مقدمة
الباب الأول: عرض وبيان
1 - الطعام والطاقة
2 - التعليم
3 - الفضاء
4 - حكم العالم
5 - إلى مليون سنة
6 - تعقيب وتمهيد
الباب الثاني: تعقيب ومراجعة
1 - التاريخ
2 - غاية النوع
3 - الآلة
4 - خواص المادة والنظرة «المادية»
5 - الإيمان
6 - العوالم الأخرى
7 - عالمنا
8 - أفريقيا وآسيا
9 - المجتمع
10 - الأسرة والمرأة
11 - الفن والعلم
12 - خاتمة في سطور
مقدمة
الباب الأول: عرض وبيان
1 - الطعام والطاقة
2 - التعليم
3 - الفضاء
4 - حكم العالم
5 - إلى مليون سنة
6 - تعقيب وتمهيد
الباب الثاني: تعقيب ومراجعة
1 - التاريخ
2 - غاية النوع
3 - الآلة
4 - خواص المادة والنظرة «المادية»
5 - الإيمان
6 - العوالم الأخرى
7 - عالمنا
8 - أفريقيا وآسيا
9 - المجتمع
10 - الأسرة والمرأة
11 - الفن والعلم
12 - خاتمة في سطور
القرن العشرون
القرن العشرون
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
اقتربت مطالع القرن العشرين، وأبناء القرن التاسع عشر يحسبون أنهم مقتربون من عصر خامل إلى عصر يشبهه في خموله، وكانوا قد عبروا الأعوام العشرة الأخيرة من القرن وهم يمرون بها مرور الملل وقلة الاكتراث؛ ركود لا يستغربونه؛ لأنهم أطلقوا عليه كلمة: «آخر القرن
Fin de Siècle »، كما نقول نحن في اللغة العربية: «آخر زمن»، ونفسر به كل فعل منتظر على غراره ومن معدنه؛ معدن الإسفاف والابتذال، فلا اكتراث له ولا غرابة فيه؛ لأن الشيء من معدنه لا يستغرب، كما يقال ويعاد.
وليس أدل على جهل الناس بغدهم القريب من هذه الغفلة في نهاية القرن التاسع عشر عن ضخامة القرن العشرين بين قرون التاريخ القديم والحديث منذ عرف التاريخ، فلم يكد هذا القرن ينتصف، حتى التفت العالم من جميع أركانه وأقطاره إلى هذا القرن الذي خيل إليه أنه بقية العكارة من أعقاب التاريخ الأخير، فإذا هو عصر العصور في حوادثه، وفي مكتشفاته ومخترعاته، وفيما يتوقع بعده من جلائل الآمال. نعم، وجلائل الأهوال.
حربان عالميتان من عشرته الثانية إلى عشرته الرابعة، واقتحام للفضاء، وفتح للقمقم عن مارد الطبيعة الأكبر، وهو القمقم الذي يحتويه أصغر ما فيها من ذرات لا تدركها الأبصار.
هل تعجل الإنسانية إلى النصر على الطبيعة، أو تعجل إلى الدمار على يدي الإنسان بما كشفه من أسرارها؟ وهل اقترب الإنسان حقا من الحرب التي تختم الحروب، فلا حرب بعدها ولا محاربون، أم هو يقترب شيئا فشيئا من يوم النصر على الطبيعة، وعلى ما في طبيعته هو من بوائق الشر والدمار؟
وذهبت السكرة وجاءت الفكرة؛ ذهبت نشوة الفتح والانتصار على المارد المكنون في ذرات المادة، وانجلت المفاجأة عن حساب طويل لهذا الفتح المبين، بل حساب عسير.
ماذا في وسع العلم أن يهب لنا من علانيته وسره؟ ماذا عنده من الوعد، وماذا عنده من الوفاء؟ وماذا فيه من الخير المأمول؟ بل ماذا في الخير المأمول من محذور يتستر وراءه النفع المنظور؟
إن غلبة الإنسان على الطبيعة سوف تؤتيه الغلبة على السقم والوباء، وسوف يزداد الناس ببركة العلم، فماذا عند العلم لهؤلاء الناس من الأزواد، ومن الشواغل والأعمال؟ أعنده الكفاية لهم من القوت والمأوى، أم هو مرسلهم إلى عالم يتغالبون عليه، ثم يلتمسون الغلب بذلك السلاح الجديد؛ ذلك السلاح المبيد؟
وعاد الباحثون إلى نذير «مالثوس» يدرسونه وينقدونه، وينقصون منه أو يزيدون عليه، فوضح لهم أن نذير الأمس قد أصاب في كل شيء، إلا فيما اعتمد عليه من معلومات وأسانيد، ولم يخطئ حين أنذر بالخطر من زيادة الأحياء على الكفاية في الأرض من الطعام، ولعله قد ذكر بعض المخاوف، ونسي بعضها الذي توارى عنه، فلم يبلغ في زمنه مبلغ الخطر الملموس، وهو زيادة الآلات والأدوات على ما يلزمها من غذائها المدخر في الأرض، وهو مناجم الوقود.
ولجأ الباحثون إلى نبوءاتهم يستخبرونها عن الغد المخبوء قبل نهاية القرن العشرين، ولكنها نبوءات تتسم بطابع القرن، وصبغة العلم والصناعة، كأنها نبوءة المتحدث عن سيار في السماء أو في الأرض، يعرف مداره، ويعرف كم يدور.
نبوءات أقرب إلى التقديرات والإحصاءات، ليست من نبوءات الطوبى، ولا من نبوءات الأحلام، ولا من نبوءات العصور الذهبية، ولكنها أشبه بأرصاد الفلك، لو لم يكن فيها شيء من الغيب المجهول قد يخطئ فيه الحساب.
ماذا عند هذا العصر - عصر الصناعة - من وعود؟ وماذا من هذه الوعود حقيق أن يتبعه الوفاء؟ وماذا يحول دون وفائه بوعوده مما يقع في الحساب، ومما يقع وراء كل حساب؟
هذه هي الأسئلة التي تدور على جوابها فصول هذا الكتاب، ونرجو أن نوفق للإجابة عنها غاية ما تلهمنا ظواهر الأمور، وغاية ما نهتدي إليه بهداية تلك الظواهر، وهداية الأمل المصدوق.
وسنحاول أن نجيب عنه جوابين متلاحقين لا متقابلين ولا متناقضين، يضيف أحدهما إلى الآخر، ولا يزحزحه عن مكانه ليلغيه، أو يطغى عليه.
فمن حيث انتهى بالقرن العشرين تطوره الصناعي يبتدئ النظر إلى ما يليه من الممكنات، وما يعترض تلك الممكنات من العوائق والعراقيل، وهذا هو الشطر الأول من الكتاب الذي نعول فيه على خبراء الصناعة؛ حيث بلغت الصناعة غايتها، واستعدت للمضي في تقدمها إلى ما بعد تلك الغاية، في حدود القرن العشرين وفيما يليه، وسننقل في هذا القسم خلاصة كافية للمشكلة التي أحدثتها الصناعة، والمشكلة التي تعالجها الصناعة، ومدارها على تقدير سعة الأرض من المؤونة ومن السكان، وعلى ما يشتبك بذلك من قضايا السلام، وقضايا السلاح، وبخاصة في القرن العشرين.
وننتقل بعد العرض الموجز لتقديرات الخبراء إلى الشطر الثاني من الكتاب: شطر التعقيب والمراجعة فنأخذ فيه بحق العلم الذي تحراه أولئك الخبراء الثقات، ونضيف إليه واجب العلم الذي لا يسقط عنه، ولا يخليه منه الحفاظ على حقه.
فمن واجب العلم أن يفرض وأن يستكشف، وأن يجمع بين أشتات اليقين كلما وسعه أن يجمعها إلى فكرة مقبولة تهدي إلى مزيد من اليقين، ومن واجبه أن يفتح أبواب الاحتمال فلا يغلق منها بابا يفضي إلى المجهول، ويربط بين الماضي والمستقبل بسبب موصول، وعلى أضواء هذا الواجب العلمي ننظر إلى مشكلات الإنسانية، وإلى أكبرها في القرن العشرين مشكلة الصناعة، لنقابل بين ماضيها وحاضرها، ونحاول أن نضعها في مكانها من تاريخ الإنسان، هل هي فلتات مبعثرة في غياهب من الفوضى، وأخلاط من الطوارئ والمصادفات، أو هي سلسلة متلاحقة تتبعها - أو تتبع المعلوم من حلقاتها - فنفهمها على اتصال بين ماضيها وحاضرها، ثم نفهمها على اتصال بين حاضرها وما يليه من لواحق الغد المنظور؟
والذي نفرضه - على أساس الفرض العلمي - أن المقابلة بين مشكلات الإنسانية ، وبين أدوار الصناعة في تاريخها تسفر عن معنى يفهم، ولا تتيه بالذهن في فراغ مبهم خلو من كل معنى مجرد من كل نسق، فمشكلات الإنسانية جزء من معالم الطريق لم ينفصل عن فتوحها، وأطوار انتصارها وارتقائها، والصناعة - منذ وجدت الآلة البدائية - هي السمة الأولى التي غيرت بين ملامح الحيوان الأعجم وملامح الحيوان الناطق منذ أقدم الأزمان، وعلى هذه الصورة لا ينقطع المستقبل، ولا تزال الصورة آخذة في التمام على استقامة واطراد، وإن تخللتها الفجوات والظلال.
ودعوانا التي نؤكدها ولا نتردد في توكيدها أن نظرة التفاؤل والرجاء إلى الغد قائمة على أسبابها التي توازن أسباب التشاؤم والقنوط، وإن القول بعبث التاريخ أصعب دليلا من القول بمعنى التاريخ، وإننا نختار معناه على بصيرة بينة، دون معانيه التي يؤثرها المتشائمون القانطون، وبحسبنا منه أن يكون معنى واضح المدلول، أسبابه التي تعززه أوضح من الأسباب التي تنفيه.
الباب الأول
عرض وبيان
المحتويات
يشتمل هذا الشطر من الكتاب - وهو الباب الأول منه - على الفصول الآتية: (1)
فصل عن الطعام والطاقة في العالم، ملخص من كتاب «مائة السنة التالية، موارد الإنسان الطبيعية والصناعية»، تأليف هاريسون براون، وجيمس بونر، وجون وير من أعضاء مؤسسة كليفورنيا للمباحث الفنية:
The Next Hundred Years by Harrison Brown، James Bonner. John weir ...
California Institute of Technology. (2)
فصل عن التعليم، ملخص من الكتاب المتقدم، وبعض المراجع. (3)
فصل عن الفضاء منظور فيه إلى مراجعه المذكورة فيه. (4)
فصل عن حكم العالم منظور فيه إلى كتاب برتراند رسل «آمال جديدة»، وكتاب هانزكون عن القرن العشرين. (5)
فصل عن العالم إلى مليون سنة، ملخص من كتاب مليون السنة التالية، تأليف شارلز جالتون داروين. (6)
بين تعقيب وتمهيد.
الفصل الأول
الطعام والطاقة
طعام الإنسان يؤخذ مباشرة أو بالواسطة من النبات، وهو ذو خاصة تمكنه من تحويل ثاني أكسيد الكربون من الجو إلى المركبات الكيمية الضرورية لتغذية الإنسان، ونحن نأكل بعض النبات كالحبوب والخضر مباشرة، ونأكل بعضه بعد تحوله إلى اللحم واللبن والبيض في الحيوانات المدجنة، ويمكن أن يقال بعبارة أخرى: «كل لحم نبات.»
ولا بد للفرد الإنساني - ليعيش عيشة صحيحة عاملة - من ثلاثة آلاف سعر حرارة في اليوم، وعليه إذن أن يستنفد كل يوم ما يساوي نحو رطل وثمانية أعشار الرطل من النبات يحتوي سبعة أعشار الرطل من الكربون، وهو داخل على أشكال كثيرة في التركيبات التي يتكون منها النبات. فلا بد للفرد الإنساني إذن من مائتين وستين رطلا من الكربون كل سنة، ويتحول على ظهر الأرض في كل سنة نحو مائة وخمسين بليون طن كربون من ثاني أكسيد الكربون إلى مادة نباتية، وهو مقدار إذا استنفده الناس وخلصت فائدته كله للتغذية كان كافيا لتموين عدد من السكان يساوي خمسمائة ضعف الموجودين على الأرض في الوقت الحاضر، ولكن مصدره من ضوء الشمس يذهب كثير منه - لسوء الحظ - إلى ماء البحر، ولا ينتفع به الإنسان في طعامه، ولو بقي ما يقع على اليابسة من مصدره الشمسي وقفا على الغذاء لكان كافيا لعدد من الناس يساوي خمسين مثلا من سكان الأرض الموجودين، إذ كان من عادات الإنسان في التغذية أن يقصر طعامه على النبات المزروع، والحيوان الذي يتغذى وبه، ولا يستنفد هذا ولا ذاك أكثر من ربع مصادر الغذاء الضوئية التي تنصب على سطح الكرة الأرضية، على أن هذا القسط - لو خلص أيضا للتغذية - لكان كافيا لعشرة أمثال سكانها.
فمحصول الأرض الزراعية لا يكفينا الآن لما يصاب به من ألوان النقص في نظام تدبيرنا للأطعمة، إذ يستخدم نصف المحصول على وجه التقريب في إطعام الحيوانات الداجنة، وإنما يأكل الحيوان جزءا من النبات، ويعطينا منه أغذية حيوانية كاللحم واللبن والبيض ونحوها مما يتألف منه عشر أسعار الحرارة، أي إننا نعطي الحيوان مائة سعر يستنفد تسعين منها، ويعطينا عشرة.
