أينما سار، سارت في ركابه ذكرى أعماله الفذة المذهلة، فكان الناس يتخيلونه على رأس الفيالق الرومانية يقودها، فيكتسح بلاد الغال، وكان أول من غزاها، ثم يهبط مهاوي جبال الألب السحيقة، فيجتاز الروبيكون
Robicon ، ويزحف على رومية، وقد اتقدت بنيران الثورة، فتهدأ ثورتها، وتنحل قواها انحلال الثلوج في اللظى المضطرم، لما أن يظهر قيصر في الميدان.
ولم تقتصر أوهام الناس على ذكر الحقائق، وتخيل الممكنات في حياة «قيصر»، فحوطوها بالأساطير وسيجوها بالخرافات، فقد زعموا أن «الجرمان» الذين هزمهم، أمة من الجبابرة، في نظراتهم الموت، وقالوا: إن «بريطانيا»، وكان أول روماني أقدم على هبوطها، تظل في ظلام دامس ثلاثة أشهر من كل سنة، وإن جوها مفعم بالأرواح، وهذه الأحاديث وما يتصل بها، زادت صيته بعدا، وانتصاراته قيمة، فضخمتها وملأتها مهابة.
لكي تلجأ إلى مثل هذا الرجل تطلب نصحه وتعضيده، عمدت كليوبطرا إلى الكلام بعض الشيء في حقوقها الطبيعية، بيد أنها لم تكن من الحماقة بحيث تؤمن بأن حق المرأة، مهما كان شأنه، ومهما علت قيمته، هو غاية ما تلجأ إليه من وسائل الإقناع.
لما أن خرجت كليوبطرا من الأسمال التي حجبت مفاتنها منذ هنيهة، تملكها شعور أشبه بشعور حيوان صغير أفلت من الأسر، وبجماع ما في المرأة من غريزة الغيرة واستعار الحرارة، اجتذبت مرآة فضية، كانت معلقة بزنارها.
يا لها من فوضى، تلك التي رأت في هندامها! كان معطفها مثنى كثير التجاعيد، وقد تدلى شعرها المرسل على كتفيها كستنائيا مموجا، بل لم يبق أثر للكحل من حول جفونها الوسنانة، ولا للخضاب الأحمر في شفتيها أو على خديها.
ولكن ... أكانت هذه المدعية، وهي على وشك الظهور أمام القاضي الأعظم بعد لحظات قصار، أقل ازدهارا أو توردا، أو أقل بهاء أو سلبا للألباب أو تحييرا للأفكار، أو أقل رشاقة وفتنة، مما يتطلب موقفها؟
كانت مشفقة وجلة على كل حال.
مضت تترقب كيف يلاقيها الرجل الذي اعتاد أن يختلب الرومان، ذلك الإنسان الفذ الذي اضطر الناس، من أشدهم استمساكا بالفضائل، إلى أكثرهم تطوحا مع الرذائل وإمعانا في الفساد، أن تعنو له وجوههم، وتذل له رقابهم، ذلك بأن شهرة قيصر كانت عالمية؛ في زمان تقطعت بالعالم المعمور أسباب الاتصال، ولكن الجميع كانوا يعلمون حق العلم، أن ذلك الفحل العظيم، الذي جمع نبوغه بين صفات القائد والكاتب والمشرع والخطيب في أعلى مراتبها، وأرقى ذرواتها، كان إباحيا فاسقا، فبالرغم من المنكرات التي ينغمس فيها الشباب، وانغمس فيها قيصر مزهوا بما في الحياة من فرح ومفاتن، فإن غزواته ومخاطراته، قد أدت إلى أحزان عميقة، خيمت على كثير من البيوتات الكبيرة، وبخاصة على بيوت الكثيرين من أصدقائه.
ولم لا؟ ألم يقترن اسم «قيصر» في العالم الروماني بقولهم: «قيصر زوج كل النساء»
Unknown page