هو كن للجمال وحصن للحرب، ليس لعظمته من مثيل في أقطار الدنيا، فقد جمع بين ضخامة الفن الفرعوني، ورواء الفن الإغريقي، وجماله وخيالاته وأحلامه.
وكان الجناح الذي خصص للملكة الصغيرة قد لقي من عناية «بطلميوس أوتيلس» أبيها، ما جعله خليقا بمنزلتها من نفسه، ومحبتها من قلبه، ولقد أحب «أوتيلس» كل نادر وكل جميل، ذلك بأن ذوقه الموسيقي، جعله يحن إلى صفاء الفن الهندسي، حنينه إلى ألفة الأنغام.
ولقد ظهر آثار ذلك كله في ما زود به جناح القصر الذي خصص لابنته، من بدائع الخيال، وروائع الفن، ففي كل زاوية أثر من فنان، أثر من «ميرون» أو «إفرقطيلس»، أو «ڨدياس» فتلك ثريات جملتها الأقواس، وزينتها المنحنيات؛ وهذه مقاعد أفرغ عليها الفن جمال القطع والتخطيط، ناهيك بالمباخر التي يصعد مع دخانها أنقى العطر، وأشهى الطيب؛ والطنافس التي ازدانت بنقوش عليها من جمال الطبيعة مسحة ورواء، أما الخزائن فكانت من العاج النقي، ترهقه طبقة من الذهب الخالص.
وما كنت لتقع على حجرة أو بهو أو منعطف أو زاوية، إلا وتأخذك نشوة من المرح، وهزة من الغبطة، حتى ليخيل إليك وأنت في صحوك، أنك في عالم من الأحلام، قوامه حسن الصورة ، وجمال الألوان وتفاني الظلال، وجملة القول أن كل شيء هنالك كان قد أعد للإغراء بالدنيا، وتحصيل لذة العيش ومتعة الحياة.
عامة ذا ليس بشيء إذا قرن بجمال الحدائق الغناء التي كانت تحيط بذلك الصرح العظيم، تلك الجنان الوارفة التي لن تظلها من سماء، غير سماء مصر الصافية.
كانت نسمات البحر تهب عليها عليلة، فإذا اختلطت بعبق الأزهار، أيقظت الروح وأيقظت الجسم، وهنالك بين الأشجار الملتفة يقوم مرتفع من فوقه آخر إلى غير نهاية، ورباطها جميعا درجات من المرمر الناصع البياض، وقد نامت في أحضانها بحيرات صغيرات، تغذيها نوافير بماء نمير كأنه البلور المصفى.
ما أشبه هذه البحيرات بالأحلام! كانت إذا غازلتها نسمات البحر تغضنت قليلا، ثم تساوقت غصونها مويجات، حتى تغيب متكسرة على حافاتها كأنها الأجنحة المهيضة، تلك يقظتها ... ثم ما تلبث أن تعود إلى الأحلام.
من تحت تلك المرتفعات تمر أنفاق تزود القصر والحدائق بماء النيل، وفي ذلك سر النماء، وسر الحياة، التي كنت تأنسهما مندفقين في معين تلك الجنة الظليلة.
أشجار دائمة الخضرة جلبت من مناطق إقليمها أكثر من إقليم مصر اعتدالا، وأخرى من التين والنخيل، خط الاستواء مرباها، وقفت هناك مشرفة بهامة الجبار على بحر الروم، وأزهار تفتحت أكمامها عن جمال فيه نضارة، وفيه اتساق علته تباين الألوان، هي نوارات مختلفات، وأخر متشابهات، حملتها شجيرات منبتها بلاد فارس أزواجا بهيجة، أزرت بما كان في حدائق «إقبطانة» على شهرتها التاريخية، كلا - بل بما كان في حدائق «بابل».
من تلك الورود أنواع تسلقت جدران القصر حتى ساوت حجرة الملكة الحالمة، المغمورة في شهواتها، المجنونة بمطامعها.
Unknown page