ويعرض للمحصول نقص آخر من أن الإنسان لا يأكل جميع النبات، بل يأخذ حبة القمح مثلا ويدع القشور والجذور، ويقدر ما يأكله بنحو عشرين في المائة من جملته، وليس الغذاء بعد هذا خالصا للإنسان والحيوان الداجن؛ لأن الأحياء الأخرى من الحشرات وجراثيم الأوبئة تلتهم نحو الثلث من محصول النبات الذي كان للإنسان أن يستأثر به لولا ذاك، ولهذه العوارض لا يبقى من محصول الأرض إلا ما يكاد يكفي سكانها الموجودين.
والعالم في الواقع يربى محصوله من المادة الغذائية الصالحة على الحاجة الضرورية، إذ هو ينتج مائة وخمسين طنا لكل فرد إنساني لا تزيد حاجته منها على ثلاثة أعشار الطن الواحد، فلولا تلك العوارض لكان لدينا وفر من الطعام.
ويجري توزيع الطعام على حسب المواقع الأرضية، فيبلغ على الأرض الآن بليونين وأربعة أعشار البليون من الأفدنة المزروعة، أي فدان على وجه التقريب لكل إنسان، ولكن سكان الأرض موزعون توزيعا سيئا على هذه المساحة، فيخص الساكن في الولايات المتحدة فدانان مزروعان، ويخص الساكن في كندا حيث تتسع الأرض، ويقل السكان ثلاثة أفدنة وستة أعشار الفدان لكل ساكن، على حين أن الساكن في اليابان لا تزيد حصته على خمسي فدان من الأرض المزروعة، ولا تزيد حصة الساكن في القارة الآسيوية على خمسي فدان، أما في أوروبا الغربية فحصة الإنسان الفرد أقل من فدان.
وتستخرج المحاصيل من الأرض الزراعية في العالم على أساليب متفاوتة في الإنتاج، فنحن في الولايات المتحدة نحصل يوميا على نحو أربعة آلاف سعر من مادة الغذاء من الفدان الواحد، وهو مقدار يزيد على إنتاج آسيا الذي يبلغ أربعة آلاف سعر مع الفرق بين تربة الشرق والجنوب الشرقي حيث تزيد الأولى على الثانية، وتحصل أوروبا الغربية بوسائلها المركزة على مقدار يتفاوت بين سبعة آلاف وثمانية آلاف، وأشد ما يكون تركيز الوسائل الزراعية في اليابان حيث يؤتي الفدان ثلاثة عشر ألف سعر، أي نحو ثلاثة أمثال ونصف المثل من متوسط إنتاج الفدان في العالم، وهو ثلاثة آلاف وثمانمائة.
والأمريكي يطعم حيواناته معظم محصول أرضه من القمح والشوفان، ولا يستنفد طعام الإنسان منهما على حالتهما الطبيعية غير النزر القليل، إذ يأخذ الأمريكي نحو الثلث من أسعار غذائه من اللحم واللبن والبيض، وعلى خلاف ذلك الآسيوي الذي يأكل معظم نباتاته، ولا يزيد غذاؤه من المواد الحيوانية على خمسة في المائة، ويأتي الأوروبي وسطا بينهما، فيعطي الحيوانات ما يزيد على النصف بقليل، ويأخذ عشرين في المائة من أسعار الغذاء من المواد الحيوانية، وترتبط عادات التغذية بنسبة مساحة الأرض المزروعة، فلا يقدر السكان على ترف استخلاص الغذاء من الحيوان إلا حيث تزيد حصة الفرد الواحد من الأفدنة.
ولا يبدو أن الاختلاف في مقادير المحصول راجع إلى أسباب تتعلق بالخصب والإقليم، وإنما يرجع على الأرجح إلى درجة المعرفة الفنية ووفرة السكان، فنحن في الولايات المتحدة نعلم كل ما يعلمه اليابانيون من أساليب الزراعة، ولا نعنى مثل عنايتهم بتركيزها؛ لأن هذا التركيز لا تدعو إليه الضرورة بعد، مع زيادة حصة الفرد من الأفدنة، أما في آسيا - عدا اليابان - فالناس يجوعون، والحاجة تدعو إلى مضاعفة الإنتاج، ولكنهم لا يستخدمون وسائل التركيز لنقص المعرفة الفنية، وصعوبة الحصول على أدواتها التي يحصل عليها في أوروبا الغربية.
ويستعمل الأوروبي مقدارا من المخصبات يساوي أكثر من ضعف ما يستعمله الأمريكي، وما يستعمله الياباني يساوي ضعف ما يستعمله الأوروبي منها، وقلما تستعمل المخصبات في الهند لندرتها، وقلة ما يعلمه الفلاح الهندي عنها، ويقال مثل ذلك عن الخبرة بتحسين النبات على حساب وسائل إنمائه وتربيته ووقايته من الآفات والأوبئة؛ مما يجهله أبناء الأمم المتخلفة، وقد ساعد ارتقاء الآلات كما ساعد ارتقاء وسائل التربية والوقاية على توفير محاصيل النبات، ولكننا حريصون ألا نبالغ في جدوى الآلات فيما يتعلق بغلة الفدان، فإن أكبر ما تجديه الآلات أن تزيد المحصول بنسبة اليد العاملة، وتنقص ساعات العمل، فيخلو الوقت للاشتغال بأعمال الصناعة، وتلاحظ في الواقع علاقة وثيقة حيث تتقدم الصناعة بين نسبة التركيز وعدد الأيدي المتفرغة للزراعة. ففي اليابان التي تبلغ نسبة التركيز فيها أقصاها يستخدم نصف قوتها العاملة في إنتاج هذه النسبة، ويستخدم في أوروبا الغربية عدد يتراوح بين الربع والثلث، ولا يزيد عمال الزراعة في الولايات المتحدة على تسعة من كل مائة عامل، فلا غنى لتركيز وسائل الزرع من تركيز القوى العاملة.
ويفهم من المقارنة أن المقصود هو أن يكون من المتيسر رفع نسبة الإنتاج في الأرض الصالحة للزراعة، وأن يتيسر ذلك بنشر المعرفة الفنية، ونشر أدواتها بين أبناء البلاد المتخلفة، وينبغي أن تتيسر المضاعفة - وأكثر من المضاعفة - برفع نسبة الإنتاج هناك إلى مثل نسبتها في بلاد أوروبا الغربية.
ولنسأل: ما مبلغ السرعة التي تترقبها نتيجة لنشر المعرفة الفنية، وأدواتها الفعالة؟ فعلينا لمواجهة هذا البحث أن نراجع مدى التقدم حيث تستخدم هذه الأدوات الآن، فاليابان بدأت فيها الثورة في أساليب الزراعة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وظل عدد سكانها من قبل سنة 1870 ثابتا، كما ثبتت مثله مقادير إنتاج الأرز ومقادير إنتاج المواد الغذائية، ويمكن الرجوع إلى الإحصاءات منذ سنة 1878 إلى الآن، فمن عشرة السبعين ارتفع محصول الأرز ارتفاعا بطيئا مطردا حتى زاد على الضعف خلال فترة من خمسين إلى ستين سنة، وجاء ذلك نتيجة لزيادة غلة المحصول من كل فدان، تبعا لزيادة المخصبات، وزيادة العناية بتوليد النباتات، وقد قوبلت زيادة الغلات اليابانية خلال ربع القرن الأخير - من القرن التاسع عشر وربع القرن الأول من القرن العشرين - بما يوازنها في غلات أوروبا الغربية، فكانت نسبة الزيادة هنا وهناك بمقدار اثنين في المائة كل سنة تؤدي إلى ضعف المحصول بعد خمسين أو ستين سنة، مما يفهم منه أن زيادة الزراعة بطيئة بالقياس إلى زيادة الصناعة، إذ قد علمنا أن محصول الحديد والصلب في اليابان كان يتضاعف كل خمس سنوات خلال هذه الفترة، ولنلاحظ أن الإنتاج الزراعي يترقى من مستوى هابط إلى حده الأعلى، فلم تتغير النسبة إلا قليلا في اليابان منذ سنة 1935 على الرغم من جهود التركيز الفنية.
ففي الماضي إذن كانت زيادة الإنتاج الزراعي بنسبة اثنين في المائة كل سنة، سواء في آسيا أو أوروبا الغربية، فهل ينتظر الوصول إلى نسبة أكبر من هذه النسبة في المستقبل بعد تقدم المعرفة الفنية، وتقدم وسائل النشر والتلقين؟ وجواب هذا السؤال أننا نعلم فعلا كيف نزيد مقدار الغذاء، وكيف نزيد سرعة إنتاجه، ولكن زيادة غير كبيرة، ففي الولايات المتحدة - مثلا - زاد الإنتاج الزراعي خلال العشرين سنة الأخيرة بنسبة اثنين في المائة كل سنة، بعد ما توافر لدينا من المعرفة بعلوم الحياة وعلوم الزراعة، ووسائل الإرشاد والمشورة، وتكاد نسبة الزيادة في الطعام - على هذا - تضارع نسبة الزيادة في عدد السكان، ومن المعلوم أن سكان الولايات المتحدة يحصلون على الكفاية من الغذاء، فلا تلح الحاجة بتعجيل النظر في مضاعفة المنتجات، فلنوجه النظر إذن إلى بلد معرض لنقص الأرزاق والثمرات.
لقد أفاد برنامج حسن التحضير من مؤسسة روكفلر في زيادة الإنتاج بأرض المكسيك بنسبة ثمانين في المائة خلال عشرين سنة، تعادل أربعة في المائة كل سنة، وقد ارتفعت نسبة الطعام بحساب الفرد الواحد ارتفاعا مناسبا مع تكاثر عدد السكان بنسبة ثلاثة في المائة كل سنة، وهذه الزيادة الملحوظة إنما تيسرت بتوسيع مساحة الأرض المزروعة نتيجة لتحسين الري وتعليم الزراعة، وشتى المباحث الفينة، وحصلت المكسيك في أثناء ذلك على معونة فنية من الولايات المتحدة ساعدت على إنجاز هذا التطور، ومنه نرى مبلغ ما نترقبه - حدا أقصى - للتقدم الزراعي على الأقل في حالة الافتقار إلى التطورات الاجتماعية. أما البلاد الآسيوية فقد كان التقدم فيها دون هذا في السرعة، ولم تتجاوز نسبته نسبة الزيادة في عدد السكان إلا بشيء يسير، ويصدق هذا حتى على بلاد كالهند بذلت فيها ولا تزال تبذل مجهودات قوية لتحسين أحوال التغذية، إذ يبلغ المال المخصص للزراعة في مشروع السنوات الخمس نحو خمس نفقات المشروع كله، فتقررت أعمال الري، وأنشئت معامل السماد، ونشرت دروس التعليم، وأدت هذه الجهود إلى زيادة نحو خمس عشرة في المائة، أي بمعدل ثلاثة في المائة كل سنة، ولا يزال نصيب أهل الهند من الغذاء مع هذا أقل مما كان قبل الحرب العالمية الثانية، إذ بقي إنتاج الطعام على حاله اثنتي عشرة سنة قبل الابتداء في مشروع السنوات الخمس على حين كان عدد السكان مستمرا في الزيادة.
وقد علم من جداول الإحصاء والمقابلة أن زيادة الإنتاج بوسائل الزراعة التقليدية لا تزال ترتفع حتى تنتهي إلى مستوى يصعب المزيد عليه. فمما يسوغ لنا الأمل في مضاعفة الغلات أن كثيرا من المساحات الزراعية في العالم لا تزال بحالتها الهابطة قابلة للمزيد من التحسين، فكم من الناس على ظهر الكرة الأرضية نستطيع أن نزودهم بالمئونة الكافية بعد الانتهاء إلى الحد الأقصى؟
بعد تذليل الصعوبات الإقليمية في مناطق الأرض المختلفة، يمكن تقدير المساحة التي يتم استصلاحها بنحو بليون فدان، تظهر فوائدها الكبرى في القارتين الأمريكتين؛ حيث تزداد المساحة بمقدار خمسين أو ستين في المائة، وأقل من ذلك فوائدها للقارة الآسيوية؛ حيث تقدر الزيادة بثلاثين في المائة، فإذا تم ارتفاع الإنتاج في هذه المساحات على النسبة المعهودة بالقارة الأوروبية، بلغ محصولها نحو ضعفي محصول الكرة الأرضية في الوقت الحاضر، واحتاج إتمام العمل فيه إلى زمن يتراوح بين ثلاثين وخمسين سنة، وإلى مقدار من المال يبلغ نحو خمسمائة بليون دولار، تنفق لإقامة مراكز الإرشاد على جوانب الكرة الأرضية، وإنشاء معامل السماد ونشر التعليم، ويكفي المحصول - متى تمت جميع هذه المجهودات - لتموين عدد من السكان يتراوح بين أربعة بلايين أو خمسة، وهذا على اعتبار أن سكان آسيا يظلون في تغذيتهم مكتفين بنسبة قليلة من المواد الحيوانية، وأن سائر سكان العالم يظنون مكتفين بتمثيل عشرين في المائة من أسعار الحرارة في الأغذية الحيوانية، وهو مقدار مناسب ملائم للصحة، وإن لم يكن على أحسن ما يشتهى في ألوان الطعام.
ولكن ماذا ينتظر متى بلغت غلة الفدان في العالم ما يقارب غلته في أوروبا الغربية؟ هل لنا أن نأمل مزيدا من ارتفاع النسبة على أساس التجربة في اليابان؟ قد نجازف بجواب عن هذا السؤال، وننتظر مضاعفة النسبة بالاعتماد على مزيد من التركيز، واستخدام التجارب العلمية، والإكثار من جهود الأيدي العاملة، فإذا تأتى لنا بهذه الوسائل أن نرفع النسبة في ثلث المساحة المزروعة من الكرة الأرضية، وأن نبلغ بثلثيها ما يعادل النسبة الحاضرة في أوروبا الغربية أمكننا - نظريا - أن نزود بالمئونة عددا يتراوح بين سبعة بلايين وثمانية على معدل مناسب من التغذية الصالحة.
