في الأوائل الأولى من سنة 1965م أنشأت - باسم وزارة الثقافة - مجلة «الفكر المعاصر» وأشرفت على تحريرها ما يقرب من أربع سنوات، ولقد رسمت لها سياستها منذ صدورها أن تقصر نفسها على ما هو «فكر» وما هو «معاصر» من ذلك الفكر، وكان معنى اقتصارها على «الفكر» - عندي - هو إخراج «الأدب» الصرف: شعرا ورواية وقصة ومسرحية، ثم كان معنى «المعاصرة» أن ينصب اهتمامها في المقام الأول بما ظهر من فكر جديد بعد الحرب العالمية الثانية، وكان من أهم معالم السياسة التي رسمتها لها كذلك أن تعنى بالفكرة الرفيعة الخصبة الموحية أيا كان مصدرها: جاءت من غرب أم جاءت من شرق على حد سواء؛ أي أن تكون مجلة «محايدة» من الناحية السياسية، ما دامت قد استهدفت جودة الفكرة بغض النظر عن «السياسة» التي انبعث منها ذلك الفكر الجيد.
وكان المناخ الفكري في مصر إبان الستينيات مليئا بأفكار جديدة تولدت عن الروح الثورية التي أرادت بطموحها أن تغير حياتنا نحو الأفضل بكل ما استطاعت من جهد وقوة، لكن كثيرا جدا من تلك الأفكار السابحة في سمائنا إبان تلك الفترة كان - فيما رأيت - شديد الغموض برغم دورانه على الألسنة والأقلام، بل إن ذلك الغموض كثيرا ما أدى إلى الخطأ الصريح الذي لم يكن يخلو من خطورة على أفهامنا وحسن تصورها للمعاني التي تريد استخدامها أداة للثورة الفكرية، فآليت على نفسي أن أنشر في مجلة «الفكر المعاصر» فصولا أتناول في كل فصل منها أفكارا رئيسية من تلك الأفكار الشائعة؛ لأحللها تحليلا أقرب إلى التحليلات الفلسفية الهادئة المنزهة عن أهواء المذاهب السياسية، وكنت في معظم الحالات أنتهي إلى نتائج لم تكن هي ما يفهمه عامة المفكرين في حياتنا الثقافية يومئذ، ولأضرب لذلك بضعة أمثلة في إيجاز: (أ)
كانت هنالك دعوة تهيب بكل المواطنين أن يتحدوا في الفكر ليكونوا من أمور دنياهم - بل وأمور آخرتهم كذلك - على رأي واحد، وسرعان ما فهم أصحاب السلطان في شتى مواقعهم هذه الوحدة الفكرية المنشودة على أنها تطابق الآراء تطابقا لا يدع فرصة لزيد أن يختلف عن عمرو، وزيد وعمرو معا إنما يتطابقان مع رأي «الجهات العليا» - كما يسمونها عادة، فكتبت تحت عنوان: «وحدة الفكر» أقول فيما أقوله: «... وسر الوحدة الفكرية - فيما نرى - هو في غلبة أهداف على أهداف؛ فالإنسان كائن عضوي هادف يوجه نشاطه الحيوي نحو غايات بعينها، تصبح هي الخيوط الرابطة لأوجه النشاط على اختلافها، فإذا وضعنا المعنى الذي نريده في جملة مركزة مختصرة، قلنا: إن وحدة التفكير هي في وحدة الهدف، وأن ذلك يصدق بالنسبة للفرد الواحد كما يصدق بالنسبة للأمة الواحدة، فإذا تعددت الأهداف كما تتعدد الأضداد، بحيث أراد الشخص الواحد شيئين متضادين؛ فقد وقع في تفكك وتمزق، يريد بعضه شيئا ويريد بعضه الآخر شيئا آخر، وليس ذلك بالنادر الحدوث، فما أكثر ما يريد الشخص أن يأكل الفطيرة وأن يظل محتفظا بها في آن واحد - كما يقولون، ولكنها تعد حالة مرضية أن توزع النفس بين النقائض والأضداد، وطريق الشفاء إنما يكون في أن يعرف المرء حقيقة نفسه ليعلم أي النقيضين أو الضدين يختار.»
