار والحب لبناة هذا القصر الأولين.
فإذا مررنا من فناء البركة أو القاعة الزورقية إلى بهو الرسل (السفراء) تخيلنا أيام ازدهار دولة المسلمين، وكدنا نبصر في صدرها خليفة الأمويين جالسا على عرشه في عظمته وجلاله.
فإذا أشرفنا من النافذة المطلة على سهل حدرو ذكرنا كيف أن عائشة زوج السلطان أبي الحسن أدلت منها ابنها أبا عبد الله محمدا في زنبيل منذ خمسة قرون، وكيف أن شارل الخامس قال مرة وهو مشرف منها: «ما أشقى من يفقد كل هذا!»
وفي أثناء بحثنا عن التخطيط المشتبك المعقد لهذه الأطلال، نجد أنفسنا في مخدع الملكة الذي تطل نوافذه على المرج الفسيح الفياح، فتعود بنا الذكرى إلى العهد القديم وما كان فيه من بلهنية ونعيم ورفه؛ لأننا نرى بين صفوف المرمر الذي رصفت به أرض المخدع شقوقا وفروجا بالقرب من مدخله، يحدثنا القصاصون عنها أن البخور وأنواع الطيب كانت تحرق تحت المخدع، فينفذ إليه شذاها من هذه الشقوق، فتتعطر أرجاؤه، وإذا أطللنا من إحدى نوافذه، رأينا بستان «لينداراجا» ورأينا بالقرب منه حمامات السلاطين المدلة بنحتها الرائع ورسومها العبقرية، وزليجها الجميل.
وبهذه الحمامات فوارة كان يسيل منها الماء في صوت إيقاعي كأنه يحاول الانسجام مع رنات الموسيقى التي كانت تهبط من المشارف، وقد جلس بها القيان يغنين ويعزفن لسيدات القصر، وهن ينعمن بالاستحمام، أو يضطجعن على الأرائك الذهبية، وقد نقر كل مستحم في صخرة عظيمة من المرمر، ووضع في غرفة سقفها من الزجاج المزين بالتهاويل، بينها صور من نجوم وورود ينفذ النور من خلالها.
وقد يكون بهو السباع أشهر جزء وأبدعه في هذا القصر، وإن كان أقل اتساعا من ساحة الريحان، وبهذا البهو مائة وثمانية وعشرون عمودا من المرمر، وضعت أجمل وضع، ونسقت أبدع تنسيق باجتماع كل ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، وفوق هذه الأعمدة صفف ليست سامقة الارتفاع، والبهو غني بروائع الفن ، مليء بنوادره.
ومن هذا البهو يصل الزائر من باب أبدعت الصناعة رسمه وزخرفه إلى قاعة بني سراج، سميت بذلك؛ لأن السلطان أبا عبد الله أمر بذبح بني سراج بها
12
ولا نزال اليوم نرى على أرضها نقطا من الدم، يزعم بعض الناس أنها بقية ما سال من دمائهم.
ولن يتسع لنا الوقت إذا حاولنا مشاهدة جميع قاعات هذا القصر الفخم وأبهائه، وخير لنا أن نتجه الآن إلى قصر آخر، يسمى بجنة العريف، وهو جوسق القصر الأكبر، يصور ظاهره بساطة الفن الشرقي، وقد أصابه الآن الدمار، وحطمته يد الدهر والإنسان، حتى إن نقوشه العربية الدقيقة شوهت بما لطختها به يد الجهل من طبقات الملاط، واختفت تماثيله المنحوتة وتولى جماله، وزالت نضارته منذ حين.
لم يكن يتوقع العرب والمملكة المسيحية القوية على مرمى سهم منهم، أن يعيشوا أكثر من قرنين في رفاغة من العيش وقد همست في آذانهم النذر، وأحسوا قرب زوالهم في الربع الثالث من القرن الخامس عشر، وكان اتحاد أراغون وقشتالة بتزويج فرديناند بإيزابلا أول ناعق بالفناء، وكان يحكم غرناطة في هذا الحين مولاي علي أبو الحسن، وكان من أشجع الشجعان قوة وجرأة، فصمم على أن يسبق مكايدهما، وأن يناجزهما الحرب، وكانت بداءة الشر أن أبى أن يؤدي إليهما الإتاوة، حتى إذا وصل إلى حضرته رسول فرديناند يلح في طلبها وينذر ويوعد، أجابه أبو الحسن في صلف وكبرياء: «قل لمولاك إن سلاطين غرناطة الذين اعتادوا أداء الإتاوات قد ماتوا، وإن دار الضرب بغرناطة لا تطبع الآن غير السيوف.» ثم أرسل غارة شعواء على المسيحيين بقامة الصخرة ليعزز قوله بالعمل.
وقد قص علينا الكاتب الأمريكي الموهوب واشنطون إيرفنج،
13
عنف هذه الغارة في كتابه «آخر حروب العرب بإسبانيا» فقال:
في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وألف من الميلاد (886ه) دهم أهل الصخرة بياتا وهم نائمون، وكان حارس القلعة قد هجر مكانه منها، والتجأ إلى كن يقيه العواصف والأنواء التي اشتد غضبها، وثارت ثورتها منذ ثلاث ليال متعاقبة، وقر في نفسه أن أحدا من الأعداء لن يخرج في مثل هذه الليلة الليلاء، وغاب عنه أن أرواح الشر أكثر ما تعمل في ظلام الليالي العاصفة، وفي منتصف الليل ارتفع الضجيج في المدينة، فكان أشد إرهابا من صخب الأنواء، وصاح الإسبان مذعورين: العرب العرب، وسرت أصواتهم في كل ناحية من المدينة ممتزجة بصليل السيوف وأنين القتلى وصيحات الظفر والانتصار، وخيل إلى أهل المدينة وقد شدههم الذعر، أن شياطين الليل طارت إليهم على أجنحة الريح وسلبتهم حصونهم ومعاقلهم، وارتفعت صيحات القتال من كل مكان، نداء يرجع نداء، وصوت يردد صوتا، هذا من فوق، وهذا من تحت، وهذا من معاقل القلعة، وهذا من طرق المدينة، نعم، كان العرب في كل مكان وقد لفهم الظلام وسترتهم الأنواء، غير أنهم مع كل هذا كانوا يعملون متعاونين على نظام دقيق وخطة محكمة، وباغت جنود أبي الحسن حراس الصخرة بعد أن هبوا من نومهم، فطارت نفوسهم شعاعا، وأناخ عليهم العرب فاستأصلوهم قبل أن يغادروا ثكناتهم، وبعد فترة قصيرة انتهى الصدام والقتال، والتجأ من نجا من أهل المدينة إلى مخابئ دورهم، أو ذهب إلى الأعداء راضيا بالذل والإسار، وسكنت السيوف في أغمادها وسكت صليلها، ولكن العواصف ما زالت تزأر وتصخب مختلطة بأصوات العرب الذين خرجوا هائمين يبحثون عن الغنائم والأسلاب، وبينما كان السكان يرتعدون فرقا مما سيصيبهم، إذا صوت بوق يدوي في أرجاء المدينة داعيا إياهم أن يجتمعوا عزلا في الميدان الكبير، وهنالك أحاط بهم الجند لحراستهم حتى الصباح، وكان مما يثير الحزن والأسى أن ترى - وقد انبثق الفجر - هذه الجموع الحاشدة التي كانت تعيش في ترف ونعيم وقد اختلط حابلهم بنابلهم وشيوخهم بأطفالهم، ونساؤهم برجالهم، وأغنياؤهم بفقرائهم، وليس على أجسامهم ما يقيهم قارس البرد وعاصف الأنواء، وزاد الضجيج وارتفعت أصوات التوسل والرجاء، ولكن مولاي أبا الحسن القاسي سد أذنيه وأغلق قلبه دون العطف والرحمة، وأمر بهم أن يساقوا جميعا إلى غرناطة كما يساق العبيد، وأبقى بالمدينة والقلعة حراسا أشداء، وأمرهم أن يتيقظوا لكل طارق، ثم قفل إلى غرناطة والانتصار ينفخ خياشيمه كبرا وزهوا، ودخلها على رأس جنده ومعهم الغنائم والأسلاب، والبيارق والأعلام، وفي أثناء ما أقيم من الولائم والأفراح لهذا الفتح المبين، قدم أسرى الصخرة من الرجال والنساء والأطفال وقد نهكهم التعب، وأكل قلوبهم اليأس، فدخلوا المدينة كما يدخلها قطيع من البقر قد لفه الليل بسواق حطم.
