بلغا مدخل قهوة أحمد عبده بعد مسيرة دقائق، فهبطا إلى مستقرها الغريب في جوف الأرض تحت حي خان الخليلي، واتجها إلى مقصورة خالية، وفيما هما يجلسان متقابلين حول المائدة تمتم فؤاد في شيء من الحياء: ظننتك ستذهب هذا المساء إلى السينما.
وشى قوله برغبته في الذهاب إلى السينما، ولعلها راودته قبل أن يذهب إلى مقابلة كمال في بيته، ولكنه لم يفصح عنها؛ لا لأنه لا يستطيع أن يثني كمال عن رأي فحسب، وإنما لأن كمال هو الذي يقوم بنفقات السينما إذا ذهبا إليها معا، فلم تواته شجاعته على التلميح إلى رغبته حتى استقر بهما المجلس بالقهوة، حيث يمكن أن يؤخذ قوله مأخذ الملاحظة البريئة العابرة. - سنذهب يوم الخميس القادم إلى الكلوب المصري؛ لمشاهدة شارلي شابلن، فلنلعب الآن عشرة دومينو.
خلعا طربوشيهما ووضعاهما على مقعد ثالث، ثم نادى كمال النادل، طلب شايا أخضر ودمينو. بدا المقهى المدفون كجوف حيوان من الحيوانات المنقرضة، طمر تحت ركام التاريخ إلا رأسه الكبير، فقد تشبث بسطح الأرض فاغرا فاه عن أنياب بارزة على هيئة مدخل ذي سلم طويل، وثمة في الداخل صحن واسع مربع الشكل مبلط بالبلاط المعصراني تتوسطه فسقية رصت على حافتها أصص القرنفل، وأحدقت بها من الجهات الأربع أرائك فرشت بالحصير المزركش والوسائد، أما جدرانه فقد انتظمتها مقاصير صغيرة الحجم متجاورة، كأن الواحد منها كهف منحوت في الحائط، لا نافذة بها ولا باب لها، واقتصر أثاثها على مائدة خشبية، وأربعة مقاعد، ومصباح صغير يشتعل ليل نهار في كوة بأعلى الجدار المواجه للمدخل. وكأن القهوة اكتسبت من موقعها الغريب بعض صفاته، فهي تهوم في هدوء غير مألوف لسائر المقاهي، وضوء غير باهر، وجو رطيب، وقد انطوت كل جماعة على نفسها في مقصورتها أو فوق أريكتها، تدخن النارجيلة، وتحسو الشاي، وتهيم في دردشة لا نهاية لها، تكاد تشملها نغمة صبا وانية متصلة إلا أن تقطعها في فترات متباعدة سعلة، أو ضحكة، أو قرقرة مدخن منهم.
كانت قهوة أحمد عبده في نظر كمال مجتلى للمتأمل وتحفة للحالم، أما فؤاد - وإن لم تغب عنه طرافتها أول عهده بها - فلم يعد يجد فيها إلا مجلسا كئيبا تغشاه الرطوبة والهواء الفاسد، ولكنه لم يكن يملك إلا أن يلبي كلما دعي إليها. - أتذكر يوم رآنا أخوك سي ياسين ونحن في مجلسنا هذا؟
قال كمال باسما: نعم، سي ياسين متسامح ولطيف ولم يشعرني أبدا بأنه أخي الأكبر، بيد أني رجوته يومذاك ألا يشير إلى مجلسنا في البيت لا خوفا من أبي؛ فإن أحدا عندنا لا يجرؤ على مكاشفته بمثل هذا الأمر، ولكن إشفاقا من إزعاج والدتي، تصور أنها ترتعب إذا علمت بترددنا على هذه القهوة أو غيرها، وتظن أن أغلبية رواد المقاهي من الحشاشين وسيئي السمعة. - وسي ياسين، ألم تعلم بأنه من رواد المقاهي؟ - إذا قلت لها هذا قالت لي: إن ياسين «كبير» ولا خوف عليه، أما أنا فصغير، الظاهر أني سأظل معدودا في الصغار في بيتنا حتى يدركني المشيب.
