Qissat Adab Fi Calam
قصة الأدب في العالم (الجزء الأول)
Genres
سر خطوة قصيرة إلى الوراء لتبلغ عصرا كان يجهل قوة البخار والكهرباء، فكانت المطابع - كسائر آلات الصناعة - تدار بالأيدي، فماذا ترى؟ ترى القوم يخرجون الكتب متقنة الصنع جميلة الشكل، إذ كانت تطبع على ورق من ألياف التيل، فعوض آباؤنا من قلة النسخ المطبوعة من الكتاب الواحد متانة الصناعة التي تؤدي إلى طول البقاء؛ وهكذا حسنات الرقي كثيرا ما تتبعها السيئات، ونواحي الإصلاح كثيرا ما تلاحقها نواح من الفساد. فلئن كان آباؤنا قد طبعوا كتبهم بمطابع الأيدي، على ورق من صنع الأيدي، فلقد أخرجوا كتبا أقوى بناء من معظم ما تخرجه مطابع اليوم، وأبقى على وجه الدهر؛ إذ الورق الذي نستخدمه اليوم مصنوع من لب الخشب، ممزوجا بأحماض قوية، فسرعان ما يصفر وجهه وتضعف قواه، ولولا تلاحق الطبعات للكتاب الواحد لأسرع إليه الزوال. على أن آباءنا إلى جانب ما كان لهم من كتب متينة، كانت لهم طباعة رديئة، فكم صغرت الأحرف ودقت حتى أجهدت أبصار القارئين، اقتصادا للورق، فضلا عن قلة الكتب وارتفاع ثمنها، فلم يكن في مستطاع كثير من الناس أن يقتنوها.
إلى هنا قد خطونا إلى الوراء خطوتين هما: عهد المطبعة تدار بالكهرباء، وعهد المطبعة تدار بالأيدي. ثم قف لحظة وقفة إكبار وإعجاب أمام دكان صغير لرجل ألماني عاش في منتصف القرن الخامس عشر، وهو يوحنا جوتنبرج،
1
الذي يعد - بحق - أبا الطباعة غير مدافع؛ فهو الذي ابتكر وسيلة لصب الحروف بحيث يمكن نقلها وتحريكها، فيسهل رصها في سطور وصفحات. وليتنا ندري أي كتاب أخرج هذا الطباع الخالد، فليس في المتاحف كلها كتاب يحمل اسم جوتنبرج؛ غير أن الأناجيل اللاتينية التي ما يزال بعضها باقيا، يرجع الفضل في طبعها إليه مع نفر من الأعوان والأتباع. ولنذكرها عبرة من عبر الزمان أن هذا المخترع العظيم - ككثير غيره من رجال الاختراع ممن يدين لهم العالم بالفضل الجزيل - قد دفعته الحاجة أن يرزح تحت عبء من الدين، لم يكن له بوفائه قبل، فجاءه الدائن وانتزع منه ما يملك من أدوات وأحرف، وخلفه لفاقة فموت. وليس من شك في أن ذلك الدائن قد انتفع بما أخذ من جوتنبرج، فلم يمض على الدنيا نصف قرن من الزمان حتى انتشرت الطباعة على وجه أوروبا من الشمال إلى الجنوب.
ثم ماذا قبل المطبعة والطباعة؟ تابع الرحلة إلى الماضي البعيد حتى تبلغ عهدا لم تعرف فيه أوروبا كيف يكون الورق، أو عرفت منه القليل الضئيل؛ إذ الورق صنيعة أهل الصين، ثم أهل مصر، وعنهم أخذ العرب الذين علموا صناعته لجيرانهم من أهل الغرب؛ فالأوروبيون مدينون بهذه المادة - التي لها من القيمة في تقدم العلوم ما لها - لثلاثة أجناس من أجناس البشر، وهم الصينيون والمصريون والعرب.
وقبل أن يذيع استخدام الورق، كانت تكتب الكتب والوثائق والرسائل على نوع خاص من الجلد؛ والجلد بطبعه طويل البقاء بطيء البلى، فما نزال نرى في المتاحف صفحات من الجلد خطت كتابتها منذ ثلاثة آلاف عام على أقل تقدير؛ فالغنم والأبقار التي تغذي أجسامنا بلحومها، قد أتمت على الإنسان نعمتها فوهبته جلودها، لا لينتعلها ولا ليلبسها فحسب، بل ليتخذ منها حافظا أمينا يصون له ذخر الآداب مدى آلاف السنين.
وكان الفرس يكتبون في جلود الجواميس والبقر والغنم. وكانت العرب تكتب في أكتاف الإبل وفي العسب - وهو جريد النخل يكشفون الخوص عنه ويكتبون في الطرف العريض منه - كما كانوا يكتبون في اللخاف، وهي الحجارة البيض الرقيقة، وأحيانا يكتبون في الجلد. وفي هذا كله كتب القرآن الكريم أول ما نزل في عهد النبي، فكانوا يكتبون الآيات في العسب واللخاف وعظام الأكتاف والأضلاع والأدم (الجلد).
ولقد حفظت لنا الكتب المكتوبة على الجلد الجزء الأعظم من تراث الأدبين اللاتيني واليوناني، كما حفظت أكثر ما خطه الإنسان في القرون المسيحية الوسطى التي امتدت أربعة عشر قرنا؛ فقد أخذ النساخ يكتبون على صفحات من الجلد المتين ما وجدوه مكتوبا على أوراق البردي المهلهلة من آيات الأدب القديم، وكان هؤلاء النساخ - من الرهبان والقساوسة - يتخذون من الأديرة ملاذا للعمل والمأوى، تلك الأديرة التي ظلت قرونا عدة آمن ما يلوذ به رجال العلم من مكان. وليس من شك في أن هؤلاء النساخ قد وجهوا همهم الأكبر فيما ينسخون إلى الكتب المقدسة، فنسخوا الإنجيل وسائر المخطوطات التي منحوها التقديس. على أن بعض هؤلاء النسخة من الرهبان قد اتجهوا إلى إحياء الآداب القديمة؛ فكم من راهب أنفق جهده في إخراج كتاب أدبي، أو في تحقيق نص مجهول. وها هي ذي متاحف الفن ودور الكتب تحوي نماذج فخمة من هذا العمل الجليل الجميل، ولا نزال نشاهد بعض هذه الكتب التي نشروها وزخرفوها بأحرف مذهبة وألوان ناصعة كأنما نقشت بالأمس القريب.
ولئن كان استخدام الجلد للكتابة يرجع عهده إلى ماض سحيق، إلا أنه لم يكن شائعا؛ فلو كنت ممن عاشوا في روما أو أثينا قبل القرن الرابع الميلادي وأردت أن تبتاع نسخة من كتاب لفرجيل
2
Unknown page