فقال التلميذ الشاب: وما لي ولهؤلاء يا أبتاه؟ إنني إنسان، وهي جماد ونبات وحيوان.
فقال له الأستاذ: أنت يا بني كل هؤلاء، وكل هؤلاء هو أنت، أنت الكون العظيم بكل ما فيه من قوة وفتوة وجلال وجمال.
قال التلميذ: ولكن أراني - يا أبت - فردا واحدا محدودا، وها هي ذي حدودي، أراها بعيني وأحسها بأصابعي.
فقال له الأستاذ: ذلك يا بني عند النظر الضيق السقيم، أو إن شئت فقل: إنها لغة الأبصار والأيدي ... دعني أحدثك بلغة تفهمها، ائتني بثمرة من تلك الشجرة. - ها هي ذي. - ماذا ترى في جوفها؟ - أرى في جوفها بذورا صغيرة. - اقطع بذرة منها نصفين. - ها أنا ذا قد فعلت. - ماذا ترى فيها؟ - لا أرى شيئا. - إن الجوهر الدقيق الذي عجزت عينك أن تراه هو الذي تنبت منه تلك الشجرة الباسقة، ومن مثل ذلك الجوهر الذي لا تراه الأعين جاء الوجود، وهذا الجوهر الذي لا تراه هو الحق الموجود، هو الروح الشامل لأطراف الوجود، هو أنت.
تلك إذن كانت لمحة صوفية نزع إليها صاحبنا منذ فرغ من دراسته، وأخذت تعاوده حينا بعد حين، وامتدت معه أعواما جاوزت في عددها عشرة، ولكنه خلال تلك الأعوام نفسها كانت تغلب عليه النظرة العلمية الصارمة التي لم تكن تريد له ألا يأذن لشيء في الوجود كله أن يفلت من قبضة العلم، لا يستثني من ذلك القيم الخلقية نفسها وما نسميه بالمثل العليا؛ فالحرية مثلا، أو المغامرة أو ما شئت من معنى، يمكن رده إلى سبب من البيئة التي نشأ فيها هذا الإنسان أو ذاك، ففي أواسط الثلاثينيات كان قد لحظ أن الأوروبي أشد تمسكا بحريته وفرديته من الشرقي، فطرح صاحبنا سؤالا على نفسه يريد به العلة الحقيقية التي أنشأت مثل هذا الفارق بين الأوروبي والشرقي، أو إن شئت فقل بين أهل الشمال وأهل الجنوب.
وطفق يبحث عن العلة التي اشترط على نفسه أن تكون علمية بأضيق معاني هذه الكلمة، حتى هداه البحث إلى حقيقة في طبيعة التنفس في الهواء البارد والتنفس في الهواء الدافئ أو الحار؛ وبالتالي فهي حقيقة تمس نوع الطعام الضروري في كلتا الحالتين، وأخذ يسلسل الحلقات حتى انتهى إلى أن «الحرية» والتشبث بها بين سكان الجهات الباردة أكثر مما يتشبث بها أهل الجهات الحارة.
قال في ذلك البحث العلمي ما يأتي: «لما كان الإنسان في الجهات الباردة يتنفس من الأكسجين أكثر من زميله ساكن الجهات الدافئة؛ أولا: لأن الهواء أكثف في الجهات الباردة، فيكون مقدار الأكسجين في الشهقة الواحدة أكثر مما لو كان الهواء مخلخلا خفيفا، وثانيا: لأن الإنسان يتنفس في الجهات الباردة مرات أكثر عددا في الفترة الزمنية المعينة مما يحدث لساكن الجهات الدافئة، ومن شأن هذا التنفس السريع من هواء كثيف أن يضاعف كمية الأكسجين الداخل في الجسم؛ فينتج عن ذلك ضرورة أن يزود ساكن الجهات الباردة جسمه بمقدار من الكربون في طعامه أكثر جدا مما تطلبه ساكن الجهات الدافئة، ومعنى ذلك أن ساكن الجهات الباردة لا بد له في طعامه من لحوم بمقدار أكبر من زميله في الجنوب الدافئ أو الحار، بل إن هذا الأخير يستطيع أن يعيش على نبات صرف ... ثم يمضي المقال فيبين كيف أن الحصول على لحوم الحيوان أشق من الحصول على النبات؛ وبالتالي لا بد بحكم الضرورة أن تقل نسبة الزيادة في سكان الشمال عنها في سكان الجنوب، والنتيجة هي ندرة الأيدي العاملة في الشمال وكثرتها في الجنوب، فتعلو قيمة العامل في الحالة الأولى وترخص في الحالة الثانية؛ فينتهي الأمر في الحالة الثانية بفروق شاسعة بين الأغنياء من أصحاب الأعمال والفقراء من العمال المأجورين، على خلاف ما يحدث في الشمال، فيكون استعباد الغني القوي للفقير الضعيف أيسر في الجنوب منه في الشمال، فلا تكون أمام الإنسان في الجنوب فرصة يتمسك فيها بحريته وكرامته كالتي يجدها إنسان الشمال ...»
