بسم الله الرحمن الرحيم
سميت القافية قافية لكونها في آخر البيت مأخوذة من قولك: قفوت فلانًا، إذا تبعته. وقفا الرجل أثر الرجل إذا قصه. وقافية الرأس مؤخره. ومنه الحديث عنه ﷺ: " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم..... ثلاث عقد، فإذا قام من الليل فتوضأ انحلت عقدة.... ".
والقافية من الأسماء المنقولة من العموم إلى المخصوص. فإذا أريد بها الشعر لم يقع عليها هذا الاسم حتى تقارن كلامًا موزونًا. وإذا أريد بها الاشتقاق اتسعت فيها العبارة.
مثل ذلك الصيام. وهو في الشرع محصور، وفي اللغة يعبر به من الإمساك والوقوف في كل موضع. يقال: صام النهار، إذا دومت الشمس في السماء، ثبتت وسط السماء وصام الفرس إذا قام.
1 / 59
قال النابغة:
خَيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صَائمةٍ ... تَحْتَ العَجاجِ وَخَيلٌ تَعلُكُ اللُّجُمَا
ومن ذلك الحج. هو في الشرع محصور، وفي اللغة يعبر به عن القصد إلى كل شيء. قال الشاعر:
يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبرقانِ المُزَعْفَرا
1 / 60
يريد صفرة عما منه. وقال آخر:
يَحُجُّ مَأمُومَةً في قَعْرِها لَجَفٌ
وقال آخر:
فَدُونَكُمْ حَجُوا العيونَ بِأثْمِدٍ ... مَعَ العَانِيَاتِ البِيضِ فَوْقَ الأرَائِكِ
ومن ذلك الإيلاء هو في الشرع أن يقسم الرجل لا يطأ زوجته أربعة أشهر فصاعدًا. وهو في اللغة اليمين على كل شيء.
قال الشاعر:
وأَكذبُ ما يكون أبو المُثَنَّى ... إذا آلى يَمينًا بالطَّلاقِ
1 / 61
وقال آخر:
رَفَعُوا رايةَ الضِّرَابِ وآلو ... لَيَذُودُونَ سَامِرَ المَلْحَاءِ
فصل: قال أبو بكر محمد بن دريد: سميت قوافي لأن بعضها يتلو بعضا. وهذا المعنى غير موجود في القافية الأولى، إلا أن يراد بقسميتها قافية، أنها تصلح أن تكون في موضع ما بعدها، مثل هذا الثوب مدفئ، وطعام مشبع طهور، أي يصلح أن يكون منه ذلك.
وقال قوم: سميت قافية لأنها فاعلة بمعنى مفعولة، كما يقال راضية بمعنى مرضية. كان الشاعر يقفوها، أي يتبعها ويطلبها. وأصل ذلك الاتباع.
1 / 62
قال الله تعالى: " وقفينا على آثارهم ".
واحتج من رأى الحكم بالعلم بقوله " ولا تقف ما ليس لك به علم " لأن فيه دليل خطاب أجاز له أن يقفو ما له به علم ويتبعه.
فصل: وقد اختلف الناس في القافية فقال بعضهم هي القصيدة بهذا البيت:
وَقَافِيَةً مِثْلِ حَدِّ السِّنَا ... نِ نَبْقَى وَيَذْهَبُ مَنْ قَالَهَا
وقال بعضهم: القافية البيت، واحتج بقول سحيم عبد بني
1 / 63
الحسحاس:
أشَارِتْ بِمِدْرَاهَا وَقَالَتَّ لِتِرْبِهَاأَعَبْدُ بَنِي الحَسْحَاسِ يُزْجى القَوَافِيَا
ويقول حسان:
فَنُحْكِمُ بالقَوَافِي مَنْ هَجَانا ... وَنَضْرِبُ حَتَّى تُخْتَلِطُ الدِّمَاءُ
1 / 64
وقال قوم: القافية الكلمة الأخيرة وشيء قبلها، واحتج بأن أعرابيًا سئل عن القافية في قوله:
بَنَاتُ وِطَاءِ عَلَى خَدِّ اللَّيْلْ
وقال سعيد بن مسعدة: القافية الكلمة الأخيرة. واحتج بأن قائلًا لو قال لك: اجمع لي قوافي تصلح مع كتاب لأتيت له بشباب ورباب.
1 / 65
وقال أبو موسى الحامض: القافية ما يلزم الشاعر تكريره في كل بيت من الحروف والحركات وهذا قول جيد. ويأتي بيان ما ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقال قطرب: القافية حرب الروى وأدخلت الهاء عليه كما أدخلت على علامة ونسابة ولأن القائل يقول قافية هذه القصيدة دال أو ميم.
