Qimah al-Zaman 'inda al-'Ulama
قيمة الزمن عند العلماء
Publisher
مكتب المطبوعات الإسلامية
Edition Number
العاشرة
Publisher Location
حلب
Genres
قال الوزير الصالح يحيى بن هبيرة:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه ... وأراه أسهل ما عليك يضيع!
(قيمة الزمن عند العلماء)
بقلم: عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله تعالى-
ولد سنة (١٣٣٦) هـ، وتوفي سنة (١٤١٧) هـ
الطبعة العاشرة
مكتب المطبوعات الإسلامية
1 / 4
تقدمة الطبعة الخامسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ولي كل عون وتيسير، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد النبي البشير النذير، وعلى آله وصحبه ومن سار على صراطه المستقيم المنير، إلى يوم الدين.
وجزى الله عنا خير الجزاء علماء هذه الأمة المحمدية، الذين كانت سيرهم طيبة، وأعمالهم الصالحة، وعلومهم النافعة، وأوقاتهم الرابحة: خير قدوة وحافز للمستفيدين والطالبين، في حياتهم وبعد مما تهم، فالله مسئول أن يغدق عليهم شآبيب الرحمة والرضوان، ويسكنهم رفيع غرف الجنان، ويحبب إلينا الاقتداء بهم في صالح القول والعمل والعلم والسلوك.
وبعد هذه الطبعة الخامسة من كتابي (قيمة الزمن عند العلماء)، وقد أضفت إليه زيادات كثيرة هامة جدا، وعناوين لمقاطعه، وفهرسا للأعلام فيه، لم تكن في الطبعة الرابعة وما قبلها، راجيا أن يكون بذلك قد تكامل مجموعه، واستوفى موضوعه، فيزيد النفع به والاستفادة منه إن شاء الله تعالى.
وأبقيت ترتيب الأخبار فيه على تسلسل سني الوفيات، ولم أرتبه
1 / 5
على الموضوعات، ليتجلى فيه تعاقب الخالف للسالف على رعاية هذه الصفة الرفيعة: (حفظ الوقت) عند العلماء.
وأسأله ﷿ أن يتقبله عملا صالحا، ويرزقني الإخلاص فيه وفي غيره مما كتبته أو خدمته، ويجعلني من الذين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يوم العرض عليه، بفضله وإحسانه، وهو أرحم الراحمين.
هذا وان كتابي هذا: (قيمة الزمن عند العلماء)، حين صدر في طبعته الأولى سنة ١٤٠٤ والطبعات التي بعدها، نفع الله تعالى به، وآتى أفضل الثمرات الطيبة، ولقي القبول والرواج الحسن، في محيط طلبة العلم والعلماء والمثقفين عامة، وخرك همم كثير من الأساتذة الفضلاء إلى الكتابة في موضوعه والاستفادة منه والاقتباس من أخباره ونصوصه.
فكتب فيه الأستاذ الدكتور عبد الستار نوير في سنة ١٤٠٦، كتابه الذي تناول فيه الوقت من جوانب شتى ونواحي متعددة، وسماه بعنوان: (الوقت هو الحياة).
وكتب بعد ذلك الأستاذ خلدون الأحدب في أول سنة ١٤٠٧، كتابه الذي أعطاه اسم (تأملات وسوانح في قيمة الزمن)، وهو في جل أخباره ومعظم نصوصه من كتابي سابق الذكر. ويبدو أن السيد خلدونا قد أحب كتابي هذا حبا جما، حتى اقتبسه في كتابه بمضمونه ومصادره، ومنحه زيادة في العنوان.
وإنه ليسرني أن ينتفع هذا المحب - أحد أبنائي في الطلب والتحصيل - بكتابي، ويقتبسه بجملته وجمهرته، وكنت أود أن يذكر من
1 / 6
أين اقتبس هذه النصوص التي ألف كتابه منها، أداء لأمانة، فقد قال العلماء: من الأمانة في العلم عزوه إلى قائله أو ناقله.