وبهت أهل غرناطة وذعروا وتألموا لقسوة أبي الحسن، وشعر عقلاؤهم بسوء مغبة هذا التهور وسموه: بداية النهاية، وصاحوا: «ويل لغرناطة! ويل لها! لقد دنت ساعتها، وستقع أنقاض الصخرة فوق رءوسنا.»
ولم يكن الانتقام بعيدا؛ فقد استولى بعد قليل مركيز قادس على حصن الحمة غيلة، وبهذا الاستيلاء تمكن النصارى من وضع حامية قوية في قلب بلاد المسلمين، وعلى مسافة قصيرة من غرناطة نفسها، وكم حاول أبو الحسن أن يسترد هذا الحصن فلم يفلح؛ لأن من به من الجنود أظهروا شجاعة نادرة المثال، وصبروا وصابروا حتى جاءهم المدد، وأدركتهم النجدة، وارتفع الصياح بغرناطة: «ويل للحمة!! لقد سقطت الحمة وأصبح مفتاح غرناطة اليوم في أيدي الكفار.»
ومن ذلك الحين أصبح هذا الحصن شوكة في جنوب ملوك العرب، فمنه خرج كونت تنديلة وعاث في المرج، وأكثر فيه الفساد.
حفز الانتصار كلا الفريقين من المسلمين والنصارى إلى شن الغارات التي لم يكن لها من أثر إلا التخريب وإثارة الأحقاد، وصمم النصارى آخر الأمر على أن يذيقوا العرب النكال، ويدهموهم بجيش جرار، فعزموا على غزو ولاية مالقة، وجمعوا كتائبهم بزعامة مركيز قادس وغيره من كبار القواد، ثم زحفوا على العرب بهذا الجيش المشئوم،
14 «وخرج الجيش مزهوا بأبطاله المدججين من أبواب أنتقيرة
15
يوم الأربعاء، فمشى جنوده ليلة بنهارها في شعاب الجبال مبالغين في إخفاء أنفسهم حتى يأخذوا العرب بغتة.
ولم يصلوا إلى الطريق الذي كانوا يقصدون العيث والإفساد فيه إلا في اليوم التالي وكان شعبا ممتدا في أملاك العرب بالقرب من ساحل بحر الروم، وفي هذا الشعب لاقوا من الأهوال والفوادح ما يعجز عنه الوصف، فساروا فيه يستحثون الخطا بين الجبال العابسة السامقة والأوعار والأخناق.
وطالما اعترض طريقهم مهاو عميقة، وأودية صلدة بعيدة الغور قليلة الماء بين صخور تريد أن تنقض، وصخور أسقطتها عواصف الخريف، فعز اجتيازها، وقد يمشون ساعات طويلة في أخاديد، أو في مجرى جاف حفره السيل بين الجبال، وغمره بالحصا والأحجار، وكانت تغطي هذه المهاوي وتلك الأخاديد قمم عزيزة المرتقى صعبة المنحدر، جعلت من هذا المكان مخبأ صالحا، كان يكمن فيه الجنود في أثناء الحروب بين العرب والمسيحيين، ثم أصبح بعد ذلك وكرا للصوص يثبون منه على المسافرين.
وعند غروب الشمس بلغ الفرسان قمة بعض الجبال، ونظروا إلى ميامينهم فرأوا عن بعد قسما من مرج مالقة الوسيم وقد ظهر من ورائه بحر الروم، فاشتد فرحهم حتى كأنهم بقية من قوم موسى، ظفروا بعد أين بنظرة إلى أرض الميعاد بعد الفرقة والشتات، وحين اعتكر الظلام وصلوا إلى بعض الأودية والدساكر التي أطبقت عليها الجبال، ويسمي العرب هذه البقعة بشرقية مالقة، وفيها كتب لآمالهم أن تخيب، ولجيشهم أن يتمزق؛ فإن العرب لما علموا بقربهم ساقوا بقرهم، وحملوا أمتعتهم، والتجئوا بزوجاتهم وأولادهم إلى قلل الجبال ومعاقلها.
واشتد غضب النصارى، وانصرفوا مسرعين طامعين في أن يقعوا في الطريق على غنم أعظم وأوفر، وأرسل الدون ألونزو آل أغيلار وغيره من القواد جنودهم، فعاثوا فيما حولهم من الأرض، ودمروا ما شاء غيظهم أن يدمروا، واستلبوا بعض البقر من زراع العرب في أثناء فرارهم، وبينما كان هذا الفريق يعيث ويدمر ويشعل النار في الدساكر فتنير الجبال، أمر صاحب سنتياغو - وكان يقود ساقة الجيش - أن يجتمع الفرسان صفوفا ليكونوا على استعداد إذا صاحت بهم صائحة.
وحاول بعض فرسان هذه الإخوة الدينية أن يهيموا في الأودية لاقتناص الغنائم، فدعاهم وزجرهم.
ثم قادهم سوء الطالع إلى شعب في الجبل تقطعه الهوات والأخاديد البعيدة العمق، وتغطيه القمم، فكان مستحيلا أن يحتفظ فيه الجيش بنظامه، وضاق مجال الخيل عن المسير فخرجت عن طوع فوارسها، وكانت تتسلق من صخرة إلى صخرة، وتنزل غورا وتصعد في نجد، وتنقل سنابكها في مكان يضيق بفرسن الوعل، وحينما مروا بإحدى القرى كشفت لهم أضواؤها ما صاروا إليه من سوء الحال، وتفاقم الخطب، ووعورة الطريق، وهنا بصر بهم العرب الذين كانوا قد سبقوهم إلى معاقلهم الممعنة في الارتفاع، ورأوا الفخ الذي سقطوا فيه، فصاحوا جذلين مستبشرين ونزلوا من حصونهم، وربضوا فوق قمم الجبال التي تشرف على الهوات التي ارتطم فيها المسيحيون، وأخذوا يصبون عليهم وابلا من السهام والأحجار.
وأطبق الليل بظلامه الدامس مرة أخرى على المسيحيين وهم محبوسون في واد ضيق يخترقه جدول عميق، وتحيط به الحبال الذاهبة في السحاب وقد اشتعلت فوقها نيران الدعوة إلى الجهاد، وبينما هم في هذه الحال من اليأس، إذا صيحات مزعجة يتردد صداها في جنبات الوادي: الزغل الزغل!! فسأل صاحب سنتياغو: ما هذه الصيحات؟! فأجابه جندي قديم: هذه صيحات الزغل قائد العرب، وهي تدل على قدومه بجيشه من مالقة، فالتفت صاحب سنتياغو إلى فرسانه وقال: فلنمت ممهدين الطريق بقلوبنا بعد أن عجزنا عن تمهيدها بسيوفنا، ولنخترق الجبال إلى الأعداء، ولأن نبيع أنفسنا هنا غالية، خير من أن نذبح مستسلمين، وما كاد يتم قولته حتى لوى عنانه وهمز فرسه متسلقا الجبل يتبعه المشاة والفرسان، وقد وقر في نفوسهم أنهم إذا لم يستطيعوا الفرار فلا أقل من أن ينالوا من أعدائهم بعض منال، وبينما هم يتسلقون إذ دهمهم من العرب سيل من السهام والحجارة، وكثيرا ما كانت الصخرة تهوي على جموعهم كالرعد القاصف فتمزقهم تمزيقا.
