الإهداء
كفارة الحب
ميراث
يد القدر
الحب أعمى
وفاء
شاهد الملك
لله في خلقه شئون
بأعمالكم تؤجرون
الأسرة الثانية
الدين والوطن
آباء وأبناء
الإهداء
كفارة الحب
ميراث
يد القدر
الحب أعمى
وفاء
شاهد الملك
لله في خلقه شئون
بأعمالكم تؤجرون
الأسرة الثانية
الدين والوطن
آباء وأبناء
قصص مصرية
قصص مصرية
تأليف
محمد حسين هيكل
الإهداء
إلى مصر ...
وإلى «مصرية».
إليكما كان إهداء «زينب» في البدء.
ولعل من الحق أن يكون إليكما إهداء هذه المجموعة في الختام.
كفارة الحب
كانت تناهز الخامسة والثلاثين، صبوح الوجه، حلوة الابتسامة، ذكية النظرة، أدنى إلى القصر، غير بادنة وغير نحيفة. وكانت شفتاها المقدتين تزيدان ذكاء نظرتها وحيا بالكثير من المعاني. وكان أصدقاؤها لا يعرفون من أمرها إلا القليل الذي ينقله إليهم صديقنا وقريبها حمزة ... لكنهم كانوا يعنون بأنبائها لما تناقلت الألسن وتناهبت الأسماع من حديثها في الشهور الأخيرة. فالقاهرة مدينة شديدة التسامح مع عبث الهوى، شديدة الإغضاء عمن يسلمون عنانهم لدوافع تياره، لكنها شديدة الدهشة لصادق الحب، ترهف الآذان إذا حدث أحد في حي من أحيائها عن غرام صادق وعاطفة تستعذب الصحبة وتستهين بالموت. لذلك أثارت قصة زهيرة دهشة القاهريين وطلعتهم، وزاد ما في نفوس ظرفائهم من شك أصيل في صدق عاطفة الحب أو في استطاعة امرأة أن ترى في الحب خطيئة تستأهل التكفير عنها.
وكان صديقنا وقريبها حمزة يخطو إلى الأربعين بقلب مطمئن ونفس باسمة للحياة سخرا من الحياة. وكان مع ذلك شديد العناية بشئون يعتبرها كثيرون من أصحابه تافهة ويراها هو جليلة الخطر ما دامت لا تعنيه وحده، بل تعني آخرين معه. من ذلك أنه كان شديد الدقة في مواعيده حتى لكنا نضبط ساعاتنا ساعة يدق الجرس ويدخل هو علينا، ولكنا نتهمه بأنه إذا ألفى نفسه تقدم عن موعده دقيقة أو دقيقتين وقف بالباب ممسكا ساعته بيده حتى تكون الثانية المضبوطة التي يدق الجرس فيها. وكنا يومئذ ننتظره في الساعة الخامسة تماما، وقبيل هذا الموعد ببرهة دق الجرس، فأمسكنا ساعاتنا بأيدينا وتلاقت نظراتنا تتهم الساعات جميعا بتقديم بضع ثوان عن الموعد الدقيق، لكن الداخل لم يكن حمزة، وانقضت بعد الخامسة دقائق وانقضى ربع الساعة وانقضى نصف الساعة ولم يجئ. هنالك بدأ يساورنا القلق عليه وجعل كل منا يلقي ما يجول بظنه أنه سبب تأخره، قال أحدنا: لا بد أصابه مرض مفاجئ، وقال آخر: بل تعلق بأذياله في اللحظة الأخيرة صديق لحوح، وقال ثالث: ما أكثر ما يصيب الناس من حركة المرور في هذه الأيام. وبدأ كل يقص ما حمله على ظنته. وفيما نحن كذلك دق الجرس ودخل حمزة فحيا وجلس مطرقا، وخلع طربوشه ووضعه إلى جانبه، ثم طلب فنجالا من القهوة، وسألنا عما كنا نتحدث فيه. فلما ذكرنا له ما كان من مخاوفنا بسبب تأخيره، بدت على وجهه أمارات تردد حاول بعدها أن يعدل بالحديث إلى غير هذا الموضوع. لكن أحدنا ألح به يسأله عن علة تأخره. ورأينا نحن على قسمات حمزة ما دلنا على أن في الأمر سرا لا يأبى هو أن يبوح به، ولنا في الاستماع إليه لذة أي لذة. فشاركنا صاحبنا في إلحاحه، وبدرت من أحدنا هذه الكلمة: لعل شيئا يتصل بزهيرة كان سبب تأخرك. فاندفع حمزة قائلا: نعم. نعم بسبب زهيرة تأخرت، لقد قضيت عندها هذا النهار منذ صباحه، ولقد رأيتها اليوم غيرها في سابق أيامها. لقد كانت دائما ساكنة سكون أبي الهول برغم ما تعرف من تناول الناس حديثها، بل لقد كانت تبتسم إشفاقا على هؤلاء الذين يتهمونها بأخس التهم، ازدراء إياهم وعبثا بحمقهم وجهلهم الحياة وإسراعهم إلى القضاء في أدق شئونها، شئون العواطف. أما اليوم فكانت ساكنة سكون أبي الهول، كانت ساكنة سكون القبر. فلما اطمأن مقامي عندها وبدأت أبادلها الحديث، قالت إنها فكرت طويلا فيما يقول الناس عنها، وخشيت أن يعلق بذهني منه شيء أقسو به في الحكم عليها، وأنها تريد لذلك أن تقص علي قصتها. وفي قصصها قضيت الوقت كله، وما أدري أكانت قصتها اعترافا أو وصية أم دفاعا، لكنها ختمت قصتها بقولها: أما تراني وقد قصصت عليك حديثي، كفارة الحب.
ثم إنها اعتذرت قائلة إنها تشعر بصداع، وطلبت إلى خادمتها أن تجيئها بكوب ماء صبت فيه مسحوقا أبيض من ورقة أخرجتها من حقيبتها، ثم أشارت إلي أنها بحاجة إلى الاستراحة، فاستأذنتها وجئت إلى مودعكم. ولئن كنتم قد لاحظتم علي شيئا من اضطراب النفس، فهو من أثر هذه القصة التي روت والتي جعلتني أشعر حقا بأنها كفارة لذنوب لا تقع عليها أثقل تبعاتها.
قال أحدنا: هات الوصية.
وقال الآخر: هات الدفاع.
وقال ثالث في صوت محزون: ارو ياصاح حديث كفارة الحب.
اعتدل حمزة في مقعده وإن بقي ملقيا بنظره إلى الأرض في إطراقة المهموم، وأمسك جبينه بيده كأنما يحاول أن يستحضر الألفاظ التي سمعها، ثم قال: أخشى أن تخونني الذاكرة، فأقع فيما يقع فيه غيري من الناس من سوء تصوير العواطف وما تجري به الأقدار في شأنها، فأسيء إلى زهيرة حين أريد أن أقف من الأمر عند رواية حديثها. على أني سأحاول جهدي رجاء أن لا أضيع شيئا من ألفاظها حين جلست في مقعدها الطويل جلسة المطمئن، وقالت في سكينة الحازم الذي اعتزم أمره: تذكر يا صاح زواجي بعد وفاة أمي ونوالي إجازاتي المدرسية. كنت قد بلغت الثالثة والعشرين، وقد رفضت أكثر من خاطب وأمللت بهذا الرفض المتكرر أبي. ثم انقضى عام بتمامه وما يذكرني خاطب حتى خيل لأبي أنني قد قضيت بزائف كبريائي على حظي، وأنني سأبقى من بعد عانسا ما حييت، وكم دفع عمتي لتحدثني في هذا الأمر ولترد إلى رأسي عقلي كما كانت تقول. وبلغ من إلحاحها إجابة لأمره أنني شعرت بنفسي عالة في البيت وعبئا على كواهل أبي، وفكرت أن أشتغل بالتعليم وأمتهن أي عمل يريح أهلي مني، وأفضيت إلى عمتي بذات نفسي. ولا تسل عن الثورة التي ثارها أبي وعن اتهامه إياي بالعقوق وبمخالفة إرادته وهو لا يريد إلا الخير. وهل خير عنده لامرأة في غير الزواج وتدبير مملكة المنزل وإنجاب البنين وتربيتهم ليكونوا لنا في الحياة عونا وبعد الحياة ذكرا وللعالم عمرانا؟! أما هذا الاقتحام لميادين العمل مما تلجأ إليه بنات اليوم فلم يكن عنده إلا ضلالا عن طريق الطبيعة والحق وثورة على أمر الله وما خلقنا له. وانقضت الأيام وعدلت عما كنت فكرت فيه وهدأت ثورة أبي ونالني من عطفه ما لم يحرمني منه قط. ثم جاء يخطبني ذلك الذي أصبحت من بعد له زوجا، وأبلغتني عمتي النبأ مصحوبا برغبة أبي في أن يتم الزواج. ماذا عساي أصنع؟ أأرفض فأثير ثائرة جديدة وأصبح البنت العاقة الثائرة على أمر الله الضالة عن طريق الطبيعة والحق؟ أأقبل وأنا أعرف أن هذا الرجل قليل البضاعة من العلم وإن يكن ذا سعة من المال، وأعرف أنه يكبرني بعشرين سنة، وهو إلى ذلك ليس بالجميل ولا هو ذا وفرة من الذكاء أو خفة الروح؟ ورأت عمتي ترددي، فامتعضت ونبهتني إلى ما في ذلك من إغضاب أبي الذي يريد لي الخير والذي يعرف من شئون الحياة في رأيها ما لا أعرف. ونادى أبي أخته باسمها بصوت ممتلئ قوة وعزيمة، ففت ذلك في قواي وأضعف ترددي ولم أجد ما أقول لعمتي إلا أنني أسلمت الأمر إليهم والتبعة في سعادتي وشقائي من بعد عليهم. وقبلتني عمتي فرحة متهللة وخرجت تهرول ملبية النداء. أما أنا فانهملت من عيني دمعة يأس واستسلام وتوجهت بقلبي لله أشكو إليه غدر القدر.
وزففت إلى زوجي فلم يك إلا أيام حتى رأيته يبدي لي من صنوف المودة ويغدق علي من نفيس الحلي والثياب ما جعلني كلما أقبل علي أبي أقبل يده قبلة شكر وأعترف بسابغ جميله. ومضت الأشهر وبدأت الحلي والثياب تكثر، وبدأت أمل هذا النوع من مظاهر الحب وأطمع من زوجي في شيء آخر. أطمع منه في جمال نفسه يغمرني فيزيد في حياتي، وأطمع منه في أن يبادلني النظرة للوجود وما فيه من حسن واتساق فني، وأطمع منه فيه هو لا في هداياه ولا في ماله. أطمع فيه جديدا كل يوم، مختلفا كل يوم جماله عن اليوم الذي قبله، مبدعا في وجوده ووجودي ما يزيد الحياة أمامنا فسحة وانبساطا ورقة وجمالا. ولم أقف بمطمعي هذا عند الرجاء، بل حاولت أن أبعث إلى نفسه من وجودي ومن حياتي ومن قلبي ومن عاطفتي ومن هواي ومن عقلي، ما يحركه إلى ما أحب. وكأنما شعر المسكين بما تصبو إليه نفسي، فحاول ولكن هيهات. فما كنا نكاد نبدأ تبادل عاطفة حتى ينقلب في لحظة حيوانا، فإذا أجبته إلى حيوانيته رأيته بعدها هامدا باردا منطفئ النظرة لا تلمع عيناه بمعنى ولا يحس لي وجودا. وما كنا نكاد نتبادل حديثا غير حديث مزارعه وأمواله حتى يتثاءب ويعجز عن كتم ملاله. وإذا رآني يوما أعجب بجمال فني: في صورة أتأمل، أو في كتاب أقرؤه، أو في منظر الطبيعة يوحي إلي بجمال الحياة الدائم الجدة؛ وقف مبهوتا، وشعرت أنا به بعيدا وكأن بيني وبينه عوالم وعوالم. فإذا تعلق الأمر بشخصه أو بأمواله أو بشيء يهواه، لمعت حدقتاه، وتحركت في نفسه أثرة قوية لا تعرف حدودا.
بدأ الضجر من أنانيته وضعة نفسه يدس إلى نفسي سمومه. ولست أدري ما كان يصل بي الضجر إليه لولا ما شعرت به من تحرك الأمومة في أحشائي. هنالك ذكرت قول أبي عن واجب المرأة وتناسيت ما كنت أطمع فيه من زوجي، وتناسيت زوجي هو الآخر.
وانصرفت إلى أحلامي بهذه الأمومة التي كنت أزداد بها كل يوم شعورا، وأزداد بسببها نسيانا لما عداها. وأنجبت حساما وجعلت كل همي إلى العناية به. واغتبط زوجي بولده وجعل يغدق عليه بمثل ما كان يغدق علي، فتبتهج نفسي لهذه الملابس الطفلة ولهذه الألاعيب يعبث حسام بها ويحبها حبي أنا إياه. وبدأ الولد يخطو ويتكلم، وبدأت أرجو أن يناله أبوه بالعطف الأبوي الصادق، وأن يفيض عليه من ذلك الحب نورا يشب الولد في أرجاء ضيائه سعيدا بالحياة محبا إياها حبا ذكيا قوي الإدراك سريعه؛ ليكون لي من بعد الرجل الذي أرجو. لكن خيبة رجائي فيما طمعت فيه لنفسي لم تكن دون خيبة هذا الرجاء فيما طمعت فيه لطفلي. لقد كان أبوه يحبه حبا شديدا، لكنه كان حبا حيوانيا؛ هو حب الفطرة التي تدفع الدجاجة لتحنو على فراخها وتدافع عنهم. وكان حبا أنانيا لا شيء من الذكاء فيه. كان يحبه كما يحب عزبته وحصانه وأتومبيله. وليت أنانيته في حب ولده أو فيما يبدي من ميل إليه كانت أنانية مستنيرة تعرف كيف توحي إلى ما تعتقد أنه في ملكها بشيء من معنى الحياة الإنسانية يسمو به إلى ذوق جمال الحياة وإلى السمو في إدراكها، بل كانت على العكس من ذلك أنانية ضيقة الأفق كأنانية الطفل وكأنانية الدجاجة فيها كثير من الحماقة عند الغضب والسخط ومن العطف عند الرضى والانبساط.
دفعت أحوال زوجي هذه إلى نفسي شيئا من الثورة، لكني ألفيته يهز أكتافه لثورتي يحاول تهدئتها بمثل ما يحاول تهدئة طفله إذا صاح: بثوب لي، أو لعبة لطفلي، أو نزهة خلوية يخرج وإيانا إليها علها تهدئ أعصابي على حد تعبيره. والأيام والشهور تمضي ولا أجد وسلية أتغلب بها على طبع زوجي. هنالك بدأت ثورتي تسكن بالرغم مني، ورأيتني أميل إلى ناحية من الأنانية أنا الأخرى، هي ناحية التسلي عن هذه الثورة بما حولي مما أطلق الناس عليه أنه أسباب الرياضة والمتاع. فأكثرت من غشيان دور السينما والمسارح، واستكثرت من الصديقات أبادلهن الزيارات، ونزلت بآمالي ومثلي العليا إلى مستوى البيئة القاهرية، وصدفت عما كنت أصبو إليه من جمال في الحياة لا وجود له فيما حولي، ورضيت كذلك بالحاضر دون أن يغير ذلك من نظرتي إلى زوجي ومن شعوري بأن كل واحد منا بعيد عن صاحبه كل البعد وإن تسايرنا لنقطع طريق الحياة جنبا إلى جنب. وما جوار الأجسام إذا تباعدت الأرواح ولم تهتز القلوب بنبأة من تعاطف أو تفاهم.
في ذلك الحين سكن في أحد المنازل المجاورة لنا قاض كان بالأرياف، ونقل منها إلى القاهرة. ولم يمض على مجاورته إيانا زمن طويل حتى ربط التعارف بينه وبين زوجي، وحتى دعاه زوجي لتناول القهوة عندنا. وأتيح لي غير مرة أن أستمع إلى حديثه وأن أراه ، يا له من حديث كانت تفيض نبراته بالحرارة وكانت تموج عباراته بصور الحياة. كان يقص على زوجي كثيرا مما وقف عليه في مختلف بلاد الريف، فكان يفيض عطفا على أهله وتغنيا بجماله وإشفاقا على بؤس بنيه وأملا في أن ترتفع بهم الأقدار إلى حظ من الإدراك لما حولهم من حسن نادر ومن بهاء وروعة. كنت أسائل نفسي: لم لا يشتغل صاحب هذا الصوت الساحر والبيان العذب بالمحاماة؟ ولم لا يكون خطيبا ولم لا يقول الشعر؟ وتكررت زياراته وتوثقت الصداقة بينه وبين زوجي، فأذن لي بمقابلته: أية رجولة تفيض عنه؟! رجولة فيها طموح وفيها فيض دائم التجدد، رجولة إنسانية مضيئة تدرك من أسرار الحياة ما لا يدركه إلا الإنسان المهذب، تدرك جمال الوجود وما فيه من فن تستخلصه الأجيال الإنسانية وتصوره فتزيد الحياة جمالا، بل تخلق الجمال فيها خلقا. وتحدث إلى زوجي عن الموسيقى، فإذا هو يفهم من دقائقها حظا غير قليل، وجاء معه ببعض كتب في الأدب اطلعت عليها فتحركت نفسي الأولى التي خبت وخمدت تحت سجف الأنانية الجامدة الباردة التي أعداني بها زوجي. هنالك تفتحت أمامي في الحياة فرجة من أمل: لو استطعت أن أصل بولدي ليكون على مثال هذا القاضي، لكانت لي به في الحياة سعادة تنقذني مما صبوت إليه من الإمعان في التسلي بأسباب الرياضة والمتاع التافهة السخيفة التي تحيط بنا في القاهرة وتردني إلى حسن المتاع بأسمى ما في الحياة من صور الحياة.
وأفضيت يوما بذات نفسي إلى زوجي، لعله يشاركني في رجائي ويعاونني على تحقيقه. لكنه لم يلبث أن سمع ما أقول حتى حملق بي وحتى امتقع لونه. ثم عدل عن الموضوع إلى حديث آخر انصرف بعد كلمات قليلة منه: ماذا؟ أي شيء دار بخاطره. ولم أحتج إلى كبير عناء لأفهم، ولم يكتم هو ما في نفسه طويلا، فقد رأيت زيارات جارنا بدأ يتباعد ما بينها، ورأيت زوجي يعمل على زيادة تباعدها بعدم ردها. وسألته يوما وقد انقضت على آخر هذه الزيارات أيام كثيرة أن يرد إلى القاضي كتابا كان قد تركه كي أقرأه، فلم يتمالك زوجي أن انفجر قائلا: وهل يعنيك كثيرا أن يصله هذا الكتاب سريعا؟ أم تريدين بذلك أن أرد له زياراته كي أفتح له بذلك باب زيارته إيانا؟
وصمت، وامتقع لوني حين لفظت شفتا زوجي هذه الكلمات بصوت متهدج. ولم تك إلا برهة حتى انصرف مخافة أن يفيض عنه ما هو شر منها. وخلوت إلى نفسي أفكر: أي وحي مضيء هبط على زوجي. نعم أنا أحب هذا الرجل، أحب جارنا القاضي؛ فهو قريب مني بمقدار بعد زوجي عني. ولكن أي شيء في هذا وأنا زوج وفية كما تريد الزوجية أن أكون؟ ماذا على زوجي إذا أحب قلبي رجلا غيره ما دام جسمي في ملكه وما دمت أسايره في الحياة جنبا إلى جنب، وإن تنافر قلبي وقلبه وبعد ما بين فؤادي وفؤاده؟ ماذا يغضبه أو يثير أنانيته لتعبث الغيرة به كل هذا العبث؟ نعم. أنا أحب هذا القاضي وكنت أتمنى أن أكون زوجا له، لا لهذا الرجل الأجنبي عني، وإن خلط عقد الزواج بين جسمه وجسمي، وإن كان بيننا هذا الولد الذي أحب من أعماق قلبي ويحبه هو من أعماق أنانيته.
وارتسمت صورة جارنا أمامي فثار جسمي كله. ومرت الأيام والبعد يزداد بيني وبين زوجي، وإن لم تتغير معاملتي إياه ولا معاملته إياي. وخرجت يوما لأشتري من أحد الحوانيت بعض حاجتي، فإذا جارنا هو الآخر بالحانوت يشتري بعض حاجته. وما وقعت عيني عليه حتى اهتز كل جسمي وخلتني سأقع من طولي، لكني تمالكت نفسي وأهديته التحية، فتقدم إلي ومد يده وسلم علي. ولما آن أن أخرج عرض علي عربته توصلني إلى حيث أشاء، فترددت برهة ثم رأيتني بالرغم مني أدعوه ليصحبني ... إلى أين! لا أدري. ولكن الأنانية التي أنماها زوجي عندي أرخت العنان لعاطفتي فجعلتها تغلب وفائي من غير أن يزعجني لذلك ألم أو يلذعني وخز الضمير. ومن يومئذ ترعرع بنعمة الحب الصادق وجودي، وتضاعف ضياء الحياة أمام نظري، وصرت أسلس قيادا لزوجي، وشعرت في نفسي بشيء من الإشفاق عليه لم أكن أشعر به من قبل.
ونقل جارنا بعد سنة من القاهرة، فأهداني قبيل سفره صورته. ورأى زوجي هذه الصورة يوما فكاد يثور ثائره لولا ما ظهر على وجهي من غضب مفترس أرانيه مستعدة أن أنشب أظفاري فيه إذا هو حاول أن يمزقها أو يعبث بها أي عبث. وأقسمت لأضعها في إطار ولأجعلنها في غرفة خلوتي. هنالك بدا له أن يأخذني باللين لعلي أثوب إلى صوابي. وأدى به إلى ذلك أني كنت حينئذ في فترة حمل، فكنت مضطربة الأعصاب، وكان يخاف على الإجهاض إن هو أخذني بالعنف. ومن يومئذ طغت أنانيتي على رقته وعلى ملاطفته إياي وإن بقي جسمي في ملكه بمقدار ما بقي روحي جاهلا روحه.
وأنجبت ثلاثة أبناء غير ابني الأول، وانقضت سنون وكبر الأولاد وذهبوا إلى المدرسة، وعلاقتي بصاحبي القاضي لم تنقطع، وأنانيتي وأنانية زوجي متجاوران يتسايران في طريق الحياة. وفي هذه السنوات كانت أنانية زوجي تثور ما بين حين وحين: شكا أمري يوما إلى أبي، لكني كنت أخضع أنانيته دائما بما يعبد؛ بجسمي أسلس له قياده. أما أبي فلم أزد يوما حين جاء يعنفني على أن قلت له: رفضت الزواج غير مرة، ثم اخترت لي أنت على أنك أخبر مني بالحياة. وهذا الاختيار قد زج بي فيما أنا فيه. فعليك حظ من التهمة غير قليل.
ولعنني أبي فلم أحفل بلعنته. لقد بلغت بي الأنانية حد التبجح، وقد انتهى زوجي المسكين بالإذعان لحكم القدر، وظل لرحمة الله مذعنا حتى اختاره الله إلى جواره، وكان يخيل إلي طوال هذه السنين أنه انتهى كذلك إلى السعادة بإذعانه. ولقد قمت من ناحيتي بالإذعان لكل ما يشبع شهوات حيوانيته، ولكن كشفت لي الأقدار بعد وفاته عن جانب من شعوره جعلني أذرف الدمع سخينا عليه، وإن استعصى علي أن أوفق بين هذا الجانب وما كان من حرصه على كل ما في نفسه من أنانية وضيعة مفترسة. فقد عثرت بين أوراقه على مذكرات قرأت في إحداها ما يأتي: ... اليوم قابلت صديقي ... بك ... ناظر المدرسة بمكتبه لأدفع مصاريف الأولاد، وقد أبدى لي إعجابه بنجابة أصغرهم، فترقرقت في عيني عبرة بالرغم مني لم أملك معها أن أقول: أنا واثق بأن أكبر الأولاد ابني، أما الآخرون فلست من بنوتهم لي على ثقة ... ورأيت في عين ... بك نظرة إنكار كأنما يقول: «وما يكرهك على أن تمسك عليك زوجك؟» وسارعت أنا فأجبت على نظرته بقولي: «ما كان تسريحي زوجي ليخفف من بلائي وشقوتي، ولكنه كان إعلان الفضيحة والعار لها ولأبنائها ولعائلتها. لذلك آثرت أن أشقى وحدي على أن أنشر حولي كل هذا الجو من الشقاوة، ثم لا أكون بذلك أقل تعسا ولا أقل شقاء.»
تركت هذه العبارة التي عثرت عليها في أوراق زوجي بعد وفاته أثرا بالغا جعلتني أذرف الدمع عليه سخينا. وجاء صاحبي القاضي في مأتمه يعزيني، فأطلعته عليها ثم قلت له: والآن وقد أصبحت حرة لك فما عساك فاعلا؟! فنظر إلي كأنما هو دهش من سؤالي، فقلت له: ألا نتزوج متى انقضت عدتي. إن ما بيننا من حب لم تعد عليه عادية السنين جدير بأن يتوج برابطة الزواج. وكم تمنينا لو كنا ارتبطنا بها قبل أن أتزوج.
واستمهلني ليفكر، فأثار ذلك دهشتي. لكني لم أر أن ألح وما يزال في الوقت متسع. ولم يدر قط بخاطري أنه منته إلى غير ما دعوته إليه. فما تبادلنا خلال هذه السنين من عواطف وما عرف من صدق وفائي له لا يجعله يختار علي أحدا. وما تغنى به طوال هذه السنين من الإعجاب بي بل من عبادتي، كفيل بأن يزيل من نفسه أي أثر للتردد، ولو كان الدافع للتردد رغبته إطلاقا عن الزواج. واقتنعت أنا بهذه الحجج، فخفف ذلك من الحزن الذي يدسه إلى نفوسنا موت يقع بأعيننا ولو نزل بشخص ضعيفة رابطته بنا. وإني يوما لأنظر لمستقبلي خيرا إذ دق التليفون وتحدث صاحبي إلي يدعوني لأوافيه إلى السكن الذي ألفنا كل سنوات حبنا، فأجبته على الفور: كيف تدعوني الآن إلى هناك ؟ ولم لا تحضر أنت إلى هنا؟ - خير أن نكون بمنجاة من الأعين. - ومم تخاف الآن وقد أصبحت مالك نفسي إلى أن أدخل في ملكك؟
لكنه ألح وبالغ في الإلحاح، فلم أر بدا من إجابته إلى ما طلب. وذهبت فألفيته قد نثر ما أحب من أطايب الزهر في كل أرجاء المكان وهيأه كعادته ليكون قدسا للحب. فلما جلست جاء إلي وجثا على قدمي وبدأ ينشر من شعر الحب ما كان يسكرني من قبل ساعة. لكني نظرت إليه في دهش وقلت له: أحسب هذا الدور قد انتهى وأحسبنا سنصبح زوجين نتبادل حبا من نوع آخر، ولعل سعد الطالع هو الذي هيأ لنا فرصة هذا التغيير ليكون حبنا دائما جديدا. - إن هيامي بهذا الحب في ذلك الوكر يجعلني لا أرضى به بديلا، فلنكن دائما كما كنا من قبل. - ولكن لنخدع من يا صديقي وقد مات زوجي؟ - تزوجي من شئت. لقد فكرت طويلا فآثرت أن أستمر في هذا الدور. - هذا الدور! ولم لا تتزوجني أنت؟ أفكنت هذه السنين كلها تلعب دورا، فأنت تخشى إذا تزوجتني أن يلعبه غيرك على حسابك؟
أطرق إلى الأرض إطراقة تبينت فيها هاتين الكلمتين الصغيرتين البشعتين: ولم لا؟! فصعد الدم إلى رأسي وكررت السؤال، فلم يزد على إطراقته. ثم شعرت كأنما حاول أن يمس قدمي أو يخلع حذائي، لا أدري. هنالك انتفضت واقفة وقلت له كرة أخرى: وهل يعجبك كثيرا أن تلعب دور الخائن لأصدقائه في أزواجهم؟!
ووقف هو بدوره وحاول أن يحملق في. كلا! ليس هذا قاضيا، بل ليس هذا رجلا، بل ليس هذا مخلوقا إنسانيا. هذا وغد دنيء أبى على امرأة شريفة أضلتها الأقدار فأحبته - حين لم تكن تستطيع أكثر من أن تحبه - أن تكون زوجه وأن تحمل اسمه. وهذا الفن الذي يعرف، وهذه الموسيقى التي لها يطرب، وهذه الثقافة التي بها يزدان، ليست إلا حبالات لغرض حيواني خسيس، وليست إلا قشورا تخفي أنانية «أحط صنفا» من أنانية زوجي الذي خدع.
أمام ثورتي الجامحة بدأ يتوسل إلي لأجلس كيما نتفاهم، لكن قلبي كان قد تحطم من ساعة دخلت الوكر ورأيت إلام يريد أن يستدرجني، وتحطم أضعاف ذلك حين أعلن إلي في نذالة أنه لا يرضاني أنا التي استهنت بأقدس الواجبات، واستهنت بنظرات الناس وبأحاديثهم وبما كانت تسلقني ألسنتهم في سبيل حبي إياه حبا صادقا، أنا التي وهبته نفسي وذكائي وسعادتي وقلبي ووهبته حياتي لأني أحببته! وحدقت فيه فإذا بي أراه وكأنه مسخ خلقا آخر؛ مسخ قردا أو خنزيرا أو ما دون ذلك من أخس الحيوانات وأدناها. وحاول غير مرة أن يتكلم، لكنني في كل مرة كنت أهجم عليه بالأوصاف التي كنت أراها مرتسمة على وجهه، فينكص على عقبيه متراجعا هزيما ... وأخيرا انتهز فترة كنت لا أتمالك فيها أن أتحدث لشدة انفعالي وقال: ألا ينهض لي عذرا أن لا أقدم على التزوج من أم ذات أربعة أبناء؟!
وا ولداه! يا للوغد! أم ذات أربعة أبناء! لم أتمالك نفسي لدى سماع هاته الكلمة، وصحت به في صوت ارتعد له: وأنت الذي تقولها؟! ألا تعرف أن لك أكثر من ابن؟ ألم تقرأ تلك الكلمة التي تركها البائس المسكين زوجي؟ أقسم لو أنك تراميت على أقدامي اليوم لأكون لك زوجا، لرفستك كما أرفس أخس الحيوانات. وكيف أرضى أن تكون مثالا لأبنائي ينسجون نسجك فيكونون مثلك غدرا وخيانة ونذالة؟!
أجهدتني هذه الثورة فشعرت برأسي يدور، وخشيت أن يصيبني الإغماء. ومخلوق هذه نفسه قدير في أثناء إغمائي أن يرتكب أخس الجرائم؛ لذلك تمالكت نفسي وارتميت إلى مقعد وأشرت إليه بيدي قائلة: ابتعد عني ودعني وحدي، أنا بحاجة إلى لحظة سكون لا سبيل إليها وأنت أمامي، انصرف فما لي بك حاجة ... قلت هذه الكلمات في لهجة أمر وحزم لم يستطع معها دون أن يخرج وأن يتركني وإن بقي في غرفة قريبة. وقمت مجهودة حتى بلغت الباب فأوثقت رتاجه، ثم عدت إلى مقعدي، وما كدت أجلس حتى رأيتني انهملت دموعي وانخرطت في بكاء خشيت أن يسمع النذل نشيجي به فيتشفى. وانقضت برهة أعادت إلي شيئا من هدوئي، فأجلت بصري في جوانب الغرفة حولي، لقد كان كل شيء في هذه الغرف يحدثني حديث الحب وأقدس صوره في آخر مرة احتوتني، فما لها الساعة وكل شيء فيها بغيض كريه يحدثني عن جرائم وجرائم توالت سنين طويلة وأنا بها مغتبطة، وعلى النهل من وردها الأثيم حريصة، وأية جرائم؟! أحط الجرائم وأدناها؟ إهدار طهارة العفة على مذبح الشهوة البهيمية الدنيئة، وخيانة قدس الزوجية في أحضان دنسة قذرة. أينا أكبر جريمة؟ هذا الرجل الذي طردت من حضرتي، أم أنا؟ هذا الوغد الذي لا أراني الآن دونه سفالة وحطة. ألا إن لهذا الرجل عذره أن لا يتزوجني، وكيف يفعل وقد امتهن كلانا ...! حرمة الزواج، وامتهنها لا في زلة لحظة، ولكن في جرائم سنين. كلا ... ليس هو أكبر مني جرما ولا أكثر مني انحطاطا.
كم أقمت كذلك؟! خمس دقائق! عشر! ساعة كاملة! لا أدري، ثم قمت فتقدمت إلى الباب ففتحته معتزمة أن أنحدر مسرعة إلى الخارج ... لكني وجدته أمامي كأنه ينتظرني، فلما رآني حدق بوجهي وقال: أتبكين؟!
فأشرت إليه بيدي وقلت: وداعا. ثم تركته ونزلت فناديت عربة حملتني إلى بيتي.
دخلت إلى البيت والشمس موشكة أن تنحدر إلى مغيبها، فإذا أبنائي يلقونني وما يزال في نفس أكبرهم من الحزن لفقد أبيه ما أذهب عنه شيئا من مرح الطفولة المتقدمة إلى الصبا. ونظرت إليهم جميعا فازددت هما على همي. أيهم ابن لمن يعرف الناس أنه أبوه؟ وأيهم ابن الجريمة التي اشتركت مع ذلك الوغد في ارتكابها؟ عرتني هزة تناولت كل جسمي من مفرقي إلى أخمصي، وأحسست كأن الحمى تلبسني، فجلست على مقعد وأخبرتهم أني متعبة وأني لذلك غير قادرة على تناول طعام العشاء معهم. وذهبت ما تكاد تحملني رجلاي من فرط الإعياء إلى غرفة زينتي، ألقيت بها ملابسي. والحمى في أثناء ذلك تزداد وأشعر بدوار يكاد يغمى علي معه. وجاءت الخادم تعاونني على خلع ملابسي وتسألني ما بي؟ وماذا كان بي. حمى دوار، اضطراب في الأعصاب؟ ربما كان بي هذا كله. وبينما ألبس قميص نومي ارتميت على صدر الخادم مغشيا علي، ولم أفق حتى كنت ممدة في سريري.
تذكر يا صاح ذلك المرض الذي أصابني وألزمني الفراش أسابيع عدة، والذي كنت ترعاني في أثنائه بزيارتك وجميل عطفك، هو هذا الذي أعقب ما رويت لك، وقضيت الأيام الطوال ما يكاد يعرف النوم إلى جفني سبيلا؛ لأنني كنت كلما أغمضت عيني ارتسمت أمام بصيرتي أشباح مزعجة لجرائم مروعة تقع كلها بين جدران ذلك الوكر الذي قضيت فيه لبانات حبي سنوات متعاقبة، والذي أصبح من بعد مقابلة الوغد الأخيرة فيه مملوءا أفاعي وعقارب تنفث سموما قاتلة. لقد كانت هذه الأفاعي والعقارب تنفث سمومها منذ اليوم الأول الذي عرفت فيه هذا الوكر، لكني كنت في ضلال العماية فلم أرها، بل حسبتها بدائع فن منثورة في المكان، وحسبت فحيحها أناشيد الحب ونجوى الغرام. ويدخل الحين بعد الحين أحد أبنائي يرمقني في عيونه البريئة الطاهرة بعين العطف، فتغمد نظرته في صدري خنجرا ... إذ تجعلني أسأل نفسي: أي الرجلين أبوه؟ وتجعل الطعنة أشد وقعا إذا رأيته ثمرة غرام غير مشروع. كانت هذه الآلام النفسية أشد قسوة من كل آلام المرض، وكنت أحسبها تنتهي بمعاونة المرض على البلوغ بي إلى خاتمة ما كان أشهاها إلى نفسي: إلى الموت. لكنني أحسست بنفسي أتماثل إلى الشفاء، فأيقنت أن الله يريد أن أذوق من عذاب الضمير ما أكفر به عن ثورتي عليه وخيانتي لأقدس الروابط. ابتهلت وأطلت الابتهال، دعوت الله أن يغفر لامرأة ضعيفة خاطئة كي تقوم على تربية أبنائها بكل ما وهبها الله القادر من ذكاء وحسن رعاية، لكن هؤلاء الأبناء أنفسهم كانوا بعض العذاب الذي أعد الله لي، فرجوت أن أنقطع إلى خلوة أديم فيها العبادة أكفر بها عن ذنبي، لكني سمعت من أعماق نفسي صوتا يناديني: إن ذنبك لا كفارة عنه إلى أن يفني الألم هذا الجسم الذي استعذب حلاوة القبلات الآثمة حين نسيت أنت أن لله عينا لا تنام. وفيما أنا في هذا العذاب أقاسي أهواله اتصل بي ما يقول الناس عني فابتسمت إشفاقا: أي شيء من كل ما يستطيعون أن يقولوا يوازي برهة مما أعاني؟! وأسأل نفسي: أيشعر الوغد بشيء مما أشعر به؟ أم هو فخور بما جنى مغتبط بأن يلبس وسامه ويجلس ليقضي بين الناس زاعما أنه يقيم العدل على الأرض وقد كان معي أفحش الظالمين؟ ولكني ما لي وشعوره، إنه رجل ... وأنانيته لا تعرف مثل عذابي لأنه لا يرى آثار جريمته تلاحقه أينما ذهب كما تلاحقني. ثم أنظر إليهم بعطف ومحبة وإعزاز، لا يرى هؤلاء الأبناء الذين لا يقول أحد إنهم أبناؤه، ولكن الناس جميعا يعرفون أنهم أبنائي.