وكتب بعد ذلك الأستاذ جاسم بن محمد بن بدر المطوع في أواخر سنة ١٤٠٧، كتابه الذي سماه: (الوقت عمار أو دمار)، وأكثر فيه من النصوص التي نقلها من كتابي، وبني عليها نصائحه وإرشاداته، ناسيا أو متناسيا عزوها إلى مصدرها الذي التقطها منه، مجموعة منسقة محققة، وقد حرص كل الحرص على أن لا يذكر كتابي أو يحيل إليه، نعم عزا بعض النصوص إلى كتاب الأستاذ خلدون الأحدب، الذي قبس من كتابي قبله، ولله في خلقه شؤون، ولله در الإمام الشافعي إذ يقول: الحر من راعي وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة.
وكتابي: (قيمة الزمن عند العلماء) - على ما فيه من قصور - حصيلة نحو عشرين سنة، من مطالعاتي ومراجعاتي في كتب العلم: التفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، والرجال، والتراجم، والبلدان، واللغة، والنحو، والأدب، والأخلاق، وسواها، في جمع مادته، وانتخابها، وضبطها، وعزوها إلى مصادرها ومراجعها، والمقابلة بينها، وتمحيصها، وسبكها، وتحقيقها، وإخراجها بأبهى حلة.
وليس هذا مني - علم الله - حرصا على الشهرة أو الفخفخة، ولكن هي الأمانة والأدب الذي علمناه الإسلام، وصاغه الإمام الشافعي ﵁ بأدبه وبيانه الرفيع، الذي أوردته آنفا، والله الهادي، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه عبد الفتاح أبو غدة في الرياض ٤ من جمادى الأول سنة ١٤٠٨
1 / 7
تقدمة الطبعة الرابعة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وأرسل إلينا رسوله النبي المكرم، سيدنا محمدا ﷺ، ورضي الله عن أصحابه وتابعيهم بإحسان ومن سار على سننهم فعلم وعلم أو تعلم.
أما بعد فقد أرشدنا الله تعالى في كتابه الكريم، وعلى لسان نبيه العظيم، إلى أهمية الوقت والتوقيت في حياتنا وأعمالنا، فرسم لنا الأحكام الشرعية، وحدد لنا أوقاتها ومواعيد أدائها، وحذرنا من التساهل والتجاوز بها عن توقيتها. وفي ذلك منه سبحانه تعليم وتربية لنا على تنظيم الأعمال والقيام بها في مواقيتها المحددة، قال ﷿: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) (١).
وعن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: سألت رسول الله ﷺ: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (٢).
_________
(١) «من سورة النساء الآية ١٠٣. ومعنى (كتابا): فرضا مكتوبا. و(موقوتا): في أوقات محددة.
(٢) البخاري في «صحيحه» ٩:٢ من «فتح الباري»، في كتاب المواقيت (باب فضل الصلاة لوقتها)، و٦:٣، في أول كتاب الجهاد (باب فضل الجهاد =
1 / 9
والصلاة تكرر من المسلم والمسلمة في اليوم والليلة خمس مرات، فإن أداها المسلم في أول وقتها كما طلبت منه، غرست في سلوكه خلق الحفاظ على الوقت، والدقة في المواعيد، والانتباه لتوقيت كل عمل بوقته المناسب له، الموصل إلى الغاية منه على الوجه الأتم الأكمل.
ومن هذا تبدو لنا الحكمة البالغة: لماذا خص الله تعالى ثم النبي ﷺ: الصلاة بالذكر من بين سائر التكاليف الكثيرة المؤقتة، لأنها تتكرر كل يوم خمس مرات، ففي زمن يسير ينطبع سلوك فاعلها بخلق ضبط الوقت، ودقة الوعد، وأداء كل عمل في ميقاته المخصص له على الوجه الأمثل، ويصير ذلك له عادة وطبيعة متبعة في سلوكه وحياته.
وقد رسم الشرع الحنيف: التوقيت في تكاليف كثيرة غير الصلاة، فوقت في أحكام الحج، والزكاة، والصوم، وزكاة الفطر، والأضحية،
_________
= والسير)، ٤٠٠:١٠، في أول كتاب الأدب (باب البر والصلة)، و٥١٠:١٣، في كتاب التوحيد (باب وسمي النبي ﷺ عملا). ومسلم في «صحيحه» ٢: ٧٣ - ٧٤، في كتاب الإيمان (باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال). والترمذي في «جامعه» ٣٢٦:١، في كتاب أبواب الصلاة (باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل)، والنسائي في «سننه» ٢٩٢:١، في كتاب المواقيت (باب فضل الصلاة لمواقيتها).