وكان يطمح صاحب سنتياغو أن يجمع شمل مشاته، وأن يهجم بهم على الأعداء، ولكن قومه من حوله ألحوا في رجائه أن يربأ بنفسه عن التلف، وقالوا له فيما قالوا: إن في بقائك بين براثن هؤلاء الأعداء موتا محققا لا يدفع بسيف، ولا ينفع فيه الإقدام، وإن في فرارك إبقاء على حياة قد تنال في يوم أمنية الانتقام، فخضع القائد بعد لأي لنصحهم وقال: اللهم إني أفر من غضبك لا من هؤلاء الكفار، فإنهم لم يكونوا إلا آلة في يدك أردت أن تطهرنا بها من ذنوبنا، ثم دعا بالأدلاء أن يتقدموه، ونخس جواده فوثب فوق أخاديد الجبل قبل أن يدركه العرب ، ورآه جنوده فتفرقوا أيدي سبأ، واقتفى بعضهم آثاره ولكنهم ضلوا الطريق وأخذتهم الحيرة بين شعاب الجبال المضللة، فذهبوا هنا، ثم ذهبوا هناك، ومات فريق منهم في الطريق، وذبح العرب فريقا وأسروا فريقا.»
16
ولم ينس المسيحيون وشيكا هذه الويلات، ويلات جبال مالقة، فكانوا يتحرقون للانتقام، وقد ظفروا بثأرهم وشفوا غلتهم، وفازوا بانتصار باهر حينما شن أبو عبد الله على بلادهم غارة شعواء، وكان في ذلك الحين قد اغتصب ملك غرناطة من أبيه، فزحف بجنوده خفية مدرعا الليل، ولكن النصارى علموا بهذا الزحف، فأشعلوا النيران في قمم التلال للاستغاثة، وقد تنبه كونت قبرة لهذه النيران، وجمع زعماء قومه وأتباعه فعثروا على العرب بالقرب من لشانة، وتربصوا لهم في غابة هناك، ثم سقطوا عليهم فهزموهم شر هزيمة، وحينما دخل فلول الفارين أبواب غرناطة، تعاظم الأمر أهلها فبكى الباكون، وندب النادبون قائلين: «غرناطة يا أجمل المدن!! أين ذهب جمالك وجلالك؟! لقد دفنت زهرات مجدك في أرض الأعداء، فلن يتردد في بطحاء الرملة بعد اليوم صدى سنابك الخيل، ولا صيحات الأبواق، ولن يزدحم فضاؤها بعد اليوم بشبابك النبلاء، وهم يستعدون للمبارزة والجلاد.
غرناطة يا أجمل المدن!! لن تسري بعد اليوم نغمات العود الناعمة في شوارعك المقمرة، ولن تسمع ألحان العشاق تحت قصورك العالية، وستخرس دقات الصنوج المرحة فوق تلالك الخصيبة، وستقف رقصات الزمبرة الجميلة تحت عرائشك الوريفة.
غرناطة يا أجمل المدن!! لم أقفرت الحمراء من أهلها وأصبحت يبابا؟! إن الريحان وأزهار البرتقال لا تزال ترسل أريجها بين غرفها وفراشها الوثير!! ولا تزال البلابل تصدح في مروجها الفيح، ولا تزال أعمدة أبهائها تنتعش برشاش الفوارات يتساقط عليها، وتنعم بخرير أمواهها كأنه صوت أم تدلل أطفالها، واحسرتاه!! لن نشهد بعد اليوم طلعة السلطان مشرقة بين أبهائها؛ لأن نور الحمراء أطفئ إلى الأبد.»
قبض على أبي عبد الله في هذه الموقعة، وأرسل أسيرا إلى قرطبة، وانقض فرديناند على المرج يعيث فيه فسادا، بينما كان مولاي أبو الحسن - وقد عاد إلى ملكه - شيخا هما يحرق الأرم غيظا من وراء أسواره.
هوامش
سقوط غرناطة
كان أسر أبي عبد الله ضربة قاصمة لحكم المسلمين بالأندلس، ولم يكن أبو عبد الله نفسه بالرجل الذي يؤبه له - وإن كان شجاعا مقداما - لأنه كان ضعيف الرأي، كثير التردد، شديد الوساوس والتطير، وزاده خبالا أن استقر في نفسه أن الدهر يعكس آماله، وأن القدر يحاربه، فكان يندب دائما سوء طالعه ونحس نجمه، وعرف الناس فيه ذلك فنبزوه «بالشقيتو» أي الشقي، وبالزغيبي، وكثيرا ما كان يقول وهو يرى آماله تئيض رمادا: لقد كتب في لوح القدر أن أكون مشئوم الطالع، وأن يكون زوال هذه المملكة على يدي.
1
وكان من الهين على النصارى أن يطلقوا سراح أبي عبد الله؛ فقد كان فسلا مسلوب القوة، ولكنهم رأوا أنه على ضعفه قد يكون أداة شديدة الخطر في أيدي آخرين، وقد صدقت الحوادث ظنونهم، فإن خضوع أبي عبد الله لفرديناند وبقاءه في قبضته كان من أسباب سقوط دولة المسلمين بالأندلس، وحينما وصل إلى قرطبة استقبله الملكان الكاثوليكيان أحسن استقبال، وما زالا يأخذانه بضروب الإغراء الخبيثة، ويشرحان له سوء أمره، ويظهران له قوة بطشهما وعظمة ملكهما حتى ذل عنقه وأصبح آلة في أيديهما، وخادما لهما أمينا، وبعد أن وثقا منه طلبا إليه أن يعود إلى غرناطة حيث يتحصن أبوه أبو الحسن بقلاع الحمراء، فدخلها أبو عبد الله مؤيدا بأنصاره النازلين منها بربض البيازين،
2
وامتلك حصن القصبة، وشن على أبيه المتحصن قبالته حربا عوانا.
وبقي أبو عبد الله بحصن القصبة مدة تؤيده رماح بني زغبة وسيوفهم، ولكن قوة أبي الحسن كانت فوق قوته، فاضطر إلى أن يلتجئ إلى المرية، ومن ثم أصبح لغرناطة سلطانان: أحدهما أبو عبد الله المنكود الحظ في ميداني السياسة والحروب، البغيض إلى العرب؛ لأنه أصبح أداة في أيدي أعدائهم، والثاني أبو الحسن، أو هو على الأصح أخوه الزغل «الشجاع»؛
3
لأن السلطان كان يقضي بقية أيامه حزينا كئيبا لما أظهره ابنه من العصيان؛ ففقد بصره ثم مات، وأغلب الظن أنه مات مسموما.
أما الزغل: فهو آخر ملك عظيم أنبتته الأندلس؛ فقد كان شجاعا ثابت الرأي، عدوا لدودا شديد المراس قوي العزم في محاربة المسيحيين، ولو لم يفسد عليه ابن أخيه أمره، لبقيت غرناطة في أيدي المسلمين مدة حياته، وإن لم يكن ثمة مفر من انتصار المسيحيين في النهاية، وقد أسرع سلاطين غرناطة بتنازعهم وتكالبهم على الملك بتقريب هذه النهاية، وإذا حكمت الأقدار على ملك بالسقوط أخذت تملي له، وتملأ رأسه بالسخف والغرور.
وهكذا نرى اليوم سلاطين غرناطة وقد استبد بعقولهم الشغف بالانتحار - إن صح أن نسمي تخريبهم بلادهم بأيديهم انتحارا - ففي الحين الذي كان يجب أن يجتمعوا فيه ويتواثقوا لصد المسيحيين، نراهم يبددون قواهم في محاربة بعضهم بعضا، ونرى بعضهم يصد جيش أخيه وهو زاحف على الإسبان ليكون هو وأخوه آخر الأمر طعمة للإسبان، وتفرق أهل غرناطة شيعا، فزاد ذلك في إشعال نار الغيرة والتحاسد بين السلاطين، ولم يكن من شيء أحب إلى الغرناطيين من إسقاط سلطان ونصب آخر مكانه؛ لأنهم قوم متقبلون لا يصبرون على حال، مولعون بالتغيير، سواء أكان للخير أم للشر، وكانوا يبتهجون بالسلطان ويؤيدونه ما دام سعيدا موفقا في حروبه، تعود جيوشه إليهم بالغنائم والأسلاب، فإذا خاب مرة في شيء من هذا أغلقوا أبواب المدينة دونه، ونادوا بحياة السلطان الذي أعدوه لساعته، وقد يكون هذا أبا عبد الله أو الزغل، أو أي رجل أسعده الحظ في هذه اللحظة بالفوز بحبهم الفروك.