وبرئت من سقمي وعادت إلي قوتي، فحاولت أن أشغل نفسي لعل ذلك يقوم حجابا بيني وبين هذا الماضي الذي يجثم على صدري. وبرغم محاولاتي لم أنجح ولم يسكت صوت ضميري، وكان ما أتظاهر به أمام الناس من سكينة أرد بها عني نظرات الشامتين أشد إلحاحا في تعذيبي من كل شماتة بي. وما أزال حتى اليوم أفكر، وما أزال أضرع إلى الله أن يخفف عني العذاب بعد أن قضيت الشهور تلو الشهور أكفر عن خطيئتي، ثم أراها بعد ذلك كله ماثلة أمامي في صورة هذه الأفاعي والعقارب التي تملأ الوكر وتنفث سمومها فيه وتملأ بفحيحها جوه.
سكتت زهيرة عن هذا الحديث برهة أمسكت على أثرها برأسها ثم قالت: أشعر بصداع. ودقت الجرس لخادمها وطلبت إليها كوب ماء.
فلما خرجت الخادم لتلبي طلبها نظرت إلي وقالت: ألا تراني وذلك شأني، كفارة الحب؟!
ووضعت في الماء المسحوق الأبيض الذي أخرجته من حقيبتها، ثم اعتذرت بحاجتها إلى الراحة، فاستأذنتها وجئت إليكم. وهأنذا الآن قد قصصت حديثها عليكم. •••
أصاح الأصدقاء لحديث زهيرة وكلهم آذان، فلما فرغ حمزة من قصصه جعلنا - وكلنا مأخوذ حزين - نتبادل العبارات في غدر القدر وضعف الإنسان وباطل كبريائه. وقضينا في ذلك وقتا غير قليل قص بعضنا في أثنائه قصصا، وتحدث البعض بأحاديث. وإنا لفي سمرنا إذ دق التليفون وسأل المتكلم فيه عن حمزة، وتناول حمزة السماعة وأجاب السائل ... ثم سمع له وأساريره تنقبض شيئا ووجهه يتجهم من الهم أضعاف ما رأينا عليه ساعة جاء إلينا. فلما أعاد السماعة إلى مكانها سألناه: ماذا؟ وأي أمر عساه؟ فترقرقت في عينه دمعة لم تبد ولم تنحدر، ثم أجاب: انتهى! ماتت كفارة الحب!
ووجم برهة سادنا جميعا في أثنائها صمت مجاملة، أو صمت وجل من الموت وذكره ... وعاد حمزة إلى ملك نفسه، ثم قال: مسكينة هي البائسة التي قضت نحبها بإرادتها كفارة لذنوب لم تكن عليها أثقل تبعتها. لقد كان هذا المسحوق الأبيض الذي وضعته في الماء سما. وهذه خادمتها تخبرني أنها لم تلبث طويلا بعد أن غادرتها لموعدكم هنا حتى بدأت تتلوى من فرط الألم وترفض مع ذلك استدعاء طبيب بدعوى أنه مغص سرعان ما يزول! ولما لم يبق لها باحتمال الألم طاقة نودي الطبيب من غير علمها، فلما بصرت به داخلا عليها يسألها عن حالها، قالت له في لهجة المنتصر: لا فائدة يا سيدي الطبيب، لم يبق بي إلى علاج من حاجة. إنني أرى الخاتمة تدنو، وإذا استغرق ما بقي علي أن أعاني من ألم سويعة أو بعضها حتى يتم السم الذي تناولت واجبه، فهجرة الناس جميعا هي الراحة الكبرى، وهي أكبر انتصار لي عليهم وعلى الحياة.
وأمسك حمزة طربوشة بيده وأردف: والآن أستاذنكم لأداء الواجبات الأخيرة لهذه الضحية التعسة. لقد انتصرت حقا على الناس وعلى الحياة، لكنها لم تنتصر على أبنائها.
وغادرنا منصرفا إلى واجبه المقدس ونحن نرمقه بعيون ذاهلة ملأها حديث زهيرة وما أعقبه من موتها هما وألما.
ميراث
كان مشرع ذلك العهد في مصر يجيز الوقف الأهلي، وكان فقهاؤه يقررون أن شرط الواقف كنص الشارع. فكان كثيرون يتخذون من نظام هذا الوقف وسيلة للتخلص من أحكام الميراث الثابتة في القرآن الكريم. يحرمون به ورثتهم من يريدون حرمانه، ويتخطون به أحكام الوصية؛ إذ كانت لا تجيزها لوارث إلا إذا أقرها سائر الورثة، ولا تجيز الوصية لغير وارث في أكثر من الثلث، لقوله عليه السلام: «الثلث، والثلث كثير؛ لأن تترك أولادك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس.»
وشاعت في ذلك العهد عند ذوي اليسار، وعند المتوسطين كذلك، فكرة حرمان البنات من التركة، أو جعلهن تبعا لإخوتهن الذكور، ينلن منهم نفقة تكفيهن العيش المتواضع. ذلك أنهم كانوا يعتبرون أن البنات يخرجن من الأسرة يتزوجن، والملك ملك الأسرة، فلا يجوز أن يأخذ أزواج البنات. أما والشرع يجيز حرمان البنات بالوقف، فلا وزر عليهم في حرمانهن. وأزواجهن ملزمون شرعا بالإنفاق عليهن، فإن لم يتزوجن، فلهن على إخوتهن الذكور نفقة تكفل الكفاف!
وكان عاكف بك من المؤمنين بحرمان البنات إيمانا عميقا؛ لذلك رأى أن يقف أملاكه الواسعة على الذكور من ذريته. فلما كان في المحكمة الشرعية لتحرير وقفيته، مس قلبه شيء من الرحمة، فنص فيها على أن يكون للإناث من الذرية نفقة يدفعها لهن إخوتهن الذكور. ولم يرد بخاطره أن يورد نصا على ما يجري إذا كان الورثة كلهم إناثا، اقتناعا منه بأن ذلك لا يمكن أن يحدث في أسرته، أو نسيانا منه لهذا الاحتمال!
وتوراث ذريته هذا الوقف جيلا بعد جيل، ولم يحدث بالفعل أن خلا الورثة في الأجيال الأولى من واحد أو أكثر من الأولاد الذكور يعيش أخواته البنات في كنفهم، ويتمتعن برعايتهم وعطفهم. وتكاثرت فروع الأسرة على الأجيال، وحدث أن مات الذكور جميعا قبل الإناث في أحد فروعها، فاختصم الذكور - من فرع آخر - هاتيك الإناث، يطلبون الانفراد بريع الوقف كله، نزولا على شرط الواقف. وأقر القضاء وجهة نظر هؤلاء الذكور، ولم ينل الإناث الباقيات من الفرع الذي مات ذكوره كبير ضرر؛ فقد كن في عصمة رجال ذوي يسار، فلم يزعجهن هذا الحكم، وإن أزعج أزواجهن بعض الإزعاج. •••
وتعاقبت الأجيال كرة أخرى، ثم أخذت تنقرض شيئا فشيئا، حتى آل معظم الوقف إلى الشاب المهذب الرقيق «عبده عاكف». وكان طبيعيا أن يعيش هذا الشاب عن سعة، وألا يعني نفسه بأمر غده، وله من إيراد الوقف ما يغنيه عن عمل وكل عناء. وطمعت كثيرات من بنات طبقته في الزواج منه، ثم وقع اختياره على «هيفاء»، مما دل على حسن ذوقه وتقديره. فقد كانت هيفاء - إلى جمالها - تعدله في كرم النسب، وإن لم تكن تعدله في سعة الثراء. صحيح أنها ورثت عن أبيها ما يكفل لها عيشا كريما، لكن ما ورثت لم يكن يكفل أكثر من هذا العيش الكريم.
وقبل أن تدور السنة أنجب الزوجان طفلة بارعة الجمال، اغتبطا بها أشد الاغتباط. ولم يدر بخاطر أيهما ذكر لوقف عاكف بك وشروطه، فهما لا يزالان في إقبال الشباب: وهما يذكران ما يجري على ألسنة النساء: «خيركن من بشرت بأنثى.» لذلك خلعت الأم على طفلتها من ألوان العناية والرعاية ما زاد الأب تعلقا بها وحبا لأمها. وأخذت الصغيرة تنمو وتكبر، وتملأ البيت على أبويها بضحكاتها ولعبها وعبثها، فتزيدهما تعلقا بها، ورعاية لها.
وبعد سنتين وضعت الأم الشابة بنتا ثانية، فلم يغير ذلك من مرح الأسرة وغبطتها. فالشباب لا يسهل أن تشوب الهموم أجواءه. إن أمامه في الحياة أملا طويلا عريضا، فما يفوته اليوم يمكن تحصيله غدا. ولم تبلغ «هيفاء» بعد الثالثة والعشرين من عمرها، ليدور بخاطرها ما قد يخبئ الغد بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة من أيام زوجيتها السعيدة الهنيئة. أما أمها فلم تلبث حين رأت الوليدة الثانية، أن ذكرت وقف عاكف بك وشروطه، وهي تستعجل الغلام الذي تطمئن به إلى أن ابنتها وحفدتها، سيكونون في رخاء من العيش، يستمتعون من رغد الحياة بخير أنعمها. ولقد جاوزت هذه الجدة الشباب إلى الكهولة، فهي حريصة على أن تطمئن في حياتها على مستقبل هؤلاء الحفدة الأعزاء!
ولم تذكر لابنتها ما دار بخاطرها، لكن ما ارتسم على محياها ساعة تنفست هذه الطفلة الثانية ريح الوجود، لم يعبر عن شيء من الغبطة، وإن دفعها حنانها الطبيعي للعناية بالطفلة أشد العناية!
وبعد سنتين كذلك، أنجبت هيفاء طفلة ثالثة، روع مولدها قلب جدتها، حتى تمنت لو لم تولد. وبلغ روع الجدة حد الثورة حين أنجبت هيفاء بنتا رابعة بعد سنتين أخريين، فأنحت باللائمة على ابنتها، وألقت عليها وزر ما حدث، وكأن للأم الخيار في إنجاب البنت أو الولد.
وبكت هيفاء، ثم قالت تعاتب أمها: «هذه خيرة الله يا أماه، وأنا لم أبلغ بعد الثلاثين، ورحمة الله واسعة ...»
وحملت هيفاء للمرة الخامسة، وإنها لتعاني سقم الحمل؛ إذ مرض زوجها مرضا لم يمهله أياما حتى اختطفه الموت من بين أحضانها. وحزنت الشابة عليه أشد الحزن، وذكرت يتم بناتها، ونظرت إلى مستقبلها ومستقبلهن، بعين لا ترقأ لها دمعة. أما أمها فأفزعتها هذه الوفاة، لا حزنا على الزوج الذي مات، بل إشفاقا أن تلد ابنتها بنتا خامسة، فلا يكون لهاتيك الصغيرات من وقف عاكف بك نصيب، ولا يكاد ما ورثته أمهن عن أبيها يكفيهن عيش الكفاف.
وزاد في فزعها وانزعاجها ما ترامى إلى سمعها من أن سلائف ابنتها يبذلن النذور لأولياء الله الصالحين أن تلد هيفاء بنتا ليعود الوقف إلى أزواجهن، وليستمتعوا بإيراده الوفير!
ماذا عسى أن يكون مصير هيفاء وبناتها إذا استجاب الأولياء لنذور هؤلاء الأقارب؟ وهل تدع هذه الجدة الأمور للأقدار والرزاق هو الله؟ أم أن عليها لهيفاء وبناتها واجبا أن تنقذهن من مصير مظلم بأية وسيلة ممكنة؟!
والوسيلة لإنقاذهن أن تلد هيفاء ولدا يحفظ الوقف له ولها ولأخواته البنات. لا بد إذن من أن تلد هيفاء ولدا. والعلم لم يصل بعد إلى تعيين النسل، فالأمر لا يزال في يد القدر. أولا تستطيع هذه الجدة أن تكفل لابنتها ما لا يكفله العلم، فيكون مولودها ذكرا بأية حال؟ هنالك تنازعها عاملان: الوازع الديني، الذي يجعل معاندة القدر ذنبا يجزى مجترحه في الحياة الآخرة، وقد ينال عنه جزاء قاسيا في الدنيا. ووازع المحافظة على نعمة الحياة لهاتيك القوارير الناعمات، اللاتي لم يعرفن خشونة العيش قط. وانتهى هذا التنازع إلى غلبة الوازع الدنيوي، فلا بد أن تلد هيفاء ولدا ذكرا بأية حال! •••
وولدت هيفاء ولدا ذكرا، فتصايح أقارب زوجها بأن أمها دست في فراش الوضع غلاما، وذهب بعضهم إلى أن الأم الشابة لم تلد، بل لم تحمل، وأن هذا الطفل الغلام دسته أمها في فراشها للاستيلاء على الوقف وريعه!
ورفع هؤلاء الأقارب الأمر إلى القضاء ليحكم بأن الطفل ليس ابنا لعبده عاكف، فلا حق لبناته في وقف جدهن؛ إذ ليس لهن أخ يعصبهن ويعصمهن من فقر مدقع!
وسمع القضاء الدعوى، فلم يأذن بما طلبه أقارب الزوج المتوفى، من تحليل دم الغلام الطفل، وتحليل دم أخواته البنات، والمقارنة بين هذه التحاليل. وسبب رفضه هذا الطلب بأن تكوين الدم قد تتغير طبيعته على السنين بتغير أحوال الصحة والمرض، وبتقدم السن. وعلى ذلك قضى بأن الولد للفراش، وأن «عمر» - فكذلك سمت هيفاء ابنها - ابن شرعي لعبده عاكف!
وقال أقارب الزوج يومئذ: إن القضاة غلبهم برهم ورحمتهم بتلك الصغيرات المحتاجات إلى الأخ العاصب؛ ليظل إيراد الوقف لهن ولأمهن.
وكذلك ثبت للبنات حقهن في العيش الرخي الكريم.
واغتبطت هيفاء، واغتبطت أمها، لهذا الحكم، وصار «عمر» موضع إعزازهما الذي لا حد له، وموضع إشفاقهما كذلك أن يصيبه مكروه يضيع على البنات الأربع مورد رزقهن. لذلك كانتا تتناوبان العناية به والسهر عليه، ولا ترضيان أن تدعاه إلى مرضع أو مربية، خشية الأقارب الذين طمعوا في الوقف، وقاضوا الأم للاستيلاء عليه ... أن يعملوا على اختفاء الطفل، أو على موته!
وبالغت هيفاء في إعزاز عمر، مبالغة تجاوزت حتى جنون الأمومة، ودهش لهذه العناية من كانوا يقسمون إنه ليس ابنها، وإن أمها دسته في فراش وضعها، وكأنما نسوا أنه لم يكن ابن أحشائها حقا، فإنه الروح والحياة لهاتيك البنات الأربع، اللاتي يصبحن لولاه في حكم المعدومات، فيعشن عيشا خشنا، لم تألفه هيفاء حياتها، ولم يدر بخاطرها في يوم من الأيام أن يكون نصيب ذريتها!
وهل تراها، لولا الرجاء في رغد الحياة ونعمائها، كانت ترضى أن تتزوج عبده عاكف؟
صحيح أنها كانت تحبه، لأنه كان مهذبا ورقيقا، لكنها تحبه كذلك ليساره، فلا تخشى خشونة عيش لها ولا لذريتها في كنفه. •••
وبدأ الغلام يكبر بعين أمه، وأكبر همها أن تجعل منه، وهو الذي يشتبه بعضهم في نسبه، رجلا جديرا باسم زوجها وبها. بل لقد طمعت حين توسمت في عينيه بريق الذكاء، في أن تراه يوما عظيما يشار إليه بالبنان؛ لذلك لم تضن لحسن تربيته بشيء: كانت تلبسه منذ صباه الباكر أحسن ملبس، فلما آن له أن يذهب إلى المدرسة اختارت له أحسن مدرسة في العاصمة، واختارت له كذلك مربية تشرف على تعليمه وتنشئته، ثم إنها عودت أخواته البنات على أن ينظرن إليه نظرة إكرام وإعزاز، طامعة أن يزيد ذلك في نفسه محبتهن، وفي نفوسهن محبته، وأن تجعل منه ومنهن أكرم أسرة تعتز بها كهولتها، ويخلد بها اسم الرجل الذي أحبته، والذي غاله الموت وهو في عنفوانه!
وكان الغلام في بوادر نشأته رقيقا؛ لأنه كان الذكر الوحيد بين إناث ست: أخواته الأربع وأمه وجدته، لكنه ما لبث حين اختلط بالتلاميذ في المدرسة أن زايلته هذه النعومة، وأن حلت محلها خشونة لا تخلو من عنف. ولم تكن أمه عنيفة ولم يكن أبوه عنيفا، وبلغ من عنفه حين بدأ يحس بقوة عضلاته أن تبدلت معاملته لأخواته، وإن لم تتغير معاملتهن له، فكان يقسو بهن، وكان يرفع يده أحيانا عليهن، وكان يضطر الأم للتدخل أحيانا بينه وبينهن.
ولم تكن هيفاء تضيق بعنف عمر، أو تزيد في تدخلها بينه وبين أخواته، على مألوف ما تبذله الأم من نصح يشوبه العطف والحنان.
وكانت تلتمس له من العذر أن يتخطى الصبا إلى الشباب إيذانا بإقبال الرجولة، فكانت تنسب إلى طيش الشباب كل ما يقع منه، وكان لها عذرها عن هذا التسامح معه. فلو أنه لم يكن ابنها الذي أنجبته من لحمها ودمها فهو ابنها الذي ضمته إلى صدرها رضيعا، ثم أنشأته من يومئذ إنشاء ربط بينه وبينها بمثل رابطة البنوة والأمومة!
ونحن نحب كل ما نربيه من أعماق نفوسنا وحبات قلوبنا. وعمر - إلى ذلك - هو وارث عبده عاكف، وهو الذي عصمها وعصم بناتها الأربع من متربة ما كان أفظع شبحها يوم توفي زوجها، ويوم خيل إليها أن الغد يخبئ لها عيلة إن تحققت ناءت بها، وأفسدت عليها كل حياتها!
ولم يقف عنف عمر وطيش شبابه عند القسوة بأخواته، بل بدأ هذا الطيش يصرفه عن دراسته، فيؤدي ذلك إلى رسوبه في امتحاناته، ويضيع على هيفاء أملها في أن تراه رجلا عظيما. لكنها بقيت مع ذلك شديدة البر والعطف عليه، ترى فيه رب البيت، والوارث لاسم أبيه، ولوقف عاكف بك.
وأخذت نزوات عمر تزداد، وتدفعه إلى ألوان من الطيش، كانت هيفاء تحتملها في صبر وسكون، وتدعو الله أن يكفي ابنها شر أولاد الحرام من الجنسين. لكنها ضاقت ذرعا بهذا الطيش، حين علمت أن عمر يجتمع بطائفة من أقارب زوجها، ويلهو معهم. ولم يكن ضيقها بما ينفقه في هذه الاجتماعات، بل كانت تخشى أن يتخذ أقارب زوجها من اجتماعهم بعمر وسيلة لإفساده عليها وعلى بناتها.
وبناتها في سن الزواج، وهن في حاجة ليتزوجن إلى عطف أخيهن ورعايته وحسن سمعته!
وفكرت هيفاء في الأمر طويلا، كما فكرت في انصراف ابنها عن دراسته، فرأت أن تبعث به إلى أوروبا، ليتم الدراسة بعيدا عن أقارب زوجها، ولتزوج هي بناتها في أثناء غيابه، وتجهزهن الجهاز الواجب لمثيلاتهن!
واغتبط الفتى بهذا السفر، لا حرصا على النجاح في دراسته، بل لما تخيله في أوروبا من ألوان المتاع التي ترضي نزق شبابه، بعيدا عن رقابة أمه. وكان أكبر همه منذ استقر في أوروبا، بالمدينة التي قبلته مدرستها، أن يحصل من أمه على أكبر قسط من المال، يرضي نزوات طيشه. أما المدرسة فكانت عنده أمرا ثانويا، كل غايته منه أنه حجة لبقائه بعيدا عن كل رقابة.
وأرخى الفتى العنان لنزغ الشيطان، وجعل ينفق عن سعة في ألوان من اللهو الظاهر والخفي، ليبدو أمام زملائه وصديقاته في مظهر الغني المترف المطمئن إلى غده، المستغني عن كل عمل يحصل منه على رزقه!
وما حاجته أن يعني نفسه، للحصول على درجة علمية، وقد أنبأه أقارب أبيه بأن الوقف يكفل له عيش الترف الذي يطمع فيه. وأنه متى بلغ رشده أصبح المتصرف في هذا الوقف بما يهوى، يعطي أخواته البنات كفافهن، ويبعثر الذي يبقى بغير حسيب ولا رقيب!
ولم يبق بينه وبين سن الرشد غير سنة وبعض السنة، ثم يكون بعد ذلك السيد الذي لا يراقبه أحد، ولا يحاسبه أحد!
وإنه لسادر في ملاذه وأهوائه، إذ جاءته من مصر رسالة أزعجته عما هو فيه؛ فقد جاء فيها أن أمه تستدين على إيراد الوقف استدانة تكاد تستغرق هذا الإيراد لسنوات عدة مقبلة، وأن مستقبله يقتضيه أن يعود إلى مصر محافظة على ماله، فإن فعل وبدا له بعد ذلك أن يرجع إلى أوروبا، فالشأن شأنه. أما أن يغفل الأمر فسيجد نفسه عما قليل مستغرقا في الدين. وذكر صاحب الرسالة أنه على استعداد لمعاونته في إنقاذ الوقف جهد المستطاع!
وكان صاحب الرسالة أحد الأقارب الذين قاضوا هيفاء حين مولد عمر، منكرين نسبه لأمه، فلا حق له من ثم في الوقف. ولم يفطن عمر إلى ما لعل صاحب الرسالة يريده من انتقام من هيفاء؛ لأن جزع الفتى على ألا يجد المال الذي يرضي أهواء شبابه، أنساه التفكير في كل شيء، غير المال وما يتجه له من متاع!
وكتب إلى أمه يريد العودة إلى مصر، فلم تلبث حين تلقت خطابه أن بعثت إليه بنفقة العودة، مغتبطة بها، ظنا منها أن عمر سئم أوروبا لأنه لم ينجح في دارسته، واقتناعا منها بأنه متى عاد استطاعت توجيهه في الحياة، توجيها ينفعه وينفع الأسرة كلها! •••
لم يلبث عمر - حين بلغ القاهرة - أن ذكر لأمه أنه يريد أن يتولى إدارة الوقف بنفسه، وأن يعرف حساب الوقف وما له وما عليه. ودهشت الأم لما طلب، وخيل إليها أنها تستطيع برقتها وحنانها أن ترده إلى حمى البنوة المطواع. وأغدقت عليه من هذا الحنان وهذه الرقة ما يمتلئ به صدرها الذي لا ينضب معين عطفه. لكنه أصر على أنها إن لم تجبه إلى طلبه استعان عليها بأقارب أبيه، وذكرها بأنه قارب سن الرشد، وبأنه صاحب الوقف والمتصرف المطلق في إيراده، فإن لم تنزل على إرادته اليوم، فستنزل عليها بحكم القانون عما قليل، ويومئذ يفقد أخواته البنات عطفه عليهن بسببها، ويحاسبها الحساب العسير عن إدارة الوقف كل هذه السنين.
سمعت الأم المسكينة هذا الكلام فأفزعها، وعادت بذاكرتها إلى يوم زهوها بأنها أنجبت هذا الغلام، وكفلت بمولده مستقبل بناتها، ونشرت أمام بصيرتها ما احتملت عشرين عاما حسوما، منذ مولده إلى اليوم الذي وجه فيه هذا الإنذار! ذكرت مقاضاة أقارب أبيه إياها وهو ما يزال في قماطه، وما كانت نفسها تضطرب به إذ ذاك من مخاوف لم تكن خسارة الدعوى أيسرها. فلو أن القضاء لم يحكم ببنوة عمر لعبده عاكف، لتعرضت من قالة الناس لأضعاف ما تعرضت له، ولتعرضت أكثر من ذلك لبأس قانون العقوبات وصرامته. ثم ذكرت حدبها عليه، ورعايتها إياه طفلا، بأكثر مما ترعى أي أم ابنها؛ لأنها كانت ترعى فيه أخواته البنات كذلك. وذكرت ليالي سهرها إلى جانب سريره مريضا، وهي في حيرة وقلق تأخذ المخاوف بخناقها، إشفاقا عليه وعلى أخواته. وذكرت من دقائق ما احتملت في سبيل تربيته وتعليمه طوال هذه السنوات العشرين، ما أثار دهشتها!
كيف سولت له نفسه، بعد هذا كله أن يخاطبها باللهجة التي خاطبها بها؟ ولو أن وقف عاكف بك لم يضع في يده كل هذا السلطان، لرعى في حقها حرمة الأمومة، أو حرمة التربية على الأقل! •••
استدار العام وبلغ عمر رشده، فلم يبطئ أن رفع الدعوى على أمه يطلب تسلم الوقف، وتقديمها الحساب عن سني إدارتها. وتسلمت هيفاء إعلان الدعوى، فتولتها الحيرة أي موقف تقفه منها: أتستسلم وتسلم الوقف لابنها مقابل إقراره حسابها؟ ولكن هبه رفض بتأثير أقارب أبيه، وذكر في المحكمة ما عرضته عليه، أفلا يضعف ذلك مركزها أمام القضاء؟ وهبه قبل وتسلم الوقف، واستولى على إيراده، ثم لم يعطها ولم يعط أخواته ما يكفل لهن العيش الكريم، أفتقاضيه يومئذ؟
وأدت بها هذه الحيرة إلى ثورة نفسية، قالت على أثرها فيما بينها وبين نفسها: وما لي لا أقف منه اليوم ما وقفت من أقارب أبيه بالأمس ... فأناضل عن بناتي، وهن أشد اليوم حاجة إلى نضالي عنهن بالأمس، والقدر الذي أنصفني بالأمس سينصفني إلى شاء الله غدا ، وسينصرني على هذا العاق، الذي جحد كل حق للحنان، وللعطف وللتربية، وللأمومة؟
واستشارت محاميها، فأقرها على رأيها. فلما كان موعد نظر الدعوى، طلب إلى المحكمة أن تأمر بضم دعوى النسب التي رفعت على هيفاء، فأنكر بعضهم فيها نسب عمر إلى أبيه. وأجاب القضاء هذا الطلب، وقدمت هيفاء الحساب عما أنفقت على عمر وعلى أخواته طوال هذه السنين. ودهش القضاة حينما اطلعوا على ملف دعوى النسب، وتساءلوا فيما بينهم: أكان عمر يقف من هيفاء هذا الموقف لو أنه كان ابنها حقا؟ لكن القضاء حكم من قبل بثبوت نسبه لأبيه حكما لا سبيل إلى إعادة النظر فيه. وهيفاء قد بذلت من حنانها وروحها، لهذا الذي جحد فضلها، وكفر بنعمتها، ما يجعلها جديرة بكل عطف. لكن لعمر في الوقف حقا لا يستطيع أحد إنكاره، والقضاة يستطيعون اعتماد الحساب الذي قدمته أمه، فأما إن تسلم الوقف وأساء معاملة أخواته، فماذا يكون مآلهن؟
ازداد القضاة حيرة حين علموا أن عمر هجر بيت أمه، من يوم أن بلغ رشده، ووقف منها موقف خصومة عنيفة، أعانه عليها أقارب أبيه، الذين أنكروا من قبل بنوته.
فماذا يفعل هؤلاء القضاة ليكون حكمهم عدلا بين الجميع، محققا مصلحة الجميع؟
وتحدث الناس وقتئذ إلى أن المشرع يعتزم إلغاء الوقف الأهلي، ليمنع عبث العابثين بأحكام الشرع في الميراث والوصية. ورأى القضاة فيما سمعوا متنفسا لهم، فأجلوا دعوى عمر ثم أجلوها، حتى صدر قانون بإلغاء الوقف الأهلي. وعند ذلك أصدروا حكمهم، باعتبار ما آل من الوقوف إلى عبده عاكف تركة تقسم بين أولاده جميعا، وترثه فيها زوجته. أصدروا هذا الحكم وكانوا يودون لو استطاعوا حرمان هذا العاق أمه من كل التركة، لكن الحكم الأول بثبوت نسبه جعل ذلك مستحيلا.
واغتبطت هيفاء بهذا الحكم، واطمأنت به على مستقبل بناتها، لكنها بقيت حاقدة على هذا الابن، الذي نسي كل برها وحنانها، وحاول أن يستأثر دون أخواته بوقف حرم ما أحل الله، ونقض ما أثبت كتاب الله!
ولم تكن هيفاء تأبى حين يجري حديث حياتها مع عمر أن تقول: «إني أكرهه، ولكن العرق دساس!»
عرق من؟! وهل كرهت أم ابنها من أجل بناتها؟! أم «إن من ... وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم.»
يد القدر
كانت هند في العشرين من سنها، حين زوجها أبوها من موظف صغير في الدرجة السابعة الكتابية، ولم تعرف هند زوجها عباس فضل، حتى اجتمعت معه تحت سقف واحد، ومع ذلك اغتبطت بهذا الزواج وفاضت بها المسرة؛ لأن الزواج في نظرها غاية كل فتاة، كما أن الموت غاية كل حي، ولأن أمها توفيت، قبل عدة سنوات، فتزوج أبوها وأنجب من زوجته الثانية بنين وبنات، اختصهم بكل عطفه ... ولم يأب على زوجته أن تتخذ هند معاونة لها في خدمة البيت، تطهو طعامه، وتتولى نظافته، وترعى أخواتها الأطفال، وتنفق ليلها ونهارها في تنفيذ أوامر زوج أبيها.
وكم تمنت اليوم الذي تهب فيه نفسها لخدمة بيتها هي، لا لخدمة زوج أبيها وعيالها؛ لذا رأت في زواجها منقذا لها من هذه الحياة الشاقة التي كانت تحياها، دون أن تجد من العطف والحنان، ما يعوضها عن قسوتها وشدتها.
وأعطت هند زوجها كل قلبها، منذ اليوم الأول، ولم يكن ذلك لأنه وقع من نفسها ساعة رأته فعشقته لأول نظرة، بل لأنها رأت فيه يد القدر، التي انتشلتها من بأسائها، وفتحت به أمامها باب الأمل فيما يسمونه السعادة.
ولم يزعجها أن كان عباس موظفا صغيرا، وأن مرتبه الضئيل كان لا يكاد يكفيها العيش الخشن؛ فالصغير يكبر، وضيق العيش طارئ يزول بالجد والاجتهاد. فإذا هي جعلت من نفسها ومن بيتها جنة نعيم لهذا الموظف الصغير، فسيمكنه هذا من الجد في عمله، ومن إرضاء رؤسائه، ومن الترقي درجة بعد درجة. ويومئذ ينفرج الضيق وتعيش في بيتها أكثر رخاء مما كانت في بيت أبيها، بل إن هذا الرخاء المادي، الذي تعتقده اليوم فلا تجده، لأيسر شأنا عندها من طمأنينتها في قلب زوجها.
وبادلها زوجها منذ اشتركا في الحياة، حبا بحب، وإخلاصا بإخلاص، وكيف لا يفعل وقد أتاحت له بمرتبه الضئيل ألوانا من النعمة لم يكن يحلم بمثلها قبل زواجه، وجعلت من بيته سكنا هانئا، يغنيه بعد الفراغ من عمله عن كل ما سواه؟
ومكنه بطبيعة الحال من التوفر على عمله في وظيفته، بما أرضى رؤساءه، وجعله بعد عام، أو أقل من عام، يطمع في الترقية إلى الدرجة السادسة! •••
وتتابعت الشهور، وهند تزداد كل يوم متاعا بهذه الحياة الراضية المتواضعة، على أن سحابة من القلق بدأت تندس إلى نفسها حين قارب العام أن يستدير، ثم لم يتحقق رجاء أنوثتها! فقد كانت تتوقع أن يبشرها شهر من أشهر هذا العام بأمومة يطمئن لها زوجها، وتشعر معها بأن هذا البيت الصغير ستضيئه أنوار الطفولة البريئة، وتجعل منه مقر أسرة، وتسعد هي، ويسعد زوجها. فلما خذل تعاقب الشهور رجاءها، بدأ مرحها يخبو ضياؤه، وبدأ يرتسم على جبينها الجميل أثر القلق الذي ساورها.
ولاحظ زوجها همها وحدس سببه، فلما أفضى به إليها، انحدرت من عينها دمعة، تولاه الألم لمسيلها، فربت على كتفها بيد كلها الحنان والحب، وقال لها: فيم تستعجلين يا عزيزتي؟ إنك تعلمين أن مرتبي لا يكاد يكفينا لولا حسن تدبيرك وما تبذلين من جهد لتبعثي إلى حياتنا ما نشعر به من نعمة ورضا، ولعل رحمة الله بنا هي التي أرادت ما أثار قلقك، وإني لأطمع في ترقية قريبة، تعاوننا إذا رزقنا الله الخلف الذي ترتقبين، على العناية به وحسن تربيته، وأنت لا تزالين بعد في شبابك الباكر، فلا تجزعي واصبري، إن الله مع الصابرين.
وازداد عباس بعد هذا اليوم عطفا على زوجته، مما أنساها قلق أنوثتها. وجاءت الترقية التي كان يطمع فيها، وأتاحت للزوجين شيئا من سعة العيش، جعلت بيتهما الصغير أكثر ابتساما، وجعلت عباسا أكثر حرصا على أن يؤنس وحدة هند فيه، ودفعته إلى مزيد من العناية بعمله في ديوانه، مما ضاعف رضا رؤسائه عنه، وتقريبهم إياه، ومما زادهم ثقة به، وزاده ثقة بنفسه.
وكان عباس يشعر في أعماقه شعورا قويا، بأن هندا صاحبة الفضل في هذا، ومما طوع له تكريس كل وقته لعمله، وللبلوغ من إتقانه مبلغا غبطه عليه كل زملائه. •••
وانقضت على ترقية عباس سنوات أربع، يئست فيها هند من أن تحمل وتلد، فاكتفت بما بينها وبين زوجها من حب لم تكن الأيام تزيده إلا عمقا وإخلاصا، وفي ختام السنوات الأربع رقي عباس إلى الدرجة الخامسة، ونقل من الكادر الكتابي إلى الكادر الفني، وأصبح منظورا إليه نظرة تقدير خاص. فلما صدر قانون إنصاف الموظفين، وزيدت لهم علاوة غلاء المعيشة، قفز مرتبه قفزة واسعة، مكنته من الانتقال إلى بيت أحسن من البيت الذي تزوج فيه، ومكنت هندا من تأثيث البيت الجديد أثاثا زاد الزوجين طمأنينة إلى الحياة ومتاعا بها!
وخيل إلى هند، وقد أصبحت في هذا الحال، أن من حقها لنفسها، ومن حق زوجها عليها، أن تعود إلى التفكير في أمر عقمها؛ فقد عرفت من زميلاتها من بقيت مثلها سنوات عدة لم تحمل، ثم رزقها الله قرة عين بل قرة أعين، وفي مقدورها اليوم ما لم يكن في مقدورها بالأمس، في مقدورها أن تعرض نفسها على طبيب، وأن تنفق على العلاج، أفلا يجمل بها والحالة هذه أن تفاتح زوجها في الأمر، وهو لا ريب سيقرها، بل سيشجعها عليه!
وبعد تردد طال أمده، أفضت إلى عباس بخوالج نفسها، فكان جوابه: ربما كان العيب مني، ولست أريد أن أعرض نفسي على طبيب لمثل هذا الأمر المخجل، فلنترك أنفسنا لمشيئة الله، وهو - جلت قدرته - قد وسع علينا في الرزق من حيث لم نكن نحتسب، وقد يكون في علمه أن يرزقنا من بعد ذلك البنين، فإن يكن ذلك فالشكر له والثناء عليه، وإلا يكن فالشكر له مرة أخرى، أن رفعني في أعين الناس إلى ما وصلت إليه، وأن جعلك بين النساء محمودة على ما أنت فيه من رخاء ونعمته!
أمسكت هند بعد هذا الجواب عن مفاتحة زوجها في الموضوع كرة أخرى، لكن عبارته «أن أي عيب قد يكون من جانبه» جعلت تتردد في نفسها الحين بعد الحين، أولو كان هذا صحيحا، أفلا يجب عليه - لنفسه ولها - أن يعالج نفسه؟ أم تراه عالج نفسه في سر منها فلم ينجح معه علاج؟!
وهبه لم يكن قد عرض نفسه على طبيب، أو أنه عرض نفسه على طبيب فتبين أن العيب لم يكن من جانبه، أفلا ينبغي أن تفكر هي في أمرها؟!
لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئا في سر منه، فما لها لا تعيد الكرة عليه وقد تنتهي إلى إقناعه بما تريد؟
وأعادت الكرة، وألحت مستعطفة مستشفعة إياه بحبها وإخلاصها، إلى أن قال لها: «استئذني أباك، فإن أذن كنت عند ما تريدين!»
وذهبت هند إلى بيت أبيها تستأذنه، فألفت لدى بابه إخوتها الأطفال يمرحون، هنالك رفعت رأسها إلى السماء تشكو إليها قسوة القدر، فلما دخلت ورأتها زوجة أبيها، سألتها في دهشة عما جاء بها!