1 / 66
أما الخليل، فله في القافية قولان. أحدهما: أنها الساكنان الآخران من البيت وما بينهما مع حركة ما قبل الساكن الأول منهما. فعلى هذا القول تكون القافية في قول الشاعر:
إذَا مَا أَتَتْ من صاحِبٍ لك زَلَّةٌ ... فَكُنْ أنْتَ مُحْتَالًا لِزَلَّتِهِ عُذْرًا
تكون القافية حركة العين والذال والراء والألف. وفي قول الآخر:
وليسَ الغِنَى والفَقْرُ مِنْ شِيمَةِ الفَتى ... ولكن حُظوظُ قُسِّمَتْ وَجُدُودُ
1 / 67
حركة الدال الأولى والواو والدال والواو.
والقافية على قول الخليل الآخر ما بين الساكنين الأخيرين من البيت مع الساكن الأخير فقط.
والقوافي على هذا تنقسم خمسة أضرب:
فالأول: المتكاوس، وهو أن يجتمع أربعة حروف متحركات بعدها ساكن. كقول العجاج:
قد جبر الدَّينَ الإله فَجَبْر
وكقوله أيضًا:
هَلاّ سَأَلْتَ طَلَلًا وَحَمَمَا
1 / 68
فقوله هفجبر هو القافية، وكذلك وحمما. وقيل: إن اشتقاق المتكاوس من قولك: تكاوس الشيء، إذا تراكم، فكأن الحركات لما تكاثرت فيه تراكمت. ولو قيل إنه من كاس البعير يكوس كوسًا، إذا فقد إحدى قوائمه فحبا على ثلاث، لكان ذلك وجهًا، لأن الكوس أصله النقص. ذكر ذلك أبو إسحاق الزجاج، وغيره.
وقيل ذلك في الدابة لنقص قوائمها. وأنشد:
فظلَّت تَكُوسُ زمانًا على ... ثَلاثٍ وكان لها أَرْبَعُ
وهذه القافية قد دخلها النقص لأن أصلها مستفعلن بحذف ثانيه، وطوى بحذف رابعة، فبقي متعلن، فنقل إلى فعلتن وهو المخبول. والغريزة تنفر منه. ولا يكون ذلك في شيء من ضروب العروض إلا فيما ضربه مستفعلن من البسيط. وهو الرابع من ضروبه. وجميع ضروب الرجز ما خلا الضرب الثاني منه.
1 / 69
وأما القافية الثانية فهي المتراكب. وذلك أن يجتمع ثلاثة حروف متحركة بعدها ساكن. وهو مأخوذ من تراكب الشيء، إذا ركب بعضه بعضًا.
وهو مثل قول الشاعر:
وَما نَزَلْتُ من المَكْرُوه مَنْزِلةً ... إلاَّ وَثِقْتُ بِأَنْ أَلقَى لَهَا فَرَجًا
والضرب الثالث من القوافي يقال له المتدارك وهو أن يجتمع متحركان بعدهما ساكن مثل قول الشاعر:
وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيبْخَلِ بِفَضْلِهِعَلَى قَوْمِه يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَّمُ
كأن الحركتين تدراكتا فيه.
والضرب الرابع المتواتر وهو حرف واحد متحرك بعده ساكن، كقول الهذلي:
حَمِدْتُ إلهي بَعْدَ عُرْوَةَ إذْ نَجَاخِرَاشٌ وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
وهو مأخوذ من الوتر وهو الفرد.
1 / 70
والضرب الخامس أن يجتمع في آخر البيت ساكنان ويقال له المترادف لأنه ترادف فيه ساكنان ويجوز أن يكون سمي بذلك لأنه أكثر ما يستعمل بحرف لين، وربما أتى بغير لين فيسمى مصمتًا. فالذي بحرف لين كقوله:
مَنْ عَائِدي اللَّيْلَةَ أَمْ مَنْ نَصِيحْ ... بِتُّ يَهمّ فَفُؤَادِي قَرِيحْ
والمصمت كالمسموع يوم فتح مكة من بعض العرب وهو خامس السريع
رَفَّعْتَ أَذْيالَ الحَفِّي وَأَرْبَعْنْ ... مَشى حَيِيِّاتٍ كَأَن لَمْ يَفْزَعْنْ
إن يُمْنَعْ اليومَ نِساءٌ تَمْنَعْنْ
فالتقييد والردف لا زمان له. فلما عدم الردف ها هنا سمي مصمتًا.
فصل: سألت الشيخ أبا العلاء ﵀ ما يسمى القصد من الرجز تجتمع فيها القافية المتكاوسة والمتراكبة والمتداركة.
1 / 71
وذلك لأن ضروب الرجز مستفعلن على ما تقدم إلا الثاني. فمستفعلن متدارك: وكذلك إن نقله الخبن إلى مفاعلن وبنقله الطي إلى مفتعلن فيكون متراكبًا، وينقله الخبل إلى فعلتن فيكون متكاوسًا.
فقال: ما علمت أن أحدًا قاله. ذكر هذا.
وأنا أسمي هذه القصيدة المثفاة يذهب بذلك إلى ثفية. ومنه المرأة المثفاة، وهي التي نكحت ثلاثة أزواج.