وبينما كان أبو عبد الله المشئوم يبذل وسعه في إحباط جهود عمه الزغل الباسل، كان المسيحيون يضيقون الدائرة المحيطة بالمملكة المنكوبة شيئا فشيئا، فأخذت تسقط في أيديهم مدينة بعد أخرى، وتملكوا حصن لورة وغيره من الحصون سنة 1484م/889ه بنسفها بالمدافع التي ابتكرت حديثا، وتبع ذلك في السنة التالية سقوط ذكوان، وقرطمة، ورندة.
وبذل الزغل في هذه الوقائع ما يستطيع من جهد، ووثب على فرسان قلعة رباح من كمين فأثخن فيهم ضربا وطعنا، ومع هذا استمر النصارى في سبيلهم إلى النصر فسقطت لوشة في سنة 1486م/891ه واشترك في معركتها من غزاة الإنجليز اللورد إسكيلز، وكان يقود فرقة من النبالة الإنجليز،
4
ثم تملك النصارى إيلورة، ومكلين، فهال ذلك العرب ورددوا مذعورين: لقد عورت عين غرناطة اليمنى، فأجابهم النصارى: بل قولوا: لقد كسر ملوك الكثلكة جناح النسر العربي الأيمن. وتم استيلاء فردينالد ورجاله على القسم الغربي من المملكة، وأصبحت غرناطة تنقص من أطرافها قليلا قليلا، وسخط الغرناطيون على الزغل؛ لأنهم لم يحتملوا كل هذه الهزائم، ودعوا أبا عبد الله مرة ثانية إلى مدينتهم، فصعب عليه أن يثبت وحده أمام عمه فاستعان بالمسيحيين.
وكان فرديناند في هذا الحين يحاصر بلش بالقرب من مالقة، فوصل الخبر إلى غرناطة فأثار غضب أهلها وسخطهم، فاستنهضوا عزيمة الزغل، وكان دائما على أهبة لمصافحة سيوف أعدائه ومنازلة الموت لاستبقاء الحياة، فقاد جنوده في جرأة وإقدام لتخليص بلش، وكان يعلم حق العلم أن ابن أخيه الخائن سيهتبل فرصة غيبته ويوطد ملكه بغرناطة، ولكن الزغل لم يلقب بالشجاع عبثا، فجعل التفكير في نفسه دبر أذنه وتقدم لإنقاذ مالقة.
وكانت خطته أن يثب المحصورون بالمدينة من الداخل، وأن يفجأ هو وجيوشه أعداءه من الخارج، ولكن عدوه كان عظيم المكر شديد المحال، فقد وصلت هذه الخطة إلى يد فرديناند، فاتخذ لها عدتها.
وفي ليلة رأى أهل بلش جنود الزغل مصطفين فوق شرف قريب فابتهجت نفوسهم، ولكنهم في الصباح حينما رددوا النظر لم يروا من هؤلاء الجنود أحدا؛ لأنهم دحروا في أثناء الليل عند أسوار المدينة، وتمزق جيش الإنقاذ شر ممزق، وتبدد تبدد الضباب أمام هجمات مركيز قادس العاتية، وحينما أخذت فلول هذا الجيش تدخل في خزي وعار أبواب غرناطة، اشتد غضب الغرناطيين، فثارت ثورتهم، وأسرعوا بخلع طاعة الزغل ونصب أبي عبد الله سلطانا مكانه، وبعد قليل أقبل الزغل في بعض رجاله نحو الأبواب، فرآها مغلقة في وجهه، ورفع رأسه فرأى علم أبي عبد الله خفاقا فوق حصون الحمراء فارتد حزينا محسورا إلى مدينة وادي آش، وجعل بها حضرة ملكه بعد أن أغلقت غرناطة أبوابها وقلوبها دونه، ولفظته في ساعة بؤسه كما تلفظ النواة.
ثم شرع النصارى يحاصرون مالقة، ولكنها كانت صعبة المنال شديدة المنعة، لم يكن اقتحامها أمرا يسيرا، فقد أحاطت بها الجبال والأسوار الحصينة التي يعلوها الحصن الرابض قبل جبل فارو، حيث تستطيع حاميته أن تصب القذائف على من بالسهول التي تكتنف المدينة، وتطوع بالدفاع عنها في هذا الحين بطل عنيد، واسع الحيلة، صلب العود، يعرف بحامد الزغبي كان يقود من قبل جيش رندة الذي حطمه النصارى تحطيما، فلم ينس لهم بعد تغلبهم عليه، وانتزاع القلاع الصخرية منه عنوة، وهب هذا الجندي الباسل يبث في أهل المدينة وبين أنصاره من البربر روحا من الجرأة والصبر والتحدي، حاول ملوك الكثلكة جهد استطاعتهم أن يخمدوها فلم يفلحوا، فاستطاع حينما تمكن من جبل فارو أن يحمي المدينة، على الرغم من انحلال عزيمة بعض أهلها من التجار وأصحاب الأموال، وحاول الملك أن يرشيه، فرد إليه رسوله في أنفة وكبرياء، وحينما أنذر النصارى المدينة بوجوب التسليم، وألح عليه تجارها أن يغمد السيف، أجابهم في شمم وإيجاز: لقد جئت هنا للدفاع عن المدينة لا لتسليمها، وحصر فرديناند ضربه في جبل فارو فغطت مدافعه المعروفة «بأخوات شيمينيس السبع» الحصن برداء من الدخان والنار، واستمرت قذائف اللهيب تضطرم ليلا ونهارا، وهم النصارى أن يأخذوا الحصن عنوة ، فصب عليهم الزغبي وأنصاره الأشداء حميما من القار والراتنج، وقذفوا فوق رءوسهم الأحجار والصخور وهم يحاولون تسلق سلالمهم، وسددوا نحو صدورهم السهام فاضطروا إلى النكوص مدحورين.
ثم أخذ النصارى في دس الأنفاط (الألغام) تحت الأسوار فنجحوا، ونسفت بعض المعاقل بالبارود لأول مرة في تاريخ الإسبان، واجتمع الفرسان المسيحيون حول أسوار مالقة، وحضرت الملكة ايزابلا نفسها فأثار حضورها روح الحماسة في الفرسان والجنود، ونصبت عرائش من الخشب لحماية الجنود في أثناء وضعهم الأنفاط تحت الأسوار، كل هذا والزغبي عنيد لا يسلم، قوي لا يغلب، ولكن القدر المحتوم جر إليه في ذيوله ما هو شر من المدافع وأفتك من البارود، فقد اشتدت المجاعة بين سكان المدينة، ففلت عزائمهم وصيرتهم أكثر ميلا للإنصات إلى دعوة الصلح التي يبثها التجار منهم إلى سماع دعوة الصبر والمثابرة من الجنود المستميتين، ولم يكن هناك أمل في نجدة تصل لإنقاذهم، فإن الزغل هم مرة بعد أخرى بإنقاذ المدينة، فجمع ما بقي من جيشه، وزحف من وادي آش للنجدة، ولكن ابن أخيه المشئوم الذي أكد بأعماله شؤم لقبه أدركته الغيرة الكاذبة من عمه، فأمر جنده أن يصدوا جيشه ويشتتوه وهو ذاهب إلى مالقة، وانتهت آخر جهود الزغبي بمذابح شنيعة، وأضر السغب بالسكان، وقذفت الأمهات بأطفالهن أمام جواد الحاكم باكيات صائحات بأن لم يبق لديهن فتاتة من طعام يغذين بها أطفالهن، وبأنهن لم تعد بهن طاقة لسماع بكائهم.