والخلاصة أن توفير الأزواد الغذائية مستطاع بالتوسع في تطبيق الأساليب الفنية، وأن مضاعفة الغلات الزراعية تتأتى بزيادة الري، وزيادة المخصبات، وزيادة المطهرات من الحشرات وجراثيم الآفات، وزيادة التحسين في أنواع النبات، وزيادة التركيز على المثال المتبع في اليابان. ونسبة هذه الزيادة في السنة بين اثنين وأربعة في المائة كل سنة، ينبغي أن تجري على وتيرة الزيادة في عدد سكان العالم، ومتى وصلنا إلى هذا المستوى في زمن يقدر بما بين خمس وسبعين سنة ومائة سنة يكون عدد السكان قد بلغ مستوى الاستقرار.
وكل هذا عن الأطعمة التقليدية ووسائل التحضير الشائعة في الري والزراعة.
غير أننا نستطيع أن نعالج بالكيمياء أجزاء من النبات تنبذ، ولا تؤكل من قبيل الخشب والهشيم. ومن الممكن أن تعالج هذه النفايات بالأحماض الحارة؛ فنجني منها شرابا عسليا بمقدار النصف من زنتها، ويكلفنا ذلك عشرة أمثال تكاليف العسل الذي نستخرجه من السكر والبنجر، بل يمكن بعد ذلك أن تعالج هذه الأشربة بالخمائر لنجني منها مادة غنية بالبروتين، كما أن الخمائر المستخرجة من العسل تصلح لتغذية الإنسان.
والخطوة العملية التي تجدي في تحقيق الغاية الثابتة من تنمية الغذاء العالمي ينبغي أن تتصل بتدبير الماء، إذ هناك بقاع شاسعة تثمر الغذاء الوافر إذا استطيع تخصيبها بالأمواه الكافية، فالبقاع المزروعة الآن بالوسائل التقليدية تساوي مساحتها نحو أحد عشر في المائة من الأرض المزروعة، وهي تزداد زيادة سريعة في أمريكا الجنوبية وآسيا، ويقدرون أن أربع عشرة في المائة من الأرض يروى بتلك الوسائل التقليدية إذا حسن تصريف أمواه الأنهار في أرجاء العالم، وقد يرتفع هذا المقدار إلى عشرين في المائة، يجري ريها وزرعها بالنفقات العادية، وقلما تكفي مياه الأنهار والينابيع لزراعة مساحة أكبر من تلك المساحة، فلا أمل إذن في تخصيب الصحارى والسهوب بالوسائل التقليدية، وهي تزيد في اتساعها على مثلي سعة الأرض المزروعة، وعلينا أن نلجأ إلى ماء البحر لاستخدامه في إصلاح الأرض البور وزرعها، فكيف يتأتى ذلك بالطرق الاقتصادية؟ إن تكاليف الفدان الواحد من ماء البحر بعد تصفيته وإعداده للري تساوي ضعف ثمن الغلة التي تجنى منه، فضلا عن تكاليف الأقنية والقناطر والأنابيب الموصلة للماء، ولكن إصلاح الصحارى البور يظل مع هذا بابا مفتوحا عند الاضطرار .
أما عن الطاقة اللازمة، فإن الوقود الذي يستنفده العالم - إذا بقي على حاله ولم يطرد في الزيادة - يظل كافيا إلى زمن غير محدود، حتى لو نفدت جميع موارد الفحوم والحفريات، وذلك باستخدام القوى المائية والانتفاع بأحطاب الغابات، ولكن هذا الوقود إذا ازداد عليه الطلب كما رأينا، وامتد الازدياد بعد نفاد البترول فلا مناص للإنسان من اللجوء إلى أنواع من الطاقة غير أنواعها التقليدية، ونعرض لأنواع هذه - الطاقة المحتملة - فنرى أن ما كان منها من قبيل حرارة الأرض وقوى الرياح والتيارات المائية - على أحسن ما يرجى منها - محدود الفائدة، إذ المواقع التي يستفاد فيها من تسخير هذه القوى قليلة اليوم بين أرجاء المسكونة، وهي متى حسبت تكاليفها تبين أنها أقل بكثير مما يتطلبه سكانها، ولنذكر على نطاق واسع أن معولنا الأكبر يزداد شيئا فشيئا على الطاقة المستمدة من الشمس والطاقة النووية، وكلتاهما كما نعلم الآن من الوجهة الفنية ميسور الاستغلال، وإنما المسألة في أيهما أوفر نفعا تئول إلى المسألة الاقتصادية، وقد وضعت تركيبات شتى لتحويل الطاقة الشمسية إلى كهرباء، ولكنها كانت كلها كبيرة النفقة، ففي الأقاليم الحارة يستطاع استبدال الطاقة الشمسية بوقود الحفريات في توليد الكهرباء من تسخين الماء، وينبغي لتحقيق ذلك أن تقام الصفائح المعدنية لاستجماع الأشعة، وربما بلغت نفقات العدد المقامة على كل فدان نحو عشرين ألف دولار، تربى تكاليف كهربائها على جميع التكاليف المعهودة. ويمكن توليد الكهرباء أيضا من تسليط الأشعة على ما يشبه الموصلات الكهربائية
Semi Conductors ، وينتفع بها في بعض الصناعات الصغيرة، ولكن توسيع العمل بها يقتضي من النفقات ما لا يطاق.
وبين وسائل الانتفاع بالطاقة الشمسية غرس الأشجار في الشمس، وإحراق أحطابها، أو تخمير السكر الذي نحصل عليه من غرس القصب والبنجر، ويستخرج منه الكحول أو الغازات والسوائل لاستخدامها في توليد الكهرباء، ولكن الحاجة إلى الأرض المزروعة لتدبير الطعام لا تبقي من مساحاتها بقية تذكر لغرس أشجار الوقود، وثمة وسيلة بارعة وضعت أخيرا لتوليد الطاقة من طحلب يربى في مناطق مشبعة بثاني أكسيد الكربون، ويجمع الطحلب ويخمر لتكوين الميثين والهيدروجين، ثم تحرق هذه الغازات لتوليد الكهرباء، ثم يرد ثاني أكسيد الكربون لتربية الطحلب، ويتأتى بهذه المثابة في الأحوال الملائمة أن يتحول من واحد إلى ثلاثة في المائة من الطاقة الشمسية إلى كهرباء، والجهاز الذي يقام على هذا الأساس يمكن أن نحصل منه على الكهرباء بسعر يتراوح بين سنتين ونصف سنت، وبين خمسة سنتات للكيلووات في الساعة، وتقدر قيمة الوقود السائل المستخرج منه بمائة وخمسين دولارا للطن الواحد، ومع الشك في إمكان مزاحمة الطاقة الشمسية للطاقة النووية في توليد الكهرباء في نطاق واسع، يلوح لنا أنها نافعة جدا في النطاق المحدود، والأرجح أن أهم وجوه النفع من الطاقة الشمسية في المستقبل إنما يقوم على تدفئة الفضاء، ونحن نعلم أن المنازل يمكن أن تبنى في الأقاليم الحافلة بالسكان بحيث يعتمد في تدفئتها على الطاقة الشمسية دون غيرها إلى ما يوازي مدينة بوسطن في الشمال، وربما حالت التكاليف الإضافية اللازمة لتشييد المساكن دون استخدامها على سعة، ولكن المأمول عندما تعلو أسعار الوقود أن يبنى معظم المساكن بحيث تنتفع غاية الانتفاع بالطاقة الشمسية.
وإننا لعلى يقين معقول الآن من إمكان الحصول على الكهرباء من الطاقة النووية بسعر يقل عن سنت واحد للكيلووات في الساعة، «عشرة ملات
Mills »، وفي مؤتمر المصالح السليمة للطاقة النووية الذي انعقد بمدينة جنيف سنة 1955 هبط التقدير إلى أربعة ملات، والمنظور في الولايات المتحدة أن يساوي في المستقبل من أربعة ملات إلى ستة. وقد درس سابير
Sapir ، وفان هيننج
Van Hyning
حالة الطاقة النووية في اليابان، فتبين لهما أنه من الممكن الحصول على الكيلووات في الساعة بسعر عشرة ملات حوالي سنة 1960، وبسعر سبعة ملات حوالي منتصف سنة 1970 تقارب تكاليفه خمسة ملات، ويقابل هذا السعر ستة أو سبعة ملات لما يستخرج من الفحم حديثا في الولايات المتحدة وثمانية عشر ملا في اليابان، ويرى - من ثم - أن الطاقة النووية قد تنافس الفحم في مستقبل غير بعيد، وأنها وشيكة أن تعم أقطار العالم في حينها.
وتختلف الأحوال في معظم بلاد العالم عما هي عليه في الولايات المتحدة فيما يتعلق بوفرة الوقود، فإذا أضيف إلى هذا الاختلاف بعض العوامل الأخرى، كان للفارق مظهر أدعى إلى الالفتات، وأحد هذه العوامل فرق العملة الأجنبية، فإن البلاد التي تعاني أزمة التوريد، وتتكلف الكثير لمقابلة الواردات من الفحم والبترول بما يساوي قيمتها من محصولاتها، قد ينتهي بها الأمر إلى تفضيل الاعتماد على الطاقة النووية مع ارتفاع سعرها، وهناك عامل آخر من عوامل الاختلاف يرجع إلى اجتهاد كل أمة في تدبير وسائل الكفاية الذاتية، وليس تدبير أمر البترول بالأمر الموثوق به، إذ كان شطر كبير من ينابيع بترول العالم كامنا في الشرق الأوسط حيث تغلب الحساسية لأطوار العلاقات الدولية، وكثير من الأمم تحتمل التكاليف العالية لاستخدام الطاقة النووية، وتفضل ذلك على مورد أرخص منها، ولكنه غير مضمون.
ويظهر أن الاتحاد السوفيتي له حالة خاصة فيما يتعلق بلوازم الطاقة الذرية، فإن بلاد الاتحاد - على ما تملكه من مناجم الفحم الغنية - يقع فيها معظم هذه المناجم بين أرجاء سيبريا، وتظل بقيتها مفتقرة إلى الوقود، ولهذا يستورد في كل سنة على ما يظهر نحو خمسة عشر مليون طن من الفحم من قره غنده وقازاقستان إلى روسيا الأوروبية، وهي مسافة تبلغ من ألف وخمسمائة ميل إلى ألفي ميل، وهذا أحد الأسباب التي حملت الحكومة السوفيتية على الاهتمام بتصنيع سيبريا، وهو كذلك أحد الأسباب التي دعت إلى إقامة خمس محطات لتوليد الطاقة النووية في موسكو، ولننجراد، وجبال الأورال، ومن خلاصة ما تقدم يرى جليا أن الطاقة النووية سيكون لها دور هام في بقاع كثيرة من العالم، وبخاصة في أوروبا، وأمريكا الجنوبية، والشرق الجنوبي من آسيا واليابان، وإن ذلك يتم حالما يتهيأ إعداد الأجهزة الصالحة لتوليد الكهرباء بسعر عشرة ملات للكيلووات الواحد في الساعة أو أقل من ذلك، ومن سخرية المصادفات أن الولايات المتحدة التي تملك - على الأرجح - أتم المعدات الفنية لاستخدام الطاقة النووية لا تشعر بالحاجة إليها في الوقت الحاضر، إلا فيما يلزم للمقاصد العسكرية، وأنها عندما تشعر بالحاجة إليها سوف يأتي ذلك على بطء بالقياس إلى الكثير من بلدان العالم.
وكلما قاربت ودائع العالم من البترول أن تنفد - كثر الإقبال على استخراج الوقود السائل من الصفائح الصخرية، ورمال القطران، وتقطير الفحم، ومن حوالي سنة 1975 ينتظر أن تتسع الفجوة بين البترول والفحم باعتبارهما ينابيع أولية لتوليد الطاقة، وينبغي بعد سنة 1980 أن تكون للطاقة النووية نسبتها المحسوسة باعتبارها بديلا للوقود المستخرج من الحفريات في توليد الكهرباء، وقد تبلغ هذه النسبة ثلث المستنفد من الطاقة حوالي نهاية القرن العشرين، فإذا قارب القرن المقبل منتصفه، فالغالب أن يكون المعول على الطاقة النووية في أكثر ما نحتاج إليه مع الاحتفاظ بودائع الفحم لتوليد الوقود السائل، وبعض المواد الكيمية.
ولنسأل الآن: كم من الزمن ننتظر أن تبقى في الكرة الأرضية ذخائرها من عنصر الأورانيوم وعنصر الثوريوم صالحة لتزويد هذا العالم الصناعي بالوقود؟ إن هذين العنصرين هما - كالفحم والبترول - من وقود الحفريات، تكونت كلها مع تكوين العناصر الأرضية، ولا يتكونان الآن من جديد، فمقدار ما نحصل عليه منهما محدود، ولكنهما - على هذا - ينتجان من الطاقة أضعاف ما يحتويه الفحم والبترول، ويرجع ذلك إلى أن العنصرين موجودان في الطبقات السفلى بمقادير وافرة من بقية القشرة الأرضية.
وتحتوي القطعة العادية من الصخر المحبب - الجرانيت - أجزاء عنصر الأورانيوم بنسبة أربعة من المليون، وأجزاء عنصر الثوريوم بنسبة اثني عشر من المليون، إلا أن كلا من العنصرين في الطن المتوسط يحتوي ما يساوي طاقة خمسين طنا من الفحم، ومن الطبيعي أن هذه الطاقة ليست كلها ميسرة للانتفاع بها لما تستلزمه عملية إخراج العنصرين من التكاليف بين كسر الحجارة وسحقها، ونقل صفوتها إلى المعمل الكيمي، ولا حاجة إلى القول بأن هذه العملية لا تجدي شيئا إذا تساوت تكاليف الطاقة اللازمة لها وتكاليف الطاقة التي تستمد بعد ذلك من العنصرين.
