59

إن ثلثمائة سنة في عصر السرعة تصنع المعجزات في عالم المجهول علما وصناعة وإيمانا واعتقادا وعلاقات بين الأمم في الدنيا الواسعة، وبين آحاد الناس في الأمة الواحدة، وقد يضل البصر عما سيكون بعد تلك السنين، ولكننا نتقدم على أمان إذا قصرنا النظر على ما بقي في القرن العشرين من سنيه الأربعين؛ لأننا نبصر مواقع الخطى في هذا الأمد القريب، ونلمس طبيعة العقيدة التي تتهيأ لمن يبحث عنها وهو لا يهاب النظرة المجردة إلى الغيب، ولا يخضع لسلطة ترهبه بالزواجر والقيود، وكلما أمعنت به الوحدة العالمية في مناهجها الفكرية والخلقية خلص من قيد ثقيل من قيود العصبية التي تفكك روابط الإنسانية، وتجعل الدين سدا من سدود الفرقة والبغضاء، بدلا من الإيمان بوجود واحد فوق الأرض وتحت السماء. •••

نحن نتقدم على أمان في استطلاعنا للغيب القريب إذا تذكرنا كيف انتهى الزمن بقضية الإيمان والإنكار من القرن السابع عشر إلى القرن العشرين: إنه نقلها من خصومة على المراسم والشعائر ودعاوى المتدينين المحترفين، إلى بحث صادق عن حقيقة الحياة وحقيقة الغيب والشهادة بغير خصومة ولا لجاجة بين قوم أصلاء في الدعوى وقوم أصلاء في الإنكار، وليس للباحث الذي يتقدم على هدى هذه الحقيقة من قبلة غير جوهر العقيدة الخالصة مبرأة من حواشي المراسم والشعائر والتقاليد، عالمية غير ذات عصبية، وبصيرة غير منقادة لبقية موروثة ولا سلطة ظاهرة أو خفية.

قبلة الإيمان في المستقبل تتلاقى مع وجهة النوع الإنساني الذي يتقدم إلى الوحدة العالمية ووجهة الإنسان الفرد الذي يتقدم إلى الحرية والكرامة، ولا حرج على متدين أن يبقى على دينه الموروث ويستصفي منه جوهره المبرأ من غواشي الخرافة ونفايات التقليد، فإن الأديان تتوحد بالجوهر وتتفرق بتلك الغواشي والنفايات، ولا مبالاة بالقشور التي تعلق بلباب الدين حيث يقوى ضمير الفرد الحر على التخلص منها، وحيث تتمكن عوامل الوحدة الإنسانية من التغلب عليها فتبقيها متسامحة أو تنفيها متجافية، ولا تسمح لها على الحالين أن تعوقها عن قبلتها. •••

وحسب القرن العشرين حصة من الحرية الفكرية أنه أطلق الفكر من عقاله الذي حاكه لنفسه بيديه، فإنه وصل بالعلم إلى ما وراء المادة المحسوسة فلم يجد هنالك خرافة من خرافات العجائز ولا أسطورة من أساطير الأولين، بل وجد الأصل الأصيل لكل موجود مشهود أو غير مشهود، فاستباح لنفسه أن يبحث ويتطلع ويطرق الأبواب التي تطرق للإفضاء إلى ما وراء المادة والفضاء، ومنها أبواب الفلسفة وأبواب العقيدة، وكانت حريته هذه من قيود نفسه أنفع له من كل حرية استفادها من ثورته على رجال الدولة أو رجال الدين، إذ كانت حريته المستفادة من ثورته على غيره لا تحميه أن يتعثر في سعيه إلى الحقيقة وهو يضع العراقيل بيديه أمام خطواته، ويحسب أنه يصون كرامته بالأحجام عما وراء المادة ووراء التجربة المادية، فيما استأثر به قبل ذلك دعاة العقيدة وأصحاب الفلسفة المثالية.

ونحسب أن الثمرة الأولى من ثمرات هذه الحرية «الذاتية» قد ظهرت، ولم تزل تمعن في الظهور في أواخر القرن الماضي إلى منتصف القرن الحاضر، وبدا من طوالعها أن تتمشى العقول في طريق واحد على تعدد الميادين التي تسلكها، فليس بينها اليوم ذلك التقاطع المقرر منذ البداءة بين قبلة العالم وقبلة المتصوف وقبلة الفيلسوف، كل منهم يولي شطرا غير شطر صاحبه، إلى غير لقاء.

وقد ندرك هذا الاتفاق في الغاية من أيسر نظرة إلى مذاهب الفلسفة التي نشأت بين أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، فإن المذاهب الجديدة - من واقعية أو مثالية - تمضي على نهج واحد أو على خط واحد في الاعتراف بالمادة والفكرة، وكل ما تختلف فيه أن تذكر موضع الابتداء وموضع الانتهاء، ومثلهم في ذلك مثل من يسمي خط السفر فيقول: إنه خط يمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، أو يقول: إنه يمتد من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي، وكلاهما يتكلم عن خط واحد لا عن خطين اثنين.

فالبرجمية مذهب ينادي إمامه الأكبر - وليام جيمس - بإرادة الاعتقاد أو بواجب الاعتقاد، وهو - على هذا - أجهر الفلاسفة صوتا بتقرير الواقع دون أن يناقض نفسه في الحالتين، غذ هو ينادي بتقرير الواقع ولا يعتبره نقيضا للفكرة ولا للآراء المثالية، وإنما هو ترجمان الحقيقة الذي يفسرها ويشرحها ويتولى إثباتها وضبط معاييرها، وفرق بعيد بين من يقول بالواقع المحسوس وينفي ما عداه، ومن يقول: إن الواقع لا غنى عنه للدلالة على ما عداه.

وننظر إلى المذهب المثالي والمذهب الواقعي كما يتمثلان في آراء الفيلسوف برادلي

Bradley

والفيلسوف صمويل ألكسندر

Unknown page