بعد ذلك سلمت المدينة وأجبر الجنود قائدهم الزغبي - وكان لا يزال متشبثا بجبل فارو - أن يفتح أبواب المدينة ففتحت، وكان جزاء هذا البطل الشجاع الباسل أن يقذف به في جب فلم يسمع عنه خبر إلى اليوم.
وعندما رفع الحصار عن المدينة، أخذ سكانها المساكين يحارب بعضهم بعضا لشراء الطعام من النصارى، وأسر الإسبان الحامية الإفريقية للمدينة وكانت لا تزال تحتفظ بشممها على الرغم مما أصابها من الإعياء والنصب، أما بقية السكان فسمح لهم بأن يفتدوا أنفسهم على شرط أن يسلموا جميع بضائعهم وأمتعتهم إلى الملك لتكون أول قسط من أقساط الفدية ، وأنهم إذا لم يؤدوا الباقي بعد ثمانية أشهر عدوا عبيدا، وبعد أن أحصي عددهم وفتشت منازلهم أطلق سراحهم. «فكنت ترى الشيوخ وقد نال منهم الهرم، والنساء وقد فقدن الحامي والنصير، والفتيات في غضاضة شبابهن، وكثير من هؤلاء من عاش في باحة العز وبين أكناف النعيم، ترى هؤلاء جميعا يمشون مشية المتعثر اليائس قاصدين القصبة، وحينما غادروا ديارهم أخذوا يدقون صدورهم حزنا، ويقلبون أكفهم أسفا، ويرفعون أعينهم الباكية إلى السماء في ألم وحسرة، وتحدثنا الروايات أنهم كانوا يقولون وهم يندبون:
يا مالقة يا أجمل المدن وأبعدهن صيتا!! أين منعة حصنك؟! وأين عظمة أبراجك؟! وماذا أفادت أسوارك القوية في حماية أبنائك؟! سيرثي بعض هؤلاء الأبناء لبعض وهم غرباء مشتتون في أرض غير أرضهم!! ولكن هذا الرثاء لن يلقى من الناس إلا سخرية وهزوا.
أرسل هؤلاء البؤساء إلى إشبيلية ليقوموا بخدمة الإسبان فيها، حتى انقضت ثمانية الأشهر، وإذ لم يستطيعوا أداء ما بقي عليهم من الفدية، حكم عليهم جميعا بالعبودية، وكانوا زهاء خمسة عشر ألفا، وهكذا نالت مكايد فرديناند أمنيتها، وبلغ مكره السيئ غايته.
أصبح القسم الغربي من مملكة غرناطة الآن في قبضة النصارى، واحتلت حامياتهم قلاع رندة، ومالقة الجميلة، وكان أبو عبد الله لا يزال يحكم غرناطة، وقد أسرع بتهنئة سيده وسيدته على انتصارهما بمالقة، أما الزغل فكان في الشرق يتحدى الفاتحين، وقد جمع حول لوائه كل من بقي في نفسه شيء من الحمية والتصميم من بين العرب القانطين، وكان يملك غير منازع القسم من جيان إلى المرية، وهي ثغر عظيم الشأن على بحر الروم، ويدخل في ملكه أيضا بعض المدن العظيمة: كوادي آش، وبسطة، ثم السفوح الوعرة لجبال البشرات، وهي مهد قوم شداد صلاب من الجبليين، تطل على عدد عديد من الأودية التي تسقى بالماء الخصر المنهمر من جبال نيفادا الثلجية حيث تكثر المراعى والكروم، وغياض البرتقال والرمان، والأترج والتوت، ومن هذه الخيرات وغيرها تتكون ثروة هذا الإقليم.
وفي سنة 1488م/893ه وجه فرديناند سيفه المنتصر إلى هذا الجزء الهادئ من مملكة الإسلام، فجمع جموعه في مرسية، ثم زحف إلى الغرب في مملكة الزغل، وهجم على بسطة فصدمه الزغل صدمة عنيفة؛ لأن يده لم تفقد بعد قوتها، ولأن عقله لم يزل ثاقبا بعيد مدى الحيلة، لم تذهب النكبات بذكائه، فرد النصارى عن أبواب بسطة، وزاد فانتقم لنفسه بالهجوم على مملكتهم، ولكن هذه الهزيمة لم تضعف من عزيمة فرديناند، فجدد هجومه على بسطة في السنة التالية، وبدل أن يقذف بجنوده في هجمات خائبة على المدينة، أرسلهم يعيثون ويفسدون في الأرض الخصيبة حولها؛ ليدفع الجوع سكانها إلى التسليم، واستمر حصار المدينة ستة أشهر، مات في خلالها من جنود النصارى نحو عشرين ألفا من المرض والإقامة بالعراء، ومن هجمات المسلمين،
5
ثم سقطت المدينة في سبتمبر سنة 1489م/894ه وبسقوطها تبددت قوة الزغل وأفل نجمه، وتلا ذلك أن خضعت القلاع التي تحصن البشرات واحدة بعد واحدة لسيف فرديناند أو ذهبه، وتجلت عند ذلك للزغل الحقيقة المحزنة، وهي أن حكم المسلمين بالأندلس قضي عليه بالزوال.
فألقى القياد على كره منه لفرديناند، وسلم إليه المرية، فأقطعه الملك قطعة من الأرض في البشرات، ومنحه لقب «أمير أندرش» ولكنه لم يقم طويلا بهذه البلاد التي ذهب فيها مجده وتولى سلطانه، فباع أرضه، واجتاز البحر إلى إفريقية، وهناك قبض عليه سلطان فاس فعذبه أشد عذاب وسمل عينيه، فقضى بقية أيامه هائما في الأرض بائسا طريدا، وما كان أشد حزن الناس على هذا البطل المغوار وهو في أسماله البالية، وقد قرءوا على رق غزال خيط بردائه «هذا سلطان الأندلس العاثر الجد».
لم يبق للمسلمين غير غرناطة التي اغتبط أميرها أبو عبد الله أعظم اغتباط، وتشفى في عدوه القديم عمه أبي عبد الله الزغل حينما سلبه ملوك الكثلكة ملكه، وصاح من الفرح حينما بلغه الرسول الخبر: لن أقبل من الآن أن يلقبني أحد بالزغيبي؛ لأن الحظ أقبل علي بوجهه.
ولكن الرسول أجابه في تؤدة: إن الريح التي تهب من أفق قد تهب من آخر، وإنه يجدر بالسلطان أن يكبح من فرحه وسروره حتى يستقر الجو، وكان أبو عبد الله كثيرا ما يسمع سبه ولعنه بأذنه في جميع شوارع غرناطة، وكثيرا ما يصل إليه ما يرميه الناس به من خيانة قومه ومحالفة أعدائه، ومع كل هذا كان يعيش مطمئنا هادئ البال، تام الثقة بحلفائه، سعيدا بزوال ملك عمه، وفي أثناء ما كان يحرض الملكين عليه، عاهدهما على أنهما إن أفلحا في الاستيلاء على ملك الزغل وأخذا وادي آش والمرية، سلم اليهما غرناطة راضيا، ولكنه لم يلبث طويلا حتى أفاق من غفوته، فإن فرديناند كتب إليه ينبئه بأن الشروط التي دونت لتسليم غرناطة قد تمت من ناحيته، وأنه يحتم تسليمها على حسب نصوص المعاهدة التي دونت بينهما، وألح أبو عبد الله عبثا أن يرجئ فرديناند هذا الأمر قليلا، ولكن الملك لم يتحول عما طلب، وأنذر بأنه إذا لم تسلم إليه المدينة أعاد نكبة مالقة، فارتبك أبو عبد الله ولم يدر ماذا يفعل، غير أن أهل غرناطة بزعامة موسى بن أبي الغسان الفارس الشجاع أخذوا الأمر في أيديهم، وبعثوا إلى فرديناند بأنه إن أراد أسلحتهم فليأت لأخذها بنفسه.