على أنه قد تبين أن العنصرين يوجدان في الصخر على نحو يجعل الطاقة اللازمة لاستخلاصها جد قليلة، ويستطاع لهذا أن يستخلص من طن الصخر ما يعادل الطاقة المستمدة من خمسة عشر طنا من الفحم بتكاليف معقولة من الوجهة الاقتصادية ، ومعنى هذا أن الإنسان غير مفتقر إلى استخدام أجود أنواع الأورانيوم والثوريوم لتوليد الكهرباء، إذ يستطيع أن يعول على الموجود منهما في القشرة الأرضية.
ويحتمل على طول المدى أن تتولد الطاقة من تفاعل الحرارة والطاقة النووية، أي من التحام الهيدروجين باعتباره عملا مستقلا عن انشقاق الأورانيوم، ولا يعلم إلى الآن كيف تجري هذه العملية، وإن كان إمكانها حقيقة مسلمة، فإذا تمكن العلم من تذليل المصاعب الفنية، فكل ما على الأرض من البحار مدد صالح للانتفاع به في توليد هذه الطاقة، وقد تكون هذه العملية أكبر كلفة من عملية شق الأورانيوم، إلا أنها حاضرة للانتفاع بها في حينها يوم يحتاج إليها.
ويتضح في الختام أن ذخائر الطاقة التي يعتمد عليها الإنسان موفورة إلى زمن بعيد، وعلينا أن نحول هذه الذخائر من قوة مخزونة إلى قوة فعالة، وأن السؤال عن إمكان هذا التحويل في الوقت المناسب لسؤال حقيقي بالتوجيه والتأمل، إذ يتوقف جوابه على خليط مشتبك من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
1
الفصل الثاني
التعليم
أخذ الغربيون اسم المدرسة من كلمة يونانية بمعنى الفراغ؛ لأن طلب العلم كان في الزمن القديم شاغلا من شواغل الفراغ يستطيعه من يستغني عن العمل أو يعجز عنه، فمن علامات الزمن أن تصبح المدرسة مدار العمل كله، لا يستغني عنه أحد في جميع الوظائف الاجتماعية، وتدعو إليه ضرورات المعيشة كما تدعو إليه مطالب الفهم والتهذيب.
لا بد من المصانع لتزويد العالم بمعرفة المعيشة، ولا بد من الخبراء والصناع لإدارة المصانع، ولا بد من المدرسة لتخريج الخبراء والصناع، ويكاد المختصون بتدبير مطالب التعليم الفني في الحاضر والمستقبل أن يشعروا بأن الحاجة أكثر من العدد المطلوب.
يقول مؤلفو كتاب مائة السنة التالية:
تعتبر الولايات المتحدة في الوقت الحاضر أدق المجتمعات تركيبا صناعيا في العالم، إذ تمهد الفرص التي تكاد لا تحصى للتعليم من شتى فروعه مع الحرية في اختيار الوظائف والأغراض الفنية، فإذا درسنا الموارد التي تؤخذ منها القوى الفكرية دراسة نقد وتحليل تسنى لنا أن نلم بمثال حسن لقضايا العرض والطلب في مسألة تدبير المهندسين والعلماء مع الحرية الاقتصادية.
ومنذ سنوات عدة يلاحظ النقص في عدد العلماء والمهندسين، وهو نقص يزداد حرجا، ولا نرى له الآن نهاية قريبة، وبلغ من حرجه أن المنظمات الصناعية تحد من جهود البحث والتحسين لقلة العاملين المدربين.
وتتباين الآراء عن السبب الصحيح لهذا النقص الحاضر، فيرى بعضهم أنه راجع إلى نقص المواليد في سنوات الكساد، وما تلاه من نقص الإقبال على معاهد التعليم العليا حوالي سنة 1950، ويرى آخرون أن كثرة الطلب على الخبراء من جراء النفقات الكبيرة على شئون الدفاع هي التي أدت إلى الشعور بذلك النقص، وسنرى - على أية حال - أن النقص إنما جاء من دقة التركيب الصناعي في الولايات المتحدة، وقصور وسائل التدريب، والتحضير عن مداركة الطلب على حسب الحاجة.
وبعد الإفاضة على هذا النحو في شرح وجوه الحاجة إلى الطاقة الفكرية، وازدياد هذه الحاجة على توالي الأيام عقد مؤلفو الكتاب فصلا بعنوان: «مدى الطاقة الفكرية المدخرة» بدءوه بهذا السؤال: ما هو أقصى ما يتيسر لنا من ذخيرة الطاقة الفكرية؟ ثم أجابوا عنه بما يلي:
إننا نستطيع أن نحصل على ضعفي عدد العلماء والمهندسين إذا أزلنا العوائق التي نتعرض من جرائها لنقص التعليم بين الفئة الصالحة لإتمام تعليم الكليات في العلوم والهندسة، ويتضاعف هذا العدد مرة أخرى إذا فتح باب التعليم الفني للنساء، وأمكن إغراؤهن بالإقبال عليه، وشجعن على هذا الإقبال، وهذه الزيادة المضاعفة تعطينا أربعة أمثال العدد الذي نخرجه الآن من العلماء والمهندسين دون أن نمس بمطالب الصناعات الأخرى، وكذلك يزداد نفع ذوي الكفايات الفنية إذا نحن أحسنا استخدام قواهم كما ينبغي، وشجعناهم على المزيد من الإنتاج والابتكار، فتصبح ذخيرتنا من الطاقة الفكرية ثمانية أضعاف ما نحصل عليه الآن، وقد تقدم أن لاحظنا أن المحصول السنوي وعدد المتخرجين من العلماء والمهندسين يبلغ عشرة أضعافه كل خمسين سنة في الولايات المتحدة منذ سنة 1800، وتساءلنا هل يمكن تكرار ذلك في نصف القرن الباقي منذ اليوم إلى سنة ألفين؟ فنقول: إن تكرار ذلك مرجح ، وإنه فيما يتعلق بالولايات المتحدة يستطاع الوصول إلى عشرة أضعاف ما لدينا من المحصول الفني، وعدد العلماء والمهندسين، وربما كان ذلك هو الختام.
ومن المهم أن ننبه أن هذه النتيجة ميسرة بغير حاجة إلى حمل الطلاب على ترك الدراسات الأخرى التي تساوي هذه الدراسات في اللزوم والفائدة، فليس في تقديرنا أن يزيد عدد الخريجين من العلماء والمهندسين، وأن تتغير نسبتهم المطردة منذ ثلاثين سنة، بل تبقى على حالتها إلى نهاية القرن العشرين.
ومن المهم كذلك أن نذكر أن المدد الذي يتوافر لنا من العلماء والمهندسين لن يظل على ازدياد إلى غير نهاية في المستقبل على نسبة هذه الزيادة فيما مضى، وفي أوروبا - كما في الولايات المتحدة - ينقص مدد الطاقة الفكرية، فيبلغ عدد العلماء والمهندسين في أوروبا الغربية أربعمائة وخمسة وعشرين ألفا من مجموعة السكان الذين يبلغون مائة وأربعة وخمسين مليون نسمة، ويقابل ذلك في الولايات المتحدة سبعمائة وستون ألف مهندس من عدد السكان الذي يبلغ مائة وثمانية وستين مليون نسمة، وينطبق على الحالة في القارة الأوروبية كل ما ينطبق عليها في الولايات المتحدة، مع ملاحظة الفارق بين التعليم الجامعي هناك، والتعليم الجامعي عندنا، ففي الولايات المتحدة يلاحظ أن ثلاثين في المائة من كل طبقة من طبقات السن ينبغي أن يتمموا التعليم في الكلية، على حين أن التعليم العالي في أوروبا مقصور على النخبة القليلة، ولا تزيد نسبة المتممين للتعليم بالكليات على خمسة في المائة، وسيزداد عدد العلماء والمهندسين زيادة كبيرة كلما اتسع نطاق التعليم الحر، وتمكن الطالب من المضي فيه إلى غاية استعداده.
على أن الحالة في الاتحاد السوفيتي تختلف عن كلتا الحالتين، وتتيح لنا بابا نافعا من أبواب المقارنة بين النظم والإجراءات، ففي الاتحاد السوفيتي ينظم التعليم العام بحيث يوافق حاجة الدولة، وينظر إلى مهمة التعليم نظرة عالية، والشاب الروسي يشجع على الترقي في درجات التعليم إلى أعلى ذروتها، وينال من الامتيازات والوظائف بقدر ما ينال من محصول الدراسة، وينتقل الطالب من درجة إلى درجة في مراحل الدراسة حسب نجاحه في امتحانات المسابقة، وتتكفل الدولة بنفقات التعليم، وقد يمنح بعض الطلاب معونة في أثناء سنواته المدرسية، وتتجه العناية في التعليم العالي إلى العلوم الفنية، كما تتجه إلى الطب والزراعة وصناعة التدريس، ونحو نصف طلاب المعاهد العليا يتفرغون لهذه الدراسات، وستون في المائة منهم متخصصون للدراسة الفنية والعلوم الطبيعية.
فالاتحاد السوفيتي يشعر بمسيس الحاجة إلى التعليم الفني لمتابعة التقدم السريع في سياسة التصنيع، وينجم عن ذلك أن يلاحظ في نظام التعليم أن يجور عدد الفنيين على عدد المتخصصين للمباحث الذهنية، وإذا تخرج الطالب من المدرسة العليا يكون قد أمضى ست سنوات في علم الحياة «البيولوجي»، وخمس سنوات في العلوم الطبيعية، وأربع سنوات في الكيمياء، وأربعا في الرياضيات، يقابل ذلك عندنا أن الطالب الذي يريد أن يتخصص للعلم يمضي سنتين في دراسة علم الحياة، وسنة في العلوم الطبيعية، وسنة في الكيمياء، وثلاث سنوات في الرياضيات. والطالب الروسي في مستوى تعليم الكلية يعتبر من السعداء المجدودين إذا استطاع أن يصل إلى مدرسة فنية؛ لأنه يتمكن بذلك من الارتقاء إلى الطبقة الممتازة في البلاد الروسية اليوم، وفي وسعه بوظيفته العلمية أو الهندسية أن يقتني سيارة، ويسكن في جناح مستقل، ويحصل على مرتب حسن، ويشغل مركزا من مراكز التقدم والنفوذ، وعلى هذا نجد أن الروسيين قد عملوا بكثير من النظم والإجراءات التي بحثناها فيما تقدم، ورأينا أنها مجدية في الاستكثار من المهندسين والعلماء في الولايات المتحدة، فالاتحاد السوفيتي إذن قدوة يحتذى بها فيما يمكن إدراكه إذا روعي في نظام التعليم كله أن يدار لغرض واحد، وهو تخريج أكبر عدد مستطاع من العلماء والمهندسين والأطباء والمدرسين مع التضحية القريبة بالدراسات الأخرى من قبيل العلوم الإنسانية والأشغال والتجارة. وقد كان من نتيجة هذه الخطوة أن الاتحاد السوفيتي يسبق الولايات المتحدة، ويخرج ضعف ما تخرجه من المهندسين والعلماء.
ويلوح لنا من المحتمل أيضا أن هذه الفجوة ستتسع فترة أخرى من الوقت. ويضاف إلى هذا أن جميع المهندسين والعلماء في الاتحاد السوفيتي يعملون في صناعاتهم على حين أن الذين يعملون في صناعاتهم عندنا حوالي ثلثي المهندسين وثلث العلماء، وأن نحو الثلث من الفنيين في الاتحاد السوفيتي نساء، ومعدل النسبة في تخرج المهندسين والعلماء هناك توحي إلينا أن الأمة التي تريد أن تقتدي بالاتحاد السوفيتي، وتتخذ لها خطة كخطته الصارمة في التهوين من شأن الدراسات غير الصناعية سوف تصل إلى نتيجة أكبر من النتيجة التي أشرنا إليها آنفا، ولكن مع تضحية ذات بال بالحرية.
وفي وسعنا عند تقدير الطاقة الفكرية المدخرة في الأمم المتخلفة أن نجري على المنهج الذي توخيناه عند الكلام على الولايات المتحدة؛ لأن توزيع الملكات الذهنية على قدر ما نعلم مشابه لتوزيعها بيننا، ويكاد أن يكون المتوسط من ثلث أبناء الأمة إلى نصفهم قادرين من وجهة الملكات الذهنية على كسب معرفتهم في معاهد التعليم العليا.
وهنالك - كما لا يخفى - عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية يرى معها أنه من البعيد - إن لم يكن من المستحيل - أن تقدر تلك الأمم اليوم على تخريج المتعلمين في الكليات بهذه النسبة، فليس ثمة دلائل على التقدم الذهني ظاهرة في المجتمعات البدائية أو في تلك المجتمعات التي لا بد لها من تركيز جهودها المباشرة لتحصيل ضروراتها من الطعام والمأوى، مما يسمح لنا - نظريا - أن نقدر وجود ودائع من الطاقة الفكرية لم تمس إلى الآن في أرجاء العالم، وبينما تتناقص هذه الودائع في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تظل في العالم بجملته ودائع عظيمة منها. فإذا استطاعت الهند بما فيها من سكان يبلغون ثلثمائة وستين مليونا أن تخرج من المهندسين والعلماء عددا يضارع في نسبته أقصى ما نستطيع تخريجه - أي أربعة أمثال عددهم الحاضر - ففي وسعها أن تخرج أربعمائة وخمسمائة ألف كل سنة، وهو عدد يكاد يساوي عدد المتعلمين من حاملي البكالوريا العلمية عندنا في الوقت الحاضر.
