87

وليس لنا أن نتجاهل الحقيقة الواقعة، وننسى أن المرأة تضطر في الحضارة الحديثة اضطرارا إلى هجر البيت والتضحية بلوازم الأسرة في سبيل لوازم المعيشة، إلا أن الحذر من تجاهل هذه الحقيقة لا يوجب علينا أن نغتبط بها ونقيم قواعد المستقبل عليها، وإنما نعترف بها لنعطيها حقها من معاذيرها واعتباراتها، ونسعى إلى إصلاحها وتثبيط الدوافع التي تضطر النساء والرجال إليها.

وقديما اضطر الفقراء - وغير الفقراء - إلى تسخير القاصرين، وإهمال تعليمهم في سن الطفولة الباكرة فيما يشق عليهم ويضر بأجسامهم وعقولهم؛ إيثارا للانتفاع بأجورهم على احتمال نفقتهم، فلم نجعل هذه الضرورة قاعدة تقام عليها تربيتهم وتفريج الضائقة عن ذويهم، واعترافنا بهذه الحقيقة لنصلحها ونغني المضطرين إلى تسخير أبنائهم عن هذه السخرة الشائنة، فاستغنى عنها الكثيرون منهم وأنفوا منها بضمائرهم وقلوبهم بعد أن تعودوا مع الزمن أن يتجنبوها خوفا من العقوبة وطاعة للشريعة.

ولا يبدو الآن أن الضرورات التي تصرف المرأة عن حياة الأسرة يمكن أن تعالج بهذه السهولة في الجيل الذي نحن فيه، وأكبر الظن أنها تستعصي على العلاج في الجيل المقبل أو الذي يليه، ولكننا نأمل فلا نغلو في الأمل أن يتكفل القرن العشرون قبل انتهائه بوضع هذه القضية الجلى في موضعها الأمين، فيختتم صفحة الخلاف عليها كأنها خصومة بين الرجل والمرأة، ويتركها للأجيال المقبلة شركة يتعاون فيها الجنسان كما يتعاون الزميلان.

الفصل الحادي عشر

الفن والعلم

ولعلنا نختم هذه الظنون والنبوءات بخبر من أخبار المستقبل لا حاجة به إلى ظن ولا نبوءة، وقد يكون أوثق من أخبار الماضي الذي تتضارب فيه الرواية.

إن القرن العشرين سوف يصفي قبل نهايته حساب البدع الفنية التي نشأت فيه، وهذا هو الخبر الذي لا يحتاج إلى الظن والنبوءة، إذ تحمل البدعة في طياتها نبوءة مصيرها، وتأتي البدعة ثم تمضي كما تأتي أزياء الثياب والحلى زيا بعد زي، ثم تمضي باختيار من يبدعونها ويولعون بها، ولولا هذا التقلب السريع لما فكر أحد في ابتداعها.

وقد كانت ذخيرة القرن العشرين من بدع الفنون أوفر وأعجب من ذخيرة سلفه القرن التاسع عشر، ومن ذخائر أسلافه في العصور الحديثة التي أولع فيها الناس بالجديد، ثم ازدادت سرعتهم في تغييره والتبرم به إلى أن بلغت شأوها الأخير في هذه السنوات الأخيرة.

ويرجع الإقبال على البدع في القرن العشرين إلى جميع أسبابه التي تغري به، وتحرض عليه؛ إلى الجرأة على التقاليد المرعية ، وإلى شيوع الطرافات العلمية التي يتداولها الفنانون، وجمهرة المتحدثين بالعلوم والفنون، وإلى اتساع ميادين النشر من طباعة وإذاعة وصور متحركة ومسارح عرض وتمثيل.

والجرأة على التقاليد المرعية قديمة منذ عصر النهضة وعصر الاستنارة، وما تلاهما من عصور الثورات العلمية والسياسية، إلا أن الجرأة على التقاليد كانت تصدر فيما مضى من جانب واحد باسم المجددين الثائرين على المحافظين، أو باسم اليسار المنتقض على اليمين، فلما تقدم القرن العشرون جاءت الغارة على التقاليد شعواء ذات اليسار وذات اليمين، فأنصار الدعوة الاجتماعية من الماديين يحطمون التقاليد الماضية لأنهم يهدمون كل بناء قام في الماضي على قواعد الطبقات من غير طبقة الأجراء، وأنصار الدعوة الفردية ينكرون طغيان الجماعة على حرية الفرد فيعارضون الدعوات الاجتماعية التي تلغي الفرد من أجل الجماعة، ولكنهم - على مذهب بعض الوجوديين - يبيحون للفرد أن يستقل برأيه وهواه، ويثبت وجوده بالخروج على العرف، واقتحام الطريق الذي يروقه على غير اكتراث بالأصول والعادات في مسائل الذوق على الخصوص ومنها الفنون.

Unknown page