141

وفي ضحى اليوم التالي ذهبت خديجة لزيارة أمها رغم توحل الطرقات وامتلاء منخفضاتها بالمياه الراكدة، ومضت إلى حجرة الفرن، فنهضت أمها لاستقبالها في سرور وحرارة، وأقبلت نحوها أم حنفي مهللة، ولكنها ردت السلام بكلمات مقتضبة حتى تفحصتها أمها بنظرة متسائلة، فقالت دون تمهيد: جئتك لتري رأيك في عائشة، فلم يعد بي طاقة لأتحمل أكثر مما تحملت.

لاح في وجه أمينة اهتمام مقرون بالأسى، فقالت وهي تشير إليها برأسها كي تسبقها إلى الخارج: ماذا حدث كفى الله الشر؟ حدثني أبوك بما كان في السكرية، فما دخل عائشة في ذلك؟ (ثم وهما يرقيان في السلم) رباه يا خديجة، طالما رجوتك أن توسعي من صدرك، حماتك عجوز ينبغي مراعاة سنها، إن ذهابها إلى الدكان وحده في جو كجو أمس برهان على ضعف عقلها، ولكن ما الحيلة؟ كم غضب أبوك! لم يكن يصدق أنه يمكن أن تند عنك كلمة سوء، ولكن ماذا أغضبك من عائشة؟ لقد صمتت أليس كذلك؟ لم يكن في وسعها أن تخرج عن الصمت.

وجلستا في الصالة - مجلس القهوة - على كنبة جنبا إلى جنب، وخديجة تقول محذرة: نينة، أرجو ألا تنضمي إليهم، ما لي يا ربي لا أجد نصيرا في هذه الدنيا!

فابتسمت الأم ابتسامة عتاب، وقالت: لا تقولي هذا، لا تتصوري هذا يا بنية، ولكن خبريني ماذا وجدت من عائشة؟

وهي تدفع بيدها الهواء كأنما تلطم عدوا: كل شر. شهدت علي، فأوقعت بي شر هزيمة. - ماذا قالت؟ - لم تقل شيئا. - الحمد لله. - إن المصيبة جاءت من أنها لم تقل شيئا.

فتساءلت أمينة، وهي تبتسم في عطف: وماذا كان في وسعها أن تقول؟

وكأنما كبر عليها تساؤل أمها، فقالت بعبوس وحدة: كان في وسعها أن تشهد بأنني لم أعتد على المرأة، لم لا؟ لو فعلت ما جاوزت واجبات الأخوة، كان في وسعها على الأقل أن تقول إنها لم تسمع شيئا، الحق أنها آثرت المرأة علي، خذلتني وتركتني أقع تحت رحمة الماكرة الشامتة، لن أنسى هذا لعائشة ما حييت.

قالت أمينة، بإشفاق وألم: خديجة لا ترعبيني، كان يجب أن يكون كل شيء قد نسي في الصباح. - نسي! لم أنم من الليل ساعة، سهدت وبرأسي مثل النار، كل مصيبة كانت تهون لو لم تجئ من عائشة، من أختي! لقد ارتضت أن تنضم إلى حزب الشيطان، حسنا، ليكن ما تشاء، كان لي حماة فأصبح لي اثنتان. عائشة! رباه طالما سترتها. لو كنت خائنة مثلها لقصصت على أبي ما تزخر به حياتها من قلة الأدب، إنها تحب أن يعرف عنها أنها ملك كريم، وأنني شيطان رجيم، كلا، أنا خير منها ألف مرة، إن لي كرامة لا يعلو إليها التراب، ولولا أبي (وهنا اشتدت نبراتها حدة) لما استطاعت قوة في الأرض أن تحملني على أن أقبل يد عدوتي أو أن أدعوها نينة!

ربتت أمينة كتفها برقة، وهي تقول: أنت غضبى، دائما غضبى، هدئي من روعك، ستبقين معي حتى نتغدى معا، ثم نتحادث في هدوء. - إني في كامل عقلي، وأعرف معنى ما أقول، أريد أن أسأل أبي، أيتهما خير من الأخرى: التي تلزم بيتها، أم التي تزور بيوت الجيران فتغني وترقص ابنتها؟

تنهدت أمينة، وقالت بحزن: إن رأي أبيك في هذا لا يحتاج إلى سؤال، ولكن عائشة سيدة متزوجة، والرأي الأعلى في سلوكها لزوجها، وما دام يسمح لها بزيارة الجيران ويعلم بأنها تغني بين صديقاتها اللاتي يحببنها ويحببن صوتها فما شأننا نحن؟ لك الله يا خديجة! أتسمين هذا قلة أدب؟ هل يغضبك حقا أن ترقص نعيمة؟ إنها في السادسة، وما رقصها إلا لعبا، لست إلا غاضبة يا خديجة، سامحك الله.

Unknown page