وظاهر - من ثم - أن رصيد الطاقة الفكرية العالمية عظيم جدا، وكلما مضت الأمم الأخرى في التصنيع تضاعف العمل الذي يبقى على الطاقة الفكرية أن تنجزه، وقد يتيسر لنا في الولايات المتحدة أن نستورد الخبراء من الخارج، ونعتمد على الاستيراد كوسيلة موقوتة إلى حين، إذ لا بد أن يأتي الزمن الذي يوجب استبقاء هؤلاء الخبراء في البلدان التي نشئوا بين ظهرانيها، ومتى نظرنا إلى الأمد الطويل جاز لنا أن نقدر أن العالم سيعتمد على محصوله من الطاقة الفكرية في أعمال التصنيع، كما نعتمد نحن على طاقتنا الفكرية الآن.
وبعد عرض هذه التقديرات عن مطالب العالم من الطاقة الفكرية استجابة لضرورات التصنيع والتموين، عرج مؤلفو الكتاب على تقدير عوامل النكسة التي قد تعرض لبرامج التنظيم في المجتمعات المصنعة على احتمال وقوع الحرب أو توقعها، وما يستدعيه هذا التوقع من صرف الجهود إلى أعمال الدفاع والتسليم.
قالوا من فصل عنوانه: نظرة إلى الأمد البعيد:
إن المجتمع المصنع أشد استهدافا للخلل والتهدم مما يخطر للكثيرين؛ لاشتماله على شبكة متوشجة من المناجم والمصانع يصل بينها مباشرة - وغير مباشرة - نظام متماسك من المواصلات، مما ينجم عنه شل الحركة في المجتمع كله إذا أصيبت مفاتيحه المحكمة، ويتبع ذلك امتناع وسائل الإصلاح بعد وقوع التعطيل، فلا تتأتى إعادة الشبكة إلى العمل قبل تعريض المجتمع كله للهلاك.
واستطرد المؤلفون من ذلك إلى بيان أثره في البلاد التي لم يتم تصنيعها، فضربوا المثل بإقليم كجزيرة سيلان، وقالوا: «إنها إذا حدث - مثلا - أنها لم تستطع أن تحصل على المادة المطهرة المعروفة بالدي دي تي، فقد يفضي هذا النقص إلى تفشي الوباء، وزيادة الوفيات فجأة زيادة جائحة تمتنع معها أساليب الوقاية السهلة، فيسري الوباء إلى البلاد التي تجاورها، وتأوي مئات الملايين كالهند والصين، وتتعرض هذه البلاد للدمار الجائح كما تعرضت له مجتمعات وافية التصنيع.»
قالوا: وأهم من ذلك أن القدرة على الحرب تزداد بازدياد القدرة على التصنيع، فالأمة التي تملك معدات الحرب لا بد أن تملك نظاما صناعيا واسع النطاق، أو أن تزود بهذه المعدات ممن يملكونها. وكلما امتدت حركة التصنيع زاد عدد الأمم التي تقدر على الحرب، وعلى تزويد نفسها بأسلحتها من المدافع والطائرات والقذائف النووية، وقد رأينا أن اليابان وبلاد الاتحاد السوفيتي كانت بين أحدث الأمم التي دخلت ميدان التصنيع، وآل بها الأمر إلى المواقف الخطرة كلما تهيأت لها معدات القدرة على شن الحروب الحديثة، ترى ماذا عسى أن يحدث إذا تسنى لأمم كالهند والصين أن تملك هذه المعدات؟
ومن جوانب الخطر التي تواجهنا ذلك التلهف المعقول من قبل الشعوب على تحسين أحوالها، فالتصنيع عمل بطيء عند النظر إلى عمر الإنسان، ومدة سنوات خمس أو عشر، تبدو من حيث التصنيع خطوة سريعة جدا من خطى النمو والتقدم، ولكن الإنسان الفرد يحتاج إلى أمد من الزمن كي يشعر بالتحسن في معيشته، ويعود سبب من أسباب ذلك إلى أن الجهود الأولى من محاولات التصنيع ينبغي أن تخصص لإقامة العدد والمعامل التي تستعد للإنتاج بعد ذلك، فتبنى المعامل التي تصنع الآلات والأدوات، ويقصر إنتاج السلع والبضائع المستنفدة على أقله وألزمه، ومعنى ذلك بلغة الاقتصاد أن يكون هناك ادخار ورأس مال متجمع، يترتب عليه تأجيل انتفاع المستنفد بالصناعة إلى حين، ثم يترتب على هذا التأجيل في المدن الناشئة على الخصوص شعور بالقلق يؤدي إلى الاضطراب والعنف، ويشتد هذا القلق مع إبطاء تهيئة المطلوب من الأغذية على حسب الاستعداد الحاضر. وقد رأينا أنه من الممكن في السنين الخمسين التالية زراعة وجه الأرض للحصول على غذاء يكفي سكان الكرة الأرضية المتكاثرين إذا استطعنا تجويد العمل الذي نقوم به الآن، وقد يتسنى لنا تدبير الغذاء في القرن المقبل إذا توخينا في الإنتاج وسائل أفضل من بعض الوسائل غير الاقتصادية التي نتوخاها الآن، ولكن مما يؤسف له أن إنتاج الطعام الكافي لا يمنعه مانع من الوجهة النظرية، في حين أنه من وجهة التنفيذ لا يستطاع سنة بعد سنة حسب الزيادة في عدد الأنفس خلال تلك السنة، وما لم يتيسر لنا إقلال النسل أو التعجيل بالإنتاج فعلينا أن نتوقع من أعمال التصنيع أن أقاليم يجوع سكانها، ويظلون زمنا طويلا في المستقبل جائعين، وثمة خطر آخر نواجهه إذا أفضى قلق الشعوب المتخلفة إلى إقامة الحكومات المستبدة محاكاة للاتحاد السوفيتي؛ أملا في التعجيل بخطوات الادخار والتصنيع وتعميم الزراعة، وقد وقع ذلك فعلا في الصين، وتحاول الهند أن تحقق برامج التصنيع على أساس النظم الديمقراطية في بيئة اقتصادية بعضها على نمط اشتراكي، وبعضها خاضع للولاية الخاصة، فإذا استمر التصنيع واستمرت زيادة السكان وقلت الأطعمة واشتد القلق والتذمر، فلا ندري هل تقوى الديمقراطية هنالك على مقاومة الطوارئ التي خلقتها، ويجوز أن تقضي عليها؟ ففي هذه الأيام التي يتأتى فيها قلب النظام الديمقراطي بين ليلة ونهار، يتعذر التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية؛ لما يتوافر للحكام من ذرائع الإقناع والإخضاع.
فإذا أمكن في الحقبة التالية أن نتجنب الحرب النووية، وأمكن الأقاليم المتخلفة في الوقت الحاضر أن تحقق برامج التصنيع، فقد اقتربنا من الزمن الذي يتم فيه تصنيع العالم، ويستطاع فيه أن نقيم أودنا باستخدام الأردأ فالأردأ من المواد الصالحة، حتى نلجأ أخيرا إلى صخور القشرة الأرضية وإلى غازات الهواء وأمواه البحار، ويومئذ تكون صناعة المناجم قد زالت وخلفتها مصانع كيمية متشبعة الأغراض، تتزود من الصخر والهواء وأمواه البحار، وتفيض منها موارد تشمل الماء العذب والقوى الكهربائية، ومواد الوقود السائل والمعادن، ومتى أفضى الإنسان إلى هذه المرحلة من ثقافته، فقد بلغ إلى الطريق التي لا رجعة فيها، فلا استئناف بعدها للطريق إذا وقع الخلل والانتقاض في نظم التصنيع العالمية، فإن السير على برامج التنظيم إنما سهل الابتداء به، والمضي فيه بما كان في حوزة الإنسان من موارد الحديد والفحم والنحاس والنفط والكبريت، وغيرها من المواد النافعة، وكلها صائرة إلى النفاد بعد حين، ولكن معارفنا النفيسة تتيح لنا أن نستغني عنها ما دامت حضارة التصنيع قائمة، أما إذا وقعت الواقعة واختلف صوت الحضارة، فمن المشكوك فيه أن نقدر بعد ذلك على النهوض فوق طبقة المعيشة الزراعية.
إن المصادر اللازمة لإعادة الانتفاع بالصخر وماء البحر، وإعادة تركيب النظم المتشابكة من برامج التصنيع قد تكون أعظم جدا مما يستطاع السيطرة عليه. وتصور مثلا أن القوة اللازمة لإعادة الشبكة الصناعية لا بد أن تستمد من مصادر نووية، وأن هذه المصادر لا بد أن تقام بوقود غير وقود الفحم والنفط وكل وقود عدا الصخور، ففي هذه الحالة - مع فقدان الطاقة الصالحة - يتعذر الانتفاع ببقايا الحضارة الصناعية، وسيأتي اليوم الذي قد تنسحب فيه المعرفة الفنية، وتجنح إلى الاحتجاب، وقد حدث في القرون الوسطى أن أمناء تلك العصور استخدموا وجهات الرخام الرومانية في المباني الجديدة حقبة من الدهر، بعد نسيان الكثير مما عرفه الرومان من هندسة البناء، وأن الذي يحدث عدا في مثل هذه الحالة لأعظم مما حدث من قبل بكثير.
وكذلك نرى أن مشكلات الغد كثيرة خطيرة، وأننا من الوجهة النظرية قادرون على تدبير حلولها بما نملكه من القدرة الفكرية، ومثال ذلك أن بعض الأخطار يسهل اتقاؤها بإقامة الهيئات الدولية التي يراد بها منع الحروب كهيئة الأمم المتحدة وسائر الهيئات التي تشرف عليها، وغير هذه الأخطار قد يسهل اتقاؤه ببذل الجهد في الإقلال من ظروف التعرض والاستهداف، وغيرها قد يسهل اتقاؤه بالاتفاق بين المجتمعات المصنعة على تمهيد دور الانتقال إلى التصنيع في المجتمعات المتخلفة بأقل ما يستطاع من المشقة، ويتم هذا الانتقال بإعارة رأس المال والإعانة بالخبرة الفنية، كما يتم أيضا بابتداع أساليب مستحدثة في الصناعة والزراعة والتعليم وتحديد النسل، وهي أساليب لم تستخدم في الغرب حتى الآن لقلة الحاجة إليها، ولكنها قد تجدي كبير الجدوى في البلاد التي لا تزال آخذه ببرنامج التطور.
وقد شرعنا منذ خمس وعشرين سنة في جمع المعلومات النافعة للاهتداء إلى أفضل الأساليب لمعونة البلاد المتخلفة على إنتاج طعامها، وأخذنا ندرك بعض العقد والعوائق التي تحد من محاصيل الزراعة، ورأينا أن سير العمل بطيء في مشروعات الزراعة؛ لأنه يستدعي تعليم العدد الكبير من الزراع، وتعديل طرائقهم وأساليب تفكيرهم وآرائهم الثقافية، ومأثوراتهم التقليدية، وهي جميعا مما يعسر تغييره في وقت قريب، وإننا لفي مسيس الحاجة إلى مزيد من الفهم والإحاطة بعوامل نشر الأساليب الزراعية الجديدة، وتشجيع المجتمعات المتخلفة على قبول المعرفة المستحدثة، وكذلك ينبغي النظر في أمر تحديد النسل عند البحث في ترقية الأحوال الاقتصادية، ولعل الصعوبة في تحديد النسل في المجتمعات الزراعية ترجع إلى الآراء والمعتقدات. على أن تحديد النسل عندها يفيد في التطور الاقتصادي، ويعتبر بمثابة الزيادة في محصول الزراعة والصناعة، ومن الواضح أن الشعوب التي تريد المحافظة على نقص نسبة الوفيات ينبغي أن تقابل ذلك بنقص المواليد، ومؤدى ذلك قبول تحديد النسل، وأن تكون الحيطة لاتقاء الجوع والفاقة بمقدار قبوله في أوسع نطاق.
بيد أننا أمعنا النظر وأبعدناه إلى أقصى المدى فيما نترقب للعالم الواسع من الأطوار خلال القرن المقبل، فالمشاكل الكبرى من قبل الصناعة أهون من مشاكل العلاقات بين الناس، ودواعي التفاهم بينهم على التعاون والاتفاق، وأن ينظموا أنفسهم بحيث تنصرف عبقريتهم، وتصورهم إلى المشكلات التي تواجههم، وتتلخص مشكلتهم الكبرى في موالاة قوانا الفكرية بالتوسيع والتوفير والتحسين والتعبئة والتجهيز.
إن العلماء السلوكيين والأخلاقيين أخذوا يكشفون الغطاء عن بعض مبادئ السلوك الإنساني، وسيزدادون بها علما، ويعولون عليها في تربية أطفال أهم وأسلم، وفي تمكين الناشئين من الانتفاع - أتم انتفاع - بملكاتهم ومواهبهم، ولنا أن نأمل الاهتداء إلى آراء خير من آرائنا الحاضرة في إدراك طبائع الإنسان، وأسرار التفكير المنتج، وأسرار التخيل والبصيرة الباطنة، وكلما ازددنا علما بدوافع حركات الجماعات وبواطن السلوك الاجتماعي والسياسي، أعان هذا العلم على توجيه العواطف والأحاسيس إلى العمل البنائي والأهداف الصالحة، وعلى صرفه عن أعمال الهدم والعدوان، والإكثار شيئا فشيئا من عدد الشبان القادرين على الابتكار والإبداع، ولكن هل تتوافق المساعي الموجهة إلى الإصلاح الحيوي والسلامة البدنية، والمساعي الموجهة إلى تنمية الإدراك وسلامة التفكير؟ وهل يتخذ الإنسان الخطوة اللازمة في الوقت اللازم لحسن التصرف في مسائل التصنيع التي تفتأ تتشابك وتتركب على الدوام؟ هل يسوس الإنسان دوافع شعوره قبل أن تهلكه وتقضي عليه؟ ذلك هو محور المشكلات جمعاء.