قال المناوي في «فيض القدير» ١٦٤:١ «أحب الأعمال إلى الله أي أكثرها ثوابا عند الله تعالى: الصلاة على وقتها، وأفاد الحديث أن تعجيل الصلاة أول وقتها أفصل». انتهى. والمؤمن مدعو إلى الأخذ بالأفضل دائما، فتصير فيه صفة المحافظة على أول الوقت خلقا وطبعا.
1 / 10
والسفر، والتيمم، والمسح على الخفين، والرضاع، والطلاق، والعدة، والرجعة، والنفقة، والدين، والرهن، والضيافة، والعقيقة، والحيض، والنفاس، وغيرها. وما ذلك إلا لمعنى هام رتب الشرع التوقيت عليه، ولحظ المصلحة والنفع به.
وقد غفل كثير من المسلمين اليوم عن هذا التوجيه الإسلامي الدقيق لهم من جانب الشرع الأغر، فجعلوا يأخذن ويتعلمون أهمية ربط الأعمال بالتوقيت المناسب، من غيرهم! وكأنهم لم يمرنوا أو يربوا على ذلك من أول يوم كلفوا فيه بأحكام الشريعة الغراء، وفي أولها الصلاة.
فيجب على المسلم أن ينتبه إلى الوقت في حياته، وإلى تنفيذ كل عمل من أعماله في توقيته المناسب، فالوقت من حيث هو معيار زمني: من أغلى ما وهب الله تعالى للإنسان، وهو في حياة العالم وطالب العلم رأس المال والربح جميعا، فلا يسوغ للعاقل أن يضيعه سدى، ويعيش فيه هملا سبهللا، ومن أجل هذا دونت هذه الصفحات حافزا لنفسي ولأبناء جنسي، رجاء الانتفاع بما فيها من أخبار آبائنا وسلفنا الماضين، والله ولي التوفيق.
وبعد فهذه الطبعة الرابعة من كتابي «قيمة الزمن عند العلماء»، وقد قدر الله تعالى له قبولا ورواجا غير متوقع، فأقبل عليه القراء والطلبة والعلماء، واستحسنه من وقف عليه، وانتفع به خلق كثير، فلله الحمد على ذلك، وهو ولي السداد والرشاد.
وقد أضفت إلى هذه الطبعة بعض الأخبار الحافزة على حفظ الوقت وكسبه، آملا أن يستفيد من ذلك طلاب العلم وسواهم، من الذين
1 / 11
يقدرون للوقت والزمن في حياتهم قدره، فتنالني دعوتهم الصالحة، وأكون معهم من الذين تعاونوا على البر والتقوى، والله ولي المحسنين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه عبد الفتاح أبو غدة
في الرياض ١٣ من شعبان سنة ١٤٠٦
1 / 12
تقدمة الطبعة الأولى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى، وفي مقدمتهم سيدنا ورسولنا محمد المصطفى، وعلى آله وصحبه وتابعيه ومن بهم اهتدى واقتفى.
وبعد فهذه الصفحات وجيزة، كتبتها في بيان (قيمة الزمن عند العلماء)، وأردت بها التعريف بقيمة هذه النعمة العظيمة التي هي ميدان الحياة، في محيط العلم وأهله، وكيف يمكن أن تأتى بالعجائب المدهشات، إذا أحسن المرء الاستفادة منها، ونظم حياته وأوقاته بنظام، وبعد عن الوقوع في الفضول في الكلام والطعام والمجالس والاجتماعات واللقاءات ..، فتكون له أوفر الآثار الزاكيات، وأطيب الحسنات الباقيات، ويخلد ذكره - بنفعه ومآثره - مع الخالدين المحسنين (١).
