وجاء محمد عفت بعود ووضعه بين المرأتين، فتناولته جليلة، وراحت تلعب بأوتاره، ولما آنست من السامعين انتباها غنت: «وعدى عليك يا اللي بحبك»، وتظاهر أحمد عبد الجواد بالانسجام كعادته كلما سمع جليلة أو زبيدة، وذهب مع النغمة برأسه وجاء، كأنما يريد أن يخلق الطرب بتمثيل حركاته. والحق أنه لم يعد يبقى له من عالم الغناء إلا ذكريات، فقد ذهب الحامولي وعثمان والمنيلاوي وعبد الحي، كما ذهب شبابه، وكما ولت أيام النصر، ولكن ينبغي أن يوطن النفس على الرضا بالموجود، وأن يبتعث عاطفة الطرب ولو بتمثيل حركاته، وقد دعاه حبه للغناء، وغرامه بالطرب إلى ارتياد مسرح منيرة المهدية غير أنه لم يهو الغناء التمثيلي، فضلا عن أنه ضاق بجلسة المسرح الذي شبهه بالمدرسة، كما استمع في بيت محمد عفت إلى أسطوانات المطربة الجديدة أم كلثوم، ولكنه أعارها أذنا حذرة مضمرة لسوء الظن، فلم يتذوقها رغم ما قيل من أن سعد زغلول أثنى على جمال صوتها. بيد أن مظهره لم يش بحقيقة موقفه من الغناء، فما زال يتطلع إلى جليلة راضيا سعيدا ويردد مع الجميع لازمة «وعدى عليك» بصوته الرخيم، حتى هتف الفار بحسرة: أين؟ أين الدف؟ أين الدف لنسمع ابن عبد الجواد؟
سل أين أحمد عبد الجواد الذي كان ينقر على الدف؟ آه، لم يغيرنا الزمان؟ وختمت جليلة غناءها في هالة من الاستحسان، ولكنها قالت في لهجة اعتذار وهي تبتسم شاكرة: إني متعبة.
ولكن زبيدة كيلت لها الثناء كما يدور بينهما كثيرا على سبيل المجاملة أو حرصا على السلام العام. ولم يكن يخفى على أحد أن نجم جليلة كعالمة آخذ في الأفول السريع الذي كان آخر آياته هجر الدفافة فينو لتختها والتحاقها بتخت آخر، وهو أفول طبيعي إذ كان الذبول قد أدرك كافة المزايا التي قام عليها مجدها القديم من الفتنة وجمال الصوت؛ ولذلك لم تعد زبيدة تجد نحوها غيرة تذكر فوسعها أن تجاملها دون مضض، خاصة وأنها كانت بلغت ذروة حياتها، تلك الذروة التي لا خطوة بعدها إلا نحو الانحدار. وكان الأصدقاء كثيرا ما يتساءلون عما إذا كانت جليلة قد أعدت العدة لهذه المرحلة الخطيرة من الحياة، وكان رأي أحمد عبد الجواد أنها لم تفعل، واتهم بعض من عشقتهم بتبديد الكثرة من ثروتها، ولكنه جاهر في الوقت ذاته بأنها امرأة تعرف كيف تحصل على المال بأي سبيل، وأيده على ذلك علي عبد الرحيم قائلا: إنها تتاجر بجمال نساء تختها، وإن بيتها يتحول رويدا رويدا إلى شيء آخر. أما زبيدة فقد انعقد إجماعهم على أنها رغم مهاتراتها في ابتزاز الأموال - جوادة مفتونة بالمظاهر التي تحرق المال حرقا - إلى ولعها بالشراب والمخدرات وخاصة الكوكاكين. قال محمد عفت مخاطبا زبيدة: اسمحي لي بأن أبدي إعجابي بنظراتك الحلوة التي تخصين بها بعضنا.
فضحكت جليلة، وقالت بصوت خافت: الصب تفضحه عيونه.
وتساءل إبراهيم الفار منكرا: أم تحسبين نفسك في زاوية العميان؟
فقال أحمد عبد الجواد متظاهرا بالأسف: بهذه الصراحة لن تكونوا قوادين كما تحبون!
أما زبيدة فقد أجابت محمد عفت: أنا لا أنظر إليه لغرض لا سمح الله، ولكني أحسده على شبابه! انظروا إلى رأسه الأسود بين رءوسكم البيض وأجيبوني هل تعطونه يوما واحدا فوق الأربعين؟ - أنا أعطيه قرنا.
فقال أحمد عبد الجواد: من بعض ما عندكم.
وعند ذاك ترنمت جليلة بمطلع الأغنية «عين الحسود فيها عود يا جليلة»، فقالت زبيدة: لا خوف عليه من الحسد، فإن عيني لا تؤذيه.
فقال محمد عفت وهو يهز رأسه هزة ذات معنى: أصل الأذى كله من عيونك.
Unknown page