فتفكرت أمينة قليلا، ثم قالت: إنه أصغر قليلا من نعيمة بنت عائشة، وأكبر قليلا من عبد المنعم ابن خديجة، فيكون في الخامسة يا سيدي، سوف يسترده أبوه بعد عامين، أليس كذلك يا سيدي؟
قال السيد، وهو يتثاءب: يا ترى من يعيش (ثم مستطردا) وكان متزوجا، أعني الزوج الجديد! - وله أولاد؟ - كلا لم ينجب من زوجه الأولى. - لعل هذا ما حسنه في عيني السيد محمد عفت.
فقال السيد بامتعاض: ولا تنسي مقامه.
فقالت أمينة معترضة: لو أن الأمر أمر مقام ما عدل بابنك أحدا، على الأقل من أجلك أنت.
فشعر باستياء حتى لعن في سره - على حبه - محمد عفت، ولكنه عاد يجر خطا تحت النقطة التي يتعزى بها، فقال: لا تنسي أنه لولا حرصه على أن يضع صداقتنا في حرز حريز ما تردد عن قبول رجائي.
فقالت أمينة معربة عن نفس الإحساس: طبعا، طبعا يا سيدي، إنها صداقة العمر، وليست لهوا ولعبا.
عاوده التثاؤب مرة أخرى، فتمتم قائلا: خذي المصباح خارجا.
قامت أمينة لتنفيذ أمره فأغمض عينيه قليلا، ثم نهض دفعة واحدة كأنما ليقاوم الكسل، واتجه نحو الفراش فاستلقى عليه ... إنه الآن خير حالا، ما أهنأ الرقاد بعد التعب! أجل، لا يخلو رأسه من نبض قارع، ولكن رأسه لا يكاد يخلو من شيء ما، فليحمد الله على أي حال. الصفاء الكامل ماض مضى، ثمة شيء نفتقده كلما خلونا إلى أنفسنا، ولكنه لا يعود، يلوح لنا من الماضي بذكرى شاحبة كهذا الضوء الخافت الذي تشف عنه شراعة الباب. فليحمد الله على أي حال. ولينعم بحياة يغبطه عليها الغابطون. الأجدى أن يقطع برأي فيما إذا كان سيقبل الدعوة أم لا، أو فليدع ما للغد للغد، إلا ياسين ... فإنه مسألة الأمس واليوم والغد، ليس صغيرا من بلغ الثامنة والعشرين، وليس المشكل أن يبحث له عن زوجة أخرى، ولكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. متى تسطع هداية الله فتملأ الأرض حتى يبهر نورها الأعين؟ هنالك يهتف من الأعماق أن الحمد لله، ولكن ماذا قال محمد عفت؟ إن ياسين يصول ويجول في الأزبكية حتى سراديبها ... كانت الأزبكية مغنى آخر حينما كان هو يصول فيها ويجول، وهزه الحنين مرات إلى معاودة بعض مشاربها إحياء للذكريات. فليحمد الله على أنه علم بسر ياسين قبل أن يقدم، وإلا لضحك الشيطان من أعماق قلبه الهازئ، أوسعوا الطريق للأبناء فقد شبوا، عنها صدك الأستراليون أول الأمر، وأخيرا هذا البغل الأسترالي.
2
تتابعت دقات العجين من حجرة الفرن في هدأة السحر مع صياح الديكة. كانت أم حنفي مكبة على جرة العجين بجسمها اللحيم، يلوح وجهها ريان على ضوء المصباح المنبعث من فوق سطح الفرن، لم ينل الكبر من شعرها ولا شحمها، ولكن شابت ملامحها جهامة، واخشوشنت قسماتها، وإلى يمينها قعدت أمينة على كرسي المطبخ تفرش ألواح العجين بالردة استعدادا لاستقبال الأقراص، تواصل العمل - في صمت - حتى توقفت أم حنفي عن العجن، فاستخرجت يدها من الجرة، ومسحت على جبينها المبتل بالعرق ببطن مرفقها، ثم لوحت بقبضتها المغطاة بالعجين كقفاز ملاكمة أبيض، وقالت: أمامك يا ستي يوم شاق ولكنه لذيذ، كثر الله من أيام السرور.
Unknown page