وحينما وصلت هذه العبارة الجريئة إلى أذن فرديناند، كان مرج غرناطة يزخر بالحب والفاكهة، وقد عاد إليه الخصب والنماء بعد أن عاثت فيه الحروب بين الزغل وأبي عبد الله، وبلغ الزرع أشده، وآن حصاده، وتطلب المناجل، فاقتنص فرديناند هذه السانحة ولجأ إلى طريقته المعتادة، فرمى المرج بخمسة وعشرين ألفا من جنوده، غادروه بعد ثلاثين يوما وهو أقفر من كف اللئيم، واقتنع فرديناند بهذا القدر في هذا العام، ثم أرسل على المرج في سنة 1490م/895ه غارة مدمرة أخرى، ودفع أبا عبد الله إلى شجاعة يائسة، فلبس لأمة الحرب وهجم على أعدائه مستعينا برأي موسى الذي كان نادرة في الرجال، وحينما رأى العرب الذين كانوا عاهدوا فرديناند من قبل على الطاعة سلطان غرناطة وهو يقود جيوشه للجهاد، وثبت عزائمهم من جديد، وألقوا بعهودهم في الهواء وانضموا إلى إخوانهم المحاربين.
وكان يخيل إلى المرء أن أيام العز الماضية قد عادت إلى غرناطة، فإن المسلمين استردوا من النصارى بعض الحصون وعاثوا في تخوم بلادهم، ولكن كل ذلك كان آخر شعاعة للشمس عند المغيب؛ فإن فرديناند وإيزابلا خرجا في إبريل سنة 1491م/896ه للحرب الصليبية التي اعتاداها كل عام، وعزما ألا يعودا إلا وغرناطة في قبضتيهما، فقاد الملك جيشا عدته أربعون ألفا من المشاة، وعشرة آلاف من الفرسان، وعقد أبو عبد الله مجلس الحرب بالحمراء بينما كانت سحب غبار الجيش الإسباني ترى من نوافذها، فرأى بعض رجال المجلس أن لا فائدة من المقاومة وأن الخير في التسليم، ولكن موسى قام واستحثهم أن يكونوا أبناء بررة لآبائهم، وأن يطردوا عنهم اليأس ما دامت فيهم قوة على القتال، وما بقيت لهم جياد سريعة الوثبات، فانتقلت حماسته إلى الناس، وصمموا على الموت، ولم يكن يسمع بغرناطة إلا صليل السلاح وأبواق الجنود.
وكان موسى قائد الدفاع وحارس أبواب المدينة، وكان أهل غرناطة قد أحكموا إيصادها عندما ظهر جيش النصارى فأمر بفتحها وقال: سنسد الأبواب بأجسامنا، فأثارت هذه الكلمات وأمثالها عزائم الشباب، وحين قال مرة لجنوده: إننا لا نحارب لشيء إلا لصيانة الأرض التي تحت أقدامنا، فإننا إن فقدناها فقدنا بيوتنا ومملكتنا - قذفوا بأنفسهم للموت معه، ومن الحق أن ندون هنا أن فرسان العرب تحت لواء هذا القائد الجريء قاموا بأروع ضروب الشجاعة والإقدام.
وعول فرديناند في النهاية على اتباع أساليبه المعتادة في قهر المدن؛ فخرج من معسكره الذي اتفق أن التهمته النيران، وشرع في إفساد ما بقي في المرج من نبات وثمار، وبذل العرب آخر ما في قلوبهم من شجاعة لحماية المزارع والبساتين، وحارب موسى وأبو عبد الله أمام فرسانهما كما يحارب الأبطال البسلاء، ولكن المشاة وقد كانوا ضعاف القلوب هزموا وتقهقروا إلى أبواب المدينة، فتبعهم موسى حزينا وقد عزم ألا يقذف بنفسه في موقعة حامية وإلى ظهره أمثال هؤلاء الجبناء، وكانت هذه آخر حروب الغرناطيين، فقد لبثوا عشر سنين يناضلون أعداءهم على كل شبر من الأرض، وكلما وجدت أقدامهم مكانا تقف عليه حاربوا الإسبان دونه ثابتين غير مزعزعين، غير أنهم الآن لم يبق لهم غير المدينة، فحبسوا أنفسهم بين أسوارها يائسين جازعين، وعزم فرديناند أن يسلم المدينة إلى الجوع والسغب، فاتبع طريقة عبد الرحمن الناصر في حصار طليطلة وبنى في ثمانين يوما مدينة أمام غرناطة سماها: شنتفى
6 «الإيمان المقدس» ويقوم إلى اليوم بهذه المدينة تذكار أثري لهذا الحصار، وعمل الجوع بأهل المدينة ما تعجز عن مقاومته الشجاعة، فتوسل أهل غرناطة إلى أبي عبد الله أن ينقذهم من هذا العذاب، وأن يعقد شروطا للتسليم مع الفاتحين، فخضع لهم السلطان الشقي الطالع في النهاية.
أما موسى فلم يرض بالتسليم، ولبس شكته، وامتطى جواده، وخرج من المدينة إلى غير عودة.
وفي الخامس والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1491م/897ه أمضيت شروط التسليم، وكان منها شرط يحدد زمنا للهدنة لا يجوز بعد انقضائه أن تصل إلى المدينة أية نجدة، وأن تسلم عند ذلك للملكين، وترقب العرب عبثا وصول ما كانوا يؤملون من النجدات من مصر أو من سلاطين تركيا فلم تأت، وأرسل أبو عبد الله في آخر ديسمبر إلى فرديناند يطلب إليه أن يدخل المدينة ويستولي عليها، فتقدم جيش النصارى من مدينة شنتفى صفوفا، واخترق المرج، وعيون العرب الباكية تنظر إليه في جزع وحسرة، ودخلت مقدمته الحمراء، ونصبت الصليب الفضي الأكبر فوق قمة برج المدينة إلى جانب بيرق الحواري يعقوب، بين أصوات كانت تملأ الأفق صائحة: سنتياغو!! ثم نصب حولهما علما قشتالة وأراغون، وجثا فرديناند وإيزابلا على ركبتيهما يحمدان الله على هذا الفتح المبين، وسجد خلفهما الجيش كله، ورتلت فرقة المرتلين الخاصة صلاة الشكر في تبتل وخشوع.
ووقف أبو عبد الله في ثلة من فرسانه بسفح جبل الريحان عند مرور هذا الموكب، فتقدم إلى فرديناند وسلم إليه مفاتيح المدينة، ثم ولى مدينته المحبوبة ظهره منطلقا إلى الجبال حتى إذا وصل إلى قرية البذول وهي على مسافة مرحلتين من المدينة فوق مرقب عال من البشرات - وقف يودع المملكة التي نزع منها كما تنزع السن القادحة، فرأى المرج النضير وأبراج الحمراء، ومنائرها الضاربة في السماء، وبساتين جنة العريف، وكل ما بغرناطة من جمال وعظمة، فأجهش بالبكاء وصاح: الله أكبر!! ووقفت أمه عائشة إلى جانبه وهي تقول: حق لك يا بني أن تبكي كما تبكي النساء؛ لفقد مدينة لم تستطع أن تدافع عنها دفاع الرجال! ولا تزال البقعة التي ودع فيها أبو عبد الله مدينته بدموعه وزفراته تسمى إلى الآن: آخر حسرات العربي، ثم اجتاز أبو عبد الله إلى بر العدوة بإفريقية حيث كان يعيش بها هو وأبناؤه بالاستجداء وسؤال المحسنين.
