ولكي أدلل على صواب هذا الرأي؛ طالبت نفسي بأمثلة تفصيلية من ثقافتنا تقوم برهانا أو بيانا يوضح ما أجملته في الأسطر القليلة السابقة. إن ثقافة الشعب المعين إنما تتجسد في معالم معينة؛ فاخترت مجموعة من تلك المعالم، راعيت فيها أن تكون منوعة في طبيعتها، متفاوتة في أزمانها من تاريخنا، اخترت القرية المصرية في طريقة تكوينها: أبو الهول، الأزهر، أم كلثوم، أحمد شوقي، مولد السيد البدوي، خان الخليلي ... وهو اختيار شبه عشوائي كما ترى، وتناولت هذه الأمثلة بشيء من التحليل، لعلي أجد الأساس الواحد الذي تلتقي كلها عليه، فيكون ذلك الأساس هو قطب الرحى من الثقافة المصرية:
ولنبدأ حديثنا بالقرية المصرية وطريقة تكوينها، فأول ما يلفت النظر من ذلك هو تكتلها وتلاصق مبانيها، حتى لتبدو للقادم من بعيد كأنها كومة واحدة، تنبثق من رأسها مئذنة، أغلب طرقها مغلق من أحد الطرفين، وهي طرق تتعرج مع المباني فلا يراد لها أن تستقيم؛ لأن القرية في حقيقتها الاجتماعية أسرة واحدة، تجد الدفء في الجوار، وتجد الطمأنينة في أن يتعانق الكل في جسم واحد، فلا بأس في أن تضيق الطرق وفي أن تنحني ليقترب أعضاء الأسرة بعضهم من بعض. إن مثل هذه القرية لا تقبل الغريب إلا إذا انخرط في كيانها، إنها ترفض أن يدخلها دخيل يغير لها ركنا أساسيا من قواعد حياتها فيعكر عليها تلك الحياة وصفوها؛ فدوام بقائها هو معيارها، وكل تغير مقبول إذا جاء في إطار ذلك الإطار الدائم.
وأبو الهول - كسائر الآثار المصرية - يبني العقل على أساس الفطرة ليكسب الدوام، إنه رأس إنسان بما يتضمنه من بصيرة واعية ، لكنه رأس ركب على حقيقة فطرية ليكون لاصقا بالطبيعة، وأعني بها جسم الأسد، فها هنا كذلك جاء الرمز دالا على التمسك بالأساس الفطري الثابت، حتى ولو كان التغير الطارئ هو عقل بإدراكه الواعي.
والأزهر تتلخص رسالته الحضارية الكبرى في أنه هو الذي جمع أشتات التراث العربي عندما تعرض ذلك التراث للبعثرة والفناء على أيدي التتار، ولولا هذا الجمع الذي اضطلع به الأزهر لما كان بين أيدينا اليوم ما يسمى بالتراث العربي، ومرة أخرى نجد «الدوام» ومقاومة التفتت والفناء هدفا رئيسيا تنتظم خطوات السير على هداه.
وأم كلثوم التي ترسل الغناء وكأنها تقيم عمارة على عمد مكينة ثابتة، إنها لتسلك أرق العواطف في جو من الوقار المهيب، لا تكاد تفرق فيه بين قصيدة في مدح النبي عليه السلام ونشيد وطني وقطعة غزلية مما يتبادله العاشقون، كل ذلك في إطار الفن الغنائي عندها، يتخذ الصورة التي تضمن له «الدوام». وشيء كهذا يقال في شعر أحمد شوقي، إنه يقول الشعر - كائنا ما كان الموضوع - وكأنه يخاطب به الزمن غير المتقيد بأفراد من البشر يجيئون ويذهبون، والحقيقة هي أن هذه الخاصية تبدو لي مميزة للشعر العربي كله.
ومولد السيد البدوي - كأي مولد آخر يقام في مصر مع اختلاف الحجم - يعطيك إحساسا عجيبا بالحياة المصرية بشتى عناصرها، إنها ليست تعبدا كلها، ولا هي مرح كلها، ولا هي تجارة كلها، إنها كل ذلك في مزيج واحد، تحمل في طيها من الرمز مثل ما تحمل من الواقع، إن حلقة الذكر الصوفي قد تنعقد بجوار حلقة الرقص الشعبي، والحلقتان معا على مقربة لصيقة من بائع الحمص والحلوى وحب العزيز ... حياة لها عرفها الذي يتكرر عاما بعد عام، لم توضع لها القواعد والقوانين، ولكنها تجري في انبثاقها الفطري، كما جرت في أعوام مضت، وكما ستجري في أعوام تتلو.
وماذا عن خان الخليلي؟ إنه في مجمله رواسب عصور تأبى أن تزول، تدخل عليها عوامل العصر الجديد، كما تلبس الحسناء سوارا حول معصمها، فهو حلية مضافة، لكنه ليس هي، وهذا هو ما يشد السائحين الأجانب إليه، إنهم لا يذهبون إلى شارع قصر النيل وشارع طلعت حرب؛ لأنهم لو فعلوا كانوا ما يزالون في بلدهم وفي عصرهم وضاعت عليهم تكاليف السفر، لكنهم يذهبون إلى خان الخليلي؛ لأن الماضي يزاحم الحاضر ويزحمه، والمعنى نفسه قائم في كل قطعة مصنوعة هناك، ففي كل قطعة معروضة تلمح التكامل البشري الذي لم يمزقه تعدد الاختصاص، كما هي الحال في الصناعة الآلية الجديدة، ففي مصنوعات الخان تمتزج الصناعة بالفن، ويمتزج المصنوع بالصانع (من «ثقافة المصري وجذورها» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).
3 ... لكم سأل منا كاتب: من نحن؟ ما حقيقتنا؟ وأين نكون؟ لكم قال منا قائل: إننا في هذه المرحلة المرتجة من تاريخ العالم، نريد البحث عن هويتنا حتى لا تذوب وتنمحي في هويات الآخرين ... هكذا طرحت السؤال على نفسي، وحاولت الجواب بالبحث عما يميزنا من خصائص وسمات، فكان لي ما يأتي:
إننا أمة تتحقق وحدتها بفعل موحد مشترك، فلقد قالها الإمام ابن تيمية منذ زمن بعيد، حين قال: إن فكرة «الأمة» لا تتحقق لمجموعة من الناس إلا إذا اشتركوا في «فعل» واحد. إن فكرة «الأمة» لا تتحقق - عند ابن تيمية - لمجرد أن يعيش أفراد المجموعة على رقعة جغرافية واحدة، ولا لأنهم يشتركون في تاريخ واحد، ولا لأنهم يتكلمون لغة واحدة، بل تتحقق فكرة «الأمة» في حالة واحدة وبشرط واحد، هو أن تلتقي فاعلياتهم في «فعل» واحد، يستهدف هدفا واحدا؛ وذلك لأنه بالفعل المشترك يجاوز كل فرد حدود نفسه لينفتح على الآخرين الذين يشاركونه في أداء ذلك الفعل. إن التجاوز المكاني وحده لا يكفي في إيجاد الرابطة الحيوية العضوية التي تجعل من الأمة أمة واحدة ...
ومن أبرز سماتنا - نحن المصريين - هذا الرابط الأسري الذي يجعل العلاقة بين أفرادنا تجاوز حدود المصلحة إلى ما هو أهم من ذلك وأعمق، وهي علاقة قد تخفى على الرائي في فترات الحياة العادية، لكنها تشتد ظهورا في لحظات التأزم ...
Unknown page