ثم نادت أطفالها وأدارت عليهم البخور من خوف حسدها! فلما رأت هند ما فعلت، ترددت دون المضي فيما جاءت فيه، وأرادت أن تعود أدراجها إلى منزلها، لكن أباها حضر قبل أن تنفذ عزمها، فذكرت له أن زوجها يريد أن يحدثه في شأن لم يفض به إليها، ورغبت إليه أن يحضر عندها غداة ذلك اليوم!
وخيل إلى زوج أبيها أن خلافا دب بين هند وعباس، فابتسمت عن رضا، ثم أومأت إلى زوجها قائلة: اذهب إليها لعل الله أن يهديهما وإلا فبيتك بيتها، ونحن جميعا في خدمتها! •••
وذهب الأب في الغداة إلى بيت ابنته، قبل حضور زوجها من عمله، فلما رأته أفضت إليه بما دار بينها وبين زوجها في شأن حملها، فأجابها في حزم: وما لي أنا وذاك؟ ذلك شأنكما، تصرفا فيه بما تشاءان.
وأدركت هند أنه لا يريد أن يصرح بالإذن لها، مخافة أن يطالبه زوجها بالاشتراك في نفقة علاجها، فأخذت تداوره، تريد أن تستدرجه إلى إذن صريح، وإنها لكذلك إذ أقبل زوجها، فبادره أبوها بعد التحية بقوله: ما حرصك على إذن مني في أمر هو من شأنكما وحدكما؟ قال عباس: «ذلك أنني اليوم راض بإرادة الله فينا، سواء كان العيب منها أو مني، وأخشى إن قرر الطب العيب مني أن تتنازعني نفسي إلى من يخلفني، برغم محبتي هندا أصدق الحب، ووفائي لها أصدق الوفاء، واعترافي الصريح بفضلها فيما بلغناه من رخاء ومكانة.»
وأسرعت هند حين سمعت هذا الكلام، فقالت: أشكر لك يا عزيزي رقة عواطفك، وأعدك صادقة أنه إن كان العيب منك فلن أتحول عن التفاني في محبتك، والعيش ما حييت سعيدة بعطفك وحمايتك، وإن كان العيب مني فأنت وما تشاء، ولا تثريب عليك إن هفت نفسك إلى من يخلد اسمك!
قال عباس: «أنت إذن وما تشائين، ولن أضن عليك في سبيل ما تريدين بما أطيق من نفقة!»
وانصرف الأب مطمئنا إلى أنه لن يحمل في هذا الأمر عبئا ما أحوج صغاره إليه!
وأثبت الطب أن عباسا لا عيب من جانبه، وأن هندا تحتاج إلى طويل الأمد. وأذعنت هند لهذا القضاء، وأخذت تتردد على الطبيب فإذا انقضى شهر بعد شهر ولم تحمل، تولاها الضيق، وكاد يتولاها اليأس، برغم ما كان عباس يبذله من لطف بها، وتهوين للأمر على نفسها!
وكان عباس من جانبه يرجو أن ينجح العلاج، وأن يرزقه الله من يرثه، بعد أن أثبت الطب أن لا عيب من جانبه. وانقضى عامان كان تعاقب شهورهما يزيد عباسا شعورا بعبء ما ينفق في هذا السبيل، فكانت نفسه تهفو إلى نهاية هذه النفقة نهاية سعيدة، بحمل يطمئنه ويطمئن هندا معه. فلما لم يحقق الطب رجاءه، بعد أن تولاه الحرص على عقب يخلفه، دعا إليه حماه وقال له وهند حاضرة: أنت تذكر يا عماه حديثنا منذ أكثر من عامين في أمر الخلف، وتذكر ما قلته وما قالته هند، ومن يومئذ نزلت على إرادتها، وبذلت كل ما وسعته طاقتي لتحقيق رجائها، لكن الطب عجز؛ لأن الله لم يشأ أن يكون لي عقب منها، ونحن الآن متزوجان من أكثر من عشر سنين، وأنا أحس - مع تقدم السن - بشدة الحاجة إلى من يعينني في شيخوختي، ومن يرثني يوم يختارني الله إليه ... وأنا ما أزال أحب هندا من أعماق نفسي، وقد صبرت هذه السنين الأخيرة ، وأنفقت ما أنفقت، طمعا في أن يكون لي منها غلام، تقر به عينها، وتقر به عيني، أما ولم يحقق الله رجائي، فقد رأيت أن تشير علي في هذا الأمر بحضرة هند!
ولم تنتظر هند جواب أبيها، بل قالت في صوت تخنقه عبرة تحاول المسكينة التغلب عليها: ألم أقل لك منذ سنتين إنه لا تثريب عليك إن هفت نفسك إلى من يخلد به اسمك؟ لقد كنت أطمع أن أكون أما لهذا الغلام، أما وقد أبت مشيئة الله علي هذه السعادة فأنت وما بدا لك! ولن أتحول من التفاني في محبتك، والعيش ما حييت في كنف عطفك وحمايتك، والآن أدعك مع أبي، والرأي ما تريان!
وانصرفت الشابة إلى مخدعها، كي تترك العنان لدموعها تخفف عنها هم يأسها، وأي يأس وأي حزن؟ فهذا زوجها يريد أن يتزوج فتكون لها ضرة مرجوة الخلف، إذ هي عاقر عقيم! هذا هو الستار الأسود الذي يحجب عن ناظرها، وعن أملها، كل رجاء في النعيم!
وماذا يريد عباس أن يقول لأبيها؟ أبلغ من أمره أنه يريد تطليقها؟! تلك إذن الطامة الكبرى، والنازلة القاضية على حياتها قضاء مبرما، أوليس معنى هذا أن تعود إلى بيت أبيها أمة رق لزوجته، تسومها الخسف، وتذيقها الهوان ألوانا؟
ذلك أمر لا شبهة عندها فيه، أما إن بقيت مع زوجها على ضرة فقد تكون ضرتها عاقرا مثلها، فيجمع الهم المشترك بينهما، وقد لا تستطيع - وإن ولدت - أن تكسب قلب عباس كما كسبته هي، فيظل لها من المكانة عنده ما يقيها السعير المحتوم في بيت أبيها.
ألم تدر زوجة أبيها البخور على رأس أبنائها لتفسد حسد هند إياهم؟! فإن يكن ذلك رأيها فيها، ولها زوج يحميها وبيت يقيها المذلة، أفتتحرج عن اتهامها بكل منقصة يوم لا يكون لها رجاء إلا في عطف أبيها، وقد أخذت هذه الزوج عليه مسالك قلبه وأمسكت بيدها خلجات فؤاده؟!
وإن ذلك كله ليدور بخاطرها، إذ ناداها أبوها وقال لها: لقد أقررت عباسا على أن يتزوج، وقد ترك لك الخيار، إن شئت بقيت على ذمته، أو شئت سرحك سراحا جميلا!
وقالت هند في غير تردد: الأمر في ذلك له، فإن سرحني بقيت على الوفاء له ما حييت، ولن أحب رجلا غيره، وإن أمسكني شكرت له نبيل عاطفته وسمو نفسه، فهو يعلم أن الذنب ليس ذنبي، وأن عواطفي معه من كل قلبي!
قال عباس: «وأنت يا هند على عيني ورأسي! وعصمتك من اليوم في يدك وليست في يدي ... ولن أنسى ما حييت أنك سبب هنائي ومفتاح فضل الله علي وعنايته بي!»
وانصرف الأب، وتزوج عباس زوجته الثانية بعد أيام، ولم تبطئ هذه الزوجة الجديدة أن حملت، وفي الأشهر من حملها، شاءت ثقة الرؤساء بعباس ندبه إلى بلد ناء ليعالج أمرا عجز غيره عن علاجه.
وخشيت الزوجة الجديدة على نفسها وعلى حملها أن تصحبه في سفره، فاصطحب هندا وقضيا في هذا الندب عدة أشهر. فلما عادا إلى منزلهما، كانت الزوجة الجديدة وشيكة الوضع، وكان أكبر ما يرجوه عباس أن تضع غلاما يعينه في شيخوخته ويرثه حين وفاته. فلما علمت هند أن ضرتها وضعت بنتا، رفعت كفيها إلى السماء، شكرا لله أن لم يبلغ خذلان القدر إياها مداه فيمتع عباسا من غيرها بما يحقق له أملا أبى القدر عليها هي أن تكون مصدره. •••
وبعد أشهر، حملت الزوجة الثانية مرة أخرى! ثم ذكرت لعباس أن البيت أصبح لا يتسع له ولها ولأبنائها ... ولهند معهم! فإما أن ينتقل بها، وإما أن ينتقل بهند، إلى بيت جديد. ولا يستطيع عباس أن يعتذر عن عدم إجابة طلبها بضيق ذات اليد، فهو اليوم في الدرجة الرابعة، وهو مرشح للدرجة الثالثة، وقد استطاع أن يشتري مما اقتصده بعض أفدنة زادت إيراده!
دعا إليه هندا، وأفضى إليها برغبة أم ولده، وقال لها: الرأي الآن لك، وأنت تقدرين أنني مطالب اليوم، وقد أصبحت أبا، بأن أقتصد احتياطا لمستقبل أولادي.
وبكت هند لما سمعت، ولم تحر جوابا، فاستطرد عباس يقول: أدعو أباك وأدع له الحكم بعد أن أشرح له موقفي، وسأنفذ حكمه على أية حال!
وجاء أبوها، وشرح له عباس ما تحتمه زوجه الجديدة، وأنه لا مفر من النزول على إرادتها، فنظر الرجل إلى ابنته مغضبا وقال لها: كيف ترضين هذا الحكم أيتها الحمقاء؟ إن بيت أبيك يسعك ويسع عشرات معك، وقد ترك عباس أمرك إليك، وهو لا يأبى أن يسرحك إن شئت، فما بقاؤك في بيت لم يبق لك مكان فيه؟!
وانخرطت الشابة في البكاء، وقالت وكأنها لا تعي ما تقول: كلا يا أبي، فنار عباس ولا جنة زوجتك!
واستشاط الأب غضبا حين سمع عبارتها، ورفع يده يريد أن يضربها، فحال عباس بينه وبينها، وخرج الأب الغاضب يلعن ابنته وقلة أدبها، وينسب ذلك إلى ما ورثته من أمها ويقسم إنه لن يرى من بعد وجهها!
وأشفق عباس على هذه المسكينة، التي ظلمها القدر، وظلمها أبوها، وأخذ يتلطف بها، ويطيب خاطرها، حتى هدأت ثائرتها. ثم قال لها: ماذا عليك أن تقيمي في بيت بعيد عن ضرتك وأن تنسي وجودها، إنني لن أنسى أنك كنت عتبة سعد لي، ولن أكون معك إلا على ما يرضيك.
وانتقلت هند إلى بيت آخر متواضع، وكان زوجها يمر بها بين الحين والحين، وكان انتظارها إياه يطول أحيانا، فتأخذ بخناقها الوساوس، وكان أشد ما يفزعها إشفاقها من أن تضع ضرتها ولدا يحقق رجاء أبيه، فلا يبقى لها مكان من نفسه، ولا مكان من بيته، فينتهي إلى تطليقها، وتضطر إلى الرجوع إلى بيت أبيها، والخضوع لتحكم زوجته فيها، وذلك عندها هو الجحيم والعذاب المقيم!
كانت هذه الفكرة تتحكم في أعصابها أحيانا، فتذرف الدمع سخينا، وترفع عينيها النجلاوين إلى السماء تناجيها: أي ذنب جنت ليكون ذلك جزاءها؟ وتذكر وهي في همها وجزعها قريبات وزميلات لسن أجمل منها ... بسم لهن الحظ بعد عبوس، ورضي عنهن القدر بعد قسوة!
تلك ابنة خالتها ... تزوجت من كهل يكبرها ثلاثين سنة، ومع ذلك أنجبت منه، وهي سعيدة كل السعادة! وتلك زميلتها في المدرسة، التي تزوجت كهلا هي الأخرى، وبقيت معه أكثر من عشر سنوات، توفي بعدها فورثته، وتزوجت شابا أنجبت منه البنات والبنين، فهي في رخاء وطمأنينة ورضا، وثالثة، ورابعة، وخامسة ... كلهن يعشن ناعمات راضيات، وليس فيهن من تفوقها جمالا وذكاء. أما كفاها موت أمها وهي لا تزال في نعومة صباها، وزواج أبيها للمرة الثانية، وقسوة زوجة أبيها بها؟! أما كان عدلا أن تجزى عن ذلك كله بشيء من السكينة إلى الحياة ... سكينة تعوضها عن أحزانها وآلامها، لكل هذا الذي أصابها؟! أم أن عدالة السماء لا تعبأ بمثيلاتها، وإن لم يجترحن ذنبا ولم تكن لهن في الحياة جريرة؟!
إنها اليوم بين نارين: نار ضرتها، ونار زوج أبيها، وزوجها وأبوها لا يستطيعان شيئا، وقد استبد حب الخلف بالأول، واستبدت كثرة الخلف بالثاني، وبذلك تمكنت ضرتها وزوج أبيها من الرجلين تتحكمان في تصرفاتهما بما تشاءان، ثم يحسب كل رجل منهما أنه صاحب اليد العليا والكلمة النافذة في بيته!
وألح هذا التفكير على هند، وجعل يساورها ليلها ونهارها، كلما أخذت الوحدة بخناقها، فأظلمت الدنيا في وجهها، وفيما كانت أشهر الحمل تتقدم بضرتها، كان هذا التفكير يحطم صحتها ويذبل نضرتها، فإذا تصورت أن ضرتها ولدت غلاما، ركبت القشعريرة كل جسدها واضطرب قلبها وحنانها، وبلغت من ذلك أن ركبتها حمى، حار الأطباء في تشخيصها، وحاروا لذلك في تصوير علاجها، وكانت هذه الحمى تزداد على الأيام شدة، حتى لقد خشي الطبيب المعالج على حياة هند، بعد كل الذي بذله من عناية فائقة بها! •••
وإنها لتعاني بأساء المرض وضراءه، إذ دخل عليها يوما متجهما والدمع يكاد يطفر من عينيه، وسألته عما به، فلما لم يجب قالت: لعل الله رزقك بنتا ثانية؟!
وتنهد عباس، وهز رأسه في حسرة ثم قال: «نعم!»
هنالك أشرقت أسارير هند، وإن لم تتفوه بكلمة، ومن يومئذ بدأ الطبيب يطمئن شيئا فشيئا إلى تقدمها نحو العافية!
وبرئت المسكينة، ثم تعافت واستردت كل صحتها!
وأعجب من مرضها، ومن إشرافها على الموت، ومن برئها ... أن هذا المرض كان علاجا لها فيما عجز الأطباء عن علاجه، فقبل أن تقضي ضرتها أسابيع نفاسها، كانت هند قد حملت، فلما اطمأنت إلى حملها، أشرق وجهها، وعادت إليها نضارتها، وفرح عباس من كل قلبه لحملها، وأخذ يعودها كل يوم يسأل عن صحتها، فلما تمت أشهرها وضعت غلاما، طار عباس فرحا به وفاضت المسرة بهند منذ وضعته وأنستها ابتسامته كل عتابها للقدر وكل شكواها إلى السماء!
وجلس عباس يوما إلى جانبها وهي جالسة ترضع طفلها، فنظرت إليه بعينين ملئتا حبا وقالت: ترى لو أنك لم تتزوج ضرتي، ولم يبلغ الحرص مني أن أوقفني على حافة الموت، أفكان الله يهب لي هذا الغلام الجميل؟
وابتسم عباس لهذه العبارة، ثم قال: إن لله في خلقه شئونا، وهو وحده الذي يعلم الغيب، وهو أعدل العادلين وأرحم الراحمين!
وبعد هنيهة، التقت شفاههما على يد الغلام البريء الطفل تقبلانه، وقد أضاء قلبيهما نور البشر والسعادة!
الحب أعمى
كان عارف مرحا بطبعه، لا تفارق الابتسامة ثغره، ولا تفوته فرصة مسرة إلا ألقى بنفسه بين أحضانها. كذلك عرفه أصحابه قبل زواجه، وكذلك عرفوه منذ تزوج. وكان جيرانه أكثر اغتباطا بمرحه؛ فقد كان إذا دخل عليهم بيتهم ملأه حبورا وبهجة، فكانوا يقضون الساعات معه يضحكون ملء أشداقهم، فإذا آن له أن يتركهم تعلقوا به يستبقونه، إبقاء على متاعهم بالمسرة التي يفيضها وجوده على كل من حوله!
وكثيرا ما كان يبقى في مجالسه هذه إلى منتصف الليل وما بعده، فإذا غادرها قام الحاضرون جميعا يودعونه إلى باب المنزل، ثم لا تغيب الابتسامة عن ثغورهم حتى يغيب هو عن أنظارهم!
لكنه انقلب منذ أسابيع شخصا غير الذي ألفوا، علته سحابة من الكآبة، فلم يعد ثغره يعرف الابتسام، ولم تعد ضحكته تجلجل في المجالس فتعدي سامعيها فلا يملك أحدهم أن يمسك نفسه فلا يضحك. وفي أثناء هذه الأسابيع انقطع عن زيارة جيرانه حتى حسبوه أول الأمر مريضا، فلما سألوا عنه وقيل لهم إن به هما يشجيه، أشفقوا لما أصابه، وتمنوا لو استطاعوا تسلية همه!
وفيما هم جلوس يوما، وعندهم صديقتهم «طيبة» إذ دخل عارف عليهم ساهما، تكاد الكآبة تقتله . فلما جلس إليهم سألوه عما به في رفق وتلطف. وكأنما كان الشاب يريد أن ينفض ما في نفسه، لعله يتخفف منه، فأخذ يقص عليهم قصته، وفيما هو يروي وقائع هذه القصة، كانت «طيبة» تلقي إليه بكل سمعها، بل بكل وجودها، وكان وجهها الباش تغادره بشاشته شيئا فشيئا. فلما أتم عارف قصته انفجرت باكية، وكأنما طعنها حديثه بخنجر في قلبها!
أشفق الحاضرون لبكائها، وأشفق عارف معهم، وأخذ يعتذر لطيبة أن أثارت قصته أساها إلى هذا الحد.
قالت طيبة: «لا تعجب يا سيدي، فقصتك قصتي، وما أشبه ما أصابك بما أصابني. وأنا لست مرحة بطبعي كما كنت أنت مرحا، لذلك أثارت قصتك شجوني، وجسمت أمامي فجيعتي، فلم أملك دموعي، فاعذرني يا سيدي، وليعذرني أصحابنا جميعا!»
والواقع أن قصة عارف كانت تثير العجب بقدر ما تثير الشجن. وروايته لها كانت أشد فعلا في نفوس سامعيها، وأعمق أثرا عندهم مما لو قصها إنسان سواه.
قال عارف: كان عمي يزوج ابنته، منذ سبعة عشر عاما، وقد أقام أهل العروس أكثر من شهر، يحيون لهذه المناسبة ليالي تفريح وأنس، لم تكن إحداها تفوتني، وكانت تشترك في إحياء هذه الليالي فتاة عرفها أصدقاؤنا من بعد بأنها زوجتي. وكانت هذه الفتاة بارعة الجمال، رشيقة القد، حلوة النظرات، تتقن الرقص كأحسن ما تتقنه راقصة صناع محترفة، وقد جذبتني نظراتها إليها، كما جذبني هذا الجسم اللدن، الذي يميس حين رقصها، في خفة حركة ودقة نظام، حتى يكاد يذهب باللب. وكنت إذ ذاك طالبا بالجامعة، وكان أهلي يعلقون على نجاحي وحصولي على درجاتها أعظم الأماني. وكنت أقدر هذا، وأطمع في إرضائهم، فكنت شديد الإكباب على دارستي، حريصا على اتصال نجاحي، فلما عرفت هذه الفتاة، وكانت تحضر مع أمها، بدأت أشعر بأن في الحياة شيئا غير الدراسة، وغير الجامعة، وغير الدرجات العلمية، شيئا يمس القلب، بل يعبث به. وشجعني ذلك على الاتصال بالفتاة، ثم على رفع الكلفة معها، كما شجعني عليه ما كان أهلي يذكرونه عن أصلها وأنها من منبت وضيع. لذلك كنت ألقاها كل مساء قبيل حضورها إلى حفلة عمي، ثم كنت أحرص على أن أصحبها وأمها إلى منزلهما المتواضع إذا انتهت الحفلة بعد منتصف الليل.
وكانت الفتاة تصب في قلبي من نظراتها، ومن ابتساماتها، ومن حديثها، ما يزيدني إعجابا بها، وبحركات جسمها حين ترقص، وبرشاقتها في مشيتها، حتى لقد كنت أتصور هذه الحركات وهذه المشية أنغاما كأنغام الموسيقى، أو أكثر حلاوة وحياة من أنغام الموسيقى، لذلك وقع حبها في قلبي، فأنستني كل ما سواها، وخيل إلي من نظراتها ومن حديثها يومئذ، أن لي مكانا في قلبها كالمكان الذي لها في قلبي.
وكيف أشك في ذلك، وهي تبدي لي من صادق الحب ما أشعر به في أعماق وجودي، وما يهتز له كل عصب من أعصاب فؤادي؟!
ولم يزعزع هذا الإيمان بحبها في نفسي ما كنت ألاحظه عليها أحيانا من التلطف مع قريب لي، كان حريصا على حضور هذه الليالي في بيت عمي، مثل حرصي على حضورها، بل لم أصدق ما روته لي أختي من أنها سمعتها تقول لقريبي هذا: لو كان عندك من المال ما عنده لأصفيتك ودي دونه، فأنت أحب إلي منه، لكنك لا تستطيع الإنفاق كما ينفق، فلا تزعجني بإلحاحك، ولا فائدة لي منك!
صدق هذا الكلام، وحسبت أن أختي تذكره بإيعاز من والدتها، بعد أن لاحظت انصرافي عن دروسي، ولاحظت تأخري في العودة إلى المنزل إلى ما بعد منتصف الليل في كثير من الأحيان.
واطمأنت الفتاة إلى هيامي بها، فجعلت تسكب من عواطفها في قلبي ما يزيد حبي لها ضراما، لكنني لاحظت بعد حين، أنها بدأت تتحفظ معي حين انفرادنا، فإذا حاولت أن أقبلها، أبت وقالت: أنت تعلم أن أهلك لن يقبلوا أن نتزوج، فأنتم تنظرون إلينا على أننا من طبقة دون طبقتكم، ولا تتصورون أن الحب يزيل الفوارق بين الطبقات، إنني أحبك، بل أعبدك، وأعتقد أنك تبادلني مثل هذه العاطفة، وأنت لا ترضى لمن تحبها أن تفقد شرفها، والقبلة مقدمة للزواج أو للضياع. فهبني قبلتك وقبلتني فماذا يكون بعد ذلك؟ إنني فتاة شريفة، وأنا لا أحيي حفلات للرقص كما قد تتوهم، ولولا مودتنا مع بيت عمك، ولطفهم ورقتهم معنا، ما رأيتني قط أرقص. فلنقف بحبنا عند نهاية هذه الحفلات، وأرجو الله لك ما يرجوه لك أهلك من التوفيق والنجاح!
زادني تحفظها هياما بها، وألهب عواطفي نحوها، فأخذت أسأل نفسي: «ولم لا أتزوجها؟» لقد أبدع الله في تكوينها، فوهبها بذلك هبة لا تقل قدرا عن المال وعن الجاه، وحباها من الرشاقة والرقة وخفة الروح ما يرفعها إلى أكرم الطبقات. إنها قطعة فنية، لا تقوم بمال، ولا تدانيها في الاعتبار هبة يهبها الله للناس. إن النظرة إليها تدفع صاحب المال ليلقي بماله تحت قدميها، وصاحب الجاه ليضع جاهه تحت تصرفها. فلم لا أتزوجها وهي تحبني وأنا أحبها، هذا الحب الذي سما بنا كلينا فوق المال والجاه، وفوق كل اعتبار؟!
فلما خلوت إليها الغداة، قبيل ذهابها إلى الحفلة في بيت عمي، قلت لها: اسمعي، إنني لم يبق لي بتحفظك طاقة، وقد فكرت في كلامك معي أمس، فصممت على أن نتزوج، فأنت منذ الآن خطيبتي، وإن شئت فأنت منذ الآن زوجتي. ولن أخبر أهلي بشيء من ذلك حتى يصبح أمرا واقعا. وتحقيق هذا الأمر بيدك أنت ورهن مشيئتك. فأنا منذ الساعة ملكك، تتصرفين بي كما تشائين. هذا كلام شرف، أقوله لك عهدا مقطوعا أمام الله ... فما تقولين؟
لم أقل هذا الكلام بلساني وكفى، بل كان كل وجودي يعبر عنه أدق تعبير وأعمقه. كانت عيناي تنطقان به، وكان قلبي يخفق لكل لفظ منه، وكان وجهي ينم عن كل معانيه، ولاحظت الفتاة ذلك فألقت بنفسها بين ذارعي، وقالت: الآن ... أنا لك، فتصرف أنت كما تشاء، على أن يكون زواجنا، بعد أن تتزوج ابنة عمك!
من تلك الساعة، لم يبق للزمن وجود أمامي، بل لم يبق في الوجود كله إلا فتاتي البارعة المعبودة. لم تكن عيني ترى سواها، ولم تكن أذني تسمع غير حديثها، ولم يكن في الجو المحيط بي شيء إلا هي، كان هذا الجو معطرا بريحها وروحها وريحانها. وضممت الفتاة تلك اللحظة إلى قلبي، وقبلت جبينها وصدغها وثغرها، وشعرت بها أصبحت بضعة مني، وأن وجودها غاب في وجودي، وأننا كما يقولون: روح في جسدين. فلما أفقت من هذا الحلم السعيد الجميل، نظرت في ساعتي، فإذا هي قد تأخرت عن الموعد الذي ألف الناس في بيت عمي أن يروها تدخل عليهم فيه. لذا أسرعت بها إلى هناك، ولم أدخل البيت معها اتقاء المظنة. وبعد برهة دخلت، فألفيت القوم بدءوا ليلتهم، وبدءوا مرحهم، وألفيتها انسحبت من بينهم تستعد للرقص وتظاهرت بالسؤال عنها، وعن سبب تأخرها، فقيل لي: إنها سترقص بعد هنيهة!
ورقصت، فإذا هي شخص آخر غير الذي رأيناه في كل ما سبق من ليالينا ... لم تكن ترقص لنا، بل كانت ترقص لنفسها، كانت كل حركة من حركات جسمها، اللدن اللين، الذي يطاوعها إلى كل ما تريد، يجاوب ما تنطق به نظراتها من عواطف بالغة غاية السمو، ولم يكن في هذه الحركات أي معنى من معاني رغبة الحس، بل انتقلت بصاحبتها وبنا إلى عالم علوي، تتناجى الأرواح في أثيره، وترفع الأجسام معها إلى سماواته. لذلك سكن المرح الصاخب، الذي ألفناه في ليالينا السابقة، وبدت على وجوه الحاضرين جميعا، أحلام الهناء المطمئن، التي كانت الفتاة تشعر بها في أعماق نفسها، وتعبر عنها في بليغ حركاتها. أما أنا فذهبت من سعادتي في تيهاء مبهمة، وشعرت وكأنني ما أزال ممسكا بالفتاة بين يدي، أضمها إلى قلبي، وأشعر بالحب يربطنا في وثاق متين.
وانتهت السهرة وصحبتها وأمها إلى بيتهما المتواضع! ثم عدت أدراجي أفكر في هذا الزواج الذي سنعقده عما قريب، والذي حسبته الكفيل بسعادة أيامي ما حييت.
لا بد لي من مال أواجه به هذه الحياة الجديدة التي أنا مقبل عليها، ولا أريد أن يعرف أبواي شيئا من أمرها؛ لذا تحايلت على هذين الأبوين الكريمين، وعلى الآخرين من أهلي، فجمعت من المال كل ما استطعت جمعه، ولم يزد مع ذلك على مائة جنيه، تعدل قيمتها اليوم أربعمائة أو خمسمائة.
ولم ألبث حين تم زفاف ابنة عمي أن قلت لفتاتي: الآن حق لنا أن نصنع ما صنعوا وأن نتزوج.
ودعت الفتاة الأقربين من أهلها ودعونا المأذون وعقدنا زواجنا وأصبحت زوجا ممتعا سعيدا!
وبعد شهر علمت أن زوجي حامل، وفي أثناء هذا الشهر، لاحظ أهلي كثرة سهري، وتأخري عن كل مواعيدي، ولاحظ والدي انصرافي عن الدارسة، وجاءت إلي والدتي ذات صباح، وأخذت تحدثني في رفق وحنان، وتذكر لي ما لاحظه والدي على سلوكي، وتعيد على مسمعي أنشودتهم القديمة، ورجاءهم في حصولي على درجة جامعية، أسافر بها إلى أوروبا لأحصل على درجة أعلى. وذكرت أن والدي مستعد للإنفاق علي هناك عن سعة ... إلى آخر ما هناك من أماني صورتها، وحسبت أنها تستطيع بها أن تتغلب على ما ظنته طيشا شبابيا، فلما أتمت حديثها، قلت: ولكني لا أستطيع السفر إلى أوروبا، ولا أستطيع إتمام دراستي!
فوجئت الأم المسكينة بهذا الجواب، فقالت في فزع: «ولماذا؟!»
قلت: «لأنني تزوجت، ولأن زوجي حامل!»
وقصصت عليها كل قصتي ... وأيقنت والدتي من لهجة حديثي أن الأمر جد كل الجد، وأني أحب زوجتي حبا دونه العبادة، وأني مقدر كل الاحتمالات ومنها أن يخرجني والدي من بيته، وأنني مستعد لأن أعمل فأكسب حياتي وحياة أسرتي الصغيرة الجديدة!
وعدت إلى زوجتي، فحدثتها بما دار بيني وبين والدتي، فابتسمت وقالت: ما أظن الأمر يبلغ بوالدك إلى حد إخراجك من بيته، فقد لاحظت في أثناء حفلات ابنة عمك أنه يميل إلي كل الميل، ويعطف علي أشد العطف ويعنى بأمري أشد العناية، فإذا صادف أن تحدث إليك في هذا الموضوع فقل له إنني أكدت لك أنه لن يغضب من زواجنا!
ولم يخرجني أبي من بيته، ولم يمنع زوجتي من التردد عليه، ولم ينقطع عن التردد علينا، لكنه أبى أن تقيم معه في بيته، ورتب لنا مبلغا شهريا نعيش منه عيشا متواضعا.
وصرفتني عبادة زوجتي عن كل شيء سواها، صرفتني عن أصدقائي، وعن أهلي، فلم يبق أمام ناظري غير هذه المرأة التي صورها بارئها تصويرا فنيا يرضي ذوق كل مثال، بل يرضي خياله، ورأيت أن المبلغ الذي فرضه والدي لا يكفل الحياة التي أطمع فيها، فرحت أبحث عن عمل، ووفقت في بحثي، وبذلت في هذا العمل جهدي وانقطعت بذلك عن الجامعة غير آسف عليها.
ورزقنا ابنة، ثم رزقنا بعد عامين ابنة أخرى، وقد ضاعف مولد الطفلتين تعلقي بأمهما، فلم تنل عاطفة الأبوة من عبادتي إياها، وكيف تنال منها وصاحبتها قد سكنت قلبي فلم تترك فيه مكانا لغيرها؟
وكم تمنيت لو أنها أنجبت أطفالا آخرين، يزيدونني غراما بها وسعادة بهم. لكنني رأيتها تخالفني عن هذا الرأي كلما حدثتها فيه، وتذكر ما عانت في الحمل والوضع والرضاعة، من مشقة تريد أن تستريح منها في إجازة طويلة. وانقضى على مولد الطفلة الثانية سنوات ثلاث بدأت زوجتي تشعر بعدها بشيء من الاستقلال، وبدأت تحس بالحاجة إلى المتاع بالحياة، متاعا ذاتيا، لا تشغله الأمومة، وإن لم يصرفها ذلك عن العناية بالمنزل وبنفسها.
وشعرت أنا بأن ذلك من حقها، وأن امرأة جميلة جمالها، لا يجوز أن تحبس حياتها على أن تحمل وتلد وترضع، لذلك لم أر بأسا بأن تدعو بعض أصدقائها لزيارتها بالمنزل، ما دام حضورهم يدخل المسرة إلى نفسها، ولم أر بأسا بأن تخرج معي ومع واحد أو أكثر من هؤلاء الأصدقاء إلى مقهى من المقاهي، فإذا أغدقت على صديق من وقتها ولطفها وعطفها ما شاءت أن تغدقه لم يثر ذلك غيرتي؛ لأن عبادتي إياها كانت تجعلني أتمنى متاعها ورضاها. ولم يزعجني أن يكون بين هؤلاء الأصدقاء الذين يتمتعون بعطفها من ينتمون إلى الطبقة التي كانت تنتمي إليها يوم عرفتها. فقد كنت أنظر إلى كل ما تصنعه بعين الرضا؛ لأنها هي التي تصنعه، ولأنه يرضيها، ويبعث الهناء والغبطة إلى نفسها. ولست أبالغ حين أقول: إنني كنت أرى منها ما لا يطيق رجل أن يراه من زوجه، وكنت أرى ذلك في المنزل وخارج المنزل، فلا يغير ذلك من حبي لها، وعبادتي إياها؛ لأنها كانت كل حياتي، ولأنني كنت أشعر في أعماق نفسي بأن الحياة تكون جحيما إذا لم تكن هي راضية عني، أما وسعادتي متعلقة برضاها فيجب أن أكون سعيدا بكل ما ترضى هي عنه.
ورأيتها يوما تطرز صديرية أعجبني لون صوفها، فجلست إلى جانبها وقلت لها في حنان: كم أنا شاكر لعنايتك، منتظر بفارغ الصبر، أن ألبس هذه الصديرية من صنع يديك الجميلتين ...
عند ذلك تململت في ضجر، وقالت: إنما أتسلى بتطريزها، وهي على كل حال ليست لك، وأرجو ألا تنسى أننا متزوجان الآن منذ خمس عشرة سنة، وأنت تتعبني بمبالغتك في إظهار محبتك لي. وقد كبرت بنتانا، وليس من حسن التربية أن تريا منك ما لا تمتنع عن إظهاره أمامهما. ولم أعد أنا أطيق هذا الحب الجارف، الذي تحاول به أن تقنعني بأنك ما تزال اليوم كما كنت من قبل أن نتزوج.
قالت هذا الكلام وقد تخلصت بعنف من ذراعي، ومن قبلاتي!
لم تزعجني هذه الحركة من زوجتي، ولم تغير رأيي فيما كان يلمح به بعض أصحابي عن علاقتها بأصدقائها. فقد اعتقدت أنها حركة عصبية طارئة، لا تلبث أن تزول، وبقيت لذلك على عبادتها، التي أملاها ما سمته هي ... الحب الجارف!
لم أر بعد هذا اليوم تلك الصديرية التي كانت تطرزها، وخيل إلي أنها أهملتها، وأنها تلتمس التسلية في شيء آخر.
وبعد أسابيع عدت إلى البيت فلم أجدها، فخرجت أضرب في الطرقات مما حولنا، في انتظار عودتها. وإنني لأمر بدكان جزار قريب منا، إذ رأيتها داخلة، ورأيت الجزار يرتدي الصديرية التي كانت تطرزها، فدخلت أسألها: ما الذي جاء بها إلى هناك؟ فأجابت: جئت أشتري لحما اشتهته نفسي!
قلت: «ولكن الخادم تشتري لنا كل صباح ما نحتاج إليه!»
قالت مغضبة: «وهل هناك ما يمنعني إذا لم يعجبني ما اشترته الخادم أن أخرج إلى السوق وأن أبتاع ما يعجبني؟»
وخرجت على أثر هذه العبارة وقد صبغ الغضب وجناتها فزادها جمالا، ووقفت أنظر إلى الجزار وإلى الصديرية التي يلبسها، ثم سألته: بكم ابتعت هذه الصديرية!
قال: «إنني لم أبتعها، بل صنعتها لي أختي.»
كان هذا الجزار شابا فارها، جميل الصورة، مفتول العضل، لا تزيد سنه على الخامسة والعشرين، وقد خيل إلي حين رأيت عليه الصديرية أن زوجي هي التي أعطته إياها، ثم راجعت نفسي، ولمتها على شبهة لا أستطيع تصديقها. فقد يكون حقا أن أخته هي التي صنعتها له، فالصوف من هذا اللون كثير في السوق ولن تتعلق زوجي بشاب جزار، تكبره بعشر سنوات أو نحوها. لذلك صرفت الوهم عني، وعدت إلى منزلي، فألفيت زوجي متجهمة، فأردت ملاطفتها كشأني معها، فقالت في حدة: اسمع. أنا لم أعد أطيق الحياة معك، لم أعد أستطيع أن أراك، ولم تعد أعصابي تحتمل نظرتك إلي، ولم يعد جسمي يحتمل مسك إياه، وقبلاتك تثير انزعاجي، وقد يكون هذا كله طارئا يزيله الزمن، وعلاجه عندي أن تطلقني فأشعر بأنني حرة في نفسي، وفي جسدي وفي وجودي ... ولعلي بعد زمن، أشعر بأننا نستطيع أن نعيد سابق مودتنا، بل سابق حبنا. فادع المأذون وطلقني، فلا أرى علاجا لموقفنا غير الطلاق!
