وهذه الموارد التي ذكرها الخبير المطلع لا تستوعب جميع الموارد المعروفة، ولا جميع الموارد التي يمكن أن تعرف من قبيلها، وهي كلها موارد موجودة مهيأة للتثمير والاستغلال بأدوات المصانع العصرية، ولكنها غير الموارد المدخرة للتثمير والاستغلال من ينابيع غير معهودة، ولا مطروقة في الصناعة العصرية، ونريد بها موارد الثروة التي يمكن أن تستخرج من إصلاح الصحارى الكبرى واستخدام أجوائها وشواطئها لخلق المناخ الملائم والتربة الغنية بثمراتها الزراعية والصناعية، فهذه إذن قارة مستوفية لعتادها على أهبة لمجاراة أغنى القارات وأرقاها في تزويد العالم بمطالبه وضروراته، لا تعوزها كيما تتم أهبتها إلا أن يملك أهلها عدتهم من الحرية والدراية، فهل يمر الزمن دون أن يقترب ذلك اليوم الذي يستوفى لها عتادها من حرية أهلها ودرايتهم، كما استوفت عتادها من موارد الصناعة والزراعة؟ وهل ترجع إلى أمسها المظلم أو تتقدم إلى مستقبلها ومستقبل العالم معها؟ قبل أن ينتهي القرن العشرون ستعلم الدنيا المتطلعة مدى الخطوات التي تتقدم بها قارة الغد إلى مصيرها، وسترى أن تذليل مصاعب التقدم أهون جدا من الصعوبة التي تواجه العقل حين يتخيلها ناكصة على عقبيها مدبرة إلى ما كانت عليه يوم كانت كهفا مغلقا أو فرقة متنحية عن مكانها من صفوف الأمم في ركب الحضارة، ونحسب - على هذا - أن وصف القارة الأفريقية «بالتنحي» عن الركب ظلم لا تقره دعوى النشوئيين إذ يتتبعون أول خطوة خطاها البشر من حظيرة الحيوان الأعجم فيرجعون بها إلى مجاهل أفريقيا في أقدم عهودها، فإذا صدق ظنهم لقد كانت هذه القارة أول من سبق الصفوف، وكانت حركتها أعظم من أن يقاس بها مسير الحضارة من مبدئها إلى منتهاها اليوم في عصر الذرة والطائرة الفلكية، ولقد تكون لها في الغد خطوة جديدة تضارع في نسبة الزمن خطواتها الأولى.
أما القارة الآسيوية، فهي كالبرزخ بين أفريقيا وسائر القارات، كانت تقرن بأفريقيا فتشملان مقاما يطلق عليه الشرق على سبيل التجوز أو من باب التسمية السياسية التي لا تتقيد بالحدود الجغرافية، لأن هذا الشرق كان يخضع لحكم
2
الأجنبي تارة، وللامتيازات الأجنبية تارة أخرى، فكان نحو خمسمائة مليون من الهنود والأندونسيين، وأبناء الجنوب الشرقي في آسيا يخضعون لحكومات أوروبية، وكان نحو خمسمائة مليون آخرين في الصين وما حولها يخضعون لامتيازات دولية تمتزج فيها سيطرة السياسة بسيطرة الاقتصاد، ولكن آسيا اليوم لها شأن أفريقيا في علاقة الشرق بالدول الكبرى، وتكاد أن تكون قد فرغت من قضية الحرية والسيادة بينها وبين حكامها من صميم أبنائها، فارتبطت هذه القضايا المعقدة بأشتات من قضايا النظم الاجتماعية، ومسائل المعيشة، وحقوق الرعايا المحكومين وسلطات الرعاة الحاكمين، وهذه هي القضايا التي تجعلها برزخا بين الأمس والغد، كما جعلتها بزرخا بين أفريقيا وسائر القارات، فهي من ناحية تنظر إلى الغد لتعالج مشكلات المعيشة والحكم على أضواء العلم الحديث والحضارة الصناعية، وهي من غير هذه الناحية تنظر إلى ماضيها الذي أخرج للعالم في جميع القارات عقائده وأديانه وقدم له شرائع بوذا وكنفشيوس، كما قدم له شرائع موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، فما من سؤال عن آسيا أهم من السؤال عما تعتقده وبماذا تدين، ويعاد هذا السؤال اليوم على مفترق الطريق ليسمع العالم جوابا جديدا نحو الإيمان أو نحو الإنكار، وإلى الحياة الروحية السماوية، أو إلى الحياة المادية الحيوانية، وأمل بني الإنسان أن تكون لآسيا - قارة الأمس - بقية من ميراث الروح تمدهم به في بحثهم عن نور الهداية، فماذا تملك آسيا من نورها الخالد في عصر النور الذي تتطلع إليه، كما يتطلع العالم في جميع قاراته؟ ماذا تملك من نورها بعد أن أصبح النور في لغة العلم والدين رمزا لمعاني الحس ومعاني التجريد والتنزيه؟
إن أربعين قرنا مضت لا تنتهي إلى غير شيء في هذه السنين الأربعين التي بقيت من القرن العشرين.
الفصل التاسع
المجتمع
من أضر الآفات بنظام الاجتماع أن تكون الطبقة الوسطى في الأمة محرومة من وسائلها لإبلاغ صوتها وإثبات حقها، وتقرير مشيئتها.
فهذه الطبقة التي تؤدي للمجتمع معظم أعماله المتوسطة بين اقتناء الثروة والقيام بالصناعات اليدوية، لا تملك المال والجاه كما يملكها العلية، ولا تملك سلاح الإضراب والعمل المشترك كما يملكه أصحاب الأجور، ولو ملكت معها بعض ما ينبغي لها من المشاركة في الرأي والنفوذ لاستحال قيام الحكم المطلق بسند من أصحاب المال والجاه أو بسند من أصحاب الأجور والصناعات اليدوية.
إن المجتمع المثالي هو المجتمع الذي تستطيع كل طبقة فيه أن تأخذ بنصيبها وتذود عن حقها بوسائلها، ومثل هذا المجتمع لم يوجد بعد على تمامه، ولكنه يوجد شيئا فشيئا كلما اتسع نطاق الصناعة الكبرى وتعددت مرافق المعاملات الاقتصادية، وحالة الطبقة الوسطى هي أصدق المقاييس التي تقاس بها درجة المجتمع من الارتقاء والانتظام والعدل والحرية، فلا سبيل إلى استبداد فئة بغيرها في مجتمع تتكافأ طبقاته وتتوازن في القدرة والوسيلة، وإنما ينجم الاستبداد حين تتغلب فئة على سائر الفئات، وتعجز الفئات المغلوبة عن مقاومتها ، ورد عاديتها بسلاح من أسلحة المصلحة والكفاية.
Unknown page