فصاح الرجل ساخطا: ها هو قد بدأ ينشر الظلام.
فقالت المرأة بإشفاق: معاذ الله يا سيدي، لعلك لم تفهم!
حدجها السيد بنظرة قاسية. لقد خفف من شدته في معاملتهم، فماذا كانت النتيجة؟ ها هو كمال يذيع أن أصل الإنسان قرد، وها هي أمه تناقشه وتقول له: لم تفهم؟ صاح بها: دعيني أتكلم، لا تقاطعيني، ولا تتدخلي فيما لا تفهمين، انتبهي إلى عملك، الله يقطعك.
ثم ملتفتا إلى كمال بوجه متجهم: خبرني، هل أنت فاعل ما قلت لك؟
عليك رقيب في البيت لم يبتل الأحرار بمثله في الدول، لكنك كما تخافه تحبه، فلن يطاوعك قلبك على الإساءة إليه. تجرع الألم فقد اخترت حياة النضال. - كيف يمكن أن أرد على هذه النظرية؟ لو انحصرت مناقشتي في الاستشهاد بالقرآن لما جاءت بجديد، فالكل يعلم بما عندي ويؤمن به، أما مناقشتها علميا فشأن المختصين من العلماء. - ولماذا تكتب فيما لا شأن لك به؟
اعتراض وجيه في ذاته، غير أنه من المؤسف أنه لا يجد الشجاعة للاعتراف لأبيه بأنه آمن بالنظرية بصفتها حقيقة علمية، وأنها بهذه الصفة يمكن الاعتماد عليها في إنشاء فلسفة عامة للوجود خارج نطاق العلم. أما السيد فقد ظن صمته إقرارا بالخطأ فتضاعف أسفه وحنقه. إن الضلال في هذا الميدان شديد الخطورة سيئ العاقبة، وهو ميدان لا سلطان له عليه، وربما وجد فيه نفسه مكتوف اليدين أمام الشاب الضال كما وجد نفسه من قبل أمام ياسين بعد انفلاته من وصايته، فهل يجري عليه ما جرى على الآباء الآخرين في هذه الأيام الغريبة؟ إن أنباء كالأساطير تترامى إليه عن شباب «اليوم» منهم تلاميذ قد اعتادوا التدخين، وآخرون يعبثون بكرامات المدرسين، وغير هؤلاء وأولئك قد تمردوا على آبائهم. أجل لم تهن هيبته، ولكن عم أسفر ذلك التاريخ الطويل من الحزم والصرامة؟ ها هو ياسين يتدهور ويضمحل، وها هو كمال يناقش ويجادل، ويحاول التملص من قبضته: أصغ إلي بكل وعيك، لا أريد أن أقسو عليك، فإنك مؤدب ومطيع، أما عن موضوعنا فلا أملك لك إلا النصيحة، وينبغي أن تذكر أنه ما من أحد قد خالف نصيحتي وسلم.
ثم بعد صمت قصير: إليك ياسين شاهدا عما أقول، وقد نصحت قديما «المرحوم» بألا يلقي بنفسه إلى التهلكة، ولو امتد به العمر لكان اليوم رجلا نابها.
وهنا قالت الأم بصوت كالأنين: قتلوه الإنجليز، إنهم إما يقتلون وإما يكفرون.
وواصل السيد حديثه قائلا: إذا وجدت في دروسك ما يخالف الدين، واضطررت إلى حفظه كي تنجح في الامتحان، فلا تؤمن به، ومن باب أولى لا تنشره في الصحف وإلا حملت وزره، ليكن موقفك من علم الإنجليز كموقفنا من احتلالهم، وهو عدم الإقرار بشرعيته ولو فرض علينا بالقوة الجبرية.
تدخل الصوت الرقيق الحيي مرة أخرى قائلا: ولتكرس حياتك بعد ذلك لفضح أكاذيب هذا العلم ونشر نور الله.
Unknown page