طاش صوابي حين سمعت هذه الكلمات: أنا أطلقها؟! وماذا يبقى لي في الحياة! بل لماذا أبقى أنا في الحياة؟
وعبثا حاولت صرفها عن هذه الفكرة، فقد تشبثت بها كل التشبث: استعطفت، بكيت، ألقيت بنفسي على قدميها، جثوت أمامها، ونظرت إليها بعينين ملأهما الدمع، وفيهما كل معاني العبادة. لم يقنعها شيء من ذلك كله، بل كان آخر ما قالته: خير لك ولسمعة بناتنا أن تطلقني ... وأن تطلقني الساعة، وإلا هجرت بيتك وخرجت هائمة على وجهي!
لم يكن لي بد من النزول على إرادتها، فلم أتعود طيلة السنوات التي عشناها معا أن أعترض هذه الإرادة. وخرجت لساعتي، فجئت بالمأذون، ورجوته ونحن في الطريق أن يحاول تسكين غضبها، وردها عن عزمها ... وحاول الرجل، ولكنه لم ينجح، فطلقتها طلاقا بائنا!
وكنت أطمع في أن نتفاهم في أثناء عدتها، وأن تتراجع. لكنها تركت منزلي، وذهبت إلى أمها وحرمت علي أن أزورها.
وقضيت شهورا ثلاثة في هم ونكد لا هم ولا نكد مثلهما، كنت أبكي إذا أصبحت، وأبكي إذا أمسيت. كنت أشعر بأنني فقدت كل مسوغ لحياتي، ولولا ابنتاي لفكرت في الانتحار!
وإنني لفي همي وفي كمدي، إذ بلغني أن مطلقتي تزوجت ذلك الجزار الذي رأيته وعليه الصديرية التي طرزتها يداها. وتتبعت أخبارها، فعلمت أن هذا الشاب الجزار يضربها ويهينها، فلا يزيدها ضربه ولا تزيدها إهانته إلا تعلقا به وعبادة له. ولا يزيدني ما أعلمه من ذلك إلا حسرة وندما، وبكاء على حب وهبته كل قلبي، فحطمته حبيبتي تحت قدميها بغير شفقة ولا رحمة، من أجل شاب جزار جميل!
أتم عارف قصته، فبكت «طيبة» وأمعنت في البكاء، فلما سألها ما يبكيها؟ قالت: إن قصتك مثل قصتي يا سيدي ... لقد تزوجت، وأحببت زوجي حب العبادة ... أحببته هذا الحب الذي قصصت علينا الآن نبأه، أحببته واحتملت في سبيل حبي له كل شيء ... كنت أراه مع صديقاتي فلا يزعجني ذلك، إذ كنت موقنة بأنه عائد إلي لا محالة. وكان لا يستحي من أن يجيء ببعض صديقاته معه إلى منزلنا، فأدعه لهم وأخرج، حتى لا يشعر أبناؤنا الثلاثة بأنني أطيق ذلك وأسكت عليه. وكان من هاتيك المستهترات بنات بلد بارعات الجمال، لا أدري إن كن قد بلغن من هذه البراعة ما بلغت زوجتك أم لا ... وكنت أعاتب زوجي أحيانا، فيهينني ويضربني، فأحتمل منه ذلك، لأنني أحبه وأعبده، ولم يكفه ضعفي أمامه ومحبتي له، بل تزوج إحدى هاتيك النسوة من بنات البلد. عند ذلك نفد صبري. ولقد كنت مستعدة لأن أطاوله، لعل رشاده يعاوده، لكن هذه المرأة اللعوب التي تزوجها خشيت هذه المطاولة، وخشيت أن تنتهي عبادتي لزوجي بالتغلب عليها، فالتمست عنده كل أوجه الحيلة ومنها المغاضبة، ثم الاسترضاء، حتى نزل على إرادتها، فطلقني. ومبالغة في النكاية بي، أخذت وثيقة الطلاق، وجاءت بنفسها ودفعتها إلي، ثم انصرفت وعلى فمها ابتسامة الظافر. وتركتني كما تركتك زوجتك، وقد تقلص كل أمل لي في الحياة، لولا حرصي على مصير أولادي، وخشيتي أن يحطم هذا الجاحد الخئون مستقبلهم!
كان الحاضرون عند جيران عارف يصغون إلى قصته وإلى قصة «طيبة»، وكلهم الدهشة والعجب، فلما فرغت طيبة من حديثها، قالت سيدة من الحاضرات: أما وأنتما ضحيتان لحوادث متشابهة كل التشابه، فلماذا لا تتزوجان؟
وقال الحاضرون جميعا: «نعم الاقتراح، وكلنا نؤيده.»
أمسكت «طيبة» بطبيعة الحال فلم تقل شيئا ولم تعترض، واستمهل عارف أصحاب الاقتراح، ليشاور في هذا الأمر أهله.
قالت «طيبة»: «أما أنا فلست في حاجة إلى مشاورة، فإذا خاطبتني في الموضوع يوما، فكرت فيه بنفسي.»
وإنما أراد عارف أن يشاور قلبه، فهو لا يزال مقيما على حب مطلقته رغم ما صنعته، لكنه أشفق على طيبة إشفاقه على نفسه.
ثم إنه أفضى بالقصة كلها إلى أخته وإلى زوجها فقال له هذا الزوج: أنا أؤيد الذين اقترحوا أن تتزوج من هذه السيدة، وسيربط بينكما ما أصابكما، ويكفل لكما حياة سعيدة مطمئنة!
فلما انصرف عارف، سألت أخته زوجها عما دفعه لإبداء هذا الرأي، فذكر له أنه يخشى أن يطلق الجزار مطلقة أخيها، فيعود عارف إليها، يعبدها من جديد، بعد أن خانته ولوثت سمعته.
وبحث عارف هذه النصيحة، وانتهى إلى قبولها، ثم إنه خطب «طيبة» إلى نفسها فلم تتردد في قبول خطبته، وتزوجا.
وجمعت المأساة التي حطمت قلب كل منهما بينهما، وأخذت تضمد جراح هذين القلبين الكسيرين، وتأسو كلومهما، فلما رزقهما الله أول أطفالهما مرت ابتسامة هذا الطفل وبراءته على ما بقي من هذه الكلوم، فاندملت.
وهما الآن يعيشان متمتعين بخير ما يتمتع به الأزواج السعداء!
وفاء
كانت لخاله بنتان! ربط الحب بينه وبين صغراهما بأوثق رباط، فتعاهدا على أن يتوجا هذا الحب بالزواج، واغتبطت «عزة» بهذا العهد، رغم ما كانت تعلمه من رقة حال ابن عمتها، لأنها كانت تلمح في بريق عينيه ذكاء، وفي نبرة صوته حزما، وفي حلو حديثه سحرا ومنطقا، فكانت تؤمن بأنه سيرتفع إلى مراكز سامية، ويرفعها معه إلى هذه المراكز.
وكان «فريد» من جانبه شديد الثقة بنفسه، وكانت نظرة عزة إليه تضاعف هذه الثقة عنده، وتضاعف من طموحه ليكون أهلا لها، جديرا بها. فلما بلغت الفتاة الثامنة عشرة من سنها، خاطب زوجة خاله في خطبة «عزة» إلى أبيها فقالت له: لا أحسب خالك يضن عليك بابنته، لكنه لا يرضى أن تحدثه في هذه الخطبة، قبل أن تخطب أختها، فهي أكبر منها، ولا يجوز في عرف الناس أن تخطب الصغرى قبل أختها التي تكبرها!
وقبل فريد هذا الكلام على مضض، وإن طمأنه أن الأم ترحب بزواجه من ابنتها. ففي هذا الترحيب أمارة خير، ولا ضير عليه أن يصبر، وأن يرجو الله أن تخطب الأخت الكبيرة في زمن وجيز!
وتعاقبت الأسابيع والشهور، وفريد في انتظاره على لظى. وإنه لكذلك، إذ علم أن «أسعد بك» ذهب إلى خاله يخطب ابنتيه لولديه!
وكان أسعد بك رجلا وجيها من علية القوم، واسع الثراء، وكان ابناه شابين مهذبين حصلا على مؤهلات علمية أعلى من مؤهلات فريد!
واضطرب فريد إذ بلغه هذا النبأ، وذهب لفوره إلى زوجة خاله، يسألها عن هذه الخطبة ورأي خاله فيها.
قالت الزوجة: أنت تعلم أننا معشر الأمهات قل أن يكون لنا في مثل هذا الأمر رأي، فأما الرأي كله فللآباء، وقد ذكرت لخالك حين أنبأني أمس بحديث أسعد بك كلامك معي منذ أشهر في شأن عزة. فقال: أوتريدين أن تميلي بخت ابنتك لعبارة طارئة كالتي أفضى بها إليك فريد؟ وهل تطمعين في أن يخطب بناتنا خير من أولاد أسعد بك، وهم من هم ثراء وتربية وعلما؟!
وماذا تريدينني أن أقول للرجل؟ أأقول له: إنني أقبل خطبة كبرى البنتين ولا أقبل خطبة أختها؛ لأن عزة تحب ابن عمتها؟ أوتحسبينه يرضى بعد ذلك أن يصاهرنا؟ أم ترينه يحسب أن تربية بناتنا سيئة لأنهما يعرفان الحب؟ وعند ذلك ينصرف عنا، تاركا للناس أن يقولوا فينا ما يشاءون. كلا! لن أقبل هذا الوضع لنفسي ولا لبناتي، وسأزوجهما من هذين الخطيبين الكريمين، فأنا المسئول عنهما وعن مستقبلهما، وأرجو منك ألا تخاطبيني في هذا الأمر مرة أخرى!
وأضافت أم عزة، في لهجة رقيقة تواسي بها فريدا: وأنت يا بني، لا ريب تفرح لما يناله أختاك من خير، وأنا أعرف لك عروسا أجمل من عزة، ستحبها ساعة تراها، فلا تبتئس، ولا يأخذ الضيق عليك مسالك نفسك!
وانصرف فريد كاسف البال آسفا، وخيل إليه أن باب هذا البيت يوشك أن يوصد دونه، فهو يعلم أن خاله رجل عنيف، وأنه إن خاطبه في أمر عزة، بعد أن خطبها أسعد بك لابنه، رده أقبح رد فأدى ذلك إلى القطيعة بينهما، وقد يؤدي إلى ألا يرى عزة بعد ذلك ما عاش! •••
ودعا الأب ابنتيه، وقبلهما، وبارك لهما على خطبتهما لابني أسعد بك ... أما الكبرى فقبلت أباها كما قبلها، وافتر ثغرها عن ابتسامة المسرة والرضا. فأما عزة، فانهملت من عينيها دمعة حارة لدى سماعها هذا النبأ. وبعد برهة انسحبت من البهو الذي يجلسون فيه إلى غرفتها وأسلمت نفسها للبكاء، وخيل إليها أن أباها يبيعها، كما كانت تباع الإماء في سوق الرقيق، وأن القدر كتب عليها أن تكون بائسة طوال حياتها، لكنها كانت موقنة أنها لن تستطيع لقرار أبيها نقضا، ولن تستطيع عليه ثورة. فأبوها لا يقبل أن تعارضه زوجه، أو تعارضه إحدى ابنتيه، بل يرى في أية معارضة له عقوقا وخروجا على ما أدب أسرته به من أنه السيد المطاع، وأنهن جميعا له تبع!
ودخلت عليها أمها وهي في بكائها وحزنها، وحاولت أن تقنعها بأن أباها أعلى منهن رأيا، وأبعد نظرا، وأنه أحرص على مستقبلهن من أنفسهن، فلا مفر لهن من قبول قضائه بالتسليم والرضا!
ولم تجب عزة بكلمة، ولم تنبس ببنت شفة. فلم يكن في مقدورها أن تتكلم والعبرات تخنقها، والهم قد جفف حلقها وأعجزها عن النطق!
وخرجت أمها بعد زمن حيرى، وكل الذي دار بخاطرها أن حزن ابنتها طارئ لن يلبث عطفها أن يغرقه، ثم تغرقه هدايا خطيبها، ويغرقه بعد ذلك جهازها وفرح زواجها، وانتقالها إلى حياتها الجديدة!
لكن هذا الرجاء الذي خالج نفس الأم، وهون عليها حيرتها، لم يتحقق. فقد تشبث الهم بنفس عزة، وركبها حزن محا عن ثغرها ابتسامته، ولم يخفف منه ما كان خطيبها يبعث به إليها الحين بعد الحين من نفيس الهدايا. لقد شعرت بأنها كم مهمل، وبأن عواطفها ووجودها وحياتها لا رأي لها فيها، ولا قيمة لها عند أبيها. ورأت إلى ذلك أنها لا تستطيع أن تعترض أو تثور، فاحتقرت الحياة وما فيها، وانصرفت عن كل نعمائها، مكتفية بأن تلوك شجاها وهمها وليلها ونهارها! وأدى ذلك إلى فقد شهيتها للطعام، وإلى ذبول نضارتها، وإلى تسرب المرض إلى نفسها ثم إلى جسمها، من غير أن يشعر بذلك المرض أحد! •••
كانت الأسرة كلها في شغل بالمصاهرة الجديدة، وبالهدايا الثمينة المتعاقبة، وبالحديث عن يوم الزفاف وما يكون فيه، وبهذا الجهاز القيم الذي كان الأب ينفق في اختياره ساعات من كل يوم، ولا يفكر مع ذلك في اصطحاب ابنتيه ليرياه أو يريا منه شيئا. إنه مطمئن إلى حسن ذوقه، ودقيق اختياره، وإلى أنه لا يجوز أن يكون وراء رأيه معقب!
وبدأت علامات المرض تظهر على عزة، فقد بدأ ينتابها سعال خفيف، ظنه أبوها أول الأمر من أثر البرد، فلما طال بها، واستدعى الطبيب لعلاجها، ودقق في فحصها، أسر إلى أبيها أن الأمر أخطر مما يدور بخاطره، وأن فتاته مصدورة، وأن الخير في نقلها إلى مصحة تعنى بها!
ووجم الأب لما سمع، وطال تفكيره فيه، فقد أوشك الجهاز أن يتم، وأسعد بك يطلب ملحا في تحديد يوم الزفاف. فماذا تراه يصنع وعزة مريضة، ولا يمكن أن تزف إلى خطيبها قبل برئها؟
ولم يجد حلا لهذا الموقف إلا أن يذكر لأسعد بك مرض عزة، وإن لم يذكر له نوع المرض، ووجم أسعد بك طويلا ثم قال: «هذا قضاء الله لا سلطان لنا عليه، والرأي عندي أن نتم زفاف ابنتك الكبرى إلى خطيبها، فهو أكثر إلحاحا من أخيه في الإسراع بالزفاف. فإذا برئت عزة من بعد، زفت هي الأخرى إلى خطيبها!»
واغتبط الأب بهذا الرأي، وتم زفاف كبرى البنتين، وانتقلت إلى بيتها. أما عزة فنقلت بعد أسابيع من فرح أختها إلى مصحة تعالج فيها من مرضها! •••
وكان خطيبها ، وكان فريد، يترددان عليها في المصحة، يواسيانها، ويسألان عن حالها. وكانت عزة تشعر كلما زارها خطيبها كابوسا يجثم على صدرها يكاد يمزقه! فلم يكن منها غير أنات وسعال يخالط الكلمات القليلة المتقطعة التي تشكره بها على زيارته! فإذا جاء فريد عندها تراءى لها فيض من نور الأمل في الحياة، فابتسمت وتحدثت إليه مغتبطة بزيارته وسألته عن الكثير من أمره!
فإذا تصورت بعد ذلك مجيء خطيبها ذوى في نفسها كل أمل، وخيل إليها أن شبحين أسودين يحيطان بها: شبح الموت عن يسارها، وشبح هذا الخطيب عن يمينها!
وبعد أشهر، رأى الخطيب أثناءها أنها لا تتقدم إلى الشفاء، ذهب إلى طبيب المصحة يسأله رأيه في حالها، ومتى يتم في تقديره شفاؤها؟ وهز الطبيب كتفه وقال: لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال يا سيدي! فهذه المريضة عصبية الطبع، ولأعصابها تأثير بالغ في صحتها، فأنا أراها أحيانا تتقدم ولو في بطء إلى ناحية الشفاء، ثم أراها فجأة انتكست، حتى أكاد أيأس من شفائها. وقد حاولت أن أستدرجها لأعرف شيئا من قصة حياتها، لعلي أستطيع إن وقفت على سرها أن أنجح في علاجها، فكانت تأبى كل الإباء أن تفضي إلي بشيء. هذا على الرغم من حرصي الشديد على العناية بها، لرقتها وحلو طبعها ودماثة خلقها وسحر حديثها في الساعات التي يبتسم لها الأمل فيها. أما وذلك شأنها فمن العسير علي أن أقول لك شيئا عن سير مرضها، أو مبلغ تقدمها نحو الشفاء والعافية!
وعجب خطيبها لما سمع ... هي إذن تبتسم، لكنه لم ير قط هذه الابتسامة على ثغرها، وهي إذن تتحدث وفي حديثها رقة وحلاوة، لكنه لم يسمع غير كلماتها المتقطعة بين تأوهاتها ونوبات السعال التي تعتريها. والطبيب لا يستطيع أن يذكر شيئا عن شفائها؛ أي إنها إن عاشت، فقد تبقى بالمصحة عاما أو أعواما. أليس خيرا أن يفصم العقدة التي تربطه بها، فتتاح له الفرصة في الزواج من غيرها، وقد يتيح لها ذلك فرصة البرء والعود إلى الحياة من جديد؟!
وتحدث إلى أبيه وأبيها في الأمر، فلم يجدا ما يعترضان به عليه، وزارها أبوها يوما، وقال لها متكلفا اللطف والرقة: لقد فهمت يا ابنتي أن خطيبك يريد أن يتزوج، ولا أحسبك ترضين أن يخطب غيرك وأنت لا تزالين خطيبته؛ لذا أرى - إن كان مصمما على هذا الأمر - أن نحل خطبتك له، وقد رأيت أن أعرف رأيك قبل أن أصرح لأبيه برأيي!
قالت عزة: «الرأي لك يا أبت، فاصنع ما بدا لك.» ولمح أبوها على وجهها إشراق المسرة وهي تقول هذا الكلام. فلما خرج من عندها، أخذ يسأل نفسه: أفكان قبوله خطبتها على غير رغبتها هو الذي أدى إلى مرضها هذا المرض العضال! وأخذ يحاسب نفسه ويستغفر ربه، ويرجو لها البرء بعد فصم خطبتها حتى لا يعذبه ضميره بقية حياته إن أصابها مكروه! •••
بعد أيام من هذا الحديث، أقبل فريد إلى المصحة، ودخل عند عزة، وعيناه تفيضان سرورا. فلما رأته أيقنت أن خطبتها تم فصمها، فغلبها الفرح الذي غلب محبها، ونطقت بذلك أساريرها. لكنها أرادت أن تداعب فريدا، فقالت: أراك اليوم مسرورا بحل خطبتي شماتة! أوذلك هو الحب الذي كنت تحدثني من قبل عنه؟!
وأخذ فريد حين سمع هذا الكلام، فنظر إليها وكله الإشفاق والمحبة، وقال: أوترضى شفتاك أن تنطقا بمثل هذا الكلام ولو على سبيل الدعابة؟ أنا يا عزة أشمت بك أنت، وأنت حياتي وأعز من حياتي؟! إنما سررت لحل خطبتك لأجدد لك عهدا قطعناه أن يتوج الزواج حبنا، وإنني لعلى ثقة اليوم بأن الشفاء قريب منا، وأن الله أراد أن يبلو حالي بما أصابنا، ليعلم أن للحب قدسية واجبة الاحترام. وهأنذا أقطع لك العهد من جديد، على أن نتزوج، أفتقطعين لي أنت مثل هذا العهد صادقة؟
وارتبكت الفتاة لما سمعت، وتولتها الحيرة دون الجواب. أفمن حقها أن تقطع مثل هذا العهد، والمرض العضال يعبث بصدرها، وفريد في صحة وفتوة شبابه؟ وبدا عليها من الوجوم ما أدهش فريدا، فقال: ما كنت أحسب عواطفك نحوي تغيرت بهذا القدر، بل حسبتك اغتبطت بحل خطبتك اغتباطي أنا بذلك، لنعود إلى عهدنا الأول.
ونظرت إليه عزة بعينين ترقرقت فيهما دمعة لم تنحدر، وقالت: أفمن حق مثلي أن يقطع اليوم مثل هذا العهد؟ أنت لا تعلم، وأنا لا أعلم، كم يطول مقامي هنا، وما يكون مصيري بعد هذا المقام، فكيف تطلب إلي أن أقطع عهدا قد أعجز عن الوفاء به؟ ولولا هذا الشعور، لكنت أسرع منك إلى قطع هذا العهد. وكل ما أستطيع أن أقوله: «إنني أحببتك، وإنني أحبك، وإنني سأحبك ما بقيت في هذه الدنيا، وستحبك روحي حتى نلتقي في رحاب الآخرة، وفي رحمة الغفور الرحيم!»
وصاح فريد: «حسبي منك ذلك العهد. والغفور الرحيم رءوف بعباده، وأنا موقن بأنه سيشفيك لي، فيتوج الزواج عهدنا غدا، كما كنا نرجو أن يتوجه بالأمس. لقد عاهدني قلبي يوم خطبتك لابن أسعد بك ألا يحب غيرك، وألا تشركني في حياتي امرأة سواك. وقد وفى قلبي بعهده، وفتح الله أمامنا اليوم صفحة جديدة من صفحات الأمل في دوام الوفاء!»
وانصرف فريد من زيارته سعيدا بها كل السعادة. ولم تلبث عزة حين خرج أن قامت إلى نضد زينتها، ونظرت إلى وجهها في المرآة، فاطمأنت إلى أن المرض لم يعبث بملامحها، وأن نظراتها أشد جاذبية مما كانت. فلما جن الليل، استراحت إلى أحلام لم تعرف مثلها حلاوة منذ أشهر. ودخل الطبيب حجرتها صبح الغد، فألفاها تغني، وألفى خديها قد خالطهما تورد كأنه تورد العافية. ورأى على ثغرها ابتسامة ناضرة، فكأنما عاودتها صحتها كاملة. وسر بذلك وأخذ يحادثها. ولم تستطع هذه المرة أن تكتمه سرها، بل قالت له إن خطبتها حلت، وأشارت في خفر إلى حديث فريد معها أمس!
وخرج الطبيب من عندها يتردد بين الأمل في شفائها واليأس منه، فهو يعلم أن لا شيء أخطر على حياة المصدور من الانفعالات العنيفة، سواء أكان الحزن أم كان السرور مبعثها؟!
وكان الطبيب يرى انفعالها بالسرور يزداد عنفا كلما جاء فريد لزيارتها، وفكر في منعه اتقاء الخطر، ثم لم يفعل مخافة أن يؤدي انقطاعه عنها إلى نكسة تصيبها، تكون أسوأ في صحتها!
لكن انفعال عزة بالسرور كان يزداد على الأيام عنفا، ذلك أنها لم تكن تفكر في أمر صحتها، بل كان ابتهاجها بالعهد الذي قطعه فريد لها أجل قدرا عندها من شفائها، بل من حياتها.
وأصبحت يوما فإذا صدرها يدفق دما، فيلزمها الطبيب سريرها، ويبالغ في العناية بعلاجها، لكن الأمر كان قد خرج من يده، فلم ينجح العلاج. وفي الغد من ذلك اليوم أسلمت عزة روحها، في حضرة أبيها وأمها، وفي حضرة فريد الذي سبقهما إليها لأول ما بلغه نبأ ما أصابها، وقبل أن يحم قضاء الله فيها!
وقد رأته مقبلا وهي في نزعها، فقالت في صوت لا يكاد يبين: وداعا يا فريد! أنا على عهدي، ولكني أحلك من عهدك لي، فلا عهد على الأحياء للذين يفارقون الحياة!
وبكى فريد لوفاتها أحر بكاء، وسار في جنازتها إلى قبرها، فلما رأى جثمانها ينزل إلى مثواه الأخير، قال والدموع تخنقه: وداعا يا عزة، وأنا على عهدي لك حتى ألقاك!
وأقام فريد سنين متعاقبة، يذهب إلى قبرها صباح الجمعة من كل أسبوع، يضع عليه الورد والريحان، ويتلو عنده الفاتحة. ويعود بعد ذلك إلى بيته، وقد تحطم قلبه، وتحطمت أعصابه.
بعد سنوات، كانت وفاء، قريبة عزة، قد أصابها القدر في أمها ثم أبيها. وكان فريد يعرف هذه الفتاة الرقيقة، وإن لم يكن يزورها أو يتردد على أهلها. وكان يعلم أنها، بموت أبويها، قد أصبحت وحيدة ليس لها من يكفلها من أخ أو قريب. لذلك واساها في مصابها وفاء لعزة قريبتها، وأخذ يتردد عليها، لعله يستطيع أن يؤدي لها أية خدمة تطلبها!
وكانت وفاء محدثة بارعة. وقد أدهش فريدا ما كان من صوتها وصوت عزة من شبه عجيب، حتى لكان يغمض عينيه أحيانا، فيخيل إليه أنه يسمع صوت تلك التي ووريت التراب من سنين. وكان تكوين وفاء كله الإغراء: فقوامها، وصدرها، وخطواتها، وبشرتها، وشعرها المرسل من رأسها إلى قدميها ... كل ذلك كانت تتضوع منه أنوثة شابة تسحر العين، وينشق ريحها الأنف، في إعجاب يعادل إعجاب الأذن بصوتها، وإعجاب الروح برقتها ... رغم عصبية لا تخلو من عنف، كان فريد يلتمس عذرها في تلك الوحدة التي ضربت نطاقها حول هذه الفتاة البديعة التكوين!
وتوسمت وفاء في هذا الرجل - الذي واساها في مصابها، ثم عكف على زيارتها وخدمتها - طيبة قلب، وسمو نفس، حبباه إليها، وجعلاها تشعر بالسعادة كلما رأته مقبلا لزيارتها. وسألت نفسها يوما: «ترى لو أنه خطبني ليتزوجني، وبيني وبينه من فارق السن ما بيننا، أتراني أسعد بخطبته؟»
وكان الجواب الذي سمعته أذناها ردا على سؤالها: «وهل يمنعه فارق السن من أن يؤنس وحدتك ما عاش؟ إنه يتخطى الشباب إلى الكهولة، لكنك تعيشين الآن وكأنك في صومعة أو في دير. فإذا تزوجك خرجت إلى الدنيا ونعمت بالحياة.»
وتردد هذا الخاطر في نفسها غير مرة، فتمنت لو أنه خطبها. وهي لم تكن تستطيع مفاتحته في الأمر وإن كانت تتمناه. وكانت تظن فريدا لا يأبى التزوج منها إذا نبه إلى خطبتها. فهو يعيش مثلها وحيدا لا مؤنس له. ترى لو أنها ذكرت ما يدور بخاطرها لأحد معارفها، وطلبت إليها أن تحدث فريدا فيه فما عسى أن يكون جوابه؟
وخاطبت وفاء سيدة تعرفها وتعرف فريدا فيما دار بخاطرها، ولقيت السيدة فريدا وقالت له: إنك رجل تتخطى الشباب الآن إلى الكهولة، وأنت تتردد على وفاء ترددا أثار لغط الناس، رغم اطمئنانهم إلى رجحان عقلك، وحسن سيرتك. وهي شابة رقيقة مهذبة، وأحسبها تغتبط بزيارتك إياها. أفلا ترى أن تقطع الألسن عنك وعنها، بأن تخطبها إلى نفسها، فلا تجد هذه الألسن ما تتقول به عليك وعليها؟ وأكبر ظني أنها ترحب بك زوجا لها. فإن شئت حدثتها ونقلت إليك جوابها.
وجم فريد لما سمع، فلم يدر بخاطره قط أن يتزوج وفاء وبينهما فارق السن ما بينهما، وهو بعد قد جاوز سن الزواج ولا يفكر فيه. وبعد برهة قال ولا تزال الحيرة تعلو وجهه: أنا أخطب وفاء؟! أترينني يا سيدتي كفؤا لها، أو قديرا وأنا في هذه السن على إسعادها؟ إن لها من الاحترام في قلبي، ومن المكانة في نفسي، ما أخشى أن تجني عليه رابطة الزواج. هي مني بمثابة الأخت الكريمة وأنا لذلك في خدمتها. أما أن أتزوجها فذلك ما لم يرد إلى خاطري، وما لم أفكر فيه!
وأجابت السيدة: «ليست وفاء بالطفلة الغريرة التي لا تعرف ما تريد، فإن هي وافقت على الزواج منك، لم يكن لوساوسك موضع، وأكبر ظني أن يسعد الله كلا منكما بصاحبه، وفارق السن بينكما لا يحول دون سعادتكما زوجين كريمين عزيزين. أما ولم تفكر أنت في الأمر من قبل، فإني أدعك الآن لأعود إليك بعد غد فأسمع كلمتك، وأرجو الله أن يكلل مسعاي بالنجاح!»
وغادرت السيدة فريدا وتركته لنفسه. وأخذ هو يفكر في هذا الأمر، الذي لم يفكر في مثله، منذ اختارت عزة جوار ربها، وحين عاهد جثمانها ساعة نزلت إلى قبرها أن يظل على عهده لها حتى يلقاها، ولم يمنعه هذا العهد من التفكير فيما حدثته السيدة عنه من أمر وفاء وخطبتها، وكأنما تنسي السنون العهود، إذا لم يذكر بها من قطعت لهم، حتى لا يبتلعها النسيان في لجته!
وفيما هو يفكر، ارتسمت وفاء أمام بصره وبصيرته، وداعب صوتها سمعه، وبدت وكلها الإغراء الذي لا يقاوم. فلما أرخى الليل سدوله، قضى فريد ليلة نابغية، ساورت غفواته في أثنائها أحلام مضطربة، كان يبدو خلالها أحيانا قبر عزة، ثم تبدو خلالها وفاء، في رقتها وإغرائها. وفي واحد من هذه الأحايين، اختلط عليه الأمر، فبدا لوهمه قبر عزة وقد نقشت عليه كلمة «وفاء». فلما أصبح وكان ذلك يوم جمعة، مر ببائع الأزهار فابتاع منه وردا وريحانا، ذهب بهما إلى المقابر، فوضعهما على قبر عزة، وقرأ الفاتحة عنده.
وفيما هو يتأهب للخروج، وكأنما يودع القبر الوداع الأخير، سمع القارئ يتلو:
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا . عند ذلك ارتد إلى ناحية القبر وهو يقول: «صدق الله العظيم ... لقد عاهدتك يا عزة، ولن أنكث العهد، ولن أخونك من أجل وفاء!»
ومرت السيدة الغداة لتسمع جوابه عما اقترحت عليه، فقال لها: إن الرجل الجدير بأن يتزوج وفاء لم يخلق بعد!
وبعد الظهر من ذلك اليوم، ذهب فريد إلى دار وفاء، وقال لها: إني مسافر سفرا أخشى أن يطول، وقد جئت أستودعك الله، فوداعا!
وودعته وانصرف عنها، ومن يومئذ انقطع عن زيارتها!
تركت قصة فريد هذه مع وفاء أثرا أقنع الرجل بأن صحبة الناس وصحبة النساء خاصة لا تخلو من خطر، وأن الوحدة عبادة حقا. فاختار سكنا على حافة الصحراء به حديقة، واتخذ من الدواجن، ومن الحيوانات الصغيرة الأليفة أصدقاء عمروا هذه الحديقة، واستمتعوا بكل عواطفه ورعايته. واختار لخدمته وخدمة دواجنه وحيواناته طاهية متقدمة في السن، لها ابنة لم تبلغ العاشرة من سنها. وتوثقت الصلة بينه وبين هذه الدواجن والحيوانات الأليفة، واعتبر البنت واحدة منها، فأسبغ عليها من العطف ما كان يسبغه على زميلاتها العجماوات!
وانقضت سنوات أخرى وهو سعيد بوحدته وحيواناته، وإنه لفي منزله يوما، إذ نعى الناعي «وفاء» إليه، وأنها ستدفن بعد ظهر ذلك اليوم عذراء بتولا. وسار في جنازتها، فلما بلغ المقابر، وجد عند قبرها سيدة واحدة تودع المتوفاة الوداع الأخير، تلك هي السيدة التي خاطبته يوما في التزوج من وفاء، فلما ذهب نحوها يحمل إليها عزاءه، نظرت إليه في عتاب، وقالت: إن المرأة الجديرة بأن تتزوج فريدا لم تخلق بعد!
وأجابها فريد: بل خلقت واختارها الله إلى جواره من زمن طويل.
رحم الله عزة، ويرحم الله وفاء!
شاهد الملك
كانت المحكمة العسكرية البريطانية تعقد جلساتها لمحاكمة الذين اعتدوا على القوات البريطانية المسلحة في أثناء الثورة المصرية في سنة 1919. وكانت بعض الاعتداءات شديدة إلى حد أثار نفوس البريطانيين، وجعلهم يرون قمعها بغاية الشدة. فقد قتل من الضباط والجنود البريطانيين عدة أفراد، ومثل ببعضهم. وقد بلغ في بعض الأحايين حدا لم تحتمله دولتهم، ولم يحتمله زملاؤهم من رجال الجيش، ولهذا اتجه التفكير إلى توقيع عقوبات صارمة، لا تحقيقا للعدالة وكفى، بل ردعا كذلك لكل من تحدثه نفسه بارتكاب مثل هذه الحوادث.
وكان نظام «شاهد الملك» متبعا أمام المحاكم العسكرية البريطانية. وشاهد الملك هو الشريك في الحوادث، الذي يتبرع بالشهادة على كل من اشتركوا معه فيها، أو يسهل للقضاء العسكري الوقوف على الحقيقة كاملة في أمرها.
وكان شاهد الملك يعفى من كل عقاب، بل كان لا يقدم للمحاكمة. وذلك خلافا للمبادئ المقررة أمام القضاء المصري، والقضاء الفرنسي، من أن اعتراف متهم على متهم لا يؤخذ به إلا إذا أيدته أدلة وقرائن أخرى تقنع القاضي بصحة هذا الاعتراف.
وكان الناس يتطلعون مشفقين إلى القضية التي يجري تحقيقها، والتي قبض فيها على أكثر من ثلاثين بتهمة الاعتداء على القوات البريطانية، اعتداء أدى إلى قتل بعض أفرادها، والتمثيل ببعض من قتلوا. وكان بين المقبوض عليهم جماعة من الأعيان، وآخرون من المثقفين الحاصلين على شهادات عليا، من مصر ومن أوروبا، ومن إنجلترا نفسها. وكان أكبر ما يرجوه المشفقون ألا يكون في هذه القضية شاهد ملك، وألا يعترف أحد من المقبوض عليهم فيها، فلم يكن متوقعا أن يتبرع أحد غير المقبوض عليهم بالشهادة؛ لأن الناس كانوا إذ ذاك يؤمنون بأن هذه الحوادث لم يدفع إليها دافع إجرامي، وأنها نوع من الحرب بين دولتين، تريد إحداهما تحقيق استقلالها وقد اعتدت عليه الأخرى. ولا عقاب على ما يقع في الحرب من مثل هذه الحوادث.
وكان بين المقبوض عليهم في القضية، رجل من الأثرياء ذوي الوجاهة، اتهم بالتحريض على قتل من قتلوا. فلما دخل السجن مع رفاقه، دخله رافعا رأسه، فخورا بأنه اشترك في عمل مجيد، لحرية وطنه واستقلاله. ولم يدر بخاطر أحد من الذين اعتقلوا معه، ولا من غيرهم، أنه عرضة للضعف أو التخاذل؛ فثروته الطائلة تسمح له بأن يوكل عنه أقدر المحامين، وأن يوكل محاميا إنجليزيا كبيرا، يحضر من لندن خصيصا للدفاع عنه. فلما وضع بالسجن الانفرادي، في إحدى الزنازين، وقضى به أياما، لا يسأله أحد عن التهمة الموجهة إليه، بدأت الحيرة تدب إلى نفسه، وبخاصة لأنه كان يرى في بعض الأحايين جماعة من المفتشين الإنجليز - مفتشي الداخلية، ومفتشي النيابات - يمرون بالسجن، وينظرون إليه وإلى زملائه نظرة حقد وكراهية!
وكان يخشى في كل ساعة أن يدخل عليه في زنزانته من يسأله ويحرجه، ولم يخطئ حدسه؛ فقد دخل عليه يوما مفتش إنجليزي يعرفه، ويتكلم العربية، وخاطبه باسمه، وقال له: أتعلم أن بعض الشهود قرروا أنك حرضت على قتل الجنود البريطانيين؟
وجمع الرجل كل شجاعته حين سمع هذا الكلام، وقال: ما أظن أن أحدا يوجه إلي مثل هذه التهمة الكاذبة، فأنا لا أعلم عن هذه القضية شيئا قط، وليس لي أعداء يريدون لي السوء فيلفقون ضدي وقائع لا أصل لها، بعد أن أقسموا اليمين على أن يقولوا الحق.
وتركه المفتش الإنجليزي، وانصرف ولم يناقشه في شيء. فلما انفرد الرجل بعد ذلك في زنزانته وأقفل عليه بابها، بدأ يضطرب، وأخذ يسأل نفسه: من هم أولئك الشهود الذين أدلوا بشهادتهم ضدي؟! ثم خشي أن يكون المفتش قد أراد استدراجه لعله يعترف بشيء، وظل في هذا الاضطراب طول ليله، يذكر أحيانا ما أصدرته المحاكم العسكرية البريطانية من أحكام بالإعدام، أو بالأشغال الشاقة المؤبدة، وكيف نفذت هذه الأحكام لفورها؟!