نقول: إن سر الوحدة الفكرية هو في غلبة أهداف على أهداف، أو بعبارة أخرى: هو في تركيز الانتباه في غايات معينة، وإقصاء ما يناقضها أو ما يحجبها عن مجال النظر، وتغير تركيز الانتباه في هدف محدد، يتعذر - بل يستحيل - على الإنسان أن يختار من مختلف العناصر التي تعرض له في حياته ما يخدم الغرض المنشود؛ إذ كيف أختار الوسائل إلا إذا سبقت عندي الغاية التي أتوسل إلى بلوغها بهذا أو بذاك من العناصر التي تعرض لي في الطريق؟ إنه لا تناقض في أن ينشد الفرد الواحد سلسلة من الغايات يأتي بعضها في إثر بعض، فكلما حقق إحداها جعلها وسيلة لما بعدها ... (راجع كتاب «في حياتنا العقلية»).
لكن هذا الذي ذكرناه يترك مسألتين هامتين لاختلاف الرأي اختلافا حرا، أولاهما: ماذا عسى أن يكون الهدف الرئيسي الذي نبحث له عن الوسائل الموصلة إليه؟ أنترك فردا واحدا يحدد لنا هدفنا ثم يصيح فينا أن اتحدوا تحت لوائه؟ والمسألة الثانية هي: ما أفضل الوسائل للوصول إلى الهدف المختار؟ إنه إذا لم تترك للأفراد حرية القول في هاتين المسألتين؛ وقعنا في قبضة فرد مستبد حتى ولو كان في استبداده سليم النية في إخلاصه لبلاده. (ب)
وكان من الأفكار التي شاعت شيوعا واسعا وخطيرا فكرة تقسيم الناس إلى يمين ويسار، ولو اقتصر الأمر في ذلك على الحدود التي تجعل لتلك القسمة معنى؛ لهان الخطب، لكنه تقسيم اتسع حتى شمل جوانب لا يمكن عقلا أن تندرج تحت الانقسام إلى يمين ويسار، فطرحت الموضوع أمام نفسي للنظر التحليلي الهادئ التربة، ثم عرضت على القراء ما انتهيت إليه من نتائج، وكان ذلك بعنوان «يمين الفكر ويساره، ما معناهما؟» (راجع كتاب «في حياتنا العقلية») فقلت فيما قلته: «... «اليمين» و«اليسار» كلمتان أراهما يستعملان على نطاق واسع؛ للتفرقة بين الأفكار والمواقف والأشخاص، فهذه الفكرة من اليمين وتلك من اليسار، وكذلك هذا الموقف وذلك، وهذا الرجل وذاك. ولقد تساءلت - مخلصا لنفسي السؤال والبحث عن الجواب: ماذا يا ترى عساها أن تكون تلك الصفات التي إذا ما توافرت في شخص أدخلته في زمرة اليمين أو في زمرة اليسار؟ ولما حاولت الإجابة؛ وجدت الأمر أعقد من أن تجيء إجابة سريعة أطمئن إلى صوابها؛ ذلك لأنه لو كانت التفرقة مقصورة على يمين في ناحية ويسار في ناحية، لما كان للتقسيم مغزى عند من تعنيه الآثار الفعلية للأفكار النظرية، لكنني ألاحظ أن ثمة صفتين أخريين - على الأقل - تلحقان باليمين على أقلام الكاتبين، كما تلحق النتيجة بمقدمتها، وأن ضديهما كذلك يلحقان باليسار، فإذا هم وضعوا رجلا في زمرة اليمين وصفوه في الوقت نفسه بالرجعية وباللاعلمية في وجهة النظر؛ لأن اليسار وحده - هكذا ألاحظ في الاستعمال الجاري - هو التقدمي وهو العلمي، وإذا كان هذا هكذا فليس الأمر من قلة الشأن بحيث نتركه يمضي بغير تحديد.
