كانت هناء قد اختلست التليفون إلى حجرتها، وأقفلت رتاجها فأمنت أن يعتدي أحد على خلوتها وأقامت تنتظر، ولم يطل بها الانتظار، فقد دق جرس التليفون، فرفعت السماعة، ولكنها لم تسمع من الطرف الآخر صوتا حتى قالت هي: نعم.
وتكلم الصوت همسا كمن يريد أن يخفي حقيقة نبراته! - هناء.
وقالت هناء: نعم. - كيف أنت؟ - الحمد لله. - هل أقلقتك؟ - لا أبدا ... ما أخبارك؟ - لا أخبار، لم يطلع الفجر بعد، ولكنه سيطلع حتما على هذا المجتمع الآسن، وعلى هذه العقول الرجعية الجامدة. - قل لي يا فوزي، أنا أعرف أنك ذكي، ولكن ألا يعجبك أحد آخر في هذه الدنيا؟ - أنت. - فقط؟ - فقط، الآخرون كلهم يتعبونني في إفهامهم، إنهم يخشون الحقيقة، إنهم مقيدون برجعيتهم. - كلهم؟! - كلهم إلا أنت، أنا معجب بك، معجب بعقلك! أنت غير الناس الذين أراهم في بيتك جميعا، إن أفكارك تقدمية واعية، وتقبلين الآراء الحرة في جرأة. - أفكاري أحسن من جميع الذين تراهم؟! - جميعا. - حتى جعفر. - أغرك هذا التافه بحديثه المنمق؟ أم لعله يعجبك لأنه غني وابن باشا؟ طبعا هذه مسائل أخرى لا طاقة لنا بها. - على العكس، أنا أرى أنه لا عيب به إلا غناه.
وقال فوزي: أترى هذا رأيك حقا؟ أم أنك تجاملينني؟ - بل أنت تعرف أنه رأيي. - أنت أعظم الناس، ولكن لماذا ... لماذا يا هناء؟ لماذا تكرهين الغنى؟ - أكره المال، أكرهه لأنه ... أكرهه والسلام، ما يهمك أنت؟ - متى أراك؟ - غدا. - الساعة السادسة؟ - الساعة السادسة. - في نفس المكان؟ - ولم لا؟ - والله لا أعرف، أخاف أن يرانا أحد. - أنا لا أراك تخاف أحدا. - أنا لا يهمني أحد إلا أنت، أنت وحدك التي أهتم بها، وأحيا لها، أنت! - على مهلك، إن كلامك هذا يناقض أفكارك واتجاهاتك. - وما هي أفكاري واتجاهاتي؟ - أنت تقول: إنك تحب أن تراني لأنك معجب بعقليتي، وتحب أن يلتقي عقلانا بعيدا عن أعين الناس وعن تفاهاتهم. - وهل يمنع هذا من الحب؟ - ولكن الحب ضعف وتخاذل وإبعاد عن التفكير العملي السليم، ووقف لميكانيكية الحياة، والحب عاطفة، والعاطفة تفسد الأعمال الكبرى التي يجب أن نضطلع بها في هذه الفترة. - لكن ماذا يمكن أن نفعل؟ كيف نتحكم في قلوبنا؟ - عجيبة! أتسألني يا أستاذ؟ أنا أعيد ما أسمعه منك. - حين نلتقي نبحث في هذا. - أمرك يا أستاذ. - في نفس المكان؟ - في نفس المكان.
الفصل الحادي والعشرون
كانت الأضواء المتهافتة تنبعث من المصابيح في خوف، فما يستطيع نورها أن يفسح لنفسه مكانا وسط الظلام، فالمكان مرتعش الضياء، تتبين فيه الهياكل والشخوص، ولا تتبين الملامح أو القسمات.
وكان فوزي جالسا مع بعض شباب آخرين تبدو على وجوههم سيماء الاهتمام الكبير، منهم من يصطنع هذا الاهتمام، ومنهم من لا يستطيع أن يضع على وجهه تعبيرا آخر غير هذا، لأن وجهه جاد بطبيعته، فما يملك أن يكسبه غير ما يكسوه من حزم وصرامة، ويبدو بعض منهم آخر مهتما غاية الاهتمام بما يتخذه من هيئة وأردية، فالقميص أسود، ورباط العنق أحمر، وشعر رأسه كث غزير، وعيناه تستتران وراء منظار، وهو لا ينسى بين هنيهة وأخرى أن يرفع إحدى يديه إلى شيء من هذا المهرجان الذي يتخذه، فقد يصلح شأن رباط رقبته، أو قد يمسك بطرف نظارته في وقار شديد، أو يمر براحته على شعره، وهو يأتي جميع هذا متظاهرا بأنه لا يهتم بشأن شيء مما يتفقده، ولكن هذه اللمسة الصغيرة تبين لمن يراه أنه لا يهتم إلا بشعره وقميصه ورباطه ونظارته.
وكان المكان زاخرا بالهمس، يتجمع فيصبح ضجيجا لا ترتاح إليه الأذن، وكان فوزي منهمكا في حديث مع بعض إخوانه حين أحس بهذه الضجة، فلم يلبث أن نظر في ساعته ثم قال: أيها الرفاق، اجتماعنا اليوم مهم غاية الأهمية، فالرفيق زكي قد عاد من موسكو، وسيروي علينا ما شاهده هناك، وما يجب علينا أن نفعله حتى نصل إلى الكمال المذهبي، ولكن ينقصنا واحد، هو الرفيق صالح.
وحينئذ قال أحد الرفاق في جد: طالما قلنا إن الرفيق صالح لا يصلح لنا، ونحن حين نقبله نخالف تعاليم أحد فلاسفتنا، وأظنه إنجلز الذي يعتقد أن ضم الأغنياء إلى حظيرتنا خطأ كبير، لأنهم يضطرون إلى معارضة مصالحهم الشخصية، ولأن العدالة التي نهدف إليها لا بد أن تصيبهم هم إصابة بالغة.
ورد فوزي في إصرار مدافعا عن صديقه أحمد، فلم يكن صالح هذا الغائب إلا أحمد في اسمه الحركي، قال فوزي: إن الرفيق صالح معنا منذ وقت طويل، وقد أثبت جدارته في أشياء كثيرة، ولا ننسى أنه كان يمدنا بالمال، حين كان المال يتأخر عنا، ثم أنت تنسى أن مولوتوف من الأغنياء. - هذا خطأ لا بد أنه سيصحح. - أظن أننا لم نصل إلى درجة انتقاد الحزب.
Unknown page