ترى لو صح ما يقوله المفتش الإنجليزي، وكان بعضهم قد شهد ضده، فأي عقوبة توقع عليه: الإعدام، أم الأشغال الشاقة؟
واقشعر جسمه، وجعل يتصور نفسه معلقا في حبل المشنقة، أو راسفا في الأغلال، يجره قيد الحديد في رجليه، والسجان من ورائه يدفعه ليقطع الحجر. واستعاد أمام ذاكرته ما حدث منه، فتصور أن حماسته لحرية وطنه قد كانت حماسة حمقاء، وأن ما كان يدبره مع بعضهم لارتكاب هذه الجرائم، التي ذهب بعض الضباط الإنجليز ضحيتها، ليس من شأنه أن يؤدي إلى استقلال كما كانوا يظنون، وأنهم إنما ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة جريا وراء خيالات لا تتحقق ... ترى: أيستطيع المحامون ببلاغتهم إنقاذه؟ لو أن ذلك كان في الإمكان، لأنفق فيه كل ماله. فهو الذي كسب بجده معظم هذا المال، وهو قدير على أن يكسب مثله إذا كفلت له الحياة من جديد ... وهل تراه إذا دافع عنه أكبر محام إنجليزي في العاصمة البريطانية، أكفل ببراءته، أو بحكم مخفف ينجيه من الموت، ومن عذاب الأشغال الشاقة؟
لكن هذه أمان قل أن تصدق، فقد ترافع محام إنجليزي كبير، جاء خصيصا من لندن، فلم ينج ذلك موكله من الحكم عليه بأشد العقوبة ... أوليس الأفضل أن يعترف بإجرامه، وأن يطلب من المحكمة الرأفة؟ فهؤلاء الضباط الإنجليز، الذين تتألف منهم المحكمة، يقدرون ذلك، ويدخلونه في حسابهم حين يحكمون ... وهب المحكمة سألته عن شركائه، فماذا يقول؟ أيعترف عليهم فيعتبره الناس نذلا خائنا حقيرا فاقد المروءة، فيحتقرونه ولا يضع أحد منهم يده في يده ما عاش؟!
لكن المروءة والكرامة والشهامة، واحترام الناس ... لها قيمتها عند الأحياء فيما بينهم، فأما المعرض للشنق أو الأشغال الشاقة فلا ينبغي أن يكون لهذه الاعتبارات قيمة عنده. فأين مروءته، وأين احترام الناس إياه يوم يشنق؟! وأين شهامته، وأين كرامته، حين يضربه السجان الغليظ القاسي ليقطع الحجر، فلا يستطيع أن ينظر إليه معاتبا، أو لائما، مخافة ما هو شر من الضرب ... مخافة الإذلال والازدراء؟!
وجعلت هذه التصورات المتناقضة تعبث بالثري الوجيه أياما وليالي، وهو منفرد في زنزانته، لا يستطيع أن يقضي بشيء منها لأحد. وبعد أسبوع أو نحوه من عبثها به، مر به المفتش الإنجليزي الذي يعرفه، فلما رآه الرجل خيل إليه أنه ملاك بعثته السماء لإنقاذه. ولم يطل بين الرجلين الحديث؛ إذ قال الثري الوجيه لزائره: وماذا فعل شاهد الملك في القضية المنظورة الآن بالقاهرة؟
وأجابه المفتش الإنجليزي، وعلى شفتيه ابتسامة صفراء: «إنه يتمتع بحريته كاملة، فقد نقل أول أمره من السجن إلى المستشفى، ثم لم يقدم للمحاكمة، وعين له بعد انتهاء القضية حارسان يتبعانه كأنهما ظله، احتياطا له من أن يعتدي عليه أحد.»
وسكت الثري الوجيه طويلا ثم قال: «هل أستطيع أنا كذلك أن أكون شاهد ملك؟»
وأجابه المفتش الإنجليزي: «ذلك يتعلق بقيمة المعلومات التي تدلي بها، فإن كشفت للمحققين عن الحقيقة الكاملة، ودلتهم على الذين ارتكبوا هذه الجرائم، كنت شاهد ملك. أما إن لم تكشف شهادتك عن الحقيقة كاملة، فقد تؤدي إلى تشديد العقوبة عليك!»
وانصرف المفتش الإنجليزي، مطمئنا إلى أن صاحبه هذا يوشك أن تنهار أعصابه، فلا يخفي على المحققين ولا على المحكمة شيئا.
وصدق ظنه، فقد انهارت أعصاب هذا الثري الوجيه، ولم يبق أمامه شيء يفكر فيه إلا أن ينجو برقبته من حبل المشنقة، أو ينجو من عذاب الأشغال الشاقة. فلما كان الغد، توسل إلى سجانه، ودفع إليه ورقة، طلب إليه أن يوصلها إلى المفتش الإنجليزي الذي زاره أمس.
ولم يكن في الورقة أكثر من أنه يريد هذا المفتش، فلما جاء إليه قال له: أريد أن أكون شاهد ملك، وأن أعترف بكل شيء!
وسرعان ما صدر الأمر بنقله من زنزانته إلى مستشفى السجن. وفي اليوم نفسه، بدأ المحققون يسألونه، فاعترف بكل شيء على نفسه، وعلى زملائه، وأفضى بالتفاصيل كلها. وكان المفتش الإنجليزي حاضرا هذا التحقيق، وكان ثغره يفتر عن ابتسامة الرضا كلما رأى الرجل يمعن في اعترافاته، ويدلي من التفاصيل بما لم يذكره أحد غيره من قبل!
ولما أتم المحقق استجواب الرجل، وآن له أن يغادر غرفة التحقيق، هز المفتش يده وقال: أهنئك، فستكون بهذه الاعترافات «شاهد ملك».
وصدق المفتش، فبعد أن قدمت القضية للمحكمة، وأعلن المتهمون فيها، لم يكن بينهم الثري الوجيه، بل أعلن «شاهد ملك» ثم بقي في مستشفى السجن حتى لا يتصل به أحد!
ونظرت القضية، وكان الثري الوجيه «شاهد ملك» شاهدها الأول، وشاهدها الرئيسي. أما المتهمون جميعا فقد أنكروا ما نسب إليهم، وذكر غير واحد أن بينه وبين شاهد الملك ضغائن قديمة، استشهد عليها بمن أيدوها. وترافع المحامون بعد أن ناقشوا الشهود مناقشة دقيقة، ثم حكمت المحكمة على بعض المتهمين بالإعدام، وعلى بعضهم بالأشغال الشاقة.
وأخلي سبيل من برأتهما المحكمة، كما أخلي سبيل شاهد الملك، وعين له حارسان يتبعانه كظله حتى لا يعتدي عليه أحد!
وسأل بعضهم شاهد الملك يوما عما دفعه إلى ما صنع، فكان جوابه: لأتخلص من الذين ينافسونني في الوجاهة.
احتفل الناس بمن برأتهما المحكمة، احتفالهم بأبطال منتصرين عائدين من ميدان الشرف، دعاهما أهلهما وأصدقاؤهما إلى ولائم أقيمت في قريتهما، وفي القرى المجاورة لها، واشترك فيها من المحتفلين عدد عظيم. لقد كانا قاب قوسين أو أدنى من الموت فأنجاهما الله، وكان كثيرون يؤمنون بأن لهما في الحوادث التي وقعت ضلعا، وأنهما أقدما على ما أقدما عليه، من أجل وطنهما وحريته، لا يبغيان جزاء ولا شكورا، ولا يطمعان في ثروة، ولا في جاه أو منصب، فهما من الفلاحين أصحاب الجلابيب الزرقاء، وهما من الفقراء الذين يعيشون من كدحهم وعرق جبينهم!
أما الثري الوجيه شاهد الملك، فذهب إلى بلدته يتبعه حارساه. ذهب إليها بليل، في موعد لم يعرفه أحد، فلما دخل على أهله، تلقوه في صمت، وفهم منهم أن أكبر رجائهم أن يسدل النسيان ستارا كثيفا على ما فعل، فالناس كلهم له منكرون، وكلهم يعتبرونه القاتل لمن حكم عليهم بالإعدام، والآثم في حق من حكم عليهم بأحكام أخرى!
وعرف الناس بعد ثلاثة أيام من صدور الأحكام، أن المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة رحلوا إلى الليمان، وأن المحكوم عليهم بالإعدام شنقوا. ولم يرتفع في القرى ولا في المدن التي منها هؤلاء المحكوم عليهم، صوت بالبكاء على من شنق، أو بالحسرة على من أرسل إلى الليمان. بل خيمت على البلاد كلها سحابة داكنة من الكآبة، ثم أمسك الناس عن الكلام في هذه القضية وما صدر من الأحكام فيها.
وأيقن الثري الوجيه أن أرواح المشنوقين لم تذهب هدرا، وأن حارسيه لن يغنيا عنه شيئا، إذا لم يتخذ لنفسه من الحيطة ما يحفظ حياته، فقد رأى الناس ألا يمد إليه أحد منهم يده، ولا يحييه أحد منهم بأحسن من تحيته، ولا بمثلها. ورأى كثيرين من العمال الذين كانوا يعملون في مزارعه قد انتقلوا إلى مزارع غيره، ورأى في عيون الناس إذ ينظرون إليه حقدا وبغضاء، إن يكونا صامتين، فهما لذلك أشد تفكيرا في الثأر والانتقام. والثأر في هذه البلاد التي يعيش الرجل فيها عقيدة مقدسة، لا يفهم أهلها عدالة القضاء، ولا تطمئن نفوسهم إلا إذا أخذوا بثأرهم، ممن اعتدى عليهم!
والثري الوجيه أحد هؤلاء الناس، ومن أعرفهم بدخيلة نفوسهم، فلا بد أن يكون منهم على حذر، ولا بد أن يحتاط لنفسه أشد الاحتياط، فلن يكون عجبا أن يكون في غرفة نومه فيترصده من بعيد من يطلق عليه الأعيرة النارية فيرديه قتيلا، ويومئذ لا ينفعه المال الذي كنزه من الربا وغير الربا، ولو أن ذلك حدث لكان شرا من حكم المحكمة العسكرية عليه بالإعدام؛ لأنه يكون ثأرا لما اعتبره الناس خيانة منه ونذالة!
لهذا، أقام حول بيته، من جهاته الأربع، سورا رفيعا منيعا، ليس فيه نافذة واحدة ... وبذلك اطمأن إلى حياته ليله، واطمأن بحارسيه إلى حياته نهاره، فهما مسلحان، والناس يعرفون ذلك عنهما، فلن يجرؤ أحد على الاعتداء وهما من حوله. ومن يوم طمأنينته إلى سور داره، جعل يدخل بيته قبل مغيب الشمس من كل يوم، ولا يبرحه إلا بعد مطلعها، مقتنعا بأن الزمن سينسي الكثيرين ما فعل، وأن الذين هجروا مزارعه من العمال والمستأجرين سيعودون إليها، فلا يبقى له خصم إلا أهل من حكمت المحكمة العسكرية البريطانية عليهم بالعقوبة!
وكان الحارسان يبيتان في البيت معه، فقد أعد لهما حجرة بالطابق الأول، وإلى جوار مدخل البيت، مطمئنا إلى أن باب السور المنيع حصين لا يستطيع أحد فتحه إذا أقفل، وإلى أن وجود الحارسين داخل البيت أدعى إلى طمأنينة أهله جميعا. وقد أثث حجرة الحارسين أثاثا حسنا، وعني بهما أكبر العناية، أوصى خادمه الخاص بهما خيرا، يريد بذلك كله أن يحتاط حتى لا يصرفهما أهل القرية عن شدة العناية بحراسته!
وتعاقبت الشهور ثم أقبل شهر رمضان، ومن عادة الناس في هذه القرى أن يمدوا أمام دورهم موائد، كل على حسب قدرته، حتى إذا مر بهم صائم ساعة المغيب، مال إليهم وتناول إفطاره معهم، سواء أكانوا يعرفونه أم لا يعرفونه!
ورأى الرجل بعد أن أقام السور حول بيته أن تكون مائدته داخل السور، وإن أيقن أن أحدا من الناس لن يجلس إلى مائدته أو يتناول طعامه، سواء في ذلك أبناء قريته وأبناء غيرها من القرى المجاورة. وقد كان يجلس بعد العصر خارج السور على «مصطبة» بناها لهذا الغرض، فإذا جاءه موعد الإفطار، دخل داره ليتناول الطعام مع حارسيه المسلحين.
وإنه لجالس يوما قبيل الغروب على «مصطبته» إذ مر به رجل من معارفه، وجلس إلى جانبه يحدثه، فلما دنت ساعة الغروب، دخل الحارسان إلى الدار، يستعدان لتناول طعامهما، وينتظران الثري الوجيه ليتناول الطعام معهما. ودعا الثري «شاهد الملك» محدثه ليتناول معه، فاعتذر بأن قوما ينتظرونه في بيته، وأنه حريص مع ذلك على أن يتم الحديث الذي بدأه، وكل الذي يطلبه أن يأمر الثري خادمه ليجيء بالماء وببعض بلحات «يفك بها صيامه».
ولم يجد الثري بدا من أن يفعل، فدعا خادمه فجاء بالماء والبلح، ودخل ينتظر أذان المغرب ليفطر هو الآخر. وفي هذه الساعة التي تسبق المغيب من رمضان، كان فلاحو القرية يعودون زرافات من الحقول ومعهم ماشيتهم، وهم في هرج ومرج، وكل يريد أن يبلغ داره قبل الأذان. وإنهم لكذلك إذ اندفع من بينهم أربعة ملثمون إلى ناحية الثري الوجيه شاهد الملك، وهو جالس إلى جانب صاحبه يحدثه: فأفرغوا فيه أعيرتهم النارية، فأردوه قتيلا!
وخشي حارساه إن هما خرجا أن يصيبهما ما أصابه على غير جدوى، فبقيا حول المائدة، وكأنهما لم يسمعا شيئا، ولم يريا أحدا!
وفي ساعة الأذان، انتشر النبأ في القرية، فإذا الزغاريد تنطلق من كل جوانبها، ثم إذا بامرأة تهجم على جثة القتيل تعضها بأسنانها ولا يمنعها أحد. تلك زوج أحد الذين حكم عليهم بالإعدام وشنقوا. وشفت المرأة غليلها، ورجعت إلى دارها، وكأن لم يرها أحد، وكأنما احتفظت بتقاليد أسرتها وتقاليد القرية، فلم تخرج من دارها وكأن حادثا لم يقع، وكأن قتيلا لم ترو دماؤه الأرض!
وفي منتصف، الليل، وبعد الحادث بساعات معدودة، تولت النيابة تحقيقه.
وفي البكرة من صبح الغد، جاء المفتش الإنجليزي، الذي زار الثري الوجيه في السجن، فأدت زيارته بالرجل إلى أن يكون شاهد ملك، جاء يحضر التحقيق، ويبدي من العناية بوصوله إلى نتيجة ما يدل على أن البريطانيين لا ينسون من يخدمونهم. لكن أهل القرية كلهم، كانوا - على لسان رجل واحد - يقررون أنهم لا يعرفون عن هذا الحادث شيئا، ولا يعرفون كيف وقع!
وسئل الحارسان، فقررا أنهما كانا في حجرتهما داخل الدار، اقتناعا منهما بأن الثري الوجيه لا يبقى خارجها في مثل هذه الساعة، وأنهما خرجا حين سمعا إطلاق الأعيرة النارية، فلم يريا غير الماشية، ومن ورائها أصحابها في عودتهم إلى مساكنهم، وأنهما سألا الفلاحين العائدين من عملهم، فذكروا أنهم لا يعرفون الفاعلين، لأنهم كانوا ملثمين، ولأنهم فروا وأسلحتهم في أيديهم، فلم يكن في مقدور أحد أن يتعقبهم فيفقد حياته!
واستمر التحقيق أسابيع، وأوقف عمدة البلدة، لاقتناع المحقق بأنه يعرف الفاعلين، لكن المحقق كان يعلم كذلك أن هذا الإيقاف لن يؤدي إلى نتيجة. فلو أن العمدة أرشد إلى أحد، لتعرض لما تعرض له الثري الوجيه شاهد الملك، ولكان مصيره المحتوم أن يلحق به، وكذلك انتهى التحقيق إلى غير نتيجة!
وشعر أبناء شاهد الملك وأهله بأن الناس ينظرون إليهم شذرا، ويصمونهم بما كانوا يصمون به أباهم ... بأنهم خانوا وطنهم، وخانوا أبناء بلدتهم، ومديريتهم، وشعروا لذلك بأنهم سيجدون غاية المشقة في أن يتعاملوا مع هؤلاء الناس، فرأوا الانتقال من المديرية كلها إلى مديرية غيرها، مطمئنين إلى أن ما ورثوه يكفل لهم العيش الحر، في بيئة لا تنظر إليهم بعين العداوة التي ينظر بها إليهم أهل القرية التي ولدوا وولد آباؤهم بها، وعاشوا وعاش آباؤهم فيها!
وأشار عليهم أحد معارفهم بأن الخير في أن يتركوا المديريات كلها إلى العاصمة، فالمدن الكبيرة كالبحر الزاخر لا يعرف بعض أهلها بعضا، إلا أن تكون بينهم معاملة، ولا يعرف بعضهم بعضا إلا في حدود هذه المعاملة!
واطمأن أهل شاهد الملك إلى هذه المشورة، وانتقلوا إلى العاصمة، فلما استقر مقامهم، فكروا في أن يبيعوا أملاكهم بالقرية التي نزحوا منها، وأن يقطعوا كل صلتهم بها. ولم يكن بيع هذه الأملاك يسيرا، فقد تظاهر أهل القرية بمقاطعة هؤلاء الذين ورثوا شاهد الملك، حتى اضطروهم إلى التسامح في البيع، والنزول عما يكاد يعدل ربع الثمن. هنالك ابتاعوا الأرض وما عليها، واتجه المهاجرون من أصحابها، بعد أن قبضوا ثمنها، إلى ناحية أخرى من نواحي الكسب في العاصمة!
والآن وقد انقضى على هذه القضية ما يزيد على خمس وثلاثين سنة، فقد تناسى أهل القرية حديث شاهد الملك؛ لأنهم اعتبروا هذا الحديث وصمة عار لقريتهم، فلم يعد أحد يذكره!
وابتلعت العاصمة العظيمة هذه الأسرة في لجتها، وأبدل أفرادها أسماءهم حتى لا يعيرهم أحد بأن أباهم كان شاهد ملك أمام محكمة أجنبية، وفي قضية كان الجناة مدفوعين فيها بعاطفة سامية وطنية!
قص علي هذا القصص صديق كريم، كان حاضرا لتلك المحاكمة، وهو لا يزال يذكرها، وفي نبرات صوته أسى على الذين أعدموا بشهادة الثري الوجيه شاهد الملك، وإن كان يرى أن ما أصابه وأصاب أبناءه، كان من عدل الله!
لله في خلقه شئون
كان الدكتور مروزق جراحا ماهرا، ولم يكن ذلك عجبا. وقد كان واسع الاطلاع على كل ما يظهر في فنه، حريصا حين اصطيافه في أوروبا على أن يحضر «عمليات» كبار الجراحين فيها، برغم أنه قضى في مهنته أكثر من عشر سنوات، بعد أن حصل على درجة الزمالة من كلية الجراحين الملكية بإنجلترا.
وبلغ من نجاحه أن استأجر مستشفى خاصا، جهزه بأحدث المعدات، وهيأ فيه لمرضاه أدق العناية، وجعل منه مستشفى نموذجيا، وإن لم يكن مستشفى كبيرا.
وكان ارتياد الحفلات الخيرية بعض هوايته في أوقات فراغه، فإذا ذهب إلى حفلة منها أنفق في ابتياع الأزهار التي تقدمها بعض الفتيات، والمعروضات التي تقف عندها بعض الشابات، قدرا غير قليل من ماله. واستبدت به هذه الهواية حين بدأ يفكر في الزواج، فهو يعلم أن كثيرا من بنات البيوتات الكريمة، يتبرعن ببيع الأزهار أو المعروضات، وأن اختيار إحداهن يجعل الزواج منها عن بينة؛ إذ يتيح له فرصة محادثتها، والتعرف إليها، ومعرفة ذوقها ومزاجها. وهو مع ذلك لم يكن متعجلا، لأنه كان حريصا على أن تطمئن له الفتاة التي يختارها، حرصه على اطمئنانه إليها.
وفي حفلة من هذه الحفلات ، وقف عند شابة تعرض أعمال الجمعية التي أقامت الحفل، وأخذ يقلب ما تعرض، ويتحدث إليها.
وقد علم أنها ابنة طبيب للأمراض الباطنية، توفي منذ سنين، وأنها تعيش مع أمها وأخيها الذي يكبرها سنوات قليلة.
وقد أعجبه حديثها، وأعجبته رزانتها، وثقافتها، وإتقانها اللغتين الفرنسية والإنجليزية. كما أعجبه منها أنها فارعة القوام، يبدو في نظراتها الحزم، وصلابة الرأي، مع حلاوة في الابتسام، تخفف من شدة هذه الصلابة وهذا الحزم.
وعاد الدكتور مرزوق في الغداة إلى هذه الحفلة، ووقف يحادث الشابة يريد أن يقف على اتجاه تفكيرها وميولها، حتى يحكم فيما بينه وبين نفسه: أتصلح له ويصلح هو زوجا لها؟ ولم تفطن الفتاة بطبيعة الحال إلى شيء من هذا، ولذلك كانت تحدثه على سجيتها في غير احتياط ولا حذر. وكان هو يسترسل في الحديث معها، ثم يقلب بين حين وحين ما تعرضه، حتى لا يلحظ أحد طول حديثه معها.
وكانت «سوسن» في الثامنة عشرة من سنها، وإن بدا عليها - لوفاء جسمها - أنها تخطت العشرين. وكانت لذلك تخاطب الدكتور مرزوق وكأنها تخاطب أباها، فلا يدور قط بخاطرها أنه يفكر في خطبتها أو التزوج منها. أليس يذكر أن أباها كان صديقه، ويبدو على ملامحه أنه في سن كسن أبيها يوم توفي من سنين وهو في عنفوان فتوته؟ لذلك كانت تطيل الحديث، وتبتسم في براءة كأنها براءة الطفولة. وكانت تغتبط حين يبتاع محدثها شيئا من المعروضات التي عهد إليها في تصريفها، اقتناعا منها بأن ذلك يزيدها قدرا في نظر رئيسة الجمعية، صاحبة الحفلة.
واغتبط الدكتور مرزوق بما بدا من عدم تحفظ محدثته، كما اغتبط بتربيتها وثقافتها، وخيل إليه أنها توافق مطلبه، وتكون خير زوج له. وكذلك فكر في خطبتها إلى أهلها، مؤمنا بأنهم لن يترددوا في قبوله. وهل يتردد أحد في قبول جراح ناجح خطيبا لابنته؟
وخاطب الدكتور مرزوق أخا الفتاة بالتليفون، ثم التقى به وحدثه في خطبة أخته لنفسه، فأجابه الفتى بأن الأمر في ذلك لأمه، وأنه سيفضي إليها بما ذكره الدكتور له.
وكانت «جنان » - أم سوسن - سيدة حصيفة عاقلة، لا تزيد سنها على الأربعين إلا قليلا. وكانت تفوق ابنتها جمالا ورقة، وإن لم تخف ملامحها سنها، رغم رشاقة جسمها، واعتدال قوامها.
فلما سمعت حديث ابنها عن خطبة أخته، افتر ثغرها عن ابتسامة الرضا. وقد كان زواج سوسن أهم ما يشغلها، وكانت تدعو لها دائما بالخير والتوفيق، ثم كانت تعلم أن الدكتور مرزوق من الأطباء اللامعين في مصر، وأن الله أراد بخطبته ابنتها لنفسه أن يعوض الأسرة كلها خير عوض عن فقد زوجها في عز فتوته.
وتحدثت «جنان» إلى ابنتها في هذا الأمر فيما بينهما، وتذكرت سوسن هذا الطبيب الذي كان يقف عندها، ويتحدث إليها، ويبتاع معروضاتها. فقالت لأمها: لكنه يا أماه من زملاء أبي، ومن أصدقائه. وأنا أريد إذا غادرتك وتركت هذا البيت أن أتركه إلى بيت زوجي، لا إلى بيت عمي!
وقالت أمها: لقد كان زميلا لأبيك حقا، لأنهما من مهنة الطب معا، لكنه يصغر أباك في سنه. وفارق السن يا ابنتي تعوضه أمور كثيرة: يعوضه المركز الاجتماعي، والمكانة في المهنة، وتعوضه الثروة. وأنا لا أعرف الدكتور مرزوق شخصيا، ولكني أسمع عنه كل ثناء. ولا أحسبك ترفضين خطيبا كهذا، لأنك رأيته في حفلة خيرية، فلم يترك في نفسك من الأثر ما يحببه إليك. فكثيرون نراهم فلا يعجبوننا لأول نظرة، فإذا عرفناهم على حقيقتهم، تغير رأينا فيهم. وأنا سأطلب إلى أخيك أن يدعو الدكتور ليحضر إلينا، فإذا لقيته وتحدثت معه على أنه خاطبك، نظرت إليه بعين غير العين التي نظرت بها إليه حين كنت تريدين أن تبيعيه معروضات الجمعية. ولا بأس بعد ذلك بأن يكون لك رأي، فأنا لا أكرهك، ولن أكرهك على غير ما تحبين.
وجاء الدكتور مرزوق للموعد الذي ضربته «جنان»، فألفاها وابنها في انتظاره. فلما تناول القهوة، قال إنه جاء خاطبا. وكانت جنان منذ حضر تنظر إليه من رأسه إلى قدمه بعين فاحصة مدققة، وتستمع إلى كلماته، وتزنها كلمة كلمة، والحق أنه أعجبها قواما وهنداما وكلاما. فلما خطب إليها ابنتها، قالت له: مرحبا بك يا دكتور، أنا أعلم أنك كنت من أصفياء المرحوم زوجي، ولن أعز عليك ابنته، على أنك تعلم أن للفيتات اليوم رأيهن، وستحضر سوسن عما قليل وتتحدثان. وقد ذكرت لي أنك رأيتها في حفلة خيرية، وأنكما تحدثتما، لكنها قالت إنك لست الوحيد الذي حدثها، وإنها لم تفطن قط إلى أن حديثك يمكن أن ينتهي بخطبتها. فإذا جاءت أتحت لكما فرصة الحديث فيما بينكما. والله يهديكما ويوفقكما. فكل ما أرجوه لك ولها الخير والسعادة. •••
لم يكن مرزوق يحسب «جنانا» لها من الثقافة مثل حظ ابنتها، فلما تحدثت إليه، وأخذت وأعطت معه، شعر بأن البنت سر أمها، وأن ما أعجبه من سوسن إنما ورثته من هذه الأم، التي لا تزال تتمتع بحظ من الشباب غير قليل.
وجاءت سوسن بعد برهة، فانسحب أخوها من المجلس، ثم انسحبت أمها، بعد أن تبادلت وإياها بعض الحديث، على أن تعود إليهما بعد قليل. فلما عادت، استأذن مرزرق وانصرف. وسألت الأم ابنتها رأيها فيه، فقالت: لا أستطيع أن أبدي رأيا بعد، فلقد كنت أشعر طول الوقت بأني أحدث رجلا في مقام أبي. هو ولا ريب عاقل رزين، لكن فارق السن بيني وبينه يجعلني أتردد أشد التردد. فإذا لم يكن بد من أن أبدي رأيا الآن، فالرأي أن تعتذري إليه بأن فارق السن يحول دون امتزاجنا، وأن تقفلي هذا الباب.
قالت أمها: «أتحسبين يا صغيرتي أن أمرا خطيرا كالزواج يبت فيه الإنسان بمثل هذه الخفة؟! إن هذا الدكتور هو أول بختك، ومن رفضت أول بختها فقلما يكون من بعده خيرا منه. فأنصح لك يا حبيبتي ألا تقضي في الأمر بهذه السرعة، وسأدعو الدكتور لزيارتنا مرة أخرى. فهو في نظري خاطب لا يرفض، والخاطبون من طرازه قليل.»
والحق أن جنان أعجبت بالدكتور مرزوق غاية الإعجاب، وكانت تتمنى أن تقبله سوسن زوجا لها. ولهذا كانت تنتهز كل فرصة لتقنع ابنتها بقبوله، وكانت تلتمس كل وسيلة لهذا الإقناع. فسيارته «البويك» البديعة، ومستشفاه الذي يتحدث الجميع عنه، وسفره كل صيف إلى أوروبا، وسيجاره الضخم الفخم الذي لا يكاد يفارق يده، وسمعته الطنانة الرنانة، وثروته التي يتحدث الناس عنها، حتى ليقولون إنه يريد أن يبني لنفسه مستشفى خاصا، ورزانته ورقته وظرفه ... ألا يعدل ذلك كله فارق السن الذي تتحدث عنه سوسن؟ وهل الأعمال بالسنين؟ ألا يموت الشبان ويبقى غيرهم أطول العمر؟ ألم يمت أبوها وهو في عز فتوته، وفي قمة مجده؟!
ذلك كله كانت جنان تكرره لابنتها، تحاول أن تحملها على تغيير رأيها. كما كانت تنصح لها أن تكون الظرف والرقة في حديثها مع مرزوق، أيا كانت النتيجة التي ينتهيان إليها.
وجاء الدكتور مرزوق لموعد آخر ضربته جنان، فألفاها وحدها، وسأل عن سوسن فقالت أمها إنها ستكون معها عما قليل. وأخذ الخاطب والأم يتحدثان في أمور شتى، أشار الدكتور في أثنائها إلى عمله ونجاحه فيه. وذكرت جنان إعجابها بمقدرته، وعظيم أملها في أن يوفق الله ابنتها إلى الرأي الذي تريده، حتى تفرح بهما عروسين يشرحان قلبها.
وطالت غيبة سوسن، فبعثت أمها في طلبها. وجاءت الخادم تذكر أن سيدتها الصغيرة شعرت في اللحظة الأخيرة بمغص، فهي تعتذر من عدم النزول!
قالت جنان: «اسمح لي يا دكتور أن أراها هنيهة ثم أعود إليك.»
وصعدت تسأل ابنتها ما لها. قالت سوسن: لا طاقة لي بالنزول، فتصرفي بما تشائين.
وعادت جنان، فاعتذرت إلى مرزوق، وقالت: لعلك تستطيع أن تراها من بعد، وسأدعوك إلى الموعد الذي تلقاها فيه عما قريب!
وانصرف مرزوق وهو يسائل نفسه: ما هذا المغص المفاجئ الذي ألم بالفتاة؟
ويذكر أن ما جرى بينه وبينها من حديث، حين تركتهما أمها المرة الأولى، لم يكن يدل على اغتباطها بخطبته إياها. ثم يذكر ما في نظراتها من دلالة على الحزم وصلابة الرأي. وقال فيما بينه وبين نفسه: «لو أن هذه الفتاة ورثت من أمها ظرفها ورقتها، كما ورثت منها ذكاءها وثقافتها، لكمل لها كل ما أطمع أن يكون في الزوجة التي أبحث عنها. ولما أبدت هذا الجفاء من جانبها نحوي، على أية حال يجب أن أحسم الأمر، إذا دعتني أمها إلى مقابلة أخرى، فلست أريد أن يطول أكثر مما طال!»
وتحدثت جنان إلى ابنتها بعد انصراف الدكتور، تعاتبها على عدم النزول إليهما. قالت الفتاة: لقد انتهى رأيي أن لا أقبل الزواج منه، فما فائدة مقابلتي إياه؟! لقد قلت لك منذ حدثتني في الموضوع لأول مرة إنني أشعر حين يخاطبني بأنه أبي أو عمي، فلا بأس عليك أن تذكري له أن فارق السن بيننا لا يسمح بزواجنا!
وتولت الأم الحيرة كيف تتصرف؟ لقد كان جل مناها أن تقبل ابنتها هذا الخاطب لتطمئن على مستقبل حياتها. ولأنه رجل اجتمعت فيه كل معاني الرجولة، وكل صفاتها، فرفضه يمكن أن يساء بين الناس تأويله. لكنها لا تملك إكراه ابنتها على أمر لا تريده، مخافة أن يؤنبها ضميرها بقية حياتها، إذا لم تكن هذه الزوجية موفقة! •••
انتهى التفكير بجنان إلى أن ضربت للدكتور مرزوق موعدا، لقيته فيه وحدها، وقالت له: أنت يا دكتور رجل كامل الصفات، ولولا ما بينك وبين سوسن من فارق السن، لما ترددت في قبول خطبتك. لكنها تشعر وأنت تحادثها بأنك أبوها، فلا يشجعها ذلك على أن تكون زوجا لك. وقد حاولت أن أقنعها بأن هذا الشعور طارئ يزول بالعشرة، فأصرت على رأيها ... وإنني لآسفة أشد الأسف أن أبلغك ذلك، فقد كنت شديدة الرغبة في مصاهرتك، لنسعد بأن تكون من أسرتنا.
أطرق الدكتور مرزوق طويلا حين سمع هذا الكلام، ثم رفع رأسه وحدق بجنان، وفي عينيه بريق، لم تلحظه من قبل. وقال: وأنا حريص على أن أكون من أسرتكم، وأن أكون من سوسن مكان أبيها. فهل تقبلين أنت أن تكوني زوجتي؟ هذه يدي أمدها إليك؟ فهل تقبلينها؟
لم تكن جنان تتوقع هذه المفاجأة، ولكنها سرت بها، وألقت ببصرها إلى الأرض طويلا، ثم قالت: وماذا يقول الناس عند ذلك عني؟ إنني غصبت خطيب ابنتي، لأنه أعجبني، أو لأنني أعجبته؟ لا أستطيع أن أجيبك الآن، فاترك لي على الأقل فرصة تفكير.
قال مرزوق: «أنت وما تشائين. فكري في الأمر ، وأنا في انتظار كلمة منك ألبيها لساعتي.»
والواقع أن جنانا كانت تتمنى أن يخطبها الدكتور مرزوق، منذ رفضته ابنتها، هذا الرفض الأحمق. أفكان ذلك لأنها أحبته، أم كان رد فعل من جانبها لتصرف ابنتها تصرفا لم يعجبها؟
وهل خطبها مرزوق إلى نفسه، لأنه أحبها بعد الأحاديث التي دارت بينهما، أم لأنه رأى في الزواج منها ردا لاعتباره إزاء رفض سوسن خطبته؟
أيا كان الأمر، لقد عرضت جنان خطبة الدكتور إياها على ابنها، بمحضر من ابنتها، وقالت: لا يزال في الوقت متسع، فإن أصرت أختك على رفض هذا الخاطب الذي لا يرفض، فسأقبل أنا خطبته.
وأصرت الفتاة في عنادها على موقفها، وانتفضت منصرفة من مجلس أمها، كاسفة تبكي.
ودعت جنان مرزوقا، وأعلنت إليه أنها سعيدة بخطبته. وفي الغد من ذلك اليوم عقد قرانهما، وانتقلت جنان إلى منزله، تاركة ولديها مع حاشية من الخدم، ومع المربية التي كفلتهما منذ مولدهما، فكانت منهما بمثابة والدتهما. •••
كان أكبر هم «جنان» بعد أن انتقلت إلى بيت زوجها، أن تنجب طفلا، يكون آية شبابها وحيويتها، ومحبتها زوجها، ومحبته إياها. ولكن أشهرا انقضت ولم تحمل، ورأت أن تستشير الأطباء في الأمر، وشجعها زوجها على ذلك، لكن أشهرا أخرى انقضت ولم تحمل. وبدأت تساورها المخاوف، وخيل إليها أن قوة خارقة، قوة فوق الطب والأطباء، يجب أن تتدخل لتحقيق بغيتها. وتذكرت صديقات لها، تعوقن عن الحمل في شبابهن، ولم ينجح الطب في إرضاء أمومتهن، فذهبن إلى مراغة سيدي المغاوري في المقطم، وإلى كنيسة ماري جرجس وبه دير البنات بمصر القديمة. وتمرغن بالمراغة أمام الشيخ المسلم، وتمسحن بأعتاب القديسة المسيحية، فأنعم الله عليهن بالحمل ... فما ضرها لو صنعت صنيعهن، لعل الله يرزقها هذا الطفل، الذي تصبو إليه من كل قلبها، لتزداد قدرا عند زوجها، فيزداد حبا لها وإعزازا؟
ولكن ... أتراها تستطيع أن تفعل ذلك ولا تذكره لمرزوق؟!
وهبها ذكرته له، فأبى عليه إيمانه بالطب أن يقرها على رأيها ... ولكن ... هل يغلب هذا الإيمان بالطب رغبته الملحة في أن يكون أبا لطفل منها؟ وماذا عليها إذا صنعت ما تريد من تلقاء نفسها واستمرت في العلاج الطبي، فإذا حملت أظهرت زوجها على كل ما صنعت!
واستقر عزمها عند هذا الرأي، واختارت الأوقات التي يشغل العمل فيها زوجها عن منزله، وذهبت إلى المغاوري في مراغته. وذهبت إلى ماري جرجس فأتمت عندها مراسم الحمل. ومن عجب أنها حملت بعد ذلك بشهرين اثنين. فأفضت إلى زوجها بكل ما صنعت، فعاتبها عليه زوجها عتابا لا يبلغ اللوم؛ لأن غبطته بحملها لم تسمح بلومها أو بالتثريب عليها.
وفي أثناء حملها، تقدم يخطب ابنتها شاب كريم المحتد، من أسرة عريقة، ويشغل وظيفة في الدولة لا بأس بها. ولكنه ضيق الثراء، لا يحتمل مرتبه وإيراده مجتمعين ما تعودت سوسن من عيش السعة ... وقابلته سوسن مرة واحدة بحضرة أمها، ثم قالت إنها تقبله زوجا لها. واحتجت لقبوله بشبابه وبأسرته، وبمؤهلاته، وبأنها تستطيع أن تتعاون معه على الحياة، فإن ضاق بهما الرزق في أول الأمر، فسيكون لهما فيه سعة من بعد.
