وتأتي قضايا الأوطان في الصف الأول بين قضايا الخطر على السلام العالمي والوحدة الإنسانية، ومنها قضايا الاستقلال في الأمم التي تحكمها أمم أجنبية، وقضايا النزاع بين الأوطان المتنافسة على النفوذ والمرافق المشتركة، وقضايا النزاع بين الدول القوية التي تختلف فيما بينها على سياسة المحكومين وعلى العلاقات الدولية في جملتها، وكلها من ينابيع الخطر التي لا تؤمن غائلتها على علاقات التضامن بين الأمم، ومن ثم على الأمل في اقتراب عهد الوحدة الإنسانية.
غير أن هذه القضايا أيضا من أسباب التمهيد التي لا محيد عنها لتحقيق الوحدة الإنسانية أو تحقيق التعاون بين أقوياء الأمم وضعفائها، وبين المتقدم منها والمتخلف في الحضارة وأحوال المعيشة، فقيام الأوطان المعترف بها خطوة لازمة قبل خطوة الوحدة العالمية، إذ كانت الوحدة لا تتأتى بين أوطان مغصوبة وأوطان غاصبة، وبين أمم مجردة من الحقوق وأمم تعتدي على تلك الحقوق ولا تعترف بها ولا بالاعتداء عليها، فمن الطبيعي إذا قامت للعالم أسرة واحدة أن تتألف هذه الأسرة من أعضاء تربط بينهم رعاية القرابة، والمشاركة في الحركة والكرامة، وليست قضايا الأوطان إلا المقدمة التي لا بد منها لتلك النتيجة التي تفضي إليها، وهي اليوم ينبوع من ينابيع النزاع والخطر، ولكنها في الغد ضمان من ضمانات السلام والتعاون والمشاركة في الأعباء العالمية، مثلها في ذلك مثل الحقوق الشخصية التي أصبحت في كل مجتمع من مجتمعات الحضارة ضمانا للنظام والشريعة في ذلك المجتمع، بعد أن كان النزاع بين الأشخاص حائلا دون قيام الوحدة في الجماعة على أساس القومية.
إن قضايا الأوطان هي أيضا من طلائع الوحدة العالمية التي تنطوي على البشارة حين تنطوي على النذير، وهي اليوم محل اعتراف في الرأي وإن لم تبلغ بعد مبلغ الاعتراف في الواقع، إذ كان تقرير المصير مبدأ مسلما في معاملات الدول ومحافلها المجتمعة، فلا ينكره أحد من المعارضين له في سياسته العملية، بل نرى من الحاكيمن الأجانب من يحتال عليه بتوحيد الوطن الحاكم والوطن المحكوم، واعتبار الرعايا شركاء للرعاة في الحقوق الوطنية ووظائف الدولة، وهي ظاهرة من ظواهر العصر لا تبخس قيمتها العملية فضلا عن قيمتها النظرية؛ لأن المضي في الدعوى المنكرة بإجماع الأمم أمر لا تطول المغالطة فيه.
وأخطر من قضايا الأوطان على الوحدة العالمية قضايا العناصر والسلالات؛ لأن الخلاف عليها لم ينحسم بعد في الرأي ولا في الواقع، ولا تزال ذريعة للدعوى باسم من الأسماء تتفاوت في الصراحة والاستقامة، وفي الرياء والالتواء.
على أننا إذا نظرنا إلى تاريخ دعوى العناصر والأجناس من ناحيتها النظرية لم نخطئ أن نلمس فيها جنوحا مطردا إلى التقارب، وابتعادا مطردا عن التشبث بالفواصل المزعومة بين عناصر البشر في الزمن القديم.
كان علم الأجناس البشرية يتجه في القرن التاسع عشر إلى توسيع المسافة بين أجناس البشر وإثبات الفوارق البعيدة بين كل جنس منها وسائر الأجناس الأخرى، وكان يخلط كثيرا بين فكرة الأمة وفكرة العنصر، وهما شيئان مختلفان لأن الأمة على الأرجح رابطة اجتماعية تاريخية، في حين أن العنصر رابطة من روابط الدم والسلالة العصبية، وقد تتفرق مواقعها فلا تجمعها بقعة واحدة، وكان للعوامل الدولية والسياسية حكمها في كل من الاتجاهين، فكان الاستعمار وحب التسلط هما الباعث الأكبر على توسيع الفوارق بين الأجناس، وعلى تفضيل جنس منها على سائرها، تسويغا للسيطرة والاستغلال وإقامة الحكم الأجنبي في البلاد المستعمرة، أو تسويغا للسيادة والانتفاع بالمرافق والجهود المسخرة.
كانت الدولة الجرمانية تبحث عن مستعمرات لها في الشرق الأقصى بعد أن تم تقسيم المستعمرات في أفريقيا وآسيا، فنادى الساسة فيها بالخطر الأصفر، وأرادوا به الخطر المتوقع من جانب اليابان والصين إذا انطلق «التنين الأصفر» - كما سموه - في طريق الحرية والتقدم، وترددت صيحة الخطر الأصفر في كل دولة تبعا لموقفها من البلاد الشرقية، سواء وقفت منها موقف الطامع في ضم البلاد أو موقف الطامع في الامتيازات التجارية والاقتصادية.
وشاعت بعد صيحة الخطر الأصفر دعوة التفرقة بين الآريين والساميين، واشتدت هذه الدعوة حين أصبحت كلمة الساميين في أوروبا مرادفة لكلمة اليهود، وأصبح اليهود هم المقصودين بعداوة السلالة السامية، واقترنت الدعوة الآرية بتقسيم الأوروبيين إلى شماليين وجنوبيين لادعاء أصحاب هذه الدعوة أن أبناء الشمال في القارة الأوروبية آريون خالصون، لم يختلطوا بالأجناس الأخرى التي يزعمون أنها دون أبناء الشمال في الذكاء والأخلاق، وتجدد الخلاف في أثناء ذلك على حقوق الزنوج - أو حقوق السود - بين أبناء البلاد التي يختلطون فيها بالأجناس البيضاء، فاعتمدوا - عدا هذه الحقوق - على الفوارق العنصرية، وبالغوا في توسيع هذه الفوارق وراء فوارق اللون والشكل، كأنها من الفوارق العميقة في التكوين لا تمحوها المساواة في الحقوق السياسية، ولا يجدي فيها توحيد التربية والتعليم.
كانت هذه العوامل الدولية أهم العوامل التي دعت إلى توسيع الفوارق بين الأجناس البشرية في القرن التاسع عشر، ولم تزل شائعة قوية إلى منتصف القرن العشرين.
أما بعد الحرب العالمية الثانية فقد تغير اتجاه الدعوة لأسباب كثيرة، منها: يقظة الشعوب الشرقية، ورغبة الدول الكبرى في كسب مودتها. ومنها تنافس الدول الكبرى، وسعي كل منها في إبطال حجج الدول المنافسة لها، ومنها اجتهاد اليهود في تبرئة أنفسهم من النقائص والعيوب التي تخصهم بين الشعوب السامية، ومنها تقدم العلم واتساع نطاق البحث بين الأجناس المجهولة، وكثرة الأدلة على بطلان بعض الفوارق، واقتراب وجوه الشبه بين الناس من مختلف الألوان والأوطان.
Unknown page