173

هنية! أتذكر كيف نبذتها على حبها؟ لم تحب امرأة كما أحببتها، ولكن يبدو - وا أسفاه! - أننا نخسر العقول في كهولتنا، لتشرب هذه الليلة حتى يرفعوك على الأعناق، ما أحنه إلى الشراب، كأنك لم تشرب منذ عام الفيل، إن الآلام التي تجرعتها في عامك هذا خليقة بأن تمحو حسنات السعادة التي تمتعت بها العمر كله.

ضرب بعصاه الأرض، ثم توقف عن السير. ضاق بالظلام والسكون والطريق الحاشد والأشجار، وفزع قلبه إلى الإخوان، ليس هو بالذي يستطيع أن يخلو إلى نفسه طويلا، فما هو إلا عضو في جماعة وجزء من كل، وهنالك تحل المشكلات كما اعتادت أن تحل، واستدار ليرجع إلى الجسر، وعند ذاك انتفض جسمه غضبا وتقززا، فقال بصوت غريب تمزقه الشكوى والألم والحنق: «ليلة كاملة تبيتها في الخارج ... في مكان مجهول، ثم توافق على الزواج منها!» وطئه إحساس ثقيل بازدراء النفس عصر جذعه وعصر قلبه. ياسمينة! ... يا للسخرية! بل أمضت ليلتها في حضن الرجل الذي لم يزايلها حتى وافاهما عصر اليوم التالي، لبثت عنده وهي عالمة بمواعيد حضوره، فماذا يعني هذا؟ ليس إلا أن الغرام أنساها الوقت. يا جحيم الآخرة! أو أنك هنت للحد الذي لا تبالي عنده بغضبك، كيف حاورتها مسترضيا بعد ذلك أيها المسحور؟ وكيف تمضي حاملا وعد الزواج بها يا عار الدنيا والآخرة، كأنك لم تشعر بالقرن الذي ارتضيته من شدة ضغط الهم على رأسك، قرن تكلل به هامة أسرة لتخزي به جيلا بعد جيل، ما عسى أن يقول الناس عن هذا القرن فوق الجبين الأغر؟ إن الغضب والمقت والدم والدموع لا تكفي للتكفير عن استسلامك وضعفك، لشد ما تضحك منك الآن وهي مستلقية على ظهرها في العوامة، ولعلها لم تغتسل بعد من عرق رجلها الذي سيضحك منك بدوره، لا ينبغي أن يطلع الغد وفم يضحك منك، اعترف بخورك واعرضه على مائدة الإخوان لتسمع قهقهاتهم ... اعذروه كبر وخرف ... اعذروه فقد جرب كل شيء إلا متعة القرون! زبيدة: أبيت أن تكون سيدا في بيتي وارتضيت أن تكون قوادا في بيت عوادتي. جليلة: لست أخي ولا حتى أختي! إني أشهد هذا الطريق الرهيب، وهذا الظلام الكثيف، وهذه الأشجار الهرمة على هرولتي في الظلام باكيا كالطفل الغرير، لا بت ليلتي حتى أرد الإهانة إلى الطاغية، وتمنعت عليك! لم؟ لأنها ضاقت بالحرام! الحرام الذي لم تغتسل منه، قل إنها لم تعد تطيقك وكفى، ما أفظع الألم! ولكنه حق علي وعبادة، كمن ينطح الجدار حتى يهشم رأسه تكفيرا عن ذنب، الشيخ متولي عبد الصمد يظن أنه يعرف أمورا كثيرة، ألا ما أجهله! مر بجسر الزمالك مرة أخرى إلى طريق إمبابة. وجعل يحث خطاه بعزم وعناد مصمما على غسل ما لطخه من خزي، وكلما ألح عليه الألم جد في السير ضاربا بعصاه الأرض كأنما يسير على ثلاث.

وبدت له العوامة يلوح من نافذتها الضوء فاشتد هياجه، بيد أنه كان قد استعاد ثقته بنفسه، وشعوره برجولته وكرامته، واطمأن خاطره بعد أن استقر على رأي، وانحدر على السلم فمر فوق الجسر الخشبي، ثم طرق الباب بطرف عصاه. وكرر ذلك بعنف، حتى جاءه الصوت متسائلا في انزعاج: من الطارق؟

فأجاب بقوة: أنا.

انفتح الباب عن وجهها المتعجب، فأفسحت له وهي تغمغم: «خيرا!» فمرق إلى حجرة الجلوس حتى توسطها ثم استدار ووقف ينظر إليها وهي تقترب منه متسائلة حتى وقفت حياله وراحت تتفحص وجهه المتجهم بقلق، قالت: خير إن شاء الله! ما عاد بك؟

فقال بهدوء مريب: خير والحمد لله كما ستعلمين.

جعلت تتساءل بعينيها دون أن تتكلم، فاستطرد قائلا: جئت لأخبرك بألا تتعلقي بما قلت، فإن الأمر كله لم يكن إلا دعابة سخيفة.

هبط جذعها هبوط الخيبة، ونطق وجهها بالإنكار والحنق، ثم هتفت: دعابة سخيفة! كيف لا تفرق بين دعابة سخيفة وبين كلمة شرف ارتبطت بها؟

قال ووجهه يزداد اكفهرارا: يحسن بك وأنت تخاطبينني أن تلتزمي حد الأدب الواجب، فإن نساء من طبقتك يرتزقن في بيتي خادمات.

صاحت وهي تحملق في وجهه: هل رجعت لتسمعني هذا الكلام؟ لم لم تقله من قبل؟ لم وعدتني واستعطفتني وتوددت إلي؟ أتحسب أن هذا الكلام يخيفني؟ لم يعد بي متسع للدعابات السخيفة.

Unknown page