وابتسمت أمها لقولها، إذ أيقنت أن ما أغراها بقبوله وسامته، وحلو حديثه، ورقة نظراته، أكثر مما أغرتها أسرته العريقة، وحسبه الكريم!
لكن ابتسام جنان لم يمنعها من الترحيب بالشاب، وعقد خطبة ابنتها عليه، وانتظار الجهاز والزفاف.
ثم أنجبت جنان غلاما طار أبوه بمولده فرحا، وأقام له حفل سبوع عوضه عن حفل الزفاف، الذي كان يزمع أن يقيمه لنفسه لو أنه تزوج عذراء، وزاده مولد الطفل غراما بجنان، فجعل كلما دخل عليها، يقبلها ويقبل الطفل معها، ويشعر بأن هذا الطفل هو امتداد حياته بالفعل، وأنه سيكون جراحا مثله. ألم يكن المصريون القدماء يحرصون على أن يحترف الولد حرفة أبيه، لتبقى الحرفة متوارثة في الأسرة، وليكون الأبناء ورثة الآباء في عملهم، كما أنهم ورثتهم في مالهم، وليبقى اسم الأسرة عنوان سعيها وجهدها! فليكن هذا المرزوق الطفل جراحا، وليكن أبناؤه وحفدته جميعا جراحين، ليظل اسم الدكتور مرزوق باقيا على مر الزمان.
ووقف مرزوق في حفلة السبوع يحدث سوسن، ويذكر لها أن مولد أخيها الطفل يذكره بقولها القديم إنها تشعر حين تحدثه أنها تحدث أباها. ويذكر أنه سعيد بذلك، لأنه اليوم رب لأسرة لا تقف عند الطفل الوليد وأمه، بل تتناول سوسن وأخاها كذلك، وأنه ينتظر بفارغ الصبر أن يصبح جدا يوم ترزق سوسن طفلا عما قريب إن شاء الله.
وبعد أسابيع، زفت سوسن إلى خطيبها، وانتقلت إلى الطابق الظريف الذي فرش فيه جهازها. وحملت عبء بيتها وتولت إدارته. وأقيمت لها في هذه المناسبة حفلة دعا الدكتور مرزوق إليها كل أصدقائه مع من دعوا من قبل العروسين وأهلهما!
واستدار العام، منذ ولد ابن مرزوق، فإذا حفلة أخرى تقام لابن سوسن، وإذا جنان تصبح جدة بالفعل، ومرزوق يصبح جدا بالتبعية. ثم لا يمنع ذلك جنانا من أن تشعر وهي ترضع ابنها، بأنها لا تزال في حيوية الشباب ونضارته.
وفي السنوات الخمس التالية، رزقت سوسن بنتا وابنا، وأصبحت بذلك أما لثلاثة أولاد، ولم ترزق جنان غير ذلك الغلام الذي استعانت على حمله وولادته بسيدي المغاوري وبالقديسة ماري جرجس!
وفتح الله باب الرزق لسوسن وزوجها، وابتسم لها الدهر، فنثر الورد والرياحين في طريق حياتهما. وبدأ أطفالهما يملئون البيت عليهما غبطة ومرحا ويشعرونهما بسعادة لا تعدلها سعادة. وأخذت سوسن تظهر مع زوجها في المجتمعات الأنيقة، وتقص على أمها الحين بعد الحين ما ترى فيها ...
ومالت أمها إلى مثل هذا اللون من الحياة، فأفضت إلى مرزوق برغبتها، فأقاما في دارهما حفلة جمعا فيها نخبة من أهل العاصمة، مصريين وأجانب. وأتاح ذلك لهما أن توجه إليهما الدعوة لكل حفلة يقيمها المصريون أو يقيمها الأجانب بالقاهرة.
وكانت سوسن تبتسم أحيانا، حين ترى أمها في هذه الحفلات معتمدة على ذراع الدكتور مرزوق، والبشر والسعادة يفيضان من ملامحها، وتزداد سوسن ابتساما يوم ترى أمها في هذه الحفلات وقد أتقنت صبغة شعرها، وبدت وكأنها لا تزال في الثلاثين من سنها، رغم خطوط مست بها الكهولة جبينها، وكادت تتخطاه إلى وجناتها!
وكلما رأت سوسن أمها بالغت في العناية بزينتها، حرصت على أن تجعل من شبابها تاج كل زينة، وأن تبدو في بساطة، تتألق بحكم سنها بهجة ونورا ...
وكثيرا ما تندر بعضهم بهذه المنافسة بين الأم وابنتها، وقد ذكروا في أثناء تندرهم كيف أخذت الأم خطيب ابنتها، وأولعت به غراما! وكان بعض هذا التندر يبلغ سوسن فلا تعبأ به. لقد بسم الزمان لها ولزوجها وبنيها، فليقل من شاء ما شاء، فلن يجني قول على سعادتهما ولن ينقص ما أسبغه الله عليها، وعلى زوجها وبنيها، من نعمة وعافية! •••
وإن سوسن لفي متاعها بهذه النعمة السابغة، وفي سعادتها بمحبة زوجها إياها، محبة كلها الشعر بأعذب ألحانه وأنغامه، وفي طمأنينتها إلى هؤلاء البنين، يتخطون متن الحياة على هون، ناجحين في دراستهم، فخورين بأبويهم؛ إذ مرض هذا الأب العزيز والزوج الوفي، مرضا حار الأطباء في تشخيصه، وانقطعت سوسن لتمريضه، فلم يعد أحد يراها في المجتمعات والحفلات، ولم تعد دارها مضيئة كعهد الناس بها، منذ أفاء الله على أصحابها الثراء والنعيم. بل خيمت عليها سحابة من كآبة كانت ترتسم على وجوه الأطفال أبنائها، وتحول بينهم وبين ما ألفوه من مرح ومسرة!
وطال بالرجل الشاب المرض، فنقل إلى المستشفى، وأقامت سوسن إلى جواره، وكانت أمها تزورها الحين بعد الحين، تسأل عن صحته، وترجو له الشفاء والعافية.
وكان الدكتور مرزوق يزور المستشفى كل يوم لهذا الغرض.
وجلس يوما بجوار المريض على سريره يطمئنه، فنظرت إليه سوسن نظرة، فيها الأسى والألم، وكأنما تقول في نفسها: أيكون هذا الرجل الذي يكبر زوجي ويكاد يكون في سن والدي ممتلئا صحة ونشاطا، وتذبل نضارة هذا الزوج الشاب العزيز، فما يدري أحد ما مصيره؟! لشد ما يخفى الغيب علينا، فلم يدر قط بخلدي يوم خطبني مرزوق فرفضت خطبته لفارق السن بيني وبينه، أن أرى المنظر الذي أراه الساعة، والذي يفتت قلبي لوعة وهما.
وبعد أشهر قضاها المريض بالمستشفى، أدركت سوسن من نظرات الأطباء الذين كانوا يعودونه، أنه موف على أجله. وفي منتصف الليل من ذلك اليوم، اختاره الله إلى جواره.
وحزنت سوسن عليه أشد الحزن، وانقطعت من يومئذ عن كل مجتمع وكل حفلة، وهي لا تزال تلبس السواد عليه إلى اليوم. أما الدكتور مرزوق، فلا يزال متمتعا بصحته ونشاطه، ولا تزال جنان حريصة على أن تصبغ شعرها، وتستعين بكل وسائل الطب والتجميل لتحتفظ ببقية من جمال يوشك أن يولي، ولتحتفظ بالدكتور مرزوق، وبحيويته ونشاطه.
ولله في خلقه شئون!
بأعمالكم تؤجرون
كان رب الأسرة من أعيان قرية في مصر الوسطى، وقد أنجب ست بنات، ولم ينجب لهن أخا، ثم توفي في بواكير كهولته تاركا لأرملته وبناته ثروة معقولة. وكان ثلاث من بناته قد تزوجن في حياته وبقي ثلاث ينتظرن الزواج.
وكانت «زهرة» صغراهن أرقهن طبعا، وأكثرهن خفرا، وأملحهن وجها، وهي بعد في الثالثة عشرة. وطبيعي ألا يدور بخاطرها تفكير في الزواج قبل أن تتزوج أختاها اللتان تكبرانها.
وكانت أمهن من بنات الأعيان في القرية، ولم تكن تفكر في الزواج بعد زوجها، فإذا ألمحت إحدى صاحباتها إلى شيء، قالت: الخير أن نتحدث عن زواج بناتي الثلاث!
وكان لهذه السيدة الأرمل، قريب يقيم بالإسكندرية، في شيء من سعة الرزق يستمتع به مع زوجته وبنيه. وبعد زمن جاء هذا القريب إلى القرية، ليحضر زفاف الكبرى من البنات الثلاث اللاتي لم يتزوجن في حياة أبيهن. فلما أزمع العود إلى الإسكندرية، قال لقريبته: إن زهرة لا تزال في بواكير صباها، فماذا عليك لو أخذتها إلى الإسكندرية، تعيش معنا، وتجد في حياة المدينة هناك ما يرفه عنها، وما يصقلها؟ إنها فتاة رقيقة حسنة الاستعداد، فحياتها في الإسكندرية تخلق منها شخصا آخر، تطمئنين له وتسعدين به.
وترددت الأم الأرمل، فألح عليها قريبها حتى قبلت، وسافرت الفتاة مع خالها إلى الثغر، وانضمت إلى أسرته فيه. ولم تضق بها زوجه، بل وجدت فيها معوانا على خدمة البيت، ووجدت فيها رغم حيائها ذكاء ومرحا يتفقان مع ذكائها هي ومرحها. فأبدلتها من ثوبها الريفي ثيابا حضرية أنيقة، وجعلت تصطحبها معها إلى الأسواق، لترى وتسمع وتتعلم حياة الحضر.
وفرحت الفتاة بهذه الحياة الجديدة، فلما انقضى على مقامها بالإسكندرية عدة أشهر، كانت قد كسبت ثقة خالها وزوجته وأبنائه، فكانت الزوجة تعهد إليها في شراء ما لا يتسع وقتها لشرائه.
وبعد عام وبعض العام، أصبحت زهرة فتاة سكندرية، صقلتها حياة المدينة، وجعلت منها في هندامها وحركاتها وحديثها، فتاة حضرية بالمعنى الكامل، وجعلت من ملاحة وجهها، واعتدال قوامها، وشديد خفرها، ورقة حديثها، مسرحا لعين كل شاب يراها ويرى ابتسامة ثغرها الجميل!
وكان لامرأة خالها قريب قليل التردد عليها، فلما رأى زهرة أول حضورها من الريف، وسمع حديثها الصعيدي سخر منها، وإن أعجبته ملاحة وجهها. وكان شابا ماجنا، ولكنه كان ظريفا ذكيا. وكان «أسعد» هذا ربعة في الرجال، عريض المنكبين، مفتول العضل، أشربت بشرته حمرة جعلت زرقة عينيه أكثر وضوحا، وشعره الذهبي أكثر جمالا. وكان كلما رأى زهرة عابثها بصعيديتها وإن أعجب فيما بينه وبين نفسه بما كان يطرأ على تكوينها من تغيير، وفي سلوكها من اندماج في حياة هذه المدينة، التي ولد بها وتربى فيها، فهي عنده الكمال.
فلما تجاوزت زهرة السابعة عشرة، وكملت أنوثتها فأصبحت فتنة للأعين، أخذ أسعد ينتهز الفرصة لمغازلتها كلما خلا له الجو من حولها. لكن الفتاة كانت تصده، وبلغ صدها إياه أحيانا مبلغ العنف، وتشعره بأنها ليست من هاتيك اللواتي يسهل استهواؤهن من بنات المدينة، بل هي صعيدية، النار عندها ولا العار، والمغازلة هي أول العار.
وجرح مسلكها هذا كبرياء أسعد، واعتزازه برجولته وجمال صورته، فرأى أن لا بد له من أن يملك هذه الفتاة التي تتحداه وتتعالى بجمالها عليه. وأول ما صنع من ذلك أن بدل سلوكه معها كل التبديل. فكان إذا انفرد بها، أظهر لها من الاحترام ما يكاد يعدل عدم الاكتراث لجمالها ورقتها. وإذا لقيها في الطريق تحمل مشترياتها، أسرع إليها في أدب جم، وحمل هذه المشتريات عنها. وإذا جاء إلى بنات قريبته ببعض الهدايا حرص على تنويعها ليجيء لزهرة بهدية أنفس وأجمل. وكثيرا ما كان مجونه يضيق بتكلفه هذا السلوك المخالف لطبعه، لكنه قدر أنه لن يبلغ غايته إلا إذا كسب ثقتها. ولا رجاء في كسب هذه الثقة إلا أن يعاند فطرته، ويجري مع زهرة على غير سجيته، وإن كلفه ذلك عناء.
وانتهى إلى كسب ثقتها، بعد أشهر من المجهود الذي كان ينوء به، فلان له حديثها، وراحت تصغي في ارتياح إلى حديثه، فشجعه ذلك على المضي في خطته، فكسب قلبها كما كسب ثقتها وبخاصة حين أخذ يدخل في روعها أن أسعد الناس من تصبح هي زوجته!
وسعدت هي بتلميحه، وتمنت لو يصبح هو هذا الزوج، فحياة الإسكندرية غير حياة قريتها. وأسعد ظريف رقيق رغم مجونه. ترى أترضى أمها عنه؟
واغتبط أسعد حين رآها أسلس قيادا، ثم ازداد غبطة حين شعر بأنها تزداد ضعفا أمامه يوما بعد يوم، فلا تأبى عليه أن تلقاه خارج بيت خالها، وأن تسير معه إلى حيث يريد، ثم لا تأبى عليه أن يقبلها إذا كانا بعيدين عن الأعين.
ودعاها فذهبت معه يوما إلى بيته، سعيدة بأن تتعرف إلى الدار التي ترجو أن تصبح يوما دار الزوجية. وأعجبت بموقع الدار وأثاثها، وفرح قلبها بما أغدقه عليها أسعد من كرم، ومن تدليل وإعجاب، ولم يبق في ظنها أي ريب بعد هذا كله في أنها ستصبح له.
وزارت دار أسعد بعد ذلك غير مرة، وفي كل مرة تزداد الكلفة بينها وبينه ارتفاعا، فلما أصبحا من رفعها على مقربة من النهاية، لم يأب أسعد أن يحدثها عن زواجه منها. عند ذلك آمنت أنها أصبحت في حكمه وأنه أصبح وله من السلطان عليها ما للزوج على زوجه ... فأسلمته كل نفسها، في انتظار اليوم القريب، الذي يعقد فيه زواجهما!
ووعدها أسعد أن يخاطب خالها في تحديد يوم العقد عند أول فرصة تسنح لذلك، لكنه أخذ يبتدع المعاذير عند تردد خالها، ثم ذكر لها أن خالها رضي بالزواج وأنه سيكتب إلى أمها لتحضر العقد!
وفي أثناء ذلك أيقنت زهرة أنها حامل فزفت النبأ إلى أسعد، وألحت عليه أن يعقد القران ولا ينتظر حضور أمها!
وكان أسعد كاذبا في كل ما قال ... فهو لم يخاطب خالها في شيء ، ولم يكتب خالها بطبيعة الحال إلى أمها لتحضر عقدا لا يعلم أيهما عنه شيئا!
وكان أسعد كاذبا كذلك يوم ذكر لها أنه سيتزوجها! فهو إنما أراد أن ينتقم لغروره من كبريائها يوم صدته بعنف أول ما غازلها. فلما طلبت إليه أن يعجل بعقد قرانهما ولو لم تحضر أمها، عاد يختلق المعاذير، ثم أخذ ينقطع عنها. ثم علمت أنه خطب فتاة غنية من بنات الإسكندرية. عند ذلك سقط في يدها، وأيقنت أنها سقطت في مهواة، تبيح لأهلها أن يقتلوها تخلصا من عارها!
وماذا تفعل؟! لقد ذرفت الدمع سخينا ليالي طوالا، لكن الدمع لن يرد أسعد إليها، ولن يرفعها من الوهدة التي تردت فيها.
ليس أمامها إلا أحد طريقين: إما أن تنتقم من أسعد، وإما أن تنتحر! ولكن كيف تنتقم منه؟ أوليس خيرا لو أنها سعت إليه، لعله يعدل عن الزواج الذي سمعت به فيعود إليها؟ ذلك أمر بعيد الاحتمال، ولكن ما لها لا تجربه؟
واستقر في نفسها ذلك العزم، فاختارت ساعة من النهار، حسبت أنها تلقاه في أثنائها في بيته. وذهبت إلى هناك، ودخلت إليه. فلما رآها أقبل عليها إقبال العاشق على معشوقته، فاتحا ذراعيه ليعانقها ويقبلها. وما إن رأت ذلك منه حتى أجفلت وتراجعت وقالت: جئتك أستنجزك وعدك بزواجنا، فأنت تعلم أن أهلي في الصعيد يقتلونني لا محالة إذا لم نتزوج بعد الذي كان!
وأجابها أسعد بابتسامة ساخرة: ليتني أستطيع! فأنت لا ريب تعلمين أنني خطبت، ولا أقدر أن أتزوج اثنتين.
قالت: «لكنك وعدتني بالزواج قبل أن تخطب.»
وأجابها: «وهل يصح للفتاة الشريفة المتعالية، المعتزة بكبريائها، أن تسلم نفسها قبل أن يعقد زواجها؟ ذلك يا فتاتي هو ما حملني على أن أخطب بعد الذي كان، فإن من تبيح عرضها بكرا لا تؤمن عليه ثيبا. ومن لي وقد دنست طهر بكارتك ألا تدنسي فراش الزوجية؟!»
فزعت زهرة حين سمعت هذا الكلام، فاضطربت وكادت أن تلقي بنفسها على قدميه باكية مسترحمة. لكنها سرعان ما ردها اليأس منه إلى صوابها، فجمعت قواها، ونظرت إليه في ازدراء، وقالت: تبا لك من وغد مخادع! ألي أنا تقول هذا الكلام؟
بل قل إنك أغراك المال فهزأت بالشرف! لقد رأيتني بلغ حبي إياك شغاف نفسي وحبة قلبي، فنصبت لي كل شباكك، واستدرجتني باسم الزواج فكان ما كان. لقد كنت أحسبك إنسانا، فإذا أنت حيوان وفيك كل بهيمية الحيوان. وفيك خسة يسمو عليها كثير من الحيوان. أما وأنت كذلك، فليس لى إلا أن أبصق في وجهك، وأدعو الله أن ينتقم لي منك!
وبصقت في وجهه، ثم ارتدت على عقبيها مسرعة خارج الدار!
أما هو، فمسح وجهه، وابتسم وكأن لم يكن شيء. وقال فيما بينه وبين نفسه: مسكينة! لكني انتقمت لنفسي منها، لقد أذللت كبرياءها التي واجهتني بها أول ما ملقت جمالها. ثم أذللتها هي حتى تعلم أن الرجال لا يعاملون كذلك.
وبلغت زهرة الكورنيش مضطربة، يهتز كل جسمها من شعر رأسها إلى أخمص قدمها. ثم إنها ركبت الأتوبيس إلى سيدي بشر، معتزمة أن تلقي بنفسها في لجة البحر الخضم.
فلما بلغت غايتها، نزلت على الدرج إلى رمال الشاطئ، وتقدمت إلى ناحية البحر، حتى صارت عند ملتقى الموج بالرمل، وهنالك جلست منهدة في إعياء، وقد أنهكتها الانفعالات التي مرت بها طول يومها. فلما أنعشها هواء البحر وتلفتت حولها فلم تر أحدا، انخرطت في بكاء كأنما تودع هذه الدنيا! ثم إنها نظرت إلى البحر وموجه نظر المحتضر إلى قبر، فانزعجت. ورمى البحر إلى الشاطئ خشبة قذفتها الأمواج، فتصورت زهرة جثتها يقذف بها البحر كهذه الخشبة، وخيل إليها أن أسعد مر بها وعرفها، فافتر ثغره عن بسمة الرضا، لأن موتها ستر لعاره!
وساورتها هواجس شتى من هذا القبيل، فقامت مترددة: أتغامر فتخوض موج البحر إلى لجته فتنتحر فيه؟! أم ترتد أدراجها تعاود التفكير في أمرها؟
ودفعها الحرص على الحياة فارتدت إلى الطريق، وعادت إلى خالها، مشتتة الذهن، سقيمة الوجدان!
وإنها لتعاني قلق النفس واضطراب الخاطر، إذ تناول خالها رسالة من أمها تذكر فيها أن أختها الثانية خطبت، وأنها ستزف بعد أسبوع ، وكان طبيعيا أن تعود مع خالها إلى قريتها لتحضر هذا الزفاف، وأن تبقى بعد ذلك مع أمها، تؤنس وحدتها، وتقوم بخدمتها.
ورحبت بها أمها، ورحب بها أهلها، وأكبروا رشاقة هندامها، وجمال ثيابها وحديثها حديث الحضر. وانخرطت هي في زحمة الفرح الشامل الذي يسبق ليلة الزفاف، فإذا جن عليها الليل، وآوت إلى مخدعها، عاودها قلقها واضطرابها وأخذت تفكر في المصير المظلم الذي ينتظرها.
وزفت أختها، وانتقلت إلى بيت زوجها وعاد خالها إلى الإسكندرية وبقيت هي مع أمها، وقد أحاط بها سكون الريف.
ولاحظت الأم وجومها، وطول تفكيرها، بما لا يتفق مع شبابها، وما عرفته عنها في صباها من دوام ابتسامها وحلو مرحها. فلم تعر ما لاحظته من ذلك أول الأمر بالا، إذ خيل إليها أن انتقال الفتاة من المدينة إلى الريف، ومن حياة الإسكندرية الصاخبة إلى حياتهم الرتيبة المتشابهة هو سبب وجومها، ولكن هذا الظن أخذ يتبدد حين رأت زهرة تنخرط في البكاء كلما خلت إلى نفسها. فإذا رأتها مقبلة عليها حاولت تجفيف دمعها.
فلما طال بالأم ما ترى من ذلك، نازعتها الوساوس.
وأخيرا ذهبت إلى ابنتها، وجلست إلى جوارها، وقالت لها في حنان وعطف: خبريني يا ابنتي ... ما بك؟ إنني أراك منذ جئت من الإسكندرية مهمومة كثيرة البكاء، وأرى ذلك كله يعبث بنضرة شبابك، أفتضيقين بحياة القرية معي إلى هذا الحد؟ ألست أنا أمك التي تحبك حتى لتؤثرك على نفسها؟ وهل تخفي بنت سرها على أمها؟!
لم تجد زهرة ما تجيب به على أسئلة أمها إلا أن انخرطت في بكاء مرير يمس قلب الأم إلى شغافه، وكأنما كشف عن بصيرتها في هذه اللحظة، فنظرت إلى ابنتها وجلة وقالت: هل خدعك يا ابنتي في الإسكندرية أحد؟ قولي ... لا تخافي! إن سرك من صدر أمك في بئر سحيقة فلن يطلع عليه أحد! أنت ابنتي وضناي، فما يسوؤك يسوؤني، وما يحزنك يحزنني. فقولي ... ولا تخافي!
وبعد تردد طويل، وبكاء مر، قصت زهرة على أمها قصتها مع أسعد، وكيف وعدها بالزواج، وكيف خانها بعد أن عرف حملها، وجرى وراء فتاة غنية من بنات الإسكندرية!
وارتاعت الأم لما سمعت، وتمنت لو انشقت الأرض فابتلعتها وابتلعت ابنتها معها، فطوت سر الآثمة المسكينة في جوفها! فلما أفاقت من روعها، أخذت تفكر في الأمر، وكيف السبيل إلى الخلاص منه؟
لو أن لزهرة أبا أو أخا، لكان مصيرها أغلب الأمر أن تقتل وتدفن ليدفن معها عارها.
لكنها أم، ولا يطيق قلبها أن تتصور فتاتها مقتولة أمامها. وهي إلى ذلك امرأة شريفة من بنات الأعيان، فلا تستطيع أن تتصور العار يلطخ اسم أسرتها. لا بد إذن من أن يدفن السر فلا يقف عليه أحد، ولا يتحدث عنه أحد. والجنين المستكن في بطن ابنتها هو آية هذا السر، فإذا أمكن التخلص منه، من غير أن يعرف أحد أمره، رضيت أمومتها ورضيت - إلى حد ما - كرامتها، وأمكن أن تعيش هي، وأن تعيش ابنتها وكأن شيئا لم يكن، لأن أحدا لم يعرف السر!
وكانت تعرف قابلة في قرية قريبة، لها بمثل هذه الأمور خبرة. وكانت تعلم منها أن الوسيلة لإجهاض الحامل، أن توضع الرحى على بطنها، وأن تدار حتى ينزل الجنين. تلك طريقة قاسية، بل وحشية. وقد تودي بحياة الحامل قبل أن تتخلص من جنينها ... ولكن؟!
لا مفر من الالتجاء إليها في سر من الناس تخلصا من عار لا سبيل إلى التخلص منه إلا بها ... أو بالموت!
وفي الهزيع الأخير من الليل، دعت الأم زهرة، وجاءت بالرحى، ولا تكاد تحمل كل شق من شقيها من غير أن تنوء به. ثم وضعتها على بطن الفتاة، وأخذت تديرها والفتاة تتحمل ذلك، تكظم كل صيحة تتردد في صدرها، حتى انفرجت أحشاؤها عن الجنين ما يزال علقة. فلما رأت الأم دم ابنتها، والعلقة التي كادت تتكون إنسانا، رفعت رأسها إلى السماء، حمدا لله أن ستر على ابنتها، ثم أزاحت الرحى على الأرض، وأسندت زهرة حتى ذهبت إلى فراشها!
وتنفس الصبح وقد انزاحت الغمة عن صدرها، مؤمنة بأن أحدا من أهل القرية لم يقف على السر الرهيب، وأن بنتها عادت، وكأنها عذراء تهوي إليها القلوب.
وقضت زهرة أسبوعين في فراشها، ثم ردت إليها الحياة، وعاودتها كل نضارتها، وقد آمنت برحمة الله بها، وبأن ما صنعته بها أمها في إجهاضها - على قسوته ووحشيته - قد كان الشفقة كل الشفقة، بل كان أروع مثل لحنان الأم في أسمى مظاهره.
وأقامت هي، وأقامت أمها، تنتظران أن يتم الله رحمته بهما، فتخطب زهرة وتتزوج، ويصبح ما مضى من وزرها وخطيئتها نسيا منسيا.
وتعاقبت الشهور، ولم يظهر من يخطبها، هنالك عاودت الأم الوساوس، ثم فكرت آخر الأمر في قريب لها رقيق الحال، ولكنه طيب القلب، فأدنته منها، وأوحت إلى زهرة أن تظهر اللطف به، وأن تدفعه إلى أن يخطبها إلى أمها، فلما فعل اشترطت الأم أن يقيم معها في بيتها، فهي لا تسطيع البقاء به وحدها بعد أن تزوجت كل بناتها. وفرح الشاب بهذا الشرط، وأصبح زوجا لزهرة، وربا للبيت ومديرا لشئون الأسرة!
وأنجبت زهرة منه ثلاثة بنين في بضع سنوات، ثم اختاره الله إلى جواره، ووهبت زهرة نفسها بعده لعبادة ربها، ولتربية أبنائها. وقد زادها مقامها بالمدينة صدر شبابها دقة في العناية بأبنائها وحسن توجيهها لهم. فكان أبناؤها يتابعون دراساتهم ناجحين؛ دخل أكبرهم الجامعة في السادسة عشرة من سنه، ومال أصغرهم إلى السينما وشغل بها. وشعرت أمه بأن الخير في أن تقيم معهم بالعاصمة، فاقترحت على أمها أن تأجر أمينا يباشر شئونهم، وتباشر هي تصرفاته في أثناء الصيف، فإذا انتهوا من جمع الإيرادات، وبدأت السنة الدراسية، سافرت مع أولادها إلى مصر تراقبهم وتخدمهم!
وتابع أبناء زهرة دراستهم بنجاح، وحصلوا على مؤهلاتهم العليا، وانخرطوا في سلك الحياة، وفتح الله عليهم فيها.
وكان أصغرهم الذي اشتغل بالسينما أكثرهم من الناحية المادية حظا. فقد أصبح بعد سنين مديرا لإحدى شركات السينما الكبرى التي تدير منشآتها العديدة في القاهرة والإسكندرية.
وفيما هو يوما بالثغر، جاء إلى مكتبه رجل محطم، تبدو عليه آثار الفاقة، ولا تنم كهولته عن سن متقدمة، وطلب إليه في رجاء ملح أن يسند إليه عملا عنده يرزقه ويرزق أولاده. وأثار منظر هذا الشيخ المهدم شفقة الشاب المدير، وتمنى لو استطاع أن يجيبه إلى ما طلب، وإن تبين من حديثه أنه لم يزاول من قبل عملا يؤهله في الشركة لوظيفة ذات قيمة. وأشار عليه بأن يقدم طلبه، ليعرضه على مجلس الإدارة، وأن يمر عليه في الساعة العاشرة بعد أسبوعين من ذلك اليوم، فإن لم يجده بالمكتب وجده في استراحة المكتب، بالطابق الذي يعلو المكتب مباشرة.
هذا الكهل المهدم هو «أسعد»، الذي تزوج من الفتاة الغنية بالإسكندرية، بعد قصته مع زهرة، وقد سلك بعد زواجه من تلك الغنية مسلك المترفين، فكان يبعثر أموالها، ويحسب أن هذه الأموال لا نهاية لها. ورزق منها بنين وبنات كانت تربيتهم تستنفد مالا غير قليل. مع ذلك ظل أبوهم على إسرافه وبعثرته. ونبهته زوجته إلى ذلك غير مرة، فلم يرعو. ثم اختلفا، وانتهى خلافهما بالطلاق. وأخذت عليه زوجته أحكاما بنفقة لأولاده منها، وحبس مرة لعدم تنفيذها. ثم إنه دار يلتمس عملا يعوله ويعول أبناءه، فذهب إلى مدير الشركة السينمائية لهذا الغرض. وأنس في المدير الشاب شفقة عليه، فمر عليه في الموعد الذي ضربه له، فلما رآه الشاب قال له: لقد عرضت أمرك على إدارة الشركة بالقاهرة، واستطعت أن أستخلص لك وظيفة تنال منها 15 جنيها في الشهر!
وحدد له العمل الذي يقوم به، فشكره «أسعد» على صنيعه، وهو لا يعلم من هو، لأنه لم يره قبل ذلك قط.
وبعد شهر، جاء الشاب المدير إلى الإسكندرية، ومعه والدته، ونزل وإياها استراحة الشركة. وأراد «أسعد» أن يقابله لبعض عمله، فقيل له: إنه في الاستراحة. وأبلغ المدير، فأمر بأن يصعد «أسعد» إليه، فلما دخل الاستراحة تراجع مبهوتا مبهور الأنفاس، إذ رأى مع الشاب سيدة تتحدث إليه، ورأى الشاب يخاطب زهرة خطاب الابن إلى والدته، واستدار الشاب إلى «أسعد» وقال له: انتظرني هنا حتى أعود، ولن أغيب أكثر من دقائق، ثم أراك وأنظر ما جئت فيه!
فلما هبط الشاب الدرج، وغاب عن نظر أسعد وزهرة، ألقى أسعد بنفسه أمامها وقال: الحمد لله الذي لم يحوجني إلى غير ولدك! وأرجو منك أن توصيه بي خيرا، ولا أحسبك تأبين علي هذه الكرامة، جزاء ما كان بيننا من مودة!
ونظرت إليه زهرة في كبرياء وقالت: سأفعل! وحسبي جزاء لك عن سوء ماضيك، أنك أصبحت اليوم في خدمة ولدي، بعد أن أبيت صدر شبابك أن أكون أنا في خدمتك. لقد أردت يومئذ أن تحطم كبريائي، فحطم الله كبرياءك، وهذا عدل جزاك الله به، وهو أعدل الحاكمين!
وطأطأ أسعد رأسه في صغار وهوان وقال: فاغفري لي يا زهرة ما كان من خستي ونذالتي، فأنا أشد ما أكون اليوم حاجة إلى عفوك ومغفرتك!
وتابعت زهرة نظرتها المتعالية وقالت: إن الله هو الذي يغفر، أما الناس فلا يغفرون. وهو يغفر للتائب الصادق الندم، وأحسبه غفر لي ما دام قد رزقني هؤلاء البنين، لكنني ما أزال أشعر بالذلة كلما ذكرت أنني وقعت فريسة لخستك، فكأن الضمير لا يغفر، كما أن الناس لا يغفرون! فتستطيع أنت أن تكفر عن ماضي آثامك بالتوبة والندم لعل الله يرحمك.
وخفض الرجل رأسه، ودخلت هي مخدعها، وأقبل المدير الشاب يسأل أسعد ما يريد.
الأسرة الثانية
توفي في الخمسين من سنه، وهو في ذروة مجده، فقد كان عالما فاضلا وكاتبا بارعا، وأستاذا يحيطه تلاميذه ومريدوه وزملاؤه بكل تجلة واحترام، ويعجب به قراؤه غاية الإعجاب. وقد انتخب عميدا لكلية الآداب غير مرة. لذلك كان الذين شيعوا جثمانه لا يحصون عددا، وكان ما كتبته الصحف في رثائه فخرا باقيا لذرية أنجبها.
مع هذا كله، لم يخلف تركة تذكر!
وقد توفي عن زوجة وثلاثة بنين. أما زوجته «رجاء»، فكانت سنها تدور حول الأربعين، ولكنها كانت تبدو وكأنها لم تجاوز الثلاثين إلا قليلا. وكانت على حظ عظيم من الجاذبية، كان في عينها بريق يمسك إذا نظرت إليها، فلا تزال محدقا بها، مأخوذا بما ترى من حلو ملامحها، وما تسمع من سحر حديثها. وكانت لنبرة صوتها موسيقى، قل أن وهبت واحدة من بنات حواء مثلها ، طلاوة واستهواء لسامعها. وكانت معتدلة القوام، ممتلئة في غير سمنة. وكانت تحب زوجها كل حياته أعمق الحب، وترى مجده تاجا لها، تزدان به، وإن لم تتزين بحلية ثمينة تباهي بها غيرها من النساء المتزينات.
وكان أكبر ولدها، شاب في الثانية والعشرين من سنه، وقد أتم دراسته الجامعية، وحصل على إجازة الآداب بتفوق. على أنه كان أشد اعتزازا بمجد أبيه، منه بتفوقه. وكان يرجو أن يسير على نهج هذا الوالد الكريم، فيبدأ معيدا بكلية الآداب لينتهي عميدا لها، كما كان أبوه عميدا.
وكان لعزيز أخت تصغره خمس سنوات، وأخ يصغر هذه الأخت خمس سنوات كذلك.
وقد لبست الأسرة كلها الحداد على ربها، وتولاها حزن عميق على هذا المصاب الفادح. وكانت رجاء أشد من أبنائها شعورا بالكارثة؛ فتركة أبيهم ومعاشه لا يكادان يكفيانهم العيش الكريم الذي تعودوه طول حياته. صحيح أن عزيزا يوشك أن يعين معيدا بالكلية، فيعينهم مرتبه بعض الشيء، لكن هذا العون لم يكن شيئا مذكورا إلى جانب ما كان الأب يكسبه من قلمه، ومن كتبه، ومن المرتب الذي كان يزيد على ضعف معاشه. •••
وبعد زمن، انقضت في أثنائه المواسم المألوفة للحزن على الذين يتوفاهم ربهم، تقدم لخطبة رجاء تاجر واسع الثراء، توفيت زوجته منذ أشهر، تاركة له ولدا وحيدا. ونمى إلى عزيز نبأ هذه الخطبة فذهب إلى أمه يسألها: أحق ما سمع؟ وأجابته رجاء: هو حق يا بني، وأنت شاب عاقل، تقدر الأمور حق قدرها. أنت تعلم كم كنت أحب أباك، وكم كنت فخورة به، وكم كنت أتمنى - لو استطعت - أن أظل على الوفاء لذكراه بعد موته، كما وفيت له في حياته. لكنك تعلم كذلك أنه تركنا، ولا تكاد تكون له تركة تقيم الأولاد. ولا أريد أن تعيش أختك، ويعيش أخوك، في ضيق بعد أن تعودوا رفه الحياة وسعتها. هذا إلى أنني امرأة لم تتخط الشباب، ولا أريد أن يتحدث الناس عني بكلمة تؤذيك، أو تؤذي أختك وأخاك.
كان عزيز يسمع هذا الكلام من أمه، ولا يكاد يصدق أنها هي التي تتكلم. فمعنى ما تقول أنها قبلت خطبة هذا التاجر لثروته، وأنها تريد أن تعيش أخته، وأن يعيش أخوه، من هذه الثروة التي لم يكسبها أبوهم. فكأنما تريد أن تبيع نفسها من أجل ولديها!
وصمت الشاب طويلا، بعد أن أتمت أمه حديثها، ثم قال: أتعرفين سمعة هذا التاجر، الذي تريدين أن يحل منك مكان أبي؟! أولم تسمعي ما يقوله الناس عن «شحاتة» هذا، وكيف كنز ماله وجمع ثروته؟ أما سمعتك فأمرها بيدك لا بيد الناس، وما كنت أحسبك تتزوجين بعد أبي، لأي سبب أو لأي اعتبار. وأنا لم أحضر اليوم لأناقشك، بل لأنهي إليك أنه إذا تم هذا الزواج فلن تري لي وجها ما حييت!