لقد رأينا أن الإنسان قادر - من حيث المبدأ - إذا أراد أن يعيش عيشة الوفر والإنشاء في نطاق الحرية، وظاهر أن الصعوبات جمة، والأخطار كثيرة، ولكن الأمر الواضح هو ما ينبغي على الإنسان أن يقوم به لتذليل العقبات، ويبقى علينا أن نرى غدا هل يدرك هذه المشكلات في حينها ليبلغ إلى حظ من السلامة أوفر وأعلى، أو يسمح بضياع حظه الراهن من الحضارة، وذهابه إلى حيث لا نجاة ولا مآب، ومصير المجتمع الصناعي يدور حول السؤال عن اقتدار الإنسان على العيش مع أخيه الإنسان. •••
هذه البحوث التي لخصنا بعضها، وترجمنا بعضها بقليل من التصرف، قد ألمت بمستقبل التعليم فيما يواجه ضرورات التموين والتصنيع، وفيما يواجه ضرورات التفاهم والتعاون بين الأمم خلال الفترة التي تنقضي في تعميم هذا التعليم والترغيب فيه، ويرى الخبراء أن إعداد العالم للمعيشة الحرة الرخية أمر مستطاع ميسر الأسباب إذا صحت عزيمة الإنسان عليه.
وليس أوسع من آفاق التعليم وأغراضه عند الكلام على أثره في حاضر العالم ومستقبله، ومن هذه الآفاق الواسعة أفق التعليم فيما يحدثه الآن، وما يحدثه غدا من الأثر السريع في تكوين المجتمع وتأليف طبقاته وهيئاته التي تتولى شئون معيشته ومعاملاته، وهو ذلك التكوين الذي يرتبط بكل مصير قريب نتصوره لسياسة الأمم في داخلها، وسياسة الأمم المشتركة بينها. ومن أهم البحوث التي اطلعنا عليها أخيرا بحث للخبير الاقتصادي الأمريكي الأستاذ بيتر دراكر
Druker
عن تكوين الكثرة الاجتماعية من أصحاب المرتبات، ونتائج هذا التكوين فيما يتعلق بمذاهب الاجتماع، وأطوار الشعوب وخطط السياسة الكبرى. وقد افتتح الأستاذ بحثه مشيرا إلى الزيادة المطردة منذ سنوات ثلاث في عدد أبناء الطبقة المكونة من ذوي المهن الصناعية والفنية والإدارية بين سكان الولايات المتحدة، وقال: «إنه يعني بها الطبقة التي تجملها كلمة الطبقة الوسطى من أصحاب المرتبات.» ثم قال:
منذ ثلاث عشرة سنة - يوم خرجنا من الحرب العالمية الثانية - كان عمال الصناعة لا يزالون أكبر طائفة من طوائف المجتمع الأمريكي، ينتمي إليها واحد من كل أربعة في المجتمع، وكان ذلك ختام فترة بدأت منذ مطلع القرن التاسع عشر حين نشأت عندنا معامل المصنوعات، أما الآن فواحد من كل خمسة ينتمي إلى طائفة أصحاب المرتبات المختصين بالفن والإدارة، ويقرب عددهم من ثلاثة عشر مليونا.
إلى أن قال:
وفي سنة 1975 أي بعد سبع عشرة سنة فحسب نترقب أن يبلغ نتاجنا الصناعي ضعفي نتاجنا في الوقت الحاضر ، وأن يزداد عدد الصناع بيننا بمقدار الثلث، ولكن الطائفة التي تعلو نسبة زيادتها على نسبة الصناع، ونسبة السكان جميعا هي الطبقة الوسطى من أصحاب المرتبات، ومتى تمت دراسة الصبية والبنات الذين يدخلون المدارس الآن، ومضت سبع عشرة سنة، تضاعف عدد أبناء هذه الطبقة ضعفين، ووجب أن تكون نسبتهم نحو الخمسين من جملة القوى الصناعية.
ثم لاحظ الأستاذ دراكر ظواهر الزيادة في أنواع المصنوعات التي صاحبت نمو هذه الطبقة، فقال: إنها تتمثل على الخصوص في زيادة المطبوع والمتداول من الكتب الشعبية، وإن أثر هذه الطبقة ينجلي شيئا فشيئا في ثقافة الأمة، وسياستها وقيمها وعلاقاتها الاجتماعية، إلى أن قال بعد الإشارة إلى نظريات كارل ماركس: «إنه قد مضى عليها الآن قرن من الزمان، وأنها كانت تقوم على نظرة جريئة تنبئ عن ظهور الصانع، وعامل المكنة قوة نامية محركة في المجتمع، ومضت بعد ذلك خمس وسبعون سنة كان الصناع وعمال المكنات فيها حقا أكثر الطوائف نموا، وإن لم يبلغوا قط نصاب الكثرة في مجتمع من المجتمعات الصناعية، غير أنهم كانوا على حدة أكثر الطوائف عددا في كل مجتمع منها، مما أكسب الماركسية قوتها ونفاذها باعتبارها عقيدة وفلسفة على الرغم من مواطن ضعفها، واليوم - في الولايات المتحدة وغيرها - تنجم طبقة جديدة، وتسرع في نموها الذي يجعلها أكبر طائفة مستقلة بين مختلف الطوائف، وهؤلاء هم الفنيون أصحاب المرتبات الذين لا هم بأصحاب رءوس الأموال ولا بالصعاليك، ولا هم بالمستغلين ولا بالمستغلين.» •••
وفي بحث آخر يجمل الأستاذ دراكر إحصاءات التعليم بالنسبة إلى هذه الطبقة، فينقل عن إحصاءات مكتب العمل أن حملة الشهادات العليا أصبحوا في السنة الماضية - 1957 - هم الكثرة الغالبة بين المشتغلين بالصناعة في الولايات المتحدة، قال: «إنني لما بدأت العمل منذ نحو ثلاثين سنة كان التعليم الثانوي هو الندرة المستثناة، وكنت أنا يومئذ منفردا وحدي بإتمام هذا التعليم بين الكتبة الشبان في مكتب من مكاتب التصدير، ولم يكن رؤسائي يكتمون عني أن هذا التعليم كان عقبة - لا عدة صالحة - في سبيل الأعمال التجارية، وكان الذهاب إلى الجامعة في ذلك الحين مقصورا على القلة النادرة جدا بين المتعلمين، ولعلها كانت أكثر يومئذ من مثيلاتها في بلاد أوروبا الغربية.» •••
والنتيجة الطبيعية لتعميم التعليم الصناعي على هذه السعة، وبهذه السرعة أن تصبح الكفاءة البدنية أقل الكفاءات المطلوبة لتدبير لوازم المجتمع، وتنظيم معاملاته وعلاقاته، وأن تتوزع الأعمال بين كفاءات كثيرة: فكرية، ونفسية، وذوقية، لا يتأتى حصرها في طائفة واحدة، ولا يتأتي - من ثم - أن تطغى على المجتمع لتسليط مشيئتها عليه دون أن يلحقها شيء من الضرر الذي يلحق سائر الطوائف، وقد يأتي اليوم الذي تناط فيه الجهود الإنسانية بالأعمال التي يغنى فيها الإنسان على تفاوت ملكاته، ولا تؤديها الآلات مستقلة بها أو بإشراف من يديرها، فلا يتولى الفنيون عملا تقوم به المكنات في الوقت الحاضر والمكنات التي تترقى وتبلغ غايتها من الدقة بافتنان المخترعين والمقترحين من نوابغ الفكر والصناعة في المستقبل. وبعض هذه المكنات يقال عنه اليوم: إنه «يفكر» على سبيل المجاز، ويجري العمل فيه على نسق يشبه عمل الدماغ الإنساني في تلقي الإشارة، ونقل التنبيهات، وتنفيذ المقترحات، وكلما استدقت معارف العلماء بالكهربية الدماغية، وروقبت حركات الدماغ أثناء انفعالاته وتوجيهاته لحركات الأعضاء تبين الفارق بين عمله العقلي الخاص بالإنسان وعمله الجسدي من قبيل رد الفعل الذي تستطاع محاكاته في المكنات، وسيكشف الغد عن حدود هذه المكنات في أداء الأعمال التي لم توكل قبل الآن لغير الإنسان العاقل، فليس من المنتظر أن تجمع المكنة بين وظائف الأمر والتنفيذ، ووظائف الابتكار والتقليد، ولكنها ستؤدي - ولا شك - كثيرا من المساعدات الفكرية التي تستنفد الآن جهود الملايين من حذاق المتعلمين.
يقول الدكتور جورج تومسون
Dr. Gerorge Thomson
من أصحاب جائزة نوبل في العلوم من فصل بعنوان: الفكر الصناعي والطبيعي في كتاب المستقبل المكشوف
The Foreseeable Future :
من السائغ أن نترقب زمنا تحل فيه المعرفة الحقة بعمل الدماغ محل هذه المعرفة المترددة، وأصعب من ذلك أن نقدر أثر هذه المعرفة في الحياة الإنسانية، وأتكلم عما أعلم فأرى أن قليلا من المعرفة السطحية قد ارتفعت ارتفاعا عظيما بإعجابي وتقديري للإنسانية، فإن هذه المكنة المعقدة التي نملكها جميعا - أو التي هي نحن أن شئت - بما احتوته من دقائق تبلغ عشرة آلاف الملايين، وبما بينها من خيوط الاشتباك في العمل لتفوق كل حد ترتقي إليه أية صنعة نقدر عليها، وتخالف كل ما نعهده من هذه الكائنات التي ندرسها نحن الطبيعيين مخالفة الصور في طلاء الجدران للبلورات الحقيقية.
ثم قال: إن عرفاننا كيف نشعر قد يكون أعظم أثرا في أعمالنا من عرفاننا كيف نفكر ونتصور، وقد يدهشنا كيف يمكن أن نبقي نوازع العصبية الجامحة بعد العلم - من الوجهة الكهربية - بمجراها الذي جرت عليه عند تكوينها.
لننظر إلى الفكاهة مثل هذه النظرة، فإنما النكتة - كما هو ظاهر - مسألة انطلاق تيار أو إفلات مجموعة من الدوافع المتناقضة لنتخذ لها نسقا آخر، فهل تبقى فيها أعجوبتها إذا علمنا بهذا النسق الآخر: ما هو وكيف يكون؟ إنني لأرجو ذلك حقا، فلا ينقص من متعتنا بالمسرحية أو القصة علمنا بأنها مؤلفة، ولعل الأمور التي يجب على الناس أن يكبروا من خطرها هي التي تصاب أشد المصاب من جراء ذلك، فإن المبادئ ليعسر الثبات عليها بعد العلم بأنها أشبه شيء بالدورة الكهربية، وقد ينجم من ثمة ضرر على الخصوص لتلك العقول - غير القليلة - التي يخيل إليها أن الرجوع بأصول الإنسان إلى أصول الإحياء الدنيا يغض من كرامة البشرية، وإنه لمن المهم عند من يحرصون على استبقاء المبادئ - وليس منا من لا يحرص عليها - أن يوطنوا أنفسهم على ما يكون من هذه الحقيقة، وأن يتعلموا كيف يحافظون على ما نشعر الآن أنه جدير بالمحافظة عليه، وإن تبدلت منه الصورة دون الجوهر، وإنه لمن الخطأ أن يرد على الخاطر أن العلم والقيم شيئان مختلفان لا يؤثر أحدهما على الآخر، فإن الكون الذي يحيط بأفكارنا وأحاسيسنا واحد، وليس فيه جزء ينفصل كل الانفصال عن سائر أجزائه. •••
إلى هذا الأمد يمتد الأمل في التعليم والصناعة، وتتعدد الآمال فتتفق ولا تتفق، ولكنها على الحالين لا ينتفي منها الأمل في انتفاع الفكر بالصناعة، وانتفاع الصناعة بالتفكير .
الفصل الثالث
الفضاء
كان السؤال الشائع بين المشغولين بأمر الطيران في مطلع القرن العشرين: هل من الممكن أن يطير في الفضاء جسم أثقل من الهواء؟
وكان المرتابون في إمكان ذلك كثيرين، بينهم فئة معدودة من العلماء وخبراء الصناعة، غلب على اعتقادهم وتفكيرهم أن الطيران لا يتأتى بغير وسيلة واحدة، وهي وسيلة المناطيد التي تحملها القباب مملوءة بأنواع من الغاز أخف من الهواء، وما عدا ذلك فهو خرق لقانون الطبيعة كما فهموه.
وتقدم القرن العشرون إلى منتصفه، ثم جاوز منتصفه بسنوات فأصبح السؤال الشائع بعد نيف وخمسين سنة: هل من الممكن أن نستغني عن الهواء في تسيير الطيارات؟
لم يتغير شيء في هذه السنين من قوانين الحركة، ولا من العلم الذي يرصدها ويتولى تطبيقها، وإنما تغير التطبيق فأصبح خبراء العلم نفسه يسألون عن إمكان الاستغناء عن الهواء بعد أن كان السابقون لهم في مدى سنوات يحسبونه «وسطا» لا يصلح للطيران.
وجواب الثقة عن هذا السؤال: نعم! إن تزويد الطائرة بالأجهزة التي تدفعها في فضاء لا هواء فيه ممكن، وإن استخدام الوسائل الكيمية والكهربية يذلل الصعوبة التي كانت قبل الآن عصية على التذليل بغير الدفع الجوي، فليس من المستحيل، ولا من البعيد في الواقع أن تصنع الطيارة التي تجوب الأفلاك العليا فوق جو الأرض وبين آفاق السيارات، ولا تعرف الآن صعوبة فنية تحول دون الرحلة إلى الكواكب إذا استطاعها الإنسان، أما استطاعة الطائرات أن تصمد لتلك الرحلة فليس فيها الآن خلاف.