وجزى الله عنا خير الجزاء سلفنا الصالح وعلماءنا السابقين
_________
(١) وكانت نواة هذه الصفحات كلمة قصيرة، ألقيتها لمدة عشر دقائق في ضمن محاضرة عامة مشتركة قام بها لفيف من الأساتذة، ودعت إليها إدارة كلية الشريعة بالرياض في ليلة يوم الاثنين ٢٨ من شعبان عام ١٣٩١، ثم نشرت تلك الكلمة في مجلة الكلية: «أضواء الشريعة» في العدد الخامس لعام ١٣٩٤.
1 / 13
الأبرار، فقد كانوا لنا قدوة في كل خير، نموذجا لكل فضيلة، فاللهم ارزقنا انتهاج سبيلهم في جميع الشؤون، ووفقنا للاستفادة من أعمارنا وأوقاتنا، واجعلنا نشغلها بما يرضيك عنا، وجنبنا الفضول في كل شيء، إنك على كل شيء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه عبد الفتاح أبو غدة
في الرياض ١٨ من جمادى الأولى سنة ١٤٠٢
1 / 14
قيمة الزمن
لهذا العنوان الصغير أطراف كثيرة وكبيرة من المعاني والمواضيع، تتجاذب الكلام فيها، فللزمن قيمة عند الفلاسفة غير قيمته عند التجار، وغيرها عند الزراع، وغيرها عند الصناع، وغيرها عند العسكريين، وغيرها عند السياسيين، وغيرها عند الشباب، وغيرها عند الشيوخ، وغيرها عند طلبة العلم وأهل العلم.
وأخص بحديثي (قيمة الزمن) عند طلبة العلم وأهل العلم فحسب، رجاء أن يكون ذلك حافزا لهمم أصحاب العزائم من شبابنا طلاب العلم، في هذه الأيام التي فترت فيها همم الطالبين، وتقاعست غايات المجدين، وندر فيها وجود الطلبة المحترقين بالعلم، فمات النبوغ وساد الكسل والخمول، وبرز من جراء ذلك الضعف والتأخر في صفوف أهل العلم وآثارهم، فأقول:
إن نعم الله تعالى على عباده كثيرة لا تحصى، ولا يمكن للبشر أن يحصوها أو يدركوها على حقيقتها، وذلك لكثرتها، واستمرارها، ويسرها، وتتابع إنعام الله بها، وتفاوت مدارك الناس بها؛ وصدق الله العظيم إذ يقول: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) (١).
_________
(١) من سورة إبراهيم، الآية ٣٤.
1 / 15
للنعم أصول وفروع
وإن للنعم أصولا وفروعا، فمن فروع النعم مثلا: البسطة في العلم والجسم والمال، والمحافظة على نوافل العبادات، مثل قيام الليل والإكثار من تلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، والمحافظة على سنن الفطرة في الوجه واليدين والأطراف، وسنن الأعمال مثل التطيب للرجال عند الاجتماع، والمصافحة عند اللقاء، ودخول المسجد باليمنى، والخروج منه باليسرى، وإماطة الأذى عن الطريق، وما إلى ذلك من الآداب والسنن والمستحبات وبعض الواجبات، فكل أولئك من فروع النعم، وما أجلها من فروع عند عارفيها.
أصول النعم
وأما أصول النعم فكثيرة أيضا لا تحصى، وأول أصول النعم، الإيمان بالله تعالى وبما جاء من عنده، والعمل بمقتضى ذلك على ما أوجبه الله تعالى وأمر سبحانه.
ومن أصول النعم أيضًا: نعمة الصحة والعافية، التي منها سلامة السمع والبصر والفؤاد والجوارح، وهي محور حركة الإنسان وقوام استفادته من وجوده.
ومن أصول النعم أيضًا: نعمة العلم، فهي نعمة كبرى يتوقف عليها رقي الإنسانية وسعادتها الدنيوية والأخروية جميعا، فالعلم نعمة جلى، كيفما كان، فتحصيله نعمة، والانتفاع به نعمة، والنفع به نعمة، وتخليده ونقله للأجيال المقبلة نعمة، ونشره في الناس نعمة، وهكذا
وهناك أمثلة كثيرة لأصول النعم، لا أطيل بذكرها مراعاة لقيمة الزمن.