قال عبارته هذه في غضب، وانتفض واقفا وانصرف.
لكن السيف كان قد سبق العذل، فقد كان بعد الظهر من ذلك اليوم محددا لعقد الزواج، ولم يكن في مقدور رجاء أن تتراجع ومكان العقد بيتها، والسيد «شحاتة» سيحضر للموعد لا محالة. ثم إنها لم تجد لثورة عزيز عذرا يسوغها: إنها تريد الخير لنفسها ولأبنائها، وتريده حلالا طيبا، فإذا صح أن يغضب ولدها لذكرى أبيه، فمن الواجب عليه أن يقدر ظروفها وظروف إخوته، وأن يقدر ظروفه هو كذلك. فهو لم يتول بعد عملا يرزقه. وهبه تولى هذا العمل غدا، واستطاع أن يعيش منه عيشا متواضعا، فليس من حقه أن يفرض على أمه وعلى أخويه حرمانا لم يألفوه في حياة أبيه، أو أن يتهم أمه بعدم الوفاء لأبيه، لأنها أرادت أن تكفل لأبنائه العيش الكريم! •••
تم العقد في الموعد المضروب، وانتقلت رجاء وولداها في مساء اليوم نفسه إلى منزل السيد شحاتة بالزمالك. أما عزيز، فقضى ليله في بيت قريب لأبيه، ومن حسن حظه أن قرار تعيينه معيدا في كلية الآداب أبلغ إليه بعد أيام قلائل. وزاده الحظ مواتاة، أن بعثت حكومة العراق تطلب إلى مصر أساتذة ومدرسين، فسعى عزيز سعيه، فانتدب بإحدى هذه الوظائف. وبعد أسابيع، سافر إلى بغداد، من غير أن يرى أمه، ليتولى عمله في عاصمة الرشيد. وبذلك بر بإنذار أمه أنه لن يراها إذا تزوجت بعد أبيه!
انتقلت رجاء إلى منزلها الجديد، وكان هذا المنزل أشبه بالقصر في بنائه، وإن لم يكن شبيها بالقصر في فسحة أرجائه. وقد شاده شحاتة من سنين قليلة، بعد أن قضى عمره في الكفاح والحرمان، يسكن بيتا قديما بحي السكاكيني، ويخرج منه كل صباح مبكرا إلى محل تجارته، يقضي فيه النهار بطوله، فإذا أمسى عاد إلى بيته، وقلما يخرج منه إلا لعمله. فلما قارب الستين، وكان الله قد وسع بفضل الحظ في رزقه، رأى من حق نفسه وزوجه وولده، أن يعيش ما بقي من سني حياته، في سعة تتفق مع ثرائه، وتعوض عليه كفاحه وحرمانه، وتسمو به فوق ما كان الناس يلصقونه به من شح وتلاعب.
وقد أثار موقف عزيز من أمه في ذلك اليوم غضبها منه، وإن لم يغير قلبها عليه. وأدى ذلك، منذ انتقلت إلى بيتها الجديد، إلى أن تهب زوجها كل نفسها، وأن تطمع في أن يكون له منها بعد تسعة أشهر ولد، فقد مست كلمات عزيز صميم كرامتها، فأثارتها بكبرياء هذا الشاب الذي ظن نفسه رجلا، ونسي أنها أمه، وأنها أكثر منه تجربة وحكمة، وأبعد منه نظرا، وأدق منه للأمور تقديرا. لذلك لم تحجب عن شحاتة شيئا عن نفسها، غضبا من هذا الشاب، الذي لم يرع حق أمومتها، وما أوصى الله به الأبناء إحسانا بالوالدين!
وانقضت أيام وأسابيع، وبدأت رجاء تحس الفرق الشاسع بين زوجها الأول وزوجها الثاني. ما أجمل المنزل الذي تعيش اليوم فيه بالقياس إلى الطابق الذي كان سكنها مع زوجها الأول! وهذه السيارة الفخمة، التي تنتظرها كل صباح، لتخرج بها إلى حيث شاءت، لم يكن لها سيارة من طرازها في تلك الأيام، وحساباتها المفتوحة في المتاجر تسمح لها بما تشاء من بذخ وترف. لكنها لا تشعر مع ذلك بالسعادة النفسية التي كانت تشعر بها من قبل، لقد كان غذاؤها المادي يومذاك أقل دسامة من الغذاء المطروح اليوم أمامها وتحت قدميها ... لكنه كان غذاء كافيا، يجعلها تقف مع ذوات البذخ والترف على مستوى واحد. ثم كان لها غذاء آخر، وليس لذوات البذخ والترف حظ منه: كان لها زوجها الذي يفيض عليها من عقله وقلبه نورا ومحبة يرتفعان بها إلى سماء العاطفة، وكان لها من مجد هذا الزوج ما يحيطها بجلال، ينطفئ دون لألائه بريق الماس وتألق الجواهر؛ لأنها كانت ترى في أعين الذين ينظرون إليها، أنها شريكة في هذا المجد، وصاحبة فضل فيه!
أما زوجها الثاني، فكانت تشعر إلى جواره، بأنه تاجر في عواطفه، كما أنه تاجر في مهنته. كان يريدها دائما أن تشعر بأنه يبيعها شيئا مقابل شيء ... يبيعها رخاءها ورخاء ولديها، لتبيعه حبها ووجودها. كانت الحياة في نظره أخذا وعطاء، لا يهب فيها أحد لأحد شيئا من نفسه ولا من قلبه دون مقابل!
لكن الأيام أقنعتها بعد قليل أنها يجب أن تذعن لحظها، فهي حامل، وبعد أشهر ستكون شريكة شحاتة في الطفل الذي يرزقانه.
والطفل قيد، إن يكن من ذهب، فهو على كل حال، قيد يربط أبويه يدا إلى يد، وقلبا إلى قلب، لتنصب كل عواطفهما على هذا الصغير البريء. والأم أحرص على هذا القيد الذهبي، تسخر به الأب لولدها. والجنين الذي تحمله رجاء في أحشائها يناديها من كنه، لتسكت كل حفيظة على زوجها، من أجل هذه العلقة التي تتكون إنسانا.
لذلك كانت تبدي لزوجها التاجر ما لم تكن تبطن، في انتظار اليوم الذي يصبح فيه هذا الرجل المعتز بماله خادما لطفلها، يوم تعتز هي بمولده.
وكانت رجاء من زوجها في موقف أشد حرجا من موقف أي حامل غيرها. فمنذ عرفت أن عزيزا سافر إلى العراق، بدأت الهواجس تساورها بشأنه. إنه هجر وطنه غضبا منها، لأنها تزوجت بعد أبيه. ترى ما عسى تكون حاله هناك في هذه الغربة التي فرضها على نفسه بسببها؟ أهو مطمئن لأنه يتناول ببغداد مرتبا مضاعفا؟ أم يعذبه الحنين إلى وطنه والشوق لإخوته؟ أم أنه نسي الوطن والإخوة والأم، وأغرق همه في بحر من اللهو والشراب، أو في أحضان فاجرة تعبث به، ولا ترعى في شبابه إلا ولا ذمة؟ وهل تراه يجيبها إذا كتبت له حتى تطمئن على أحواله؟ ألا فليله ما شاء، وليعبث ما طاب له العبث، على أن يكون في صحة وطمأنينة!
وتعاقبت الأشهر، وأنجبت رجاء بنتا، ظريفة ظرفها، رقيقة رقتها. فملكت بها قلب شحاتة، أكثر مما ملكته بنفسها وحواسها. فقد كان الرجل مشوقا إلى بنت تكون أختا لابنه من زوجه الأولى، تؤنس رقتها ويؤنس شبابها شيخوخته وكهولة أمها!
واغتبطت رجاء بهذه البنت، وإن لم يعزها مولدها عن إصرار عزيز على ألا يبعث إليها بكلمة، ردا على الخطابات التي بعثت بها إليه. وقد ظل عزيز على إصراره، حتى يئست رجاء منه، فأمسكت عن الكتابة إليه، مكتفية بأن تسأل من يقدم من بغداد عن أخباره وأحواله!
وتعاقبت السنون، وأتم أخو عزيز الأصغر دراسته الثانوية، وآن له أن يلتحق بالجامعة، وكان يود أن يسلك طريق أبيه وأخيه، وأن يدرس الآداب، حتى لا تنسى الكلية ذلك الأب الذي افتخر بها وافتخرت به.
لكن شحاتة كان له رأي آخر، كان يرى أن يقف الفتى عند المرحلة التي بلغها، وأن يعمل معه في التجارة. وكانت حجته أن الحياة العملية أقوى أثرا في تكوين الشخصية من الدراسة النظرية.
لكن رجاء أبت رأي زوجها كل الإباء، فألح شحاتة في أن يلتحق الفتى بكلية التجارة؛ لأن التجارة تنبت الذهب من الحجارة، كسبها وفير، ورزقها حلال. وما قيمة المجد وقد فارق الدنيا والد الفتى وليست له تركة تذكر؟ لقد كانت مأساة وشحاتة حريص على ألا تكرر هذه المأساة!
ولم تستطع رجاء معارضة زوجها في هذا الرأي، وهي تعيش مع ولديها في كنفه. لهذا التحق الفتى بكلية التجارة. ومكنه ذكاؤه من التفوق فيها.
وكما فكر شحاتة في أن يتجه أخو عزيز الأصغر إلى التجارة، احتياطا للمستقبل، كذلك فكر في تزوج ابنه من زوجته الأولى، ابنة رجاء، ليكفل للأسرة كلها مستقبل رفاهية ورخاء.
وبعد سنوات انتهت مدة الانتداب التي سمح بها لعزيز في العراق، فدعته جامعة القاهرة ليعود إلى منصبه فيها. وكان عزيز مشوقا للعودة إلى مصر، مصرا مع ذلك على ألا يرى أمه ما عاش. لقد رقي في وظيفته، واقتصد من مرتبه المضاعف في العراق ما يسمح له بالعيش الكريم في القاهرة. ثم إنه كان مصرا على أن يحصل على الدرجات العلمية التي حصل عليها أبوه من قبل، والتي تؤهل صاحبها إلى منصب الأستاذية والعمادة. ولا يتأتى له ذلك مع بقائه في العراق.
عاد إلى القاهرة، ونزل بها فندقا، لا يكلفه نفقة طائلة، وبدأ يضطلع بعمله في كلية الآداب. وعرفت أمه عودته، فبعثت إليه أخاه يدعوه لمقابلتها. وتلطف أخوه في الحديث معه، وذكر له تقدمه في كلية التجارة، وأفضى إليه برسالة أمه، وبشدة شوقها للقياه.
قال عزيز متهكما: «أتراها تريدني أن أذهب إليها في بيت السيد شحاتة؟! كلا يا أخي! عد إليها فأبلغها أنني ما أزال عند رأيي الذي أنهيته إليها يوم رأتني لآخر مرة.»
قال أخوه: «لقد قدرت والدتي أنك لا ترضى أن تجيء إلى بيتنا، وهي لذلك حريصة على أن تلقاك حيث شئت. ولا بأس بأن تجيء إليك في هذا الفندق.»
قال عزيز: «أبلغها يا أخي، أن هذا المكان لا يليق باستقبالها واستقبال سيارتها الفخمة، وأنا - على أية حال - على العهد الذي قطعته لها ألا أراها وقد تزوجت بعد أبي!»
وعبثا حاول الفتى أن يحمل أخاه على العدول عن رأيه، فهو مصر عليه كل الإصرار، ولا سبيل إلى تحويله عنه. فلما يئس منه أخوه، وهم بالانصراف، أمسكه عزيز من ذراعه وسأله: كيف حال أختك؟ ألم يتقدم لها خاطب ليتزوجها؟
وتلعثم الفتى حين سمع هذا السؤال، وبدا عليه الاضطراب، ثم لم يجد بدا من أن يفضي لعزيز بأنهم يتكلمون في زواج أخته من ابن السيد شحاتة. عند ذلك ثار ثائر عزيز، وصاح بأخيه: تتزوج من ابن السيد شحاتة، ولا تبدي أنت اعتراضا؟!
أكذلك أصبحت أنت كما أصبحت أمك منهم، ولم تبق ابن أبيك؟ ألا أبلغ أمك أن هذا الزواج لن يكون، فأنا ولي أختي شرعا، ولن تتزوج بغير موافقتي!
وعاد الفتى إلى أمه وقص عليها ما دار بينه وبين أخيه، فاضطربت، بل كادت تصعق. إنها كانت ترجو أن تضم الأسرتين وتجعل منهما أسرة واحدة. فإذا اختاره الله إليه كانت أما لهذه الأسرة كلها، وعاشت ما بقي من حياتها في طمأنينة ونعمة. وهذا عزيز يريد أن يفسد عليها كل تدبيرها، وكانت تحسبه بالغا غاية الإحكام. فما عساها أن تفعل؟ وأي موقف تقفه من ابنها الأكبر، وقد وضعها بينه وبين زوجها وضعا لا تحسد عليه؟
وقضت الليل بطوله تقلب الأمر على وجوهه، فلما أصبحت ذكرت لشحاتة أن قلبها لا يطاوعها على ألا ترى عزيزا.
قال زوجها: «ذلك شأنك فاصنعي ما تشائين، ولا اعتراض لي على أن تلاقيه حيث شئت أو حيث شاء، إذا هو سمح بلقائك. أما أنا فلا سلطان لي عليه.»
هنالك انفجرت رجاء باكية وقالت: «ولكنه بعث يهدد بالوقوف في سبيل تزويج ابنتي من ابنك، بحجة أنه وليها الشرعي، ولا بد من موافقته على هذا الزواج.»
وصدمت هذه العبارة شحاتة فقال: «هذا كلام أطفال، ويجب أن نتم عقد القران بأسرع ما نستطيع.»
وازدادت رجاء اضطرابا لما سمعت، وانصرف شحاتة إلى عمله. وإنهم لفي صبح الغد من ذلك اليوم؛ إذ حمل المحضر إليها إنذارا من عزيز، بأنه يعارض تزويج أخته من ابن شحاتة بوصفه وليها الشرعي، ويبني اعتراضه على عدم الكفاءة بين الفتاة وخطيبها. فالجاهل ابن الجاهل لا يكون كفؤا لابنة عالم عظيم! •••
لم يكن ذلك الإنذار ورقة تهمل، بل كان إيذانا بحرب شعواء، بين عزيز وأمه وزوجها. وعرف شحاتة هذا الإنذار، حين رجع لموعد الغداء، فاستشاط غضبا وقال: لا بد أن يتم عقد القران هذا الأسبوع.
فلما رجع إلى عمله، بعد أن استراح من غذائه، لم تطق رجاء صبرا، فأخذت سيارة أجرة، وذهبت إلى مسكن ولدها، ودخلت عليه غرفته، فلما رآها تراجع مأخوذا بلقاء لم يكن يتوقعه. وأسرعت إليه أمه، فألقت بنفسها عليه، وأخذت تقبله، وقد كست دموعها وجهها، وهي تقول: وترفض أن تراني أنا ياعزيز؟! ترفض أن ترى أمك؟! إن أكن قد أخطأت فإني أستميحك العفو والمغفرة. نعم يا ولدي، هبني عفوك ومغفرتك. إنك لا تعلم كم تألمت لسكوتك عن الرد على خطاباتي إليك بالعراق، وكنت أرجو يوم تعود أن ألقاك، وأن نتفاهم. أما وأنت مصر على موقفك مني، فأنا عند ما تريد. ألقيت إليك مقاليد أمري، ووضعت بين يديك مصيرنا جميعا. فاحكم فينا، فأنت منا مكان أبيك!
سمع عزيز هذا الكلام، فبلغ منه التأثر غاية مداه، فأقبل على أمه يقبل يديها، ويقول لها: بل أنا الذي أستغفرك يا أماه! ولكني لن أرضى أن تتزوج شقيقتي من هذا الشاب طمعا في ثروة أبيه، فاسم أبينا أكرم من كل ثروة، وأنا لا أطيق أن أسمع اسم السيد شحاتة، وهو الذي غصبك مني، فأدى ذلك بي إلى أن نفيت نفسي من وطني كل هذه السنين!
وألقت رجاء ببصرها إلى الأرض حين سمعت هذا الكلام، ثم قالت: «ولكن لي منه بنتا هي أختك!»
قال عزيز: «ذلك ما يزيدني ضغنا عليه، وكراهية له!»
لم ترد رجاء أن تتابع هذا الحديث، بعد أن شعرت بأن عزيزا أخذ يعود إليها، ويصغي قلبه إلى أمومتها. فجعلت تسأله عن العراق، وعن حياته فيه. وطال حديثهما، وسرقهما الوقت، فإذا المساء يقبل، وإذا رجاء لا تستطيع مع ذلك أن تغادر مجلسها بجانب ولدها. وإنهما لكذلك، إذ فتح الباب ودخل شحاتة، وعيناه تقدحان الشرر.
لقد أذن لزوجته أن ترى ابنها قبل أن يوجه إليهم هذا الإنذار المهين له. أما وقد وجهه، فزيارتها إياه اشتراك منها مع ابنها في إهانته. فإن رأت أن ترجع إلى بيته، فلتقم معه لفورها، على ألا ترى عزيزا من بعد أبدا!
وقع هذا الكلام على الأم وقع الصاعقة، فاضطربت نظراتها بين زوجها وابنها، ثم ارتمت بينهما وهي تقول: رحمة بي أنا الأم البائسة المسكينة! عزيز ابني، وابنتك الطفلة البريئة الصغيرة ابنتي ... أنا أمهما جميعا. رفقا بي! حرام عليكما تعذيبي!
لكن غضب شحاتة لم يكن يعرف حدا. لقد بدأ هذا الغضب في نفسه منذ عاد إلى بيته فلم يجد به زوجته، وأيقن أنها ذهبت إلى ابنها في مسكنه. ثم استمر هذا الغضب ينمو ويزداد ويتفاقم حتى ملك عليه كل صوابه. لذلك صاح برجاء: اختاري بيني وبين ابنك هذا؟!
قالت رجاء بصوت خنقه البكاء: لا خيار لي! والموت أحب إلي من هذا الخيار!
ازداد بشحاتة الغضب حين سمع منها هذا القول، فتقدم نحوها يصيح: انهضي أيتها الحمقاء! أتعقدين بيني وبين هذا الشاب أية مقارنة؟!
أتحسبينه قديرا على أن يطعمك ويكسوك، إذا لم تكوني في كنفي؟! قومي. اختاري: أنا؟ أم هو؟
ونظر عزيز إليه محنقا وقد صعد الدم إلى رأسه، ثم اندفع نحوه ملوحا بقبضة يده، وكأنما يريد أن يضربه وهو يقول: «أتحسب أنك اشتريتها بمالك الدنس؟!»
وامتقع لون شحاتة لصنيع عزيز، وبلغ منه الانفعال غايته، فوقف هنيهة، ثم ارتد على عقبيه، وهو يهمهم بين أسنانه: اللهم اخز الشيطان!
فلما بلغ الباب، ارتد ببصره إلى زوجته وقال: قومي الآن إلى بيتك، وإلا فهو عليك حرام!
ونظرت رجاء إلى عزيز متخاذلة، وقامت تتبع زوجها وهى تقول: «إلى اللقاء يا بني!»
وأجابها عزيز: «وداعا يا أماه!»
وأردفت هي تقول: «بل إلى اللقاء!»
وقضى شحاتة ليلة نابغية، هده التفكير أثناءها، ولم يهده إلى شيء يواجه به ما حدث. وأصبح متعبا غير قادر على الذهاب إلى متجره. فلما أمسى كانت الحمى قد ركبته، ثم شعر بألم جاء في الناحية اليسرى من صدره ومن كتفه، واستدعى طبيبهم الخاص، ففحص هذا الشيخ الهرم، وأدى به الفحص إلى تشخيص نوبة قلبية مفاجئة، قد لا تبلغ حد الخطر على حياة المريض إذا لزم الراحة التامة المطلقة، وإذا لم يتأثر المخ بالانفعالات العنيفة التي مر الرجل بها.
واستدعت رجاء أطباء القلب لمعاونة طبيبهم الخاص، فأبدوا من العناية بالمريض ما لا مزيد عليه، وكانوا يترددون عليه كل يوم غير مرة لعيادته.
لكن لكل أجل كتابا، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون. وبعد أربعة أيام من الحديث العنيف، الذي جرى بين عزيز وأمه وزوجها، أسلم شحاتة روحه، برغم عناية الطب، وعناية زوجه وابنه. وشيعت جنازته، وأقيم مأتمه بما يتفق مع واسع ثروته.
وحسم موته ما فرضه على رجاء من الاختيار بينه وبين ابنها، فالتقيا على قبره وكفل نصيبها ونصيب ابنتها الصغرى في الميراث، للأسرة كلها، عيشا كريما.
وتولى ابن شحاتة إدارة التجارة لحسابهم جميعا، وإن أصر عزيز على ألا يزوجه شقيقته!
الدين والوطن
كانت رقيقة غاية الرقة، ذكية غاية الذكاء، أكثر اعتزازا بذكائها منها بجمال يلفت النظر. ورثت من أمها الشركسية بياضا وصفاء لبشرتها، ومن أبيها الصريح في مصريته جاذبية قوية في نظراتها باسمة الثغر، معتدلة القوام، لولا ذكاؤها النفاذ، الذي يسمو بها فوق كل اعتبار سواه، لكان لها أن تتيه ما شاءت بجمالها.
وقد تفوقت «سمية» على زميلاتها في الجامعة، تفوقا أدى إلى اختيارها حين حصلت على درجتها الجامعية، لتتم علومها بباريس. وذهبت إلى العاصمة الفرنسية، والتحقت بالسوربون لتحصل على الدكتوراه. وقد أتاح لها ذكاؤها أن تتابع في معاهد الدراسات العليا العديدة، التي يفخر بها حي باريس اللاتيني، محاضرات مختلفة في الفن والأدب، جعلت من ثقافتها العامة عالما فسيحا، وصقلت منطقها وتفكيرها، فإذا تحدثت سعد المستمعون إليها بأعذب متاع وأدسمه.
وكانت الجمعية الإسلامية في باريس تجتمع مساء الجمعة من كل أسبوع، في بهو من أبهاء الجمعية العامة للطلاب، وكان يحضر هذه الاجتماعات شبان مسلمون من كل الجنسيات. كان يحضرها أبناء البلاد العربية، ويحضرها التركي والإيراني والروسي والهندي والصيني وغيرهم من شبان العالم الإسلامي، المنتشرين في أرجاء الأرض المختلفة. ولم يكن يحضر هذه الاجتماعات من الفتيات إلا قليلات، كن يترددن عليها أحيانا وينقطعن عنها أحيانا، خلا «سمية» فقد كانت حريصة على أن تشهد الاجتماعات كلها، وكانت - على خلاف زميلاتها - لا تأبى أن تشترك في مناقشات الجمعية، مؤمنة بأن هؤلاء الشبان الذين يحضرون جلساتها سيكون لهم في نهضة العالم الإسلامي عما قليل أبلغ الأثر.
وكان من هؤلاء الشبان متحمسون بالفعل للعالم الإسلامي ونهضته أشد التحمس، فكانوا يثيرون في مناقشاتهم أحداثه، ويعلقون على هذه الأحداث، ويتخذون في بعض الأحيان قرارات يبلغونها لدولة أو أكثر من دولة، أو يحتفظون بها لأنفسهم، ويعتبرونها عهدا مقطوعا على كل واحد منهم أن يحققه في المستقبل.
كان «سليم سولوكوف» من أكثر أعضاء الجمعية الإسلامية تبريزا بين إخوانه، وكان شابا روسيا، من «جورجيا»، وسيم الطلعة، أسود الشعر، نحيفا، قوي الصوت في اتزان، رضي الخلق محببا بذلك إلى كل إخوانه، وقد اختاره زملاؤه رئيسا للجمعية، فاعتذر لهم شاكرا حسن ثقتهم؛ لأن مشاغله في دراساته تحول دون قيامه بأعباء الرياسة على الوجه الذي يطمئن له ضميره. وقد كان إذا تكلم عن الإسلام والمسلمين سما بتفكيره فوق المألوف من كلام سائر الأعضاء، فأصغى الكل له في إعجاب وإكبار، وأفضى بعضهم إلى بعض بأن هذا الشاب النابه سيكون له في المستقبل شأن عظيم.
وكانت «سمية» من أشد المعجبين بسليم، وكان هو شديد الإعجاب بها، وأدى تبادلهما الإعجاب إلى تقاربهما، ثم إلى صداقتهما، وكانا كثيرا ما يتحدثان عن العالم الإسلامي، الناهض في ذلك الحين إلى الحرية وإلى الكرامة، لينسى ما فرضه السلطان الأجنبي عليه من مذلة قرونا عدة، فكانت آراؤهما تلتقي عند آمال يسعد بها هذا العالم، ويطمئن لها الدين القيم.
ومرض «سليم» فانقطعت «سمية» لتمريضه. تركت محاضراتها في السوربون، وفي المعاهد الأخرى التي كانت تتردد عليها، وجعلت تقضي نهارها إلى جانبه، فإذا أظلم الليل، تركته إلى عناية صاحبة «البنسيون» الذي يقيم به، بعد أن توصيها في لهجة كلها الحنان والإشفاق، أن ترعاه إلى حين عودتها في الصباح. فلما أبل الشاب من مرضه، كانت عنايتها به قد وثقت ما بينهما من مودة، ونقلت هذه المودة خطوات إلى ناحية العاطفة الإنسانية السامية ... عاطفة الحب!
وإنهما ليسيران يوما في حديقة «اللوكسمبورج» إذ قال لها: اسمعي يا سمية. إنني أشعر بعد عنايتك بي أثناء مرضي أنني مدين لك بحياتي، فهل ترين ما يمنع من أن أجعل هذه الحياة في خدمتك إلى نهايتها، وذلك بأن نتزوج؟
وألقت الفتاة ببصرها إلى الأرض ولم تجب، فأردف: أرجو أن تفكري في الأمر ، وسأعود إلى الحديث معك عنه.
كان ذلك في آخر السنة الأولى، من سني الحرب العالمية الثانية، وكانت باريس قد أصبحت في سلطان الألمان، فكانت المراسلة بين مصر وفرنسا المحتلة منقطعة أو تكاد. فلم يكن يسيرا أن تراسل «سمية» أهلها لتستشيرهم فيما يعرضه «سليم» عليها. وأبى عليها ذكاؤها وكبرياؤها أن تخاطب أحدا من زملائها أو زميلاتها المصريين في أمر يعنيها ولا يعني غيرها. فقضت ليلها تفكر في عبارة سليم، الوجيزة، ثم ذكرت أول ما ذكرت، عهدا قطعته لأمها عشية سفرها من مصر: ألا تتزوج من أجنبي.
أوتستطيع وقد قطعت هذا العهد على نفسها أن تقبل خطبة سليم إياها؟ إنها تحبه كما يحبها، وتشعر بأنها ستنعم في هذا الزواج بسعادة لا ترجوها في زواج غيره ... لكنها حريصة على الوفاء بعهد قطعته لأعز الناس عليها وأحبهم إليها ... لأمها. فهل من سبيل إلى التحلل من هذا العهد؟ ألا لو أنها وجدت الوسيلة لذلك لما ترددت في الزواج من سليم!
وإنها لحيرى أمام هذا العهد المقدس؛ إذ سمعت صوت نفسها يناديها: لكن سليما ليس أجنبيا، إنه مسلم وأنا مسلمة، والدين يربط بيننا بوثاق لا يقل عن وثاق الوطن قوة. بل الدين هو وطننا الأكبر، وطننا الأقدس، وهو الرابطة السامية فوق كل رابطة. أليس يجيز الشرع أن أتزوج مسلما، أيا كان البلد الذي يعيش فيه، ويحرم علي أن أتزوج غير مسلم من أبناء الوطن الذي ترتسم حوله حدود أرض! فإذا أنا تزوجت سليما فلن أكون قد نقضت العهد الذي قطعته لأمي أو نكثت به، ولذلك لن تغضب هي يوم تعلم بهذا الزواج!
وتردد صوت نفسها في أعماق وجودها واستجابت له روحها، لكن ذكاءها المتوقد حرص على أن يقيم لهذا الصوت منطقا عقليا، حتى لا تتهم بأن تيار العاطفة جرفها، فالتمست في نداء نفسها وسيلة تحلها من عهدها!
ولم يعي ذكاؤها عن الاستجابة إلى نداء عاطفتها، فأرسى منطق هذا النداء على قواعد اطمأن لها وجدانها.
لقد كانت تشعر، إذ كانت بمصر، أنها أقرب إلى أهل دينها منها إلى غيرهم من أبناء وطنها، إلا ما ندر. وقد زارت الشام سنة مع أبيها، فشعرت نحو أهله المسلمين بالمودة والقربى؛ لأن دينهم دينها ولغتهم لغتها.
ودين سليم دينها، وهو يتكلم الفرنسية كما تتكلمها، فلهما لغة مشتركة ودين واحد. ولا ريب أن سليما يشعر نحو المسلمين الروس بما تشعر هي به نحو المسلمين المصريين، ويشعر نحو المسلمين غير الروس بمثل ما شعرت به نحو أهل الشام، فله إذن وطن أكبر، كما أن لها وطنا أكبر. وهذا الوطن مشترك بينهما، فليس أيهما إذن أجنبيا عن صاحبه، ولن تكون بقبولها الزواج منه قد نكثت بعهدها أو أخلت به!
جعلت سمية تقلب هذه الحجج في دخيلة نفسها طول ليلها، فجفاها النوم إلى مطلع الفجر. وفي الظهيرة التقى بها سليم في المطعم الذي يتناولان الغداء فيه، فنظر إليها بعين فيها الاستفهام، كأنما يريد أن يعرف رأيها فيما عرضه عليها. وأمسكت هي عن الجواب، فصرف الحديث إلى موضوع آخر.
وتحدث إليها صبح الغد بالتليفون، ليلتقيا في حديقة اللوكسمورج. فلما تقابلا وبادلته التحية، لم يمهلها أن قال لها: لقد قضيت الليلتين الماضيتين لا أذوق طعم النوم في انتظار جوابك، فهل أطمع في أن أسمعه اليوم؟
وأجابته: «لقد كان شأني مع النوم شأنك ... والآن أنت وما تريد. ولندع الله أن يسعدنا بهذا الزواج!»
وتزوجا. وبعد سنتين أنجبا غلاما، ولم يمنع ذلك سمية من متابعة دراستها والحصول على الدكتوراه التي التحقت بالسوربون لتحصل عليها. ووضعت الحرب بعد ذلك أوزارها، واستعادت فرنسا حريتها، وعادت المراسلات بين مصر وباريس، وكتبت سمية إلى أمها تزف إليها البشرى بنجاحها، وتخبرها كذلك بزواجها، وبالغلام الذي رزقها الله ثمرة لهذا الزواج.
وكررت سمية في خطابها مرات عدة أن زوجها مسلم من آباء وأجداد مسلمين، وأن الإسلام وطن للمؤمنين به جميعا، وأن ذلك هو الذي أقنعها بالزواج منه، بعد الذي رأته من كمال صفاته، واستيقنته من كريم حسبه!
مع ذلك ريع أبواها لنبأ زواجها، فلم ينبئا به أحدا، وبلغ من روع أمها أن قدرت أنها فقدت سمية إلى الأبد، ولولا مخافتها أن يفتضح الأمر - وهي حريصة على إخفائه - للبست السواد على هذه البنت، كما لبسته على أخت لها ماتت من قبل ودفنت في صحراء القاهرة!
وكتبت الأم إلى سمية كتابا قاسيا، ذكرتها فيه بالعهد الذي نكثته، وبالعار الذي جلبته على أهلها، وذكرت لها أنها لم تعد ابنتها، وأنها لا تريد قط أن تراها، وأن قلبها، قلب الأم، ساخط عليها وعلى فعلتها النكراء.
ولم تخف سمية عن زوجها غضب أمها، فقال سليم: «فلنذهب إلى روسيا، وستجدين في بلادي وبين أهلي ما يهون عليك غضب أهلك.»
قالت: «أوتراك تريد أن نترك ما نستمتع به من حرية في باريس، لنعيش في جو الإرهاب الشيوعي، لا يعرف الإنسان فيه ما مصيره إذا أبدى رأيا لا يعجب الحاكمين! كلا يا صديقي! إن شئت أنت فاذهب إلى أهلك، ودعني هنا مع ولدي، فإني أوثر الحرية ولا أرضى بها بديلا! وكيف تحسب أهلك يستطيعون أن يهونوا علي غضب أهلي، وهم لا يعرفون لغتي، وأنا لا أعرف لغتهم، ولا أخالني قادرة في هذا السن على أن أتعلمها؟!»
والحق أن سليما لم يكن يؤمن بالشيوعية، وكان يرى فيها الكثير مما يخالف الإسلام دينا ونظاما. وهو لم ينس أن ابن عم له حوكم منذ بضع سنوات وحكم عليه بالنفي، لغير شيء إلا اتهامه بأنه لا يتلاءم مع العهد. لكن مرتب سمية المدرسي كان قد قطع لأول ما انتهت الحرب وعرفت الحكومة أنها تزوجت من غير مصري. وهي لم تكن تطمع في معونة من أهلها، وقد أغضبهم تصرفها، ولم يكن ما يتناوله سليم من أهله، يكفيهم للعيش في باريس، عيشا معقولا. وليس من السهل أن يجد هو، أو تجد هي، عملا كريما في فرنسا، برغم درجاتها العلمية العليا؛ لأن أبناء فرنسا كانوا بحاجة - بعد السنوات الخمس التي احتل الألمان وطنهم في أثنائها - إلى كل عمل فيها، وكل وظيفة من وظائف الشركات أو الأعمال الحرة، التي بدأت نشاطها أو عادت إليه. فكيف السبيل مع ذلك كله إلى البقاء في باريس، ومواجهة هذه الظروف جميعا؟
تحدث سليم مع زوجه في هذا الوضع، وذكر لها أنها بين أن يذهبا إلى روسيا، أو أن يعيشا في باريس عيش الشظف. فإذا ذهبا إلى روسيا، فيسير أن يجد عملا يرزقهما. ولعلها متى تعلمت الروسية أن تجد عملا كذلك بعد أن أصبحت روسية الجنسية بحكم زواجها. صحيح أن العيش في روسيا لا يجعلهما أنعم بالا من الفرنسيين في فرنسا بسبب ما أدت إليه الحرب من حرمان. لكنهما، وهما من الأجانب في فرنسا، سيلقيان فيها عنتا أشد العنت ومشقة أية مشقة!
واستمهلته سمية إلى الغد لتفكر في الأمر، فلما أصبحت خرجت لبعض شأنها. وفي المساء قصت عليه أنها بحثت فوفقت إلى عمل على الآلة الكاتبة، متواضع الأجر، ولكنه يعينهما على تحمل أعباء المعيشة. عند ذلك رأى أن لا مناص له من أن يبحث كذلك عن عمل يضم أجره إلى ما يتناوله من أهله. ولعل مجموع ما يصل إليهما، ينجيهما من الضيق، وإن لم يسمح لهما بأية رفاهية. وحسبهما عزاء أن أهل باريس جميعا يعانون الحرمان في تلك الأيام التي أعقبت الحرب، فلن يكون مظهرهما أسوأ من مظهر الفرنسيين أنفسهم.
واهتدى سليم، كما اهتدت سمية، إلى عمل. فاستطاعا أن يعيشا في شظف، وتحيط بهما مع ذلك سعادة الطمأنينة إلى الحرية. •••
كانا يذهبان في الصباح إلى عملهما بعد أن تستودع الأم طفلها مؤسسة ترعاه مع أمثاله. فإذا كان المساء، وعادا من عملهما، وعادت هي بالطفل معها، وجاءا بطعام عشائهما، آوى الجميع إلى غرفتهم حتى ينام الغلام، ثم خرج الزوجان يقضيان وقتا ناعما سعيدا يستمعان إلى الموسيقى في أحد المقاهي، أو في ملهى من الملاهي التي تعزف الموسيقى فيها أبدع الألحان لأكبر أساتذة الفن. أو يذهبان إلى المسرح في أعلى التياترو، أو يسيران في شوارع باريس الكبرى، ينعمان بمناظر المعروضات في واجهاتها. فإذا انتصف الليل أو كاد، ارتدا إلى غرفتهما سعيدين بأن يريا فيها الطفل مستغرقا في نوم هادئ. ثم يأويان إلى فراشهما ينعمان فيه بسكينة النوم.
وكانت هذه الغرفة هي وطنهما الصغير المحبب. كانت سمية تغمض عينيها فترى فيها مصر كلها؛ لأنها كانت تجمع حولها كل ما في الحياة من حب وإعزاز كحبها سليما وحب سليم إياها؟! وهل إعزاز كإعزازها هذا الطفل البريء الجميل؟ هو - لها - بسمة الحياة، وهو الذي يهون عليها كل مشقة. وإذا كانت أمها قد غضبت منها، فتنكرت مصر لها، فلن يجعلها ذلك أقل لهذا الوطن الكريم إعزازا أو محبة. ولن يؤنسها ذلك من أن ترضى عنها أمها، يوم تؤمن بأنها لم تجن ذنبا، ولم تنكث عهدا، حين آمنت بأن الدين هو الوطن الأكبر، وأن الأرض التي ولدت فيها هي الوطن الأصغر!