جاء النادل بالدومينو، وقدحين من الشاي على صينية فاقعة الاصفرار، فتركها جميعا على المائدة وذهب، تناول كمال قدحه من فوره وراح يحتسيه من قبل أن تخف حرارته، ينفخ السائل ثم يتمززه، وينفخ مرة أخرى، ويمصمص شفتيه كلما لسعته الحرارة، ولكن ذلك لا يردعه فيعاود المحاولة في عناد وجزع كأنه محكوم عليه بالفراغ منه في دقيقة أو دقيقتين، على حين جعل فؤاد يراقبه صامتا أو يمد بصره إلى لا شيء، وهو مستند إلى ظهر مقعده في رزانة أكبر من سنة، تلوح في عينيه الواسعتين الجميلتين نظرة عميقة هادئة، ولم يمد يده إلى قدحه حتى كان كمال قد فرغ من مغالبة قدحه، وعند ذاك أقبل يتحسى الشاي في تأن مستطعما مذاقه مستلذا نكهته، وهو يغمغم بعد كل حسوة «الله ... ما أطيبه!» والآخر يحثه على الفراغ منه بصبر نافد كي يأخذا في اللعب، وهو يقول منذرا: لأهزمنك اليوم، لن يحالفك الحظ أبد الدهر.
فيبتسم فؤاد مغمغما: سنرى.
وأخذا يلعبان.
كان كمال يولي المباراة اهتماما عصبيا، كأنه يخوض معركة تتوقف على نتائجها حياته أو كرامته، بينا مضى فؤاد في نظم قطعه بهدوء ومهارة، فلم تفارق الابتسامة شفتيه، أقبل الحظ أم أدبر، هش كمال أم عبس، وقد خرج كمال - كعادته - عن طوره، فهتف به: «لعب سخيف، وحظ سعيد.» فلم يزد الآخر عن أن ضحك ضحكة مهذبة لا تثير حنقا ولا توحي بتحد. طالما قال كمال لنفسه وهو يتميز غيظا: «لن يبرح حظه راكبا حظي.» ولم يكن يلقى اللعب بالتسامح الخليق باللهو والتسلية، بل الحق لم يكن ثمة فارق - في اهتمامه وحماسه - بين جده ولهوه. على أن تفوق فؤاد في المدرسة لم يكن دون تفوقه في الدومينو، كان أول فرقته بينا كان هو في الخمسة الأوائل، فهل ثمة دور للحظ في ذلك أيضا؟ كيف يعلل تفوق الشاب الذي ينطوي له في الأعماق على شعور بالاستعلاء ظن أنه ينبغي أن يمتد إلى المواهب العقلية على السواء؟ لم يعدم رأيا يهون به من تفوق صاحبه؛ فهو يقول إنه يكرس وقته كله للمذاكرة، وأنه لو كان عقله بالتفوق الذي يزعمون لأغنى عنه بعض هذا الوقت، ويقول أيضا: إنه يتجنب الألعاب الرياضية وقد برز هو في أكثر من نوع منها، ويقول أخيرا: إن فؤاد يقتصر في مطالعاته على الكتب المدرسية، وإذا تراءى له أن يقرأ كتابا غير مدرسي في العطلة لاحظ في اختياره أن يكون مفيدا لدراسته اللاحقة، أما هو فلا تحد مطالعته حدود ولا توجهها منفعة، فما وجه الغرابة في ذلك في أن يسبقه الشاب في الترتيب؟ غير أن سخطه هذا لم يعرض صداقتهما للوهن، كان يحبه ويجد في رفقته مؤانسة ومسرة إلى أنه لم يضن - على الأقل فيما بينه وبين نفسه - بالإقرار بفضائله ومزاياه.
تواصل اللعب وانتهت العشرة - على غير ما أنذر به مطلعها - بانتصار كمال. فتطلق وجهه، وضحك ضحكة عالية، ثم سأل غريمه: «عشرة أخرى؟» ولكن فؤاد قال باسما: «حسبنا اليوم ما كان.» لعله كان مل اللعب، أو لعله أشفق من أن تجيء نتيجة العشرة المقترحة مخيبة لآمال كمال فينقلب سروره غما، فهز كمال رأسه كالمتعجب، وقال: إنك كالسمك من ذوي الدم البارد.
Unknown page