1 / 16
من أجل أصول النعم
ومن أصول النعم أيضًا، بل من أجل أصولها وأغلاها: نعمة (الزمن)، الذي جمعت هذه الصفحات للحديث عن قيمته، في جنب طلبة العلم وأهل العلم خاصة.
فالزمن هو عمر الحياة، وميدان وجود الإنسان، وساحة ظله وبقائه ونفعه وانتفاعه. وقد أشار القرآن الكريم إلى عظم هذا الأصل في أصول النعم، وألمع إلى علو مقداره على غيره، فجاءت آيات كثيرة ترشد إلى قيمة الزمن، ورفيع قدره وكبير أثره.
بعض الآيات المذكرة بنعمة الزمن
وأجتزئ هنا ببعض الآيات الكريمة في هذا المقام، قال تعالى ممتنا على عباده بهذه النعمة الكبرى: (الله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم، وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار.
وسخر لكم الأنهار. لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) (١).
فامتن سبحانه في جلائل نعمه بنعمة الليل والنهار، وهما الزمن الذي نتحدث عنه ونتحدث فيه، ويمر به هذا العالم الكبير من أول بدايته، إلى نهاية نهايته.
وقال تعالى مؤكدا هذه المنة العليا في آية ثانية: (وسخر لكم
_________
(١) من سورة إبراهيم، الآيات ٣٢ - ٣٤.
1 / 17
الليل والنهار والشمس والقمر، والنجوم مسخرات بأمره، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) (١). فأشار في ختام الآية إلى أن تلك النعم فيها آيات بالغة عند الذين يعقلون ويتدبرون.
وقال سبحانه: (وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة، لتبتغوا فضلا من ربكم، ولتعلموا عدد السنين والحساب، وكل شيء فصلناه تفصيلا) (٢).
وقال سبحانه: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) (٣).
وتمدح سبحانه بأنه مالك الزمان والمكان وما يحل فيهما من زمانيات ومكانيات، فقال: (وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم) (٤).
تأنيب الله للكفار إذ أضاعوا أعمارهم
وقال تعالى مخاطبًا الكفار ومؤنبًا لهم، إذ أضاعوا أعمارهم، واستبقوا أنفسهم فيها على الكفر! ولم يخرجوا - مع امتداد العمر - من الكفر إلى الإيمان، وقد آتاهم الله الزمان المديد، والعمر العريض، فقال
_________
(١) من سورة النحل، الآية ١٢.
(٢) من سورة الإسراء، الآية ١٢.
(٣) من سورة فصلت، الآية ٣٧.
(٤) من سورة الأنعام، الآية ١٣.
1 / 18
سبحانه: (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءكم النذير، فذوقوا فما للظالمين من نصير) (١).
فجعل سبحانه (التعمير) موجبا للتذكر والاستبصار، وميدانا للإيمان والاستذكار، وأقام (العمر) الذي هو الزمن بحياة الإنسان: حُجْة على الإنسان، كما أقام وجود الرسالة والنذارة حجة عليه أيضًا.
قال الحافظ ابن كثير (٢) في تفسير هذه الآية الكريمة: «أي: أو ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم! قال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر.
إعذار الله لمن بلغه من العمر ستين سنة
وروى البخاري في «صحيحه» (٣)، عن أبي هريرة ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «أعذر الله ﷿ إلى امرىء أخر عمره حتى بلَّغَه ستين سنة»، وروى الإمام أحمد في «مسنده» (٤)، عن أبي هريرة أيضًا: قال: قال رسول الله ﷺ: «من عَمَّره الله تعالى ستين سنة، فقد أعذر إليه في العمر». أي أزال عذره ولم يبق له موضعا للاعتذار، إذ أمهله طول المدة المديدة في العمر.
_________
(١) من سورة فاطر، الآية ٣٧.
(٢) في «تفسيره» ٥: ٥٨٩ - ٥٩٠.
(٣) ٢٣٨:١١، في كتاب الرقاق، (باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر).
(٤) ٤١٧:٢.