وكانت سمية تنتهز صبح يوم الأحد من كل أسبوع لتكتب إلى أبويها قبل أن تخرج مع زوجها وابنها لقضاء النهار في نزهة خارج المدينة. ولم تكن تنتظر من أبويها ردا على كتبها، ولكنها كانت ترجو أن تلين هذه الكتب قلبيهما فيصفحا آخر الأمر عنها.
والعجيب أن أباها كانت تنازعه نفسه إلى هذا الصفح، وأن أمها هي التي كانت تأبى أن تقرأ كتب ابنتها، أو أن تجاري زوجها فيما كانت تسميه تساهله وضعفه. ولو أن الأم قرأت كتب سمية، أو سمعت إلى ما فيها، لتأثرت بها كما تأثر الأب، ولانت كما لان، لكن إباءها كان يشوبه عناد عنيف، يبعثه إلى نفسها خوفها من أن تضعف هي الأخرى أو أن تلين!
وإنها لتجلس ذات صباح في غرفتها، إذ دخل عليها زوجها، ودفع إليها صورة فوتوغرافية، نظرت فيها فإذا هي صورة طفل، كل نظراته البراءة والذكاء، وفيه منها شبه، حتى لكأنها هي التي ولدته. ونظرت طويلا إلى الصورة وأدركت أن الطفل هو ابن سمية، فترقرقت في عينيها دمعة لم تستطع حبسها، ثم قالت: وما ذنب هذا الطفل البريء الجميل؟ إنني أشعر له في أعماق قلبي بمحبة تعدل غضبي من أمه. ألا ليتني أراه!
وسكت زوجها برهة ثم قال: «وليتني أنا كذلك أراه.» ولم يزد على ذلك، ولم يخاطبها في الموضوع طول ذلك النهار.
فلما أمسيا ، قالت له: «ألا تريني خطاب سمية الذي أرفقت به صورة طفلها؟»
وأعطاها زوجها الخطاب، وقد اطمأن إلى أن أمومتها بدأت تتغلب على كبريائها. فلما كان بعد ذلك بأيام، قالت له: ما رأيك في أن نذهب إلى باريس نقضي بها أياما، نرى فيها حفيدنا، ونغير هذا الجو المحيط بنا؟
وأجابها: «وما رأيك أنت في أن نبعث إليهم بتذاكر السفر ليحضروا إلينا؟ ولعلنا نستطيع أن نستبقيهم بمصر، فيظل الطفل في أحضان عطفك وحنانك؟»
ولم تجد الأم ما تعترض به هذه الفكرة، فأرسل الأب إلى ابنته يقول لها إنه وضع تحت تصرفها وتصرف زوجها تذكرتي سفر من باريس إلى مصر، وإنه ترك لهما تحديد الموعد الذي يحضران فيه.
وعرضت سمية ما كتبه أبوها على سليم، واتفقا على أن يطلب كل منهما إجازة من عمله، ليذهبا مع طفلهما إلى مصر. وكان كل منهما قد اطمأن إلى ثقة أرباب العمل فيه، ثقة أتاحت لهما أن ينالا إجازة شهر بمرتب.
وسافرا إلى مصر، وتلقاهما أبوها على الميناء، إلى منزلهم. فلما رأت أمها ألقت بنفسها بين أحضانها والدمع في عينها، وكأنها طفلة في سن ولدها. وبكت الأم كما بكت ابنتها، وعانقتها عناقا طويلا. ووقف الطفل ينظر إليهما دهشا. فلما فرغا من عناقهما ومن قبلاتهما، أخذت الجدة حفيدها إلى صدرها، وأخذت تقبل جبينه وخديه، ثم تضمه من جديد إلى صدرها.
وقد نسيت غضبها، وغلبت عاطفة الأمومة فيها كل عاطفة سواها، وشعرت بسعادة لا سعادة مثلها للقاء ابنتها وحفيدها.
وأقبل الأب ومعه سليم، فقدمته سمية إلى أمها. وعاش الزوجان وطفلهما في بيت جديه أكرم عيش وأهنأه. وكان الطفل أوفرهم من المحبة والإعزاز نصيبا. كانت جدته لا تلبث كلما رأته أن تأخذه إلى صدرها، وأن توسعه تقبيلا، وكأنما تكاد أن تأكله! وكان جده يصطحبه إلى حوانيت لعب الأطفال يبتاع له منها كل ما تشتهيه نفسه.
وكان الأبوان الشابان يريان ذلك كله فيغتبطان به، ويبدو عليهما - مع ذلك - وكأنما يتساءلان: فيم إذن كان غضبكما؟
ويجيء الأهل والأصدقاء، فيقدم سليم إليهم على أنه العريق بآبائه في الإسلام، وأنه زوج ابنتهما العزيز الحبيب!
وبعد أسبوعين من مقام سمية وزوجها بالقاهرة، فكر الأب في أن يجد لسليم عملا يسمح ببقائهما بمصر. فأخذ يمر به على أصدقائه أرباب الأعمال، ممن تحتاج أعمالهم إلى كفاية الشباب، وتطمئن إلى لغته الفرنسية، وكان أرباب الأعمال يسمعون ذلك، فينظرون إلى الشاب نظرة فيها مظهر الحذر، ثم يعدون بالنظر في الأمر بعين الرعاية. وكان سليم يضيق بما يرى ويسمع من ذلك، ولا يكاد يطيقه. وزاده ضيقا به، عدم إلفه جو الحياة في مصر!
وخلا إلى زوجه ذات يوم وقال لها: اسمعي يا سمية. إن إجازتنا قاربت نهايتها، ويخيل إلي أن أباك لن يجد لي عملا بمصر، لتظلي أنت معه ومع أمك بها. وإني لشاكر له عنايته بي، لكنني أشعر بأنني لا طاقة لي بالمقام هنا؛ لأنني أحسب أن ما سأناله من أجر عن عملي، سيعطى إلي وكأنه صدقة إكراما لخاطر أبيك. كما أنني سأحس دائما بالوحشة التي أحسست أنت بها يوم دعوتك لنذهب إلى روسيا. فإذا رأيت أنت المقام بين أهلك هنا زمنا أطول مما قضينا، فلا اعتراض لي. أما أنا فأريد العود إلى باريس، لاستئناف عملي بها، بعد الذي كسبت من ثقة أرباب العمل بي، ثقة أطمع معها في مركز خير من مركزي الحاضر. ويوم تهفو نفسك للحضور إلى عشنا، ألفيتني في انتظارك على لظى الجمر!
ونظرت إليه سمية بعينين ملئتا عتابا، وقالت: أوتظنني أوثر عليك أحدا، أو أوثر في الدنيا مكانا لست أنت فيه؟ أنت يا سليم أهلي ووطني، وإذا استطعت أنت أن تبتعد عني، فلا طاقة لي بالبعد عنك. أوحسبت رخاء العيش هنا يغريني إذا لم تكن أنت في هذا الرخاء شريكي؟ إن كسرة خبز نأكلها معا في عشنا الصغير بباريس، أحب إلي وأشهى عندي من أشهى الأطعمة وأفخر الموائد إذا جلست عليها من غيرك، ولن أناقشك فيما تحدثني الآن فيه. وسأذكر لوالدي أننا عائدان لتسلم عملنا بباريس بانتهاء الإجازة التي سمح لنا بها!
وامتلأت عينا سليم بالدمع، فقبلها وقال لها: شكرا لك ألف شكر يا عزيزتي! لقد رددت الآن إلي روحي، وقد أوشكت أن تبلغ التراقي. وقد جمع الله قلبينا فلن يفرق بيننا شيء في الحياة!
وعاد الزوجان وطفلهما إلى باريس، واستأنفا عملهما بها. وبعد أشهر دعا رب العمل سليما، وقال له: إن لشركتنا بالأرجنتين أعمالا واسعة، وقد رأيت أن أجزيك عن أمانتك وكفايتك، بنقلك إلى هناك ومضاعفة مرتبك، وأنا أعلم أن زوجتك تعمل في مؤسسة على مقربة منا، وطبيعي أن تصحبك، وستتقاضى هناك من شركتنا ضعف مرتبها كذلك. وللشركة مدرسة يتعلم فيها أبناء موظفيها، فإن راقك ما أعرضه الآن عليك، فأبلغني موافقتك وموافقة زوجك غدا، لأنفذه من أول الشهر!
وحدث سليم سمية فيما عرضه مدير الشركة عليه، وهو يخشى عدم ارتياحها له، لما يعرف من شدة حبها لباريس. وأدهشه أنها لم تتردد، بل قالت له: نعم. هيا بنا إلى أمريكا الجنوبية، إن بها أبوابا واسعة للثراء، وليس يعنيني ذلك من أجلنا، بل من أجل ولدنا، ضمانا لمستقبله!
وسافر ثلاثتهم أول الشهر، وبعد أن أقاموا بالأرجنتين عاما وبعض العام، تعرفت سمية إلى لبناني عرض عليها الاشتراك معه في عمل يدر أرباحا ضخمة، مع بقائهما بالشركة التي يعملان فيها. وقبل مدير الشركة أن تظل سمية في عملها وأن ينقطع سليم لمزاولة العمل الجديد.
وكذلك استطاعا في أعوام معدودة أن يصبحا من أصحاب الثروة والإيراد الضخم!
وكبر ولدهما، فعهدا إليه في عملهما الخاص بوظيفة يجني منها ربحا لنفسه.
وإن سمية لتعود من عملها ذات مساء، إذ ألفت في بيتها برقية تنبئها بأن أباها مريض اشتدت به العلة، وأنه يريد أن يراها، فطارت إلى مصر وبقيت إلى جانبه حتى قضى نحبه، ثم عادت إلى زوجها وولدها واستأنفت نشاطها في عملها، وكانت بلغت به مقاما محمودا.
وتعاقبت السنون، ومرضت سمية يوما مرضا طال بها، وأشفق منه زوجها على حياتها. وفيما هو جالس ذات مساء إلى جانبها يواسيها قالت له: إن لي يا سليم مشيئة أخيرة، أحسبك لا تأباها علي، إنني أشعر بدنو الأجل، وقد هفت نفسي إلى ثرى الوطن أستقر فيه إلى جانب أبي وأمي، فإذا اختارني ربي فانقلني إلى هناك، أرقد في صحراء القاهرة رقدة الأبد!
واغرورقت عين سليم بالدمع وقال لها: بل سيشفيك الله يا حبيبتي، وسأجعل الطب كله في خدمة حياتك العزيزة!
وشفى الله سمية، وعاد سليم معها إلى باريس يقضيان بها أيام نقاهتها ويستعيدان فيها أحلى ذكرياتهما، تاركين ولدهما بالأرجنتين يشرف على ثروتهما.
وأعادت باريس العافية كاملة إلى سمية، وإنهما ليسيران يوما على مقربة من مقابر «بير لاشيز» إذ قال سليم لزوجته: ما رأيك في أن أشتري بين هذه المقابر قبرا فسيحا يضم رفاتنا بعد عمر طويل؟
فباريس وطن حبنا ومستقره.
وألقت سمية ببصرها إلى الأرض، وبعد تفكير طويل قالت: إن الأرض لله يورثها من يشاء. وأنت يا سليم وطني وروحي، فاصنع ما بدا لك!
آباء وأبناء
أعرفها من ثلاثين سنة أو تزيد، وقد تخطت الآن الخمسين، ولم أكن أعرف أن لها قصة، ولم تفكر هي يوما في أن تروي لي قصتها. فلما قرأت قصة «هكذا خلقت»، أقبلت علي يوما تقول: إذا كان مثل هذا القصص يعنيك، فما لك لا تسمع قصتي، فإن راقتك، فدونها. إنني لا أستطيع أن أكتب بنفسي كما كتبت بطلة قصتك الأخيرة، وأتمنى أن ترى ما أذكره لك جديرا بالتدوين!
قلت لها: «هاتي ما عندك، وأنا أعدك بتدوينه على لسانك.»
قالت: كانت لي أخت من أبي تكبرني بضعة أشهر، وكان خالها شابا رقيقا جميل الطلعة، يصغر أمها خمسة عشر عاما أو نحوها، وكان له وقف تشركه فيه أخته ما دام حيا، فإذا توفي عن ورثة ذكور انتقل الوقف إلى هؤلاء الورثة وحرمت أخته من ريعه.
وأحبت أختي قريبا لأبينا، وطمعت في أن تتزوجه. وكان قريبنا هذا يحبها، ويتمنى أن يتزوجها، لكنه كان شابا رقيق الحال، قليل الموارد، فلما خطبها إلى أبيها، استمهله محتجا بأن البنت لا تزال صغيرة السن، ولكنه ذكر لأمها أن رقة حال قريبه هي التي تجعله يطمع في يدها طمعا في مالها!
ليس بين البنت وأمها سر كما يقولون، فلما عرفت أختي سبب رفض أبيها خطبتها، أحزنها ذلك حزنا بدا أثره في صحتها؛ لأنها كانت معتزة بما تناله أمها من ريع الوقف، مقتنعة بأنها تستطيع أن تعيش منه مع قريبها عيش سعة، جاهلة أن هذا الوقف مآله إلى غير أمها وغيرها، وأنها ستكون عبئا على أبيها إذا أصبح لخالها وارث يحرم أمها من الاستحقاق. فإن لم يعنها أبوها يومئذ اضطرت لعيش ضنك مع قريبنا. وهذا ما لم يرضه أبوها فلم يقبل الخطبة!
وأدى تردد خال أختي علينا منذ طفولتي إلى انفصال المودة بيني وبينه، فلما انتقلت من الصبا إلى الشباب، بدأت أشعر نحوه بعاطفة جديدة وبدأت أرى في عينيه وهجا دلني على أنه يحبني كما أحبه!
وأخذت هذه العاطفة تقوى في نفسينا حتى صارت غراما عارما، وحتى كنت أود، حين أرى الشاب مقبلا علينا، لو أطير إليه وأتعلق بعنقه وأوسعه تقبيلا، لولا الحياء الذي كان يمسكني مكاني، ويدفع حمرة الخجل إلى وجناتي!
وتسامع من في البيت جميعا، بأن هذا الشاب الغني الرقيق الجميل، يريد أن يخطبني إلى أبي، فكانوا يهنئونني سلفا، ويرجون لي في هذا الزواج سعادة وارفة الظل، وبنين يضاعفون هذه السعادة!
وكانت أختي لأبي كثيرة التوعك في هذه الفترة، وكثيرا ما كانت تلزم سريرها، فكان والدي يكثر التردد عليها، والتودد إليها، ومعاملتها أرق المعاملة. أليسوا يقولون: «أحب ولدك إليك الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يحضر، والمريض حتى يشفى»؟!
وكانت لي غرفة تجاور غرفة أختى، وإني لجالسة في غرفتي هذه يوما، وأختي معتكفة في سريرها، إذ سمعتها تقول لأبينا: أصحيح أن خالي سيتزوج أختي، فإذا أنجبت منه غلاما انتقل الوقف له، فأصبحنا نحن فقراء، وأصبحوا هم الأغنياء؟
وسكتت برهة ثم قالت: «أوترضى أنت عن هذا يا أبي؟» وأجابها أبوها: «اطمئني يا عزيزتي، لم يحصل شيء من هذا، ولن يحصل!»
لم أكن إلى تلك اللحظة، أفهم شيئا عن موضوع هذا الوقف، وشروطه، وكل الذي كنت أفهمه أن أبي يريد أملاكا واسعة، وأن امرأة أبي تنفق عن سعة، لا تعرف أمي، ولا نعرف نحن أبناءها، شيئا من مثلها. وأن هذا الخال الذي يحبني من كل قلبه، كما أحبه من كل قلبي، كان يستمتع من إيراد هذه الأملاك بالنصيب الأوفى!
فلما سمعت ما قالته أختي، وما أجابها به أبي، أسرعت إلى والدتي، فقصصت عليها ما سمعت. فلما فرغت من حديثي رأيتها اضطربت، وتولاها الانزعاج، وقالت: تعسا لامرأة أبيك! فما كانت أختك تعرف شيئا مما قالته لأبيها، وما كانت لتجرؤ على ذكره له لولا أن أمها دفعتها إلى ذلك وحرضتها عليه. وهذه هي الطيبة التي تتظاهر بها، والسذاجة التي تريد أن يفهمها الناس عنها. أولو تزوج أخوها غيرك، ولم يتزوجك، أيسرها ويسر أباك أن نتساوى نحن وإياهم في الفقر؟ ومع ذلك فإن هذا الخال يحبك فلا تخشي شيئا!
وأقسم صادقة، إنني لم أكن أفكر في هذا المال الذي يتحدثون عنه، ولم أفكر فيه بعد الكلام الذي سمعته من أمي، بل كان كل تفكيري في هذا الشاب الوسيم الحبيب، الذي ملك كل عواطفي، وكل حياتي، فكنت إذا رأيته، تحركت بعنف في فؤادي كل الإحساسات الرقيقة القاسية التي تعبر عنها كلمة الحب. ثم تزداد هذه الإحساسات عنفا حين أرى في عينيه وهج الغرام، وفي كلماته العذبة التي يبادلني إياها، ما يملأ نفسه من هيام بي، يسمو بنا كلينا إلى أرق أجواء الهوى والنعيم!
ولست أدري ما الذي دار بين أبوي من حديث، بعد الذي أفضيت به إلى أمي. ولست أدري كذلك ما الذي فعله خال أختي من تلقاء نفسه، أو بمشورة من أمي. ولكن الذي أدريه أني دعيت بعد أيام من ذلك للذهاب إلى بيت خالي أنا، وأني كلفت حين أسأل عمن أوكل في عقد قراني أن أقول إني وكلت أبي. وكذلك فعلت، وقبلتني أمي بعد سويعة من هذا التوكيل، وأخبرتني أن ما حدث سر لا يجوز لي أن أبوح به لأحد؛ لأن أبي وعد أختي ألا يعقد قراني على خالها! •••
وكانت أختي إذ ذاك طريحة الفراش، اشتدت بها العلة، ولم يكن الأطباء الذين يعودونها يبدون الكثير من التفاؤل بشفائها.
كيف عقد أبي قراني على خال أختي وقد وعدها ألا يفعل؟
أخبرتني أمي من بعد أن هذا الخال العزيز ذهب إلى أبي، وأقسم له أغلظ الأيمان إنه إن لم يتزوجني تزوج امرأة من طبقات الشعب الدنيا، فورث أبناؤها الوقف، وحرمت أسرتنا كلها منه. أو انتظر حتى أبلغ رشدي، وعقد قراني به على كره من أبي!
وخشي أبي أن ينفذ الشاب تهديده الأول، فيخرج الوقف من يده بأن يعزله خال أختي من إدارته، وأن تحرم زوج أبي، ويحرم أبي، مما ينالانه من هذا الإيراد الوفير. ونزل أبي على إرادة الخال العزيز، على شريطة ألا تعلم امرأة أبي، أو تعلم ابنتها، بما يتم من ذلك، خوفا على حياة هذه الابنة العزيزة المريضة!
وتوالت الأيام، وازدادت علة أختي تبريحا بها. وإنها لفي الأيام الأخيرة من علتها، إذ سمعتها تقول لأبيها: لقد وعدتني ألا يتزوج خالي أختي.
وأجابها: «نعم يا حبيبتي، ولن يكون ذلك!»
ولم أحفل بما سمعت وقد عقد قراني ... وبعد أسبوع توفيت أختي، فحزنا كلنا، لجمالها وشبابها ورقتها وظرفها، وقد ووري ذلك كله التراب!
وبعد أربعين يوما من وفاتها، لاحظت أن أبي كان كلما رآني تبدو عليه سيما التفكير العميق، وأنه كلما خلا إلى أمي، دار بينهما حديث لا يخلو من حدة ... وسبب ذلك فيما أخبرتني به أمي، أنه كان يعتبر الكلمات الأخيرة التي قالتها أختي عن زواجي من خالها، والوعد الذي قطعه لها بأن ذلك لن يكون، وصية مقدسة لا بد من نفاذها. وأنه كان يفكر في عقد قراني، وفي ضرورة التخلص منه بتطليقي من حبيبي.
وعبثا حاولت أمي أن تقنعه بأن ما يريد من ذلك لا يمليه عقل ولا منطق، فالحي أولى من الميت، وليست له ولا لأحد فائدة من تنفيذ ما يسميه وصية المتوفاة، على كره مني، وممن عقد عليه زواجي. فقد أصر على أنه وعد ابنته ساعة انتقالها إلى العالم الآخر، وعدا لن يستريح ضميره إلا إذا نفذه!
وقد ملك هذا الخاطر على أبي نفسه ووجدانه، بصورة لم يكن لخيالي الشاب إذ ذاك أن يتصورها. كنت أستيقظ جوف الليل أحيانا لبعض شأني، فأراه في البهو الذي تفتح عليه غرف نومنا، يسير ذهابا وجيئة، ويكلم نفسه أحيانا، بعبارات لا أتبينها، وأسمعه يذكر اسمي واسم أختي المتوفاة. وكنت إذ ذاك أتسلل من غرفتي على أطراف أصابعي لقضاء ما أيقظني، ثم أعود متسللة كذلك حتى لا يشعر بي.
وكنت أذكر ما أرى من ذلك لأمي، فأشعر بأنها ترتاع له، وتشفق منه. وأفضت إلي في هذه الآونة بأن أبي يريد تطليقي، وأوصتني بأن أبذل كل جهد للاحتفاظ بزوجي العزيز. ولم أكن بحاجة إلى أي جهد أبذله، وقد ربط الحب بين قلبي وقلب زوجي بأوثق رباط وأمتنه.
وقد تكرر أمامي منظر أبي، وهو يذرع البهو ذهابا وجيئة، ويكلم نفسه في جوف الليل، حتى كدت أشفق عليه. وبلغ مني الإشفاق غايته، حين رأيته ذات ليلة، وقد اعترته هزة عصبية، فبكى وبللت الدموع وجهه. عند ذلك لم أستطع أن أتسلل لأختفي منه، بل ذهبت إليه أسأله ما به؟
وأجابني: «لا شيء! إنني أشعر بمغص خفيف أقلقني، فعودي أنت إلى سريرك ونامي هادئة مطمئنة.»
وفي الصباح من ذلك اليوم دعاني أبي وقال لي: أنت تعلمين يا ابنتي كم أحبك وقد ازددت حبا لك منذ وفاة المرحومة أختك، ولست أبتغي لك في الحياة إلا السعادة. وخال أختك الذي عقدت قرانك عليه سكير مدمن، وإنما رضيت عقد القران نزولا على إلحاح أمك الطامعة في ماله، والتي تحسب أن السعادة كل السعادة في المال. أنا أعلم يا ابنتي أنك تحبينه، وأنه يحبك، لكن الحب عاطفة شباب، إن لم يعصمها خلق متين تعرضت للزوال، بل تعرضت للانقلاب إلى نقيضها. والأمر كذلك مع السكيرين المدمنين، أكثر منه مع غيرهم. لهذا فكرت في أن أحمل خال أختك على تطليقك قبل أن يطلب أن تزفي إليه. فأعينيني على ذلك بأن تظهري له النفور منه، وعدم الاطمئنان إلى الحياة الزوجية معه. فلو أنك فعلت ليسر ذلك ما أريد، وفتح أمامك باب السعادة. وأعدك بأن أزوجك من رجل أقوم منه خلقا ولا يقل عنه ثروة!
استمعت إلى هذا الكلام، فأيقنت أن تفكيره الطويل فيه هو الذي أرقه وأبكاه جوف الليل، وذكرت وأنا أسمعه ما كانت أختي تقول له عن زواج خالها مني، ووعده بأن ذلك لن يكون.
وقد كنت أرى أبي يتناول في بعض الأحيان شيئا من الشراب مع خال أختي، فخيل إلي أنه يبالغ فيما يذكره من إدمان هذا الشاب للشراب وتوفره عليه. وتواردت هذه الخواطر على نفسي في مثل لمح البصر. فلما أتم أبي كلامه، أطرقت وقد احمر وجهي خجلا أو غيظا. وبعد فترة قلت: ليس لي من هذا الأمر شيء يا أبي، فالطلاق بيد زوجي لا بيدي. وقد عودتني منذ طفولتي أن أكون معه اللطف والأدب، فلا أستطيع الخروج على ما أدبتني به. والأمر لك على كل حال!
وقمت من مجلس أبي موقنة أن ما وعد به أختي قبيل وفاتها من أن زواجي بخالها لن يتم هو الذي دفعه إلى حديثه معي.
وقصصت ما حدث على أمي، فقالت: إياك أن تغيري مسلكك مع خال أختك، فهو اليوم زوجك، أنت حل له، وهو حل لك، ولا يجوز لك بأي اعتبار أن تخرجي عن طاعته! •••
أصبحت بين أبي وأمي وقلبي، في موقف لا أحسد عليه، موقف تتجاذبني فيه العواطف المتضاربة أشد التجاذب. فأنا أحب أبي وأحترمه، وأحب أمي وأقدسها، وأحب زوجي الذي عقد أبي قراني عليه حب العبادة! وكان هذا الزوج كلما رآني أظهر من غرامه بي ما يزيدني حبا له، وما يجعل الاستجابة إلى ما طلبه أبي أمرا مستحيلا!
وكانت أمي تؤكد لي أن ما ذكره أبي عن إدمان زوجي الشراب غير صحيح، فهو يشرب كما أن الشبان جميعا يشربون، وأبي نفسه كان في شبابه يشرب كما يشرب زوجي اليوم، ثم قلل من الشراب لأن صحته قضت عليه بالإقلال منه!
وكانت عبارات أبي وحرصه على سعادتي، تتردد في نفسي فلا أستطيع تكذيبها، وإن لم يسهل على نفسي تصديقه!
كانت هذه العوامل كلها تتنازعني، فأصبح بينها كالريشة في مهب الريح، لكني كنت أنتهي بالإذعان لعامل أقوى منها جميعا، ذلك حبي المشبوب الذي ملأ كل قلبي وكل جوانحي، والذي كان يهزني هزا عنيفا كلما رأيت زوجي وكلما ذكرته وهو غائب!
لم يكن حرص أبي على فصم عقدة الزواج، بأشد من حرص أمي على أن تتم الخطوة الأخيرة في هذا الزواج، فيصبح أمرا مقضيا واقعا.
وقد علمت من بعد أن أبي كان يتهم أمي بأنها تريد أن يتم الزواج ليصبح الوقف لأولاد بنتها. وكانت أمي تجيبه بأن ذلك خير من أن ينتقل الوقف إلى أجانب، لا تربطهم بأسرتنا كلها أي صلة. ثم تضيف: هذا إلى أن ابنتي وزوجها يحب كلاهما الآخر، فحرام أن تفصل بينهما لأوهام تدور برأسك ولا يقرك عليها أحد!
وأدى هذا الخلاف العنيف بين أبي وأمي، إلى ما يشبه الانفصال.
فنقلت أمي سريري إلى غرفتها، وكأنما خشيت إن أنا بقيت وحدي في غرفتي الصغيرة، أن يحملني أبي على ما يريده من تيسير أمر طلاقي.
وبعد ذلك بأسابيع، حدث ما لا أدري كيف أصوره! •••
أمسكت محدثتي عن الكلام برهة غير قصيرة، وكانت تبحث عن الألفاظ التي تصور بها حادثا تضطرب له. بل لقد بدا عليها ما يشبه الاضطراب بالفعل وهي تتأهب لاستئناف قصتها، برغم انقضاء عشرات السنين على هذا الحادث!
فلما ملكت نفسها، استطردت تقول: كان أبي غائبا ذلك اليوم عن المدينة، وكان زوج أمي في طابق غير الذي كنت مع أمي فيه، وكنت وأمي قد ارتدينا كلتانا ثياب النوم ودخلت كل منا سريرها. وإننا لكذلك إذ فتح باب الغرفة، ودخل منه خال أختي وعليه ثياب النوم، وأوصد الباب بالمفتاح وراءه، ثم اتجه قاصدا سريري.
فلما رأيت ذلك منه، جلست أنتظر ما عساه يريد أن يقول.
لكنه لم يقل شيئا، بل أزاح الغطاء إلى جانبي! عند ذلك قفزت من السرير، وقلت في صيحة مكظومة: ما هذا؟!
ونظرت إلي أمي وقد وضعت إصبعها على فمها، وقالت: هس!
ثم قالت بصوت خافت: ارجعي إلى مكانك من سريرك، إنه زوجك وأنت حل له وواجب عليك طاعته فيما يريد!
وقام زوجي فربت على كتفي بلطف وقال: ما يفزعك؟ أليس ذلك مآلنا؟ أم تعنيك زفة العروس كل هذه العناية؟ أنت تعلمين أن ذلك غير ممكن بسبب الحزن على أختك، وأنك يوم تنتقلين إلى بيتي فسيكون ذلك في صمت كصمت هذه الليلة. فما الفارق بين اليوم وغد، أو بين اليوم وبعد أسبوع أو شهر؟ إن حولنا يا حبيبتي مؤامرات يجب أن نفسدها، بأن نضع المتآمرين أمام الأمر الواقع. ولا أظنك تعتقدين أن أمك أقل حرصا على كرامتك وعلى مستقبلك منك أنت: لقد انعقد زواجنا على شرع الله وسنة رسوله، فلا تدعي هذه الفرصة تمر، دون أن نفسد كيد الكائدين وتآمر المتآمرين!
وانضمت إليه أمي، وجعلت تذكرني بأنني زوجة تحب زوجها، وتجب عليها طاعته. وأنها اتفقت مع زوجي على ما حدث، فلا لوم عليه فيه. وأنني يجب أن أكون عونا على نجاح خطة يريدان بها خيري وسعادتي!
وتظاهرت بالاقتناع بحججهما، واستأذنت زوجي في أن أذهب لبعض شأني ثم أعود فأكون على ما يريد.
وفتح زوجي الباب الذي كان قد أوصده، فذهبت إلى الحمام. ولم أكد أدخله وأوصد رتاجه، حتى شعرت بالقشعريرة تهز جسمي كله، وانهملت الدموع من عيني. وعجبت كيف تدفعني أمي إلى أمر أخجل منه أمام أبي، مهما يكن حلالا، ومهما يجزه الشرع!
وفي لحظة، ثبت عزمي على أن أقضي ليلي في الحمام لا أبرحه حتى الصباح. فلما طال بزوجي انتظاري، جاء زوجي فدق الباب في رفق، فقلت له: ناشدتك الله أن تدعني، ولن أخرج من هنا إلا في الصباح!
قال: «أنت إذن لا تحبينني؟»
قلت: «بل أعبدك. وأنا في طاعتك ما أمسكتني. لكني لن تأتي معي أمرا أخجل منه أمام أبي، وإن كان حلالا لي!»
وعبثا حاول أن يصرفني عن عزمي، فلما بدا له اليأس مني، تركني وانصرف، ولم أره إلا الغداة! •••
لم أدر ماذا حدث بعد ذلك بين أبي وأمي، ويبدو أنها بالغت في الإلحاح عليه بضرورة انتقالي إلى بيت زوجي وأنه كان أشد منها إلحاحا في ضرورة تطليقي. وبلغ الجدال بينهما في هذا الأمر أشده، حتى لقد اتهمته أمي بأنه يكرهني ويكره إخوتي منها، وأنها لم يبق لها طاقة بالمقام في بيتها لهذا السبب!
وأقسمت إنها ستغادر هذا البيت إلى بيت أخيها بعد ظهر اليوم نفسه، وأقسم أبي يمينا إن هي فعلت كانت طالقا ثلاثا.
ومست هذه اليمين صميم الكرامة من نفس أمي، فجمعت متاعها، وغادرت البيت، وأوقعت بذلك يمين الطلاق الثلاث!
لست أدري كيف غامرت أمي بإيقاع هذه اليمين، وهي تعلم أنها لا إيراد لها، وأن أخاها كثير العيال فلا يستطيع النفقة عليها؟
وانقضت أسابيع بعد ذلك، وأبي في حيرة من أمره. يريد أن يطلقني ولا يهتدي إلى الوسيلة التي يقنع بها زوجي ليطلقني!
وأخيرا، صارح أبي هذا الخال العزيز بأن ابنة أخته المتوفاة هي التي كانت تعارض في زواجي من خالها، وأنه وعدها - وهي على سرير موتها - بأن هذا الزواج لن يتم، وأنه يرغب إليه، بل يرجوه بل يتوسل إليه، أن يطلقني احتراما لوصية ابنة أخته!
ومس هذا الكلام قلب زوجي، لكنه لم ير أن يفصم عروة الزواج من تلقاء نفسه، بل قال: أنا لا أطلقها إلا إذا قالت إنها لا تريد البقاء على ذمتي!
ولم يرد والدي أن يخاطبني في هذا الأمر، بل رغب إلى خالي في أن يخاطبني فيه. وقلت لخالي إنه يطلب إلي المستحيل، فأنا لا أستطيع أن أكذب على الله فأزعم أنني لا أريد البقاء على ذمة زوجي. فلما ألح خالي، قلت في غضب وعصبية: إنني أوثر أن أنتحر على أن أجيبك إلى ما يريده والدي.
عند ذلك تركني وانصرف!
وأقسم والدي جهد أيمانه إن لم أنزل على إرادته ليحرمن إخوتي من ميراثه، وليحرمن أمي من كل نفقة. وأبلغ خالي ذلك إلى أمي فاضطربت له أشد الاضطراب، وطلبت إلى أخيها أن يسكن روع أبي حتى ترى رأيها في الأمر.
وبعد أيام، أقبلت أمي، وخلت إلي، وأخذت تعظني أن أنزل على رأي أبي، شفقة عليها وعلى إخوتي!
ولأول مرة في حياتي، ثرت بها، واتهمتها والدموع تنهل من عيني، بأنها تريد أن تحطم سعادة حياتي حرصا على ميراث أبي!
وأقبل المساء وقد يئست أمي، كما يئس أخوها من قبل. وإنا لننظر من النافذة، إذ رأيت خالي يقبل متأبطا ذراع زوجي، وهو يتمايل وقد بدا عليه أثر الشراب. ورأيت من ورائهما أبي والمأذون يسير إلى جانبه!
وأسرعت أمي حين رأتهم مقبلين، فهبطت الدرج إلى الطابق الأول، وأيقنت أنا أن في الأمر تدبيرا، وأنهم أبلغوا زوجي أنني لم أعد أريد البقاء على ذمته. فصعد الدم إلى رأسي، وقلت في نفسي: «لأفسدن تدبيرهم!»
وانسبت إلى غرفتي، وأوثقت رتاجها، ووضعت وراء الباب كل أثاثها، واستنفد ذلك مني جهدا شاقا. فلما أتممته، ارتميت في سريري منهكة القوى محطمة الأعصاب، أبكي بكاء الطفل، وأسأل نفسي: كيف يتآمر أبواي علي ... أبي تنفيذا لما يسميه وصية ابنته المتوفاة، وأمي إشفاقا على عيشها أو على ميراث أبنائها؟!
ثم إني رحت في غيبوبة لا أعي شيئا مما حولي!
وعلمت من بعد، أنه لما اكتمل جمع القوم الذين حضروا للقضاء على حياتي وحبي، كرر زوجي أنه يريد أن يسمع مني أنني لا أريد البقاء على ذمته، فوقفت أمي على باب الغرفة التي اجتمعوا فيها ملثمة الوجه، وقالت في صوت متهدج، وكأنني أنا التي أتكلم: «أنا لا أريد البقاء على ذمة زوجي.»
وقال الشاب وهو في نشوة شرابه: «ليس هذا صوتها فإن كانت هي التي قالت فهي طالق!»
وحرر المأذون وثيقة الطلاق، وانتهت المؤامرة، إلى النتيجة التي أرادها أبي!
ذلك ما أخبرتني به أمي من بعد، فلما انصرف الجمع صعد أخي إلى غرفتي ورآها موصدة، فتسلق نافذتها وانحدر من شراعتها، وفتح بابها.
وخيل إلى أمي حين رأتني في غيبوبتي أنني فارقت الحياة، فأرادت أن تصيح فأسكتها أبي، ودعا الطبيب لساعته، وقرر الطبيب أن ما بي انهيار عصبي امتد أثره إلى القلب، وأنه خطير على حياتي!
وأفقت في الصباح، ثم أقمت في سرير مرضي أسابيع عدة، عوفيت بعدها وعادت إلي الحياة!
ولا حظت من يومئذ أن أبي ازداد عطفا علي ولطفا بي، أكان ذلك لأنه ظفر بتطليقي تنفيذا لوصية أختي! أم لأنه رآني أشرفت على الموت فخشي أن يفقدني كما فقد أختي؟!
الواقع أنه أغدق علي بعد شفائي أضعاف ما كان يغدقه من قبل من رعاية وعطف، وأنه انتهى إلى تزويجي من شاب من الأعيان، له من الثراء ما حسب أبي أنه يغنيني عن التفكير في الوقف الذي كان مآله إلى أبنائي.
وأقمت مع زوجي بضع سنوات، وأنجبت في أثنائها بنين وبنات، ولما علم خال أختي أنني تزوجت، وأنه لم يبق له إلى الاتصال بي سبيل، تزوج من إحدى نساء الشعب، بعد أن أغرى زوجها بالمال فطلقها، ورزقت هذه المرأة منه بنين أصبحوا هم المستحقين في الوقف دون إخوتي وأمهم.
بعد بضع سنين، ماتت زوجة حبيبي، الذي طلقني بخديعة أمي، وإصرار أبي، وساءت حال زوجي المالية لسوء إدارته ثروته، فركبه الدين، وأخذ يبيع أملاكه شيئا فشيئا، وجاءتني والدتي تذكر أن خال أختي مستعد لأن يدفع ديون زوجي، على أن يطلقني، فأعود زوجا له كما كنت من قبل!
Unknown page