يقول سير جورج تومسون صاحب جائزة نوبل في الطبيعيات: «ومهما تكن الطريقة المتبعة، فإن تسارع الصاروخ على مهل بعد مجاوزته جو الأرض أمر لا يعرف له مانع، ولا يعارض قاعدة من القواعد الطبيعية، ورد الفعل النووي كفيل بتدبير الطاقة الطرفية، ولا خوف من الإفراط في التسخين مع استخدامه على مهل، في حين أن المواد اللازمة ليست مما يمتنع تدبيره، مع الدفع بهذه السرعة، وقد يحوم هذا الصاروخ في مدار المنظومة الشمسية ويطيف بالسيارات وبالقمر، ويعتمد على الأجنحة عند عودته إلى الأرض لنقص السرعة بمقاومة الطبقات العليا من الجو.»
ويرى هذا العالم المحقق أن اتخاذ المراكز من الأقمار الصناعية لتجديد الاندفاع إلى الآفاق العليا يدخل في نطاق المعلومات الصناعية الميسرة للخبراء في العصر الحاضر، قال: «وهناك مشروع يهتم به فون برون
Von Braun
الذي رسم القمر المسمى بالراند الثاني
V.2
في الولايات المتحدة يرمي به إلى إدارة قمر دائم حول الكرة الأرضية، ويمكن اتخاذه محطة وسطى للسفر إلى السيارات، ويحتاج تركيبه إلى إطلاق أجزاء صغيرة بالصواريخ تتجمع في الفضاء على النحو الذي قدمناه، ويستطاع تزويد هذا القمر بجاذبية مصنوعة إذا تم تركيبه على شكل إطار يدور دورة سريعة تطرد كل شيء في وسطه بالقوة المركزية إلى جداره.»
1
وبعد أن شرح الأستاذ تومسون كل ما يرد على خاطر العالم من مصاعب السفر إلى الكواكب قال: «إن الظاهر من هذه العجالة أن صعوبات السفر بين الكواكب كثيرة عدا صعوبة الإفلات من أفق الأرض، ولكن لا يرى أن هناك صعوبة أساسية، ولا يسعنا إلا أن نطمئن على ثقة بأن براعة المهندسين تتغلب عليها خلال الخمسين أو المائة السنة التالية.»
وأحدث ما اطلعنا عليه في هذا الموضوع كتاب عنوانه: «صاروخ إلى القمر» ألفه المهندس النرويجي إريك برجوست، وخبير الطيران والقذائف الأمريكية سبروك هل، وقدم له فون برون مهندس الأقمار الصناعية - المتقدم ذكره - عجل فيه المؤلفان بالموعد المنتظر من خمسين سنة إلى سبع سنوات، وقالا في الفصل الأول منه: «إن الخطوة التالية - بغير ركب إنساني - تحتاج إلى أجهزة من الأقمار الصناعية أفضل وأكبر، ثم إلى أقمار تحمل الحيوانات، ثم إلى أقمار تحمل الحيوانات وتعود بها سالمة إلى الكرة الأرضية، ومتى تم ذلك استطاع الإنسان أن يذهب إلى الفضاء، ولكن الفتح العظيم الذي يقارن بإطلاق القمر الصناعي الأول إنما هو استطاعة الإنسان أن يهبط على سطح القمر، ويرجى أن يتم ذلك - بل قد يتم فعلا - قبل سنة 1965 في أقل من سبع سنوات.»
2
ويقول مهندس الأقمار الصناعية في مقدمته لهذا الكتاب: «إن تحقيق المخترعات الصاروخية المطلوبة لا يعوزه شيء من معرفة المبادئ العلمية والصناعية، وكل ما يحتاج إليه عزيمة ومال.»
والمؤلفان يستهلان كتابهما ببيان الأغراض التي توجب على أبناء العصر الحاضر متابعة النظر في تحقيق رحلات الفضاء، فيذكران في مقدمتها حب الاستطلاع، ويستشهدان بكلام للمهندس الكبير فون برون يقول فيه: «إن سببا من أول أسباب البحث في كل كشف أو ارتياد جديد يتلخص في مجرد التشوف وحب الاستطلاع، وليس من الحكمة ولا من الخبرة الواقعية أن نصر - سلفا - على المسوغات لكل بحث من هذا القبيل على أساس المنفعة العاجلة والنتائج العملية المحتملة، فإن تاريخ الفنون والمعارف الصناعية زاخر بالأمثلة التي تثبت أنها لا تقدر على دراية الإنسان بالأنباء عما تسفر عنه الكشوف والمخترعات.»
ويلي هذا السبب المفروض في جميع البحوث والمحاولات سبب معروف النتيجة يقوم على غريزة حب الحياة، والدفاع عن الذات، ويكفي أن يكون الاختراع صالحا لاستخدامه في هجوم أمة على أمة كي يكون العلم به واجبا لاتخاذ الحيطة والدفاع، ويقول المؤلفان: إن تنظيم البعثات المشتركة لارتياد الفضاء فوق القمر محتمل، بل قريب الاحتمال، ولكن الاتفاق على احتلال القمر بعيد؛ لأن استخدامه في الأغراض الحربية يغري السابقين إليه بالاستئثار واجتناب المشاركة فيه جهد المستطاع.
أما السبب الذي لا شك فيه ولا اختلاف عليه فهو جمع المعلومات، وكشف الحقائق عن أسرار العناصر المادية، وأسرار الضوء والطاقة المغناطيسية والجاذبية، وما إليها من الأسرار التي تتفتح مغاليق الطبيعة أمام من يعلمها، وتزيده عرفانا بحقائق الكون وما فيه ومن فيه من الأحياء العاقلة، إن كان فيه أحياء عاقلة غير الإنسان، وقد يشهد البشر يومئذ شهادة العيان أمورا من خفايا الغيب ظلت آلاف السنين حيرة للأفكار، ومسبحا لشوارد الظن والخيال.
الفصل الرابع
حكم العالم
يتفق الراسخون في علوم الاجتماع - من أصدقاء السلم والإنسانية - على رأي واحد في أنظمة الحكم التي تصلح للعالم بعد القرن العشرين، قوامه أن يمتنع طغيان الدول القوية على السياسة العالمية، وأن يكون تدبير مصالحه موكولا إلى هيئة دولية، لا يضيع فيها صوت أمة من الأمم، ولا تنسى فيها مصالح المتخلفين والمستضعفين.
ويكتب الجلة من ذوي الخبرة والنية الصالحة عن هذا الرأي كأنه المخلص الوحيد من شواجر النزاع والصدام بين الأقوياء، وبينهم وبين الضعفاء، فإذا جعلوه أملا مرموقا فهم لا يجعلونه كذلك؛ لأنهم على ثقة بينة من بلوغه وإمكانه، وإنما يتعلقون به لأنه المخلص الوحيد من أخطار الحكم في المستقبل، فينبغي أن يكون الأمل الوحيد؛ لأنه المخلص الوحيد.
وهؤلاء الثقات المتعلقون بهذا الرجاء يقاربونه على منهجين: منهج أقرب إلى الفلسفة العلمية، ومنهج آخر أقرب إلى السياسة والإحصاء، ولعلهم على هذين المنهجين يتمثلون على أحسن الوجوه في كاتبين من أبرز كتاب العصر في هذه الموضوعات، وهما الفيلسوف الرياضي برتراند رسل، والمؤرخ الاجتماعي هانس كون، وكلاهما معدود اليوم في طليعة الكتاب العالميين.
آراء برتراند رسل في الحكم العالمي ومصير الإنسانية مبسوطة في كتبه الكثيرة، ملخصه في آخر ما صدر منها عند منتصف القرن العشرين، وهو الكتاب الذي سماه: «آمال جديدة لدنيا متغيرة»،
1
وجمع رءوس موضوعاته في بضعة أسطر يقول فيها: «إن الحياة في العصر الذري معنية بوسائل العلاج الثلاث من المشكلات التي طالما ابتلي بها نوع الإنسان، وهي مشكلة النزاع بين الإنسان والطبيعة ومشكلة النزاع بين الإنسان وسائر الناس، ومشكلة النزاع بينه وبين نفسه، والمشكلة الأولى من شأن العلم، والثانية من شأن السياسة، والثالثة من شأن الدين والدراسات النفسية.»
وعنده أن الفقر لم يعد في عصر الصناعة الحديثة ضربة لازمة، ولا محنة محتومة على الأكثرين من بني الإنسان، وإنما يعود الإخفاق في علاج مشكلته إلى رسيس من العقائد والعادات البالية، لا موضع لها من الحياة الحديثة، وإن هذه الحياة الحديثة قد أبطلت الحاجة إلى المزاحمة على الأرزاق، وجعلتها أقل ما يكون لزوما لمن كانوا يتزاحمون عليها، وأن المخاوف الرثة التي خامرت النفوس دهرا طويلا لا ضرورة لها الآن، وأن الإنسان العصري في وسعه أن يزيل وساوس الخوف والقنوط.
واستطرد إلى الفريضة التي يتطلبها تحقيق هذه الغاية فيما تتولاه أنظمة الحكم، فقال: «ينبغي أن تكون هناك هيئة عالمية تشرف على تدبير الأغذية والخامات، وأن يكون في وسعها منع الأساليب الزراعية التي استنفدت التربة في أفريقيا الشمالية والولايات المتحدة، فلا يسمح للزراع بالاستكثار من الثراء بتبديد موارد الرزق التي تعول عليها الأجيال المقبلة.»
ثم قال عن النزاع بين الإنسان وسائر الناس: «إن الخطر الأول هو خطر التهديد بالحرب، فلا قرار لشيء من الأشياء مع بقاء الناس على خوف من نشوب القتال، ولا سيما القتال بآلاته الحديثة، وما من وسيلة تعصم الإنسان من هذا البلاء أنجع من تزويد العالم بقوة عالمية واحدة تملك المحاجزة بين الدول، ولا ضرر من قيام الجيوش المحلية التي تحفظ الأمن في بلادها بالوسائل الميسرة للشرطة، ولكن الأسلحة الوبيلة جميعا ينبغي أن تعهد إلى القوة العالمية التي لا تنفرد بها دولة واحدة.»
ثم يعرض الفيلسوف لمسألة التعليم فيقول أنها ينبغي أن تقوم على مبادئ عالمية، وأن يمتنع التعليم الذي يغري بالعدوان، وينفخ في جذوة البغضاء والنقمة بين الشعوب «وينبغي أن نتدرج إلى تعميم التجارة الحرة، وأن تباح حرية السياحة على النحو الذي كان شائعا قبل الحرب العالمية الأولى، وأن تتبادل الأمم طلابها لكيلا يتعرض الكثيرون في شبابهم لآفة التحجر على العادات والتقاليد.»
ثم يعرض للشخصية الفردية فيقول: «إنه من اللازم أن يحمى الفرد من طغيان الجماعة كما يحمى من المخاوف التي تساوره في قرارة وجدانه، وهما ضرران بينهما من الارتباط أشد مما يخطر للكثيرين، إذ يغلب على طغيان الجماعة أن يكون وليد الوساوس والخوف.»
قال: «وينبغي اجتناب القسر في التنسيق، والتوحيد بين الشخصيات الفردية مما يحق للمجتمعات المصنعة أن تخشاه، ويجب عليها أن تتقيه بما استطاعت من تدبير، ولا بد من فسح المجال للأفذاذ الموهوبين كالشعراء والفنانين الذين لا يظفرون بالتأييد من أصحاب التقاليد.»
واختتم فصوله قائلا: «إن الإنسان في أدهاره الطويلة منذ هبط إلى الأرض من أغصان الشجر، قد تقحم الفجاج المرهوبة وتركها وهي محفوفة بعظام الهالكين ممن سلكوها قبله، يداخله جنون الجوع والضنك، والفزع من الضواري، والرهبة من الأعداء، أعداء من الأحياء ومن الأشباح التي تساوره وتتعمق في وجدانه بما تغلغل فيه من الأوجال والأوهام، وبعد لأي جاوز الصحراء إلى الأرض الباسمة، ولكن بعد أن نسي كيف يبتسم، وأصبحنا نرتاب ولا نصدق بالصباح البهيج والنهار المنير، نحسبه من الوهم الكاذب ونتشبث بالخرافة البالية والأسطورة الكامنة التي تملي لنا في حياة الخوف والكراهية، ولا سيما كراهية ذواتنا، والنظر إلى أنفسنا كأننا بقية من المذنبين الخطاة، تلك حماقة، فما يحتاج الإنسان اليوم لخلاص نفسه إلا أن يفتح قلبه لفرح الحياة، ويدع الخوف يتسرب في ظلمات الغابر المهجور.» •••
وقد استوفى الأستاذ هانس كون بحث الموضوع من ناحيته التاريخية السياسية، فاستهل كتابه عن القرن العشرين بتفصيل أطوار الأمم التي سلفت منذ ثلاثة قرون، وكان لها أثرها في ظهور القومية والعنصرية، وحركات الاستعمار، ومذاهب الحكم المطلق، ومعارك الطبقات، وسائر هذه الأطوار التي تعد من بعض وجوهها حواجز بين الأمم، وتعد من حيث النظر إلى نتائجها مقدمات لا بد منها لتطور العلاقات بين الأمم من العزلة إلى العالمية، وانتهى به المطاف إلى تلخيص المعقبات التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، فقال في الفصل الرابع عشر من الكتاب: «إن هذه الحرب قد جددت للديمقراطية قوتها الحيوية، وإنه لا خطر على الأمم التي تدين بها من طغيان مذاهب الاستبداد على أنواعها، وإن حماية الأمم الديمقراطية لا تتم بإعداد السلاح وحده؛ لأن سلاح التفكير لازم لها لزوم العدة العسكرية، وقد تعلم الأمريكيون في العشرين سنة الأخيرة أن يحرروا أنفسهم من العزلة المريحة، وفهموا أن حدودهم لا تنتهي عند شواطئ بلادهم، وأن ذلك لا يعني أن تفرض الدولة مشيئتها على الأمم؛ لأن عبرة الماضي القريب قد أبرزت خطر هذه السيادة على سلام العالم وعلى الدولة التي تحاولها.» قال: «إن الأمريكيين حريون أن يعلموا أن الحضارات المنوعة والتقاليد المتعددة تعيش معا في هذا العالم، وأن ثروة التنوع أهم عناصر التاريخ والتقدم، ومن المستحيل في دور الانتقال أن يتطور العالم على نظام واحد، وفي هذه المرحلة من التاريخ لا يتأتى الاتفاق التام بين أجزاء العالم، ولا يقتضي ذلك حتما وقوع القتال، وعلى الأمم الغربية أن تعيش خلال هذه الفترة دون اتفاق ودون حرب جنبا لجنب مع الأمم الشيوعية، وهو أمر يتطلب القوة والصبر وبعد النظر، ولكنه لا يعوض بالحلول السريعة، ولا بالطريق المقتضب، ولا بالترياق السريع.»