1 / 19
قَسَم الله تعالى بالزمن لبيان عظمه وأهميته
وهناك آيات كثيرة فيها التنبيه إلى عظم هذا الأصل من النعم غير التي أسلفتها، وحسبك أ، تعلم أن الله سبحانه قد أقسم بالزمن في مختلف أطواره، في كتابه الكريم، في آيات جمة، إشعارا منه بقيمة الزمن، وتنبيها إلى أهميته، فأقسم جل شأنه بالليل، والنهار، والفجر، والصبح والشفق، والضحى، والعصر، فمن ذلك قوله تعالى: (والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى) (١)، وقوله تعالى: (والليل إذا أدبر، والصبح إذا أسفر) (٢)، وقوله تعالى: (والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس) (٣)، وقوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق) (٤)، وقوله تعالى: (والفجر، وليال عشر) (٥)، وقوله تعالى: (والضحى، والليل إذا سجى) (٦)، وقوله تعالى: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر) (٧).
ويلاحظ أن كل ما أقسم الله عليه بالزمن، كان هاما في أعلى درجات الأهمية، وكان قسمه بالزمن في أمرين هامين جدا، أحدهما تبرئة الرسول ﷺ، من أن يكون هجره ربه كما زعم ذلك المشركون والأعداء. والمقام الآخر في بيان أن كل إنسان خاسر وهالك
_________
(١) من سورة الليل، الآية ١ - ٢.
(٢) من سورة المدثر، الآية ٣٣ - ٣٤.
(٣) من سورة التكوير، الآية ١٧ - ١٨.
(٤) من سورة الانشقاق، الآية ١٦ - ١٧.
(٥) من سورة الفجر، الآية ١ - ٢.
(٦) من سورة الضحى، الآية ١ - ٢.
(٧) من سورة العصر، الآية ١ - ٢.
1 / 20
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال سبحانه مقسما بالزمن: (والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى) (١).
وقال أيضا: (والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) (٢). قال حبر الأمة وترجمان القرآن سيدنا عبد الله بن عباس ﵄: العصر هو الزمن.
بيان الفخر الرازي لقيمة الزمن وشرفِهِ
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى، في تفسيره (٣)، في تفسير سورة (العصر)، ما ملخصه ومعناه:
«أقسم بالله تعالى بالعصر - الذي هو الزمن -، لما فيه من الأعاجيب، لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، ولأن العمر لا يقوم بشيء نفاسة وغلاء.
فلو ضيعت ألف سنة فيما لا يعني، ثم تبت وثبتت لك السعادة في اللمحة الأخيرة من العمر، بقيت في الجنة أبد الآباد، فعلمت أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة، فكان الزمان من جملة أصول النعم، فلذلك أقسم الله به، ونبه سبحانه على أن الليل والنهار فرصة يضيعها الإنسان! وأن الزمان أشرف من المكان فأقسم به، لكون الزمان نعمة خالصة لا عيب فيها، إنما الخاسر المعيب هو الإنسان» انتهى.
_________
(١) من سورة الضحى، الآيات ١ - ٣.
(٢) سورة العصر.
(٣) هو التفسير الكبير المسمى: «مفاتيح الغيب» ٨٤:٣٢.
1 / 21
هذا طرف مما جاء في الكتاب الكريم مما أشير فيه إلى قيمة الزمن، وأنه من أصول النعم وجلائلها.
بيان السنة المطهرة لقيمة الزمن
أما السنة المطهرة فالبيان فيها أصرح وأوضح، فقد روى البخاري، والترمذي، وابن ماجة (١)، عن ابن عباس ﵄، قال: قال رسول الله ﷺ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (٢).
_________
(١) البخاري في «صحيحه» ٢٢٩:١١ في أول كتاب الرقاق، (باب ما جاء في الرقاق، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة). والترمذي في «جامعه» ٥٥٠:٤ في كتاب الزهد، في (باب الصحة والفراغ نعمتان ...). وابن ماجة في «سننه» ١٣٩٦:٢ في كتاب الزهد، في (باب الحكمة).
