89

والمصورون ممن يدعون تصوير الوعي الباطن ينسون أنهم تعلموا فن الرسم والشكل، ولم يتعلموا الكهانة والتنجيم، ولو كان فنهم كله قائما على تخمين الظنون على العقل الباطن لتساوى المصورون وغير المصورين، وتساوى كذلك الشعراء وغير الشعراء، والفنانون وغير الفنانين فيما يتعاطونه من الوصف والتعبير، إذ كان التخمين عملا نستطيعه جميعا ولا يتقاضانا غير الحدس والاسترسال مع الخيالات، ولا يصح أن يستأثر فيه صاحب وعي بما يتوهمه دون أصحاب الوعي من الناظرين والفنانين، فقد يتفق عشرات الألوف في البصر والسمع، ولا يتفق اثنان في الخفايا الباطنة ولو كانا أخوين أو عشرين مدى الحياة، وما دام الوعي الباطن مختلطا مرتبكا غير مشهود ولا مفهوم، فليس في الدنيا من يعجز عن محاكاة الاختلاط، والارتباك على نحو من الأنحاء.

ومن فكاهات هذه الدعوات أن المنتحلين لها يتخطفون أطرافها على عجل، ثم ينقطعون عنها ولا يعرفون ما طرأ عليها في مباحث أصحابها الأولين وروادها المبتكرين، فقد عدل فرويد في أيامه الأخيرة عن مغالاته بدعوى الوعي الباطن أو العقل الباطن، ورأى أن العبارة في تركيبها متناقضة لا تستقيم في التفكير.

فليس بالعقل شيء لا نعقله ولا بد من تعبير أصح من هذا التعبير للدلالة على الفوارق بين طبقات السريرة الإنسانية من أعماقها المستورة إلى ظواهرها المكشوفة، ولهذا أهمل فرويد مصطلحات الوعي الباطن واللاوعي وما إليها في أخريات أيامه واستبدل بها ال «ايد

Id » أو الطوية، وال «إيجو

Ego » أو الذات، وال «سوبر إيجو

Super-Ego » أو الذات العليا، ولم يفصل بين دوافع هذه القوى الثلاث إلا في حالات المرض والاختلال أو حالات الارتباك التي تعتري الأصحاب في حالات الكرب والشدة فلا يستقر لهم قرار إلى أن تزول.

وقد تراجعت مصطلحات فرويد الأولى إلى الصفوف التالية في مباحثه الأخيرة، ولما تزل تشغل الصفوف الأولى في أعمال الفنانين الذين تلقفوها بالسماع ولم يفهموا منها أولا وآخرا غير ما فهمه ثراثرة الأسمار. •••

ومن المألوف أن تعزى كثرة الخوض في النفسانيات بين الحربين العالميتين إلى قلق الأفكار وتوتر الأعصاب في هذه الفترة، من جراء الأزمات والشكوك التي تنتاب أبناء العصر فترهقهم وتلجئهم إلى التنفيس عن صدورهم بهذه الأحاديث، كما تلجئ العلماء والمفكرين إلى البحث في أعراضها ووسائل علاجها، ويشبه أن يكون هذا هو الواقع في تعليل كثرة الخوض في العوارض النفسية، لولا ما نعهده من أخطائنا المتكررة عند المقارنة بين الحاضر والماضي في مسائل الشعور والعاطفة، فما حضر أشد عندنا مما غبر في مسائل الحر والبرد، ومسائل السرور والألم، ومسائل العافية والمرض، ولا يبعد أن تكون أزمات القرن التاسع عشر أشد وقعا على أبنائه من أزمات المحدثين بين الحربين العالميتين؛ لأنه لم يخل من قلاقله، وشكوكه، وثوراته، وحروبه، ومفاجآته، وصدمات الخيبة لأصحاب الآمال العامة والخاصة من أبنائه، فإذا كانت أحاديث العقد النفسية لم تتردد في فنون القرن التاسع عسر، كما ترددت في فنون القرن العشرين، فليس من المحتم أن يرجع ذلك إلى ندرة الأزمات النفسية فيما مضى وكثرتها فيما حضر، بل يجوز أن كثرة الحديث عنها إنما ظهرت مع ظهور العلوم النفسية تبعا لتقدم العلوم في جملتها، وأنها وجدت متسعا من ميادين النشر، وحرية التصريح بالآراء في الزمن الأخير لم تجده في أول عهدها بالظهور قبل بضعة أجيال.

وقد مضى الآن على ابتداء اللهج بالعلل النفسية أكثر من جيل كامل وضحت فيه مصادر هذا اللهج الطارئ من أعمال الفنانين وأعمال أدعياء الفنون، فلم يعسر على نقادهم أن يميزوا بين سمينهم وغثهم، وبين الجد والهزل في أعمالهم وأقوالهم، فهم بين طائفتين تتميزان جدا بعد هذا السنين التي عرضت لنا من ثمراتهم ما يكفي لمعرفتهم؛ طائفة جادة في شعورها وتعبيرها تصور لنا دخائل النفوس وعللها كما يصورها الفنان الملهم في كل آونة، وطائفة مصطنعة متكلفة تعرض لنا فنا مصطنعا متكلفا هو نفسه عرض من أعراض الأمراض النفسية، والفرق بين الطائفتين هو الفرق بين المعبر عن المرض وبين المصاب بالمرض الذي نفهم مرضه من حالته ولا نفهمه من مبتكراته وأقاويله، ولا يشق على نقاد الفن أن يدلونا على الآية التي تميز كلا من الطائفتين تمييزا يدفع اللبس والاشتباه، فكل نتاج فني يلغي القواعد وينطلق مع الفوضى فهو ظاهرة مرضية وبدعة موقوتة لا تدوم إلا ريثما تنسخها بدعة من قبيلها، وكل نتاج فني يقوم على قاعدة مفهومة فهو تعبير صحيح، وإن جاءت هذه القاعدة على نسق جديد يخالف ما اطردت عليه فنون الأقدمين، ولا بد من التفرقة بين القواعد والقيود في الأعمال الفنية على اختلافها، فإن القواعد هي قوام الفن الذي لا ينفصل عنه، ولا يمكن أن يخلو منه بحال، وما عرف الناس لعبة من لعب الكبار والصغار - فضلا عن الفنون العليا - يمكن أن تلعب بغير قاعدة مرعية عند الطرفين ويجوز للاعب أن يتحرك فيها بغير ضابط معلوم ولا خطة مقررة، فلا قوام للفن بغير القاعدة، ولكنه قد يقوم على أحسنه مع زوال القيود التي يحده بها العرف، ويتناولها التغيير والتبديل في كل جيل.

ولم يمض على ظهور البدع الفنية - بدع الفوضى والإباحة - بضع سنوات بعد الفترة بين الحربين حتى أمكن التمييز بينها وبين الفنون المعبرة بوحي الإلهام والبداهة الصادقة.

Unknown page