الفصل الخامس
إلى مليون سنة
توفرت المباحث التي لخصناها من قبل على بيان «حالة العالم» عند نهاية القرن العشرين، وفيما يليه من زمن قريب، وأحجم الباحثون عمدا عن الخوض فيما وراء ذلك ذهابا مع الزمن المتطاول؛ إيثارا منهم للوقوف عند حدود الإحصاء، وما هو أشبه به من ضروب التقدير، ولم يجدوا في التقديرات المحسوبة معينا لهم على تقدير المصير «الإنساني» الذي يتصل بنفس الإنسان أو طبيعة الإنسان.
تلك هي حالة العالم في شئون المعيشة، وفي موارد الصناعة والطبيعة، تلك هي معيشة الإنسان بعد مائة سنة؟ فكيف يكون الإنسان نفسه في تلك الحقبة؟ كيف يكون الإنسان روحا وخلقا وضميرا في ذلك العالم الموعود؟ إن صحت جميع المواعيد؟
وكيف يكون بعد السنين المائة وبعد القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين؟ كيف يكون بعد خمسة قرون وبعد عشرة قرون؟ وبعد الدهر الطويل الذي يحسب بآلاف السنين.
إن هذه الأسئلة لم تترك بغير جواب يفهم من خلال السطور، وإن لم يرد لها جواب مقصود على سؤال مذكور، ومن الباحثين العلميين من أطلق فكره من قيود الإحجام العلمي، وجازف بالنبوءة وراء القرون إلى الدهور، ونظر إلى الإنسان كما سوف يكون بعد مليون سنة، فإذا هو ينطلق من إحجامه في عداد السنين، ويكاد يتعثر في القيود كلما زحف زحفة واحدة في تلك الآماد الطوال، فلم يكن في حسابه أن مليون سنة قد تنفسح يوما من الأيام لطارئ غير مألوف من طوارئ الغيب، أو تسمح بشيء من التغيير يخالف التغيير الذي سمح به للأعوام التي تعد بالألوف أو بالمئات. •••
في كتاب صورة الغد لمؤلفه «جورج صول» أمل يرجى «للإنسان» من طريق التقدم في مجمل أحواله وأعماله ومعاملاته، يناط كله بالتعليم الذي لا بد منه لترقية الصناعة، وتدبير مطالب المعيشة.
ليس للإنسان أمل في عالم يحكمه القلة من الأذكياء والخبراء، وينقاد فيه للحكم المطلق جماهير الرعايا المسخرون على كره أو على طواعية، فقد أفلس حكم كهذا الحكم منذ القدم في دولة الرومان.
وليس للإنسان أمل في عالم تستغرق أوقاته في الكد والهم، ولا يتسع فيه بعض الزمن لعمل من أعمال الفراغ يقضي على اختيار وشوق بعد قضاء مطالب المعدات والجلود: مطالب الحيوان.
إنما الأمل للإنسان - لروح الإنسان - في عالم تتكفل فيه الصناعة بأكثر المطالب في أقل الأوقات، ويبقى فيه شطر من اليوم يقضيه الإنسان فيما يختاره، ويختار فيه ما يرتضيه العارف المدرك الآمن على الكفاية فوق الكفاف.
يقول المؤلف في ختام فصوله: إن علوم التصنيع تبدل من حالة العالم الذي نعيش فيه تبديلا قويا خليقا أن يبدل من وجهات العقول، فليست الآمال ولا الأحكام التي كانت ملائمة للمجتمع قبل بضعة أجيال بالتي تصلح لهذه العقول، ولنجمع هنا طائفة من وجهات التغيير التي تجري الآن والتي يرى أنها وشيكة أن تجري في الزمن القريب، كي نبني عليها «تخمين» وجهات الفكر بعد التبديل المنظور.
إن بعض أبناء هذه البلاد لا يقدرون على الكفاية من القوت والكساء والمسكن الصالح، ولكن الظاهر من نمو الدخل الفردي أن هذه الحالة قريبة إلى النهاية في الولايات المتحدة، وينتهي بانتهائها أقدم خوف للإنسان وهو الخوف من الفاقة، وكلما اقتربت الحالة من إشباع مطالب الكفاية تحولت هذه المطالب إلى غير الماديات، وإنها لمطالب حاضرة نحسها جميعا، وإنما يتناول التغيير المنظور أن نتمكن من تخصيص مزيد من الوقت والسعي للحصول عليها.
وقد أدى ارتفاع مستويات المعيشة المادية في الولايات المتحدة إلى التقدم السريع نحو المساواة في الدخل والمورد، ويؤخذ من الإحصاءات منذ سنة 1930 أن فئات المشتركين في الدخل الواحد والمعيشة الواحدة تنقص على عجل، ويصح هذا حتى بعد تعديل الإحصاءات من جراء ارتفاع الأسعار، وعلى حسب قيمة الدولار سنة 1950 يحصل نحو الخمس من تلك الفئات على دخل يقل مقداره عن ألف دولار ما بين سنتي 1935 و1936، فهبط هذا العدد إلى أقل من العشر سنة 1950، ومعظمنا على تفاوت مواردنا نلبس من أصناف متشابهة من الكساء، كما نأكل أصنافا متشابهة من الطعام، ونسكن في حجرات تتقارب عند المقارنة بينها، ولا تزال السيارات الرخيصة تدنو في مظهرها وسرعتها من ذوات الأثمان الغالية عاما بعد عام، ويرتفع عدد العائلات التي تملك سيارة واحدة على الأقل إلى نسبة تضارع ثلاثة أرباع عدد العائلات في البلاد، وهذه حالة تختلف كثيرا عما كان مشهودا قبل فترة من الوقت، ولا يزال مشهودا في كثير من البلاد حيث يعتبر اقتناء السيارة والتفرغ للرياضة والاستمتاع بالأطعمة الحسنة مزية من المزايا الاجتماعية النادرة.
ويشكو بعض النقاد من أن هذه التسوية مفضية إلى صورة من المشابهة على نمط واحد لا تنوع فيه، إن لم تفض إلى نمط من المماثلة الجامدة، وهذا خطر ولا ريب، إلا أن النتيجة أشبه أن تكون انتقالا إلى التمييز بين الأفراد بغير المزايا المادية، من أن تنتقل بنا إلى فقدان الشخصية، واختفاء التنوع في الأذواق، فيكثر عدد الأفراد الذين ينفقون أوقاتهم في مرضاة أذواقهم وتعبيرا عن ذواتهم، ولا يفرغون للمنافسة على مظاهر الثروة المادية، ومن كانت الوجاهة لديه بغية غالية كان أحرى أن يلتمسها بإنماء ما عنده من ملكات المهارة والذوق والمزايا الأدبية، ولم يلتمسها في المظاهر والأعراض، ولا ينتظر أن تزول المنافسة بين الناس، ولكنها تتحول على نحو أوسع وأشمل من الماضي إلى منافسة على السبق في خصلة من الخصال غير النجاح في كسب المال والمغانم الاقتصادية.
وتدل اتجاهات العمل على أن عدد العمال المشتغلين بإنتاج السلع المادية في التعدين والزراعة والمصنوعات آخذ في النقصان، وأن الزيادة تطرد في عدد العمال المشتغلين بتوزيع تلك السلع وإدارة المواصلات وسائر الخدمات ما عدا الخدمة المنزلية التي تميل كذلك إلى النقصان، وبعض هذه الخدمات قد دعت إليه الحاجة من ترقي العناية بالصحة، وكثرة الطلب لمن يطببون المرضى، ويشرفون على أسباب الوقاية، وبعضها قد دعت إليه الحاجة من كثرة طلب المتعلمين للإقبال على المدارس الثانوية والكليات، وينجلي الواقع في كثرة الطلب على المعلمين والمدرسين من أن عدد الموظفين الحكوميين يربى على عدد المستخدمين في المرافق الخصوصية، وأن وظائف الحكومة إنما تخصص لتوفير أنواع من الخدمات التي تقتضيها حياة الحضارة الصناعية، ومعنى التحول من إنتاج السلع إلى أداء الخدمات أن هناك تحولا من مزاولة الأشياء الجامدة إلى مزاولة المعاملات مع الناس، وتوكيد العلاقة المشتركة بينهم والبواعث العاطفية التي تتولد منها، ومنها بواعث الشعور بقضايا الاجتماع التي تتميز بها حضارتنا، وأبرز التغييرات وأحراها بالالتفات إليه أن عدد العاملين غير الفنيين ينقص على العموم، ولا يقف النقص فيه عند قلة النسبة إلى مجموعة السكان، ومغزى ذلك استئصال المشاق التي تضعف القدرة عليها بعد تجاوز الأربعين، وتقل أجورها، ويكثر فيها التعرض للبطالة.
ولما كان الناس يعملون من عشر ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة كل يوم، كان لا بد لهم من وقت للراحة وتجديد النشاط للعمل؛ كي لا تكون أعمارهم سلسلة متلاحقة من الكد والمشقة، أما وأسبوع العمل الذي يكتفي فيه بأربع وأربعين ساعة يوشك أن يعم وأن ينقص إلى أقل من ذلك قريبا، فالوقت متسع أمام كثير من الناس لقضاء الفراغ في الشواغل الجدية لا لمجرد الراحة والاستجمام، وكلما اقترب أسبوع الساعات الأربع والعشرين من التحقق فكر ذوو الفطنة في طريقة يشغلون بها ستة أسباع أوقاتهم، وليس الكسب الذي ينتظرونه من ذلك مالا يشترون به مزيدا من بضائع السوق، بل أحرى أن يكون وسيلة لإشباع ما يروقهم مما يفضلونه على المشتريات بعد استيفاء الضروريات، ومن ذلك الرياضة الصحية، واللهو السائغ، والمرح الجياش بالشعور، والمتعة بإتقان بعض الهوايات، وتذوق الفنون، ولذة المعرفة، والقيام بالخدمات النافعة في الحياة السياسية والاجتماعية، وإن المجتمع الذي يتاح لكل فرد فيه على وجه التقريب أن يختار ما يشاء أن يشغل به معظم أوقاته ولا يساق اضطرارا إلى العمل الذي يجده كائنا ما كان، لهو مجتمع خليق أن يوصف بالمجتمع الحر على مثال أفضل وأوفى من كل مجتمع عرفناه فيما سلف، وهذه حرية تقترن كسائر الحريات بتبعة الاختيار الحسن كما يجوز أن يساء استعمالها، ومتى شعر الناس بالحاجة إلى اجتناب هذا الاستعمال السيئ لنشدان السعادة، كان شعورهم هذا حافزا هاما لابتكار الجديد من النظم الاجتماعية وأساليب العرف والعادة.
والمعلوم أن النوع الإنساني ينفرد بين الأنواع بصفة حيوية هي حاجته إلى الحضانة الطويلة، وتمتاز الثقافات المتطورة على ما دونها من الثقافات بطول الوقت الذي تستلزم قضاءه في التعليم والاستعداد، وليست الحضارة الفنية المتطورة بالاستثناء لهذه القاعدة، ففي سنة 1910 كان نحو 86 في المائة من أبناء الولايات المتحدة بين السابعة والثالثة عشرة منتظمين في المدارس، وهي سن يفرض فيها التعليم الإلزامي الآن، وفي سنة 1950 كانت نسبة المنتظمين في هذه السن نحو ستة وتسعين في المائة، ويتضح الفرق كلما ارتقينا في السن بعد ذلك إلى الرابعة عشرة والخامسة عشرة إذ تبدأ الدراسة العالية، فإن النسبة وثبت من خمسة وسبعين في المائة سنة 1910 إلى نحو اثنين وتسعين في المائة سنة 1950، والنتيجة التقريبية أن نحو ثلاثة أرباع عدد الشبان والشابات قد أتموا دراستهم العالية أو هم موشكون أن يتمموها.
وليس أمام مجتمعنا في المستقبل مسألة أهم من مسألة التعليم، وبغير إنجازها على الوجه الأمثل لن يكون لدينا الخبراء المختصون اللازمون لإدارة دولاب المجتمع المترقي في الاقتصاد الصناعي، ولن يكون لدينا الظهارة التي لا غنى عنها، للتعليم الحر المطلوب لفهم المشكلات المعقدة، ومعالجتها حق علاجها، مما يرتبط بذلك التطور، ويسايره في أحوالنا القومية، وعلاقتنا الدولية.
على أن التعليم لا يتوقف بجملته على المدارس وحدها، فإن المفكرين الكفاة يثابرون على تعليم أنفسهم زمنا طويلا بعد نهاية السنوات المدرسية، ولكن لا بد من اقتدار المدرسة على تربية الأذواق، وتوليد الميل الذي يعين على كسبها، وإن النجاح في هذه المحاولة يؤدي إلى إتقان العمل في الصنعة كما يؤدي معه إلى حسن استخدام الوقت بعد الفراغ من العمل المطلوب لكسب الرزق، وقد نصل إلى الثقافة الناضجة في حضارتنا الصناعية من طريق المساعي التي نبذلها طلبا للفطنة النافعة في