(٢) مغبون فيها كثير من الناس. أي ذو خسران فيهما كثير من الناس. قال بعض العلماء: النعمة ما بتنعم به الإنسان ويستلذه، والغبن أن يشتري بأضعاف الثمن، أو يبيع بدون ثمن المثل. فمن صح بدنه، وتفرغ من الأشغال العائقة، ولم يسع لصلاح آخرته، فهو كالمغبون في البيع. والمقصود أن غالب الناس لا ينتفعون بالصحة والفراغ، بل يصرفونهما في غير محالهما، فيصير كل واحد منهما في حقهم وبالا! ولو أنهم صرفوا كل واحد منهما في محله لكان خيرا أي خير.
قال الإمام ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا، لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة الذي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المبغون، لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم لكفى. قال المحقق الطيبي: ضرب النبي ﷺ للمكلف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله، ويلزم الصدق والحذق لئلا يبغن، فالصحة والفراغ رأس المال.
1 / 22
فالزمن نعمة جلى ومنحة كبرى، لا يدريها ويستفيد منها كل الفائدة إلا الموفقون الأفذاذ، كما أشار إلى ذلك لفظ الحديث الشريف فقال: «مغبون فيهما كثير من الناس»، فأفاد أن المستفيدين من ذلك قلة، وأن الكثير مفرط مغبون.
الغيرة القاتلة على الوقت عند العابد والعاقل
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، في كتابه «مدارج السالكين» (١)، وهو يتحدث عن منزلة الغيرة وشمولها لكثير من الأمور، فذكر منها الغيرة على الوقت بقوله:
الغيرة على وقت فات! وهي غيرة قاتلة، فإن الوقت وحي التقضي -أي سريع الانقضاء- أبي الجانب، بطيء الرجوع. والوقت عند العابد: هو وقت العبادة والأوراد، وعند المريد: هو وقت الإقبال على الله، والجمعية عليه، والعكوف عليه بالقلب كله. والوقت أعز شيء عليه، يغار عليه أن ينقضي بدون ذلك! فإذا فاته الوقت لا يمكنه استدراكه البتة، لأن الوقت الثاني قد استحق واجبه الخاص، فإذا فاته وقت فلا سبيل له إلى تداركه.
ومعنى أنها (غيرة قاتلة) أي أن أثرها يشبه القتل، لأن حسرة الفوت قاتلة، ولا سيما إذا علم المتحسر: أنه لا سبيل إلى الاستدراك. وأيضًا
_________
(١) ٤٩:٣.
1 / 23
فالغيرة على التفويت تفويت آخر، كما يقال: الاشتغال بالندم على الوقت الفائت تضييع للوقت الحاضر! ولذلك يقال: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك (١).
فالوقت منقض بذاته، منصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع! وطلب الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع! وطلب تناول الفائت، وكيف يرد الأمس في اليوم الجديد؟! (وأنى لهم التناوش من مكان بعيد)؟! (٢) ومنع مما يحبه ويرتضيه، وعلم أ، ما اقتناه ليس مما ينبغي للعاقل أن يقتنيه، وحيل بينه وبين ما يشتهيه!
فيا حسرات، مال إلى رد مثلها ... سبيل! ولو ردت لهان التحسر!
_________
(١) قال ابن أبي جمرة في كتابه «بهجة النفوس» ٩٦:٣ «معناه: اقطع الوقت بالعمل، لئلا يقطعك بالتسويف». انتهى. ويمكن أن يقال معناه: أنك إذا لم تكن يقظا للاستفادة من الوقت والانتفاع به، هلكت كما يهلك من وجهت إليه الضربة بالسيف، فإن لم يكن يقظا لردها والسلامة منها قطعته وأهلكته، فإن الوقت سيف قاطع، وبرق لامع. ولهذا قال القائل:
وكن صارما كالوقت فالمقت في عسى ... وإياك علا فهي أخطر علة!
وقالوا: من علامة المقت، إضاعة الوقت.
(٢) من سورة سبأ، الآية ٥٢. والتناوش: التناول. والآية الكريمة تتحدث عن حال الكفار في الآخرة، الذين فوتوا على أنفسهم في الدنيا: الإيمان بالله تعالى. أي: ومن أين لهم في الآخرة تناول الإيمان، والتوبة من الكفر؟ وقد كان قريبا منهم في الدنيا فضيعوه! وكيف يقدرون على الظفر به في الآخرة وهي بعيدة من الدنيا؟!.
1 / 24