وأول ما قد ورد على ذهني عند محاولة النظر إلى هذه التفرقة بين يمين الفكر ويساره، هو أن سألت نفسي: ترى هل يتخارج هذان القسمان تخارجا تاما كما يتخارج الذهب والنحاس، فلا يكون الذهب نحاسا ولا النحاس ذهبا؟ أو هما متداخلان كما يتداخل الشعر والموسيقى في شيء واحد بعينه - هو الأغنية - تداخلا يجيز لك أن تعد الأغنية شعرا إذا شئت، وأن تعدها موسيقى إذا شئت؛ لأنها شعر وموسيقى في آن واحد؟ ...»
وهكذا مضيت ألقي أضواء التحليل على هذا التقسيم؛ لأخلص آخر الأمر إلى أنه تقسيم قد يكون له معناه في بعض المجالات كالاقتصاد والاجتماع، وحتى في هذه المجالات فالأمر مرهون بتعريف اشتراطي يحدد معنى النقطتين تحديدا عرفيا، أما سائر ميادين الفكر فمن العسير أن نرى متى يكون الموقف يمينا ومتى يكون يسارا إلا مع تعسف شديد.
ومن طريف ما أذكره في هذا السياق أنني كثيرا جدا ما فوجئت بأن أجد كاتبا قد نعتني باليمين، كما أفاجأ بكاتب آخر ينعتني باليسار، وكاتبا ثالثا يحدد موقعي بأنه يمين اليسار، وكاتبا رابعا يحدده بأنه يسار اليمين، وكان ذلك كله مؤسسا على موقف فكري واحد التزمته ولم أغير منه شيئا ذا بال، وهو الموقف الذي ذكرت بعض جوانبه في الفصل السابق، شارحا به «التجريبية العلمية» (أو الوضعية المنطقية) التي أخذت بها في بنية العلم ومنطقه. (ج)
ومن الأفكار التي تناولتها بالنظر العقلي لأحيط نفسي بمعناها، ثم أشرك القارئ معي فيما انتهيت إليه: فكرة «المثقف الثوري» من هو؟ وذلك لأنه قد شاع في حياتنا الفكرية مبدأ ينادي بوجوب أن يكون المثقف أداة بثقافته لتقدم الناس، فحاولت أن أتبين الفارق الذي يفصل بين من هو مثقف فقط ومن يكون مثقفا ثوريا، فكان مما كتبته في ذلك المجال ما يأتي: «استوقف نظري فيما قرأت منذ قريب قولان مختلفان، لكنهما يلتقيان عند نقطة واحدة فيها من الخصوبة والثراء ما يوحي للفكر المتأمل بمعان كثيرة غزيرة، من بينها معنى قد يكون هو الفصل الحاسم عند تحديدنا للمثقف الثوري من ذا يكون؟ فمتى يكون المثقف مثقفا وكفى؟ ومتى يكون مثقفا وثوريا معا؟ أما أحد القولين فقد صادفته خلال قراءتي لديون ابن عربي «ترجمان الأشواق» الذي تولى فيه ابن عربي بنفسه شرح شعره ليبين مراميه في الرموز التي لجأ إلى استخدامها في ذلك الشعر، وقد أورد في غضون هذا الشرح حديثا للنبي عليه السلام، يقول فيه: «ما ابتلي أحد من الأنبياء بمثل ما ابتليت.» مشيرا بذلك - فيما يقول ابن عربي - إلى رجوعه من حالة الرؤية - رؤية الحق - إلى دنيا الناس؛ ليخاطب فيهم من ضل ليهديه سواء السبيل؛ أي إن رؤية الحق لم تكن عنده هي كل الطريق، وإنما يكملها أن يغير الحياة على هذه الأرض بما يجعلها تعلو إلى الكمال الذي رأى.
Unknown page