هوامش
ظهور الصليب
لم تكن آخر حسرات أبي عبد الله إلا بداية عصر كله حزن وابتلاء وآلام ونكبات تتوالى على رءوس العرب المساكين، وقد لمع في أول الأمر بصيص أمل بأن الإسبان سينفذون ما عاهدوا المسلمين عليه عند تسليم غرناطة، وأن العرب ستكون لهم حرية العبادة وإقامة أحكام الإسلام، وكان هرناندو تالاڨيرا - أول أسقف بغرناطة بعد نكبتها - رجلا خيرا واسع أفق التفكير، يحافظ على حقوق العرب، ويحاول أن يكتسب مودتهم بالقدوة الصالحة والرفق والعدل، ثم بمشاكلتهم في عاداتهم وأحوالهم بقدر ما يستطيع، فأمر قساوسته أن يتعلموا العربية، وأدى صلاته باللسان العربي المبين، وكان لهذا التسامح أثره في عقول العرب، حتى إنه في سنة 1499م/905ه حينما قدم الكردينال شيمينيس مرسلا من قبل الملكة لمعاونة تالاڨيرا كان يخيل إلى الناس أن مظاهر النصرانية - وهي في أول نشأتها بأورشليم - تجددت ثانية بغرناطة؛ فقد تنصر في يوم واحد ما يبلغ ثلاثة آلاف من العرب، عمدهم المطارنة ونضحوهم بأغصان الثغام المقدسة، ولم يرض شيمينيس عن سياسة اللين التي كان يصطنعها الأسقف؛ لأنه كان من دعاة الكنيسة الحربية الذين يظهرون نشاطهم عقب كل انتصار، ولأنه كان يريد فيما يزعم أن ينقذ أرواح هؤلاء الملحدين رضوا أم غضبوا، فأدخل في عقل إيزابلا - وما كان أسرع تأثرها بكل ما له صلة بالدين - رأيا شديد الخطر، ووسوس إليها أن في حفظ عهد المسلمين خيانة لعهد الله، فأنفذت أمرها في الحال باضطهاد العرب.
وخابت أول محاولة لإجبار الغرناطيين على التنصر، وأظهر المتشددون من المسلمين ازدراءهم للمرتدين، فأخذوا وحبسوا، وبينما كانت امرأة تساق إلى السجن لهذه الجريمة، أخذت تصيح وتستثير عزائم أهل البيازين، فوثبوا إلى أسلحتهم وأنقذوها، واشتعلت الفتنة بغرناطة وتحفز أهلها للقتال، وكانت حامية غرناطة قليلة العدد لا تستطيع دفع الثائرين، فاشتد غضب شيمينيس وحنقه، ولكن الأسقف خرج هادئا لا يتبعه من رجاله إلا حملة الصليب، ودخل غير خائف ولا وجل ربض البيازين، حيث أحاط به الناس يقبلون طرف عباءته، ويبثون إليه شكواهم، ويبتغون إليه الرفق وحسن الوساطة، فأزال تالاڨيرا أسباب الثورة واضطر الكردينال إلى مغادرة المدينة.
ولم يكن شيمينيس بالرجل الذي يسهل صرفه عن أغراضه ومآربه، فأغرى الملكة أن تصدر مرسوما تخير فيه العرب بين التنصر ومغادرة البلاد، وجاء في هذا المرسوم: أن أسلافهم كانوا مسيحيين، وأن الكنيسة تعدهم - وهم من سلالتهم - مسيحيين منذ الولادة، فيجب عليهم أن يظهروا دينهم الموروث، وبعد هذا المرسوم أغلق الكردينال الحانق المساجد، وأحرق المخطوطات والكتب النفيسة التي هي عصارة الفكر العربي في عدة قرون، وأنذر المسلمون وعذبوا أشد العذاب ليدخلوا في دين الرفق والرحمة، على الأسلوب الذي ارتضاه الملكان الكاثوليكيان لقسر اليهود على التنصر، وبهذه الوسائل خضعت جمهرة من العرب؛ لأنهم آثروا أن يتركوا دينهم على الشرود في بقاع الأرض بلا أهل ولا مأوى، ولكن جذوة من الروح العربية القديمة بقيت متأججة بين سكان جبال البشرات الذين لبثوا حينا من الدهر ثائرين ممتنعين على أعدائهم في معاقلهم الثلجية، وحاول المسيحيون أول الأمر القضاء على هذه الثورة فآبوا بالخيبة والاندحار.
وهذا الفوز الخلب لم يعمل إلا أن أثار غضب المسيحيين، وحفزهم على أخذ الثأر، فهجم صاحب تنديلة على قوجار، وهدم صاحب سيرين مسجدا على جماعة من النساء والأطفال كانوا التجئوا إليه من ويلات الحرب وكوارثها، وأخذ الملك فرديناند الطرق على العرب بامتلاك قلعة لانجارون، ففر من أبقت عليه السيوف إلى مراكش ومصر وتركيا، وعاشوا في هذه البلاد صناعا ماهرين، وهكذا انتهت الثورة الأولى بالبشرات.
وتلا ذلك نصف قرن والمسلمون في غيظ مكتوم، فقد أدوا مكرهين مرائين أقل ما يستطعيون أداءه من أمور الدين الذي فرض عليهم، ولكنهم كانوا إذا خلوا إلى أنفسهم جهدوا في غسل الماء المقدس الذي عمد به أطفالهم في الكنيسة، وإذا زوجهم قسيس أسرعوا إلى منازلهم فأعادوا عقد الزواج على سنن شريعة الإسلام، ثم إنهم أعانوا لصوص البحر الذين كانوا ينزلون بثغور الأندلس على اختطاف أطفال المسيحيين.
وقد كان في استطاعة حكومة الأندلس أن تتقي هذه الأخطار وتلك الأحقاد الدفينة لو أنها كانت حكومة حازمة أمينة، ترعى عهودها التي واثقت المسلمين عليها عند تسليم غرناطة، ولكن حكام إسبانيا لم يكونوا حازمين، ولم يكونوا أمناء في معاملة العرب، فقد أكرهوهم على أن يخلعوا أزياءهم الوطنية الجميلة ليستبدلوا بها قبعات النصارى وسراويلهم، وعلى أن يهجروا سنة الغسل والاستحمام اقتداء بغالبيهم في الصبر على تراكم الأقذار، ثم على أن ينبذوا لغتهم وعاداتهم وأسماءهم، وأن يتكلموا بالإسبانية، ويعملوا كما يعمل الإسبان، ويغيروا أسماءهم بأسماء إسبانية.
وكان تجريد العرب من قوميتهم ودينهم دفعة واحدة فوق احتمال أي شعب وقبيل، بله سلائل عبد الرحمن والمنصور وبني سراج، وحدث يوما شغب من جراء بعض جباة الضرائب الظلمة، فاشتعلت نار الفتنة الخامدة التي كانت تتحرق إلى الاشتعال، وقتل بعض الزراع بعض جنود الإسبان الذين كانوا يحتلون دورهم، وثار صباغ بغرناطة اسمه فرج بن فرج ينتمي إلى بني سراج، وجمع حوله جماعة من الساخطين ذوي الحمية، وفر بهم إلى الجبال قبل أن تدركهم الحامية، ونادت هذه الجماعة بهرناندو آل فالور ملكا على الأندلس وسموه محمد بن أمية، وهو رجل من نسل خلفاء قرطبة ومن أعيان غرناطة يزن بإسرافه في الشهوات، وبعد أسبوع عمت الثورة وحمل رجال البشرات كلهم السلاح، وكان هذا بدء الثورة الثانية سنة 1568م/976ه، وكانت منطقة البشرات من أحسن المناطق لنمو الثورات، فإن الأرض المرتفعة بين جبال نيفادا والبحر - وطولها نحو تسعة عشر ميلا، وعرضها نحو أحد عشر ميلا - ليست إلا وعرا تتقاسمه التلال الصلدة، والأخاديد العميقة حتى ليصعب أن يجد فيه المرء قطعة مطمئنة إلا في وادي أندرش الصغير، وإلا في نطاق ضيق يتوسط بين البحر والجبال.
