وقال أقارب الزوج يومئذ: إن القضاة غلبهم برهم ورحمتهم بتلك الصغيرات المحتاجات إلى الأخ العاصب؛ ليظل إيراد الوقف لهن ولأمهن.
وكذلك ثبت للبنات حقهن في العيش الرخي الكريم.
واغتبطت هيفاء، واغتبطت أمها، لهذا الحكم، وصار «عمر» موضع إعزازهما الذي لا حد له، وموضع إشفاقهما كذلك أن يصيبه مكروه يضيع على البنات الأربع مورد رزقهن. لذلك كانتا تتناوبان العناية به والسهر عليه، ولا ترضيان أن تدعاه إلى مرضع أو مربية، خشية الأقارب الذين طمعوا في الوقف، وقاضوا الأم للاستيلاء عليه ... أن يعملوا على اختفاء الطفل، أو على موته!
وبالغت هيفاء في إعزاز عمر، مبالغة تجاوزت حتى جنون الأمومة، ودهش لهذه العناية من كانوا يقسمون إنه ليس ابنها، وإن أمها دسته في فراش وضعها، وكأنما نسوا أنه لم يكن ابن أحشائها حقا، فإنه الروح والحياة لهاتيك البنات الأربع، اللاتي يصبحن لولاه في حكم المعدومات، فيعشن عيشا خشنا، لم تألفه هيفاء حياتها، ولم يدر بخاطرها في يوم من الأيام أن يكون نصيب ذريتها!
وهل تراها، لولا الرجاء في رغد الحياة ونعمائها، كانت ترضى أن تتزوج عبده عاكف؟
صحيح أنها كانت تحبه، لأنه كان مهذبا ورقيقا، لكنها تحبه كذلك ليساره، فلا تخشى خشونة عيش لها ولا لذريتها في كنفه. •••
وبدأ الغلام يكبر بعين أمه، وأكبر همها أن تجعل منه، وهو الذي يشتبه بعضهم في نسبه، رجلا جديرا باسم زوجها وبها. بل لقد طمعت حين توسمت في عينيه بريق الذكاء، في أن تراه يوما عظيما يشار إليه بالبنان؛ لذلك لم تضن لحسن تربيته بشيء: كانت تلبسه منذ صباه الباكر أحسن ملبس، فلما آن له أن يذهب إلى المدرسة اختارت له أحسن مدرسة في العاصمة، واختارت له كذلك مربية تشرف على تعليمه وتنشئته، ثم إنها عودت أخواته البنات على أن ينظرن إليه نظرة إكرام وإعزاز، طامعة أن يزيد ذلك في نفسه محبتهن، وفي نفوسهن محبته، وأن تجعل منه ومنهن أكرم أسرة تعتز بها كهولتها، ويخلد بها اسم الرجل الذي أحبته، والذي غاله الموت وهو في عنفوانه!
وكان الغلام في بوادر نشأته رقيقا؛ لأنه كان الذكر الوحيد بين إناث ست: أخواته الأربع وأمه وجدته، لكنه ما لبث حين اختلط بالتلاميذ في المدرسة أن زايلته هذه النعومة، وأن حلت محلها خشونة لا تخلو من عنف. ولم تكن أمه عنيفة ولم يكن أبوه عنيفا، وبلغ من عنفه حين بدأ يحس بقوة عضلاته أن تبدلت معاملته لأخواته، وإن لم تتغير معاملتهن له، فكان يقسو بهن، وكان يرفع يده أحيانا عليهن، وكان يضطر الأم للتدخل أحيانا بينه وبينهن.
ولم تكن هيفاء تضيق بعنف عمر، أو تزيد في تدخلها بينه وبين أخواته، على مألوف ما تبذله الأم من نصح يشوبه العطف والحنان.
وكانت تلتمس له من العذر أن يتخطى الصبا إلى الشباب إيذانا بإقبال الرجولة، فكانت تنسب إلى طيش الشباب كل ما يقع منه، وكان لها عذرها عن هذا التسامح معه. فلو أنه لم يكن ابنها الذي أنجبته من لحمها ودمها فهو ابنها الذي ضمته إلى صدرها رضيعا، ثم أنشأته من يومئذ إنشاء ربط بينه وبينها بمثل رابطة البنوة والأمومة!
Unknown page