مثل هذا التصور للتفكير العلمي نراه قد استبد بصاحبنا في كثير جدا من محاولاته خلال الثلاثينيات، لولا أنه كان في لحظات ليست بالقليلة يتعرض للقلق، فيرد على نفسه بمقال يثبت فيه أن هذا النظر الضيق للتفكير العلمي - النظر الذي يحصر العلمية في الروابط المادية - لا تطمئن له نفس الإنسان آخر الأمر.
ومن أمثلة حوار الكاتب مع نفسه على هذا النحو ما كتبه ذات مرة خلال الثلاثينيات، تحت عنوان: «بين المعجزة والعلم»، وذلك أنه كان قد قرأ من فلسفة إسبينوزا ما أقنعه بأن قدرة الخالق - جل وعلا - إنما تتمثل في أن تطرد قوانين الكون اطرادا لا يقف في سبيله شيء، وليست قدرته في أن يوقف الشمس كما يقول رواة المعجزات إنها وقفت ليوشع، أو أن يشق البحر كما يقولون إنه انشق لموسى، ولا أن يبرئ الأكمه والأبرص بلمسة كما يقولون عن عيسى (عليهم جميعا السلام). وكان صاحبنا عندئذ يرى أنه لا بد من «تأويل» هذه «المعجزات» تأويلا يبقي على الإيمان بما ورد في الكتب المنزلة، ويتفق - في الوقت نفسه - مع ما يتفق ومنطق العقل. أقول: إن صاحبنا كان قد اقتنع بأن قدرة الله سبحانه وتعالى إنما تتجلى في اطراد قوانين الكون لا في إيقافها.
لكنه لم يلبث في إحدى لحظات فكره أن أقام حوارا مع نفسه، وأثبت ذلك الحوار في المقالة المذكورة، والتي خلاصتها هي أن المعجزة لا تبطل القانون العلمي، بل هي تحول دون سريانه بفعل إرادي يتدخل في الطريق، مثال ذلك: أن نرى تفاحة تسقط من فرعها فتهوي نحو الأرض بفعل قانون الجاذبية، لكنك تسرع فتمد يدك لتلقفها وهي في طريق سقوطها، فلا تقول عندئذ إنك أبطلت القانون، بل إن القانون الطبيعي لم يزل قائما كما كان، وكل ما حدث هو فعل إرادي منك تدخل ولم يدع التفاحة تكمل طريقها إلى الأرض. وهاك فقرة من ذلك الحوار الباطني بيني وبين نفسي: «... سأفرض معك أن قوانين الطبيعة يستحيل عليها الخطأ، وأن المادة لا تملك لنفسها تغييرا ولا تبديلا عما رسمه لها قانونها الأعلى، فمن ذا الذي زعم لك أن المعجزة كسر لقانون الطبيعة، وأنه لذلك يجب اطراحها ونبذها؟ نحن نسلم معك أن قانون الجاذبية صارم لا يقبل الشذوذ، وأن التفاحة إذا انفصلت عن فرعها سقطت من فورها على الأرض بفعل قانون الجاذبية هذا، ولكن هب يدا امتدت إلى التفاحة وهي في طريقها إلى الأرض فلقفتها، فحالت بذلك بينها وبين الأرض، أيكون ذلك كسرا للقانون؟ كلا؛ فالقانون لا يزال قائما قويا سليما، غير أن إرادة بشرية حالت دون تطبيقه لا أكثر ولا أقل ... أئذا تركت أقلامك وكتبك مبعثرة على أرض غرفتك، ثم عدت بعد حين فوجدتها صعدت إلى ظهر المكتب صفوفا منظمة؟ أفتقول: إن قانون الجاذبية قد انقلب رأسا على عقب؛ لأن الكتب والأقلام قد صعدت إلى أعلى، بدل أن تستقر على الأرض منجذبة بها؟ أم أنت جازم في مثل هذه الحالة بأن شخصا ما قد تدخل في الأمر بإرادته وحال بين قانون الجاذبية وبين تنفيذه حينا، فأمكن للأقلام والكتب بذلك أن تفلت من يده، لكن القانون ما يزال قائما لم يخدش ذلك من قوته وشموله؟ ... إنك متفق معي - ولا شك - أن الإرادة البشرية قد تستطيع أن تتوسط بين القانون وتطبيقه، فتعطله دون أن تبطله، حتى إذا ما حورت لك العبارة قليلا، سائرا بها نحو الأقوم والأصح، غضبت للعلم وكرامة العلم! لو زعمت لك أن لله إرادة حرة كهذه التي للإنسان، يستطيع بها أن يعطل قانون الطبيعة حينا قد يقصر أو يطول، ولكن القانون يظل قائما ومعمولا به، كان هذا الزعم مني في رأيك جهلا وحماقة! يرعاك الله! هلا أنبأتني لماذا يكون للإنسان ما ليس لله؟»
Unknown page