وعرف الناس بعد ثلاثة أيام من صدور الأحكام، أن المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة رحلوا إلى الليمان، وأن المحكوم عليهم بالإعدام شنقوا. ولم يرتفع في القرى ولا في المدن التي منها هؤلاء المحكوم عليهم، صوت بالبكاء على من شنق، أو بالحسرة على من أرسل إلى الليمان. بل خيمت على البلاد كلها سحابة داكنة من الكآبة، ثم أمسك الناس عن الكلام في هذه القضية وما صدر من الأحكام فيها.
وأيقن الثري الوجيه أن أرواح المشنوقين لم تذهب هدرا، وأن حارسيه لن يغنيا عنه شيئا، إذا لم يتخذ لنفسه من الحيطة ما يحفظ حياته، فقد رأى الناس ألا يمد إليه أحد منهم يده، ولا يحييه أحد منهم بأحسن من تحيته، ولا بمثلها. ورأى كثيرين من العمال الذين كانوا يعملون في مزارعه قد انتقلوا إلى مزارع غيره، ورأى في عيون الناس إذ ينظرون إليه حقدا وبغضاء، إن يكونا صامتين، فهما لذلك أشد تفكيرا في الثأر والانتقام. والثأر في هذه البلاد التي يعيش الرجل فيها عقيدة مقدسة، لا يفهم أهلها عدالة القضاء، ولا تطمئن نفوسهم إلا إذا أخذوا بثأرهم، ممن اعتدى عليهم!
والثري الوجيه أحد هؤلاء الناس، ومن أعرفهم بدخيلة نفوسهم، فلا بد أن يكون منهم على حذر، ولا بد أن يحتاط لنفسه أشد الاحتياط، فلن يكون عجبا أن يكون في غرفة نومه فيترصده من بعيد من يطلق عليه الأعيرة النارية فيرديه قتيلا، ويومئذ لا ينفعه المال الذي كنزه من الربا وغير الربا، ولو أن ذلك حدث لكان شرا من حكم المحكمة العسكرية عليه بالإعدام؛ لأنه يكون ثأرا لما اعتبره الناس خيانة منه ونذالة!
لهذا، أقام حول بيته، من جهاته الأربع، سورا رفيعا منيعا، ليس فيه نافذة واحدة ... وبذلك اطمأن إلى حياته ليله، واطمأن بحارسيه إلى حياته نهاره، فهما مسلحان، والناس يعرفون ذلك عنهما، فلن يجرؤ أحد على الاعتداء وهما من حوله. ومن يوم طمأنينته إلى سور داره، جعل يدخل بيته قبل مغيب الشمس من كل يوم، ولا يبرحه إلا بعد مطلعها، مقتنعا بأن الزمن سينسي الكثيرين ما فعل، وأن الذين هجروا مزارعه من العمال والمستأجرين سيعودون إليها، فلا يبقى له خصم إلا أهل من حكمت المحكمة العسكرية البريطانية عليهم بالعقوبة!
وكان الحارسان يبيتان في البيت معه، فقد أعد لهما حجرة بالطابق الأول، وإلى جوار مدخل البيت، مطمئنا إلى أن باب السور المنيع حصين لا يستطيع أحد فتحه إذا أقفل، وإلى أن وجود الحارسين داخل البيت أدعى إلى طمأنينة أهله جميعا. وقد أثث حجرة الحارسين أثاثا حسنا، وعني بهما أكبر العناية، أوصى خادمه الخاص بهما خيرا، يريد بذلك كله أن يحتاط حتى لا يصرفهما أهل القرية عن شدة العناية بحراسته!
وتعاقبت الشهور ثم أقبل شهر رمضان، ومن عادة الناس في هذه القرى أن يمدوا أمام دورهم موائد، كل على حسب قدرته، حتى إذا مر بهم صائم ساعة المغيب، مال إليهم وتناول إفطاره معهم، سواء أكانوا يعرفونه أم لا يعرفونه!
ورأى الرجل بعد أن أقام السور حول بيته أن تكون مائدته داخل السور، وإن أيقن أن أحدا من الناس لن يجلس إلى مائدته أو يتناول طعامه، سواء في ذلك أبناء قريته وأبناء غيرها من القرى المجاورة. وقد كان يجلس بعد العصر خارج السور على «مصطبة» بناها لهذا الغرض، فإذا جاءه موعد الإفطار، دخل داره ليتناول الطعام مع حارسيه المسلحين.
وإنه لجالس يوما قبيل الغروب على «مصطبته» إذ مر به رجل من معارفه، وجلس إلى جانبه يحدثه، فلما دنت ساعة الغروب، دخل الحارسان إلى الدار، يستعدان لتناول طعامهما، وينتظران الثري الوجيه ليتناول الطعام معهما. ودعا الثري «شاهد الملك» محدثه ليتناول معه، فاعتذر بأن قوما ينتظرونه في بيته، وأنه حريص مع ذلك على أن يتم الحديث الذي بدأه، وكل الذي يطلبه أن يأمر الثري خادمه ليجيء بالماء وببعض بلحات «يفك بها صيامه».
ولم يجد الثري بدا من أن يفعل، فدعا خادمه فجاء بالماء والبلح، ودخل ينتظر أذان المغرب ليفطر هو الآخر. وفي هذه الساعة التي تسبق المغيب من رمضان، كان فلاحو القرية يعودون زرافات من الحقول ومعهم ماشيتهم، وهم في هرج ومرج، وكل يريد أن يبلغ داره قبل الأذان. وإنهم لكذلك إذ اندفع من بينهم أربعة ملثمون إلى ناحية الثري الوجيه شاهد الملك، وهو جالس إلى جانب صاحبه يحدثه: فأفرغوا فيه أعيرتهم النارية، فأردوه قتيلا!
وخشي حارساه إن هما خرجا أن يصيبهما ما أصابه على غير جدوى، فبقيا حول المائدة، وكأنهما لم يسمعا شيئا، ولم يريا أحدا!
Unknown page