1 / 72
الباب الثاني
وزن الشعر وما يلحقه
1 / 73
ما يلحق آخر الشطر
التقفية والتصريع
والإقعاد، والتخميع، والوقف
للقافية موضعان، أحدهما يستعمل فيه على سبيل الاستحباب، وآخر يستعمل فيه على سبيل اللزوم.
فالذي يستحب فيه عروض البيث، والذي تلزم فيه ضربه، ومن ألزم نفسه النظر في هذا العلم فلا بد له من المعرفة بأحكام هذين الموضعين.
فصل: فأما التقفية فأن يأتي الشاعر في عروض البيت بما يلزمه في ضربه من غير أن يرد العروض إلى صيغة الضرب مثال ذلك قول الشاعر في ثاني الطويل:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيبٍ وَمَنزِلِبِسِقْطِ اللَّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
فالتقفية إيتاؤه في قافية النصف باللام التي هي الروي والباء هي الوصل.
1 / 75
وهذان الحرفان هما اللذان لزماه في القافية. ومع ذلك فسلم بغير صيغة العروض، لأن العروض مفاعلن والضرب مفاعلن.
ومثله قول النابغة في البسيط:
يَا دَارمَيَّةَ بالْعلْياءِ فَالسَنَدِ ... قَوَتْ وَطالَ عَلَيْها سالِفُ الأبَدِ
فنصف البيت فعلن وآخره فعلن بكسر العين أيضًا، وقد التزم في النصف الدال والباء اللذين لزماه في الآخر.
فصل: وأما التصريع فهو أن يغير صيغة العروض فيجعلها مثل صيغة الضرب، ويستصحب اللوازم في الموضعين.
مثال ذلك قول الشاعر في أول الطويل:
أَلا أَنْعِمْ صَباحًا أَيُّهَا الطَلَل البَالِيوَهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخَالي
1 / 76
فقد جعل في نصف البيت مفاعيلن كآخره بسبب التصريع، ولولا ذلك لكان في نصف البيت مفاعلن مقبوضًا: ألا تراه يقول في هذه القصيدة:
وَلَوْ أَنَّني أَسْعَى لأِدْنَى مَعِيشَةٍكَفَانِي، وَلَمْ أَطْلُب قَلِيلٌ مِنَ المَالِ
فوزن معيشة مفاعلن، وقد أتى فيها بتصريع بعد البيت الأول، فقال:
أَلا إِنني بالٍ على جَمَلٍ بَالٍ ... يَقُودُ بِنَا بَالٍ وَيَتْبَعُنَا بَالِ
فأنى في العروض بمفاعيلن. ومثله قول جرير في البسيط الثاني:
بَانَ الخَلِيطُ ولو طُوِّعْتُ مَا بَانَا ... وَقَطَّعُوا مِنْ حِبَالِ الوَصْلِ أَقْرَانَا
1 / 77
فأتى بالقطع في النصف كما أتى به في الآخر، وهو أن يعود فاعلن إلى فعلن ساكنة العين.
ولولا التصريع لأتت العروضى مخبونة كقوله:
يا أُمَّ عَمْرٍو جَزَاكِ اللهُ مَغْفِرَةً ... رُدِّي عَلَيَّ فُؤَادي كالَّذِي كانَا
فقوله فرة فعلن وهذا قد استعمله القدماء والمحدثون.
التقفية والتصريع في غير البيت الأول كثير، وليس عيبا، بل هو دليل على البلاغة والاقتدار على الصنعة. ويستحب أن يكون ذلك عند الخروج من قصة إلى قصة.
والتصريع مأخوذ من مصراعي الباب. والأصل في ذلك صرعا النهار وهما الغداة والعشي. وإنما حسن هذا في استفتاح الشعر والقصة، لأن البيت الأول بمنزلة باب القصيدة والقصة الذي يستفتح به.
1 / 78
فصل: وأما الإقعاد فهو يدخل في العروض من غير تقفية ولا تصريع يوهم سامع النصف الأول أن الشاهر يأتي بالثاني موافقًا له، فيأتي به خلاف ذلك.
مثال قول النابغة:
جَزَى اللهُ عَبْسًا، عَبْسَ آل بَغِيضٍ ... جَزَاءَ الكِلاَبِ العَاوِياتِ وَقَدْ فَعَلْ
فيظن سامع نصف هذا البيت أول وهلة أن الشاعر قد استفتح شعرًا مصرعًا من ثالث الطويل ثم يأتي المنشد بنصفه الثاني فيكون مقيد ثاني الطويل، لأن العروض في هذا البيت فعوان وذلك لا يكون في الطويل إلا في الثالث إذا كان مصرعًا. والضرب مفاعلن، وذلك لا يكون إلا لثانيه. ومثله.
إذا ما اتَّصَلْتُ قُلْتُ يآل تميمٍ ... وَأيْنَ تَميمٌ مِنْ مَحَلّةِ أَهْوَدَا
1 / 79