واستمرت الثورة مشتعلة بالبشرات سنتين، ولم يطفئها الإسبان إلا بعد جهد عنيف، وتاريخ هذه الثورة ممتلئ بأعمال الجرأة، والتعذيب، والقتل، والخيانة، والقسوة الوحشية من كلا الفريقين، غير أن هذه الأعمال البشعة كان يتخللها كثير من أعمال البطولة والجلد الجديرة بأن تشرف أي عصر وأي قبيل، وكان صراع العرب شديدا يائسا؛ لأن المعركة كانت آخر معركة لهم في آخر مكان يستطيعون الوقوف فيه، فقد أحسوا أنهم يطاردون، فأخذوا في هجماتهم الأولى، والغضب ملء خياشيمهم، ينتقمون لما نالهم من ضروب الإهانة والاضطهاد في مدى مائة عام، فثارت قرية بعد قرية في وجوه الإسبان، ولطخت الكنائس بالأقذار، وجعلت صورة العذراء غرضا للرماة، وذبح العرب القساوسة، وكثيرا ما نكلوا بالمسيحيين الذين التجئوا إلى الأبراج والحصون.
وفل قائد غرناطة مركيز منديجار من غرب هذا العصيان قليلا بهجمة عنيفة على الجبال ، كان فيها على رأس أربعة آلاف من الجنود الأشداء، ثم حاول أن يأخذ الثوار باللين والمسالمة والصفح، وكاد يفلح لولا أن حدثت مذبحة للعرب بجيوبيليس، ولولا أن غدر الإسبان بالعرب ونكثوا بعهودهم في لارول، فأثار كل ذلك غضب المسلمين، وأعاد نيران الثورة إلى تأججها بعد أن كادت تبوخ، ثم تلا ذلك أن ذبح طائفة من المسجونين الإسبان بسجن البيازين مائة وعشرة من العرب، فجاء ذلك ضغثا على إبالة، وزاد في حنق العرب المضطهدين، وكان منديجار بريئا من تلويث يده بهذه الأعمال الدموية، راغبا في مسالمة العرب، وقد سار بحرسه إلى السجن ليهدئ ما به من ثورة واضطراب، ولكن رئيس شرطة المدينة أخبره في الطريق أن لا داعي لذهابه؛ لأن جميع من بالسجن من العرب قد ماتوا.
وبعد هذه الحوادث كان العرب يفوزون كل يوم بانتصار جديد، وأصبح ابن أمية أميرا بالفعل على جميع ولاية البشرات، ولكن هذا الأمير الضعيف المستهتر لم ينعم بالحكم فترة قصيرة حتى ذبحه في سريره بعض أتباعه سنة 1569م/977ه لبغضهم إياه، ولما حام حوله من الشبهات، وخلفه في الملك والزعامة مولاي عبد الله ابن أبيه، وكان صنديدا مخلصا، وقائدا صادق العزم، يقذف بنفسه بين مخالب الموت فداء لأتباعه وأنصاره، غير أن القدر كتب على ابن أبية هذا أن يحارب عدوا من صنف جديد، ذلك أن أخا الملك وهو الدون جون الأوستري، وهو شاب في الثانية والعشرين، ملأته الآمال، وتكهنت بعظمته المخايل - خلف منديجار على قيادة الجيوش، فأقنع فيليب بعد أن تبادلا كثيرا من الرسائل بخطورة الموقف وتفاقم الخطب وضرورة اتخاذ وسائل عنيفة لحسمه، فوصل إليه في النهاية أمر من الملك بالهجوم، ولم يتوقع العرب من الإسبان بعد صدور هذا الأمر الخطير إلا أن يمنحوهم وقتا قصيرا للتوبة والإنابة، ففي غضون الشتاء سنة 1569-1570 (977-978ه) زحف الدون جون على العرب، ولم يجئ مايو إلا وقد كانت شروط التسليم قد أعدت، أما الأشهر التي مرت بين بدء هذه الحرب ونهايتها فقد لطخت بأنهار من الدماء؛ لأن شعار الدون جون كان «لا إبقاء ولا هوادة» فذبحت النساء والأطفال بأمره، وتحت سمعه وبصره، وأصبحت قرى البشرات مجازر بشرية.
وبعد أن ظهر للعيان أن العصيان قد أخمد وبردت جذوته، انطلقت من بين الرماد آخر شرارة للثورة؛ ذلك أن ابن أبية بقي مجالدا فلم يخضع للإسبان، ولكن القتل أخضعه في النهاية، فحز رأسه وعلق على باب المذبح بغرناطة، وبقي معلقا ثلاثين عاما.
وجاء بعد الدون جون القائد الأعظم ريكيسنس، فقضى على هذه الشرارة الأخيرة للثورة في الخامس من نوفمبر سنة 1570م/978ه بطرق منظمة، فكان يحرق القرى بمن فيها، وكان يرسل الدخان على الملتجئين إلى الكهوف والأغوار حتى يموتوا أو يخرجوا فيموتوا، وانتظر النفي والرق كل من نجا من هذه الثورة - وكانوا قليلي العدد - فقد قتل في الثورة كما قيل أكثر من عشرين ألف عربي، وبقي منهم نحو خمسين ألفا، فلما جاء عيد جميع القديسين في سنة 1570م/978ه مجد الإسبان ذكرى الحواريين والشهداء، واحتفلوا فيه بالقضاء على من عثروا عليه من العرب، وحكم الإسبان على من أسروا في الثورة بالعبودية، ونفوا الباقين تحت حراسة الجنود بعد أن راقبوا شعاب الجبال حتى لا يفروا، ومات كثير من هؤلاء في الطريق من الجوع والنصب والعري، وذهب بعضهم إلى إفريقية فعاشوا بها يستجدون الناس؛ لأنهم لم يجدوا بها أرضا تصلح للحرث، وسار بعضهم إلى فرنسا فلم يلاقوا ترحيبا من هنري الرابع، وإن وجد فيهم أداة صالحة للكيد لإسبانيا، ولم ينته استمرار نفي العرب إلا في سنة 1610م/1019ه حين حكم في هذا العام على نحو نصف مليون منهم بالنفي، وقد ثبت أن من نفوا من العرب في المدة بين سقوط غرناطة والعقد الأول من القرن السابع عشر يبلغون ثلاثة ملايين.
والمؤرخ العربي يذكر هذه النكبة حزينا، ويعدها ضربة من ضربات القدر ويقول:
إن الله لم يشأ أن يهب نصره للأندلسيين، فأخذوا وذبحوا في كل مكان، ثم أخرجوا من ديارهم، وقد وقعت هذه النائرة في أيامنا سنة 1017 للهجرة (سنة 1608م)، والله جل شأنه وعظم سلطانه يقول:
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين .
ولم يعرف الإسبان عندما نفوا العرب ماذا كانوا يفعلون!! حقا لقد خربوا بيوتهم بأيديهم، فإنهم ابتهجوا أول الأمر بنفيهم وشمتوا فيهم، وشفت غليلهم المناظر المؤثرة لهؤلاء العرب، وهم يطردون من فردوسهم.
ولكن الإسبان لم يدركوا أنهم قتلوا الإوزة التي تبيض بيضة من ذهب في كل يوم؛ فقد بقيت إسبانيا قرونا في حكم العرب وهي مركز المدنية، ومنبع الفنون والعلوم، ومثابة العلماء والطلاب، ومصباح الهداية والنور، ولم تصل أية مملكة في أوربا إلى ما يقرب منها في ثقافتها وحضارتها، ولم يبلغ عصر فرديناند وإيزابلا القصير المتلألئ، ولا إمبراطورية شارل الخامس، الأوج الذي بلغه المسلمون في الأندلس، وقد بقيت حضارة العرب إلى حين بعد خروجهم من إسبانيا وضاءة لامعة، ولكن ضوءها كان يشبه ضوء القمر الذي يستعير نوره من الشمس، ثم عقب ذلك كسوف بقيت بعده إسبانيا تتعثر في الظلام.
وإنا لنحس فضل العرب وعظم آثار مجدهم حينما نرى بإسبانيا الأراضي المهجورة القاحلة التي كانت في أيام المسلمين جنات تجري من تحتها الأنهار، تزدهر بما فيها من الكروم والزيتون وسنابل القمح الذهبية، وحينما نذكر تلك البلاد التي كانت في عصور العرب تموج بالعلم والعلماء، وحينما نشعر بالركود العام بعد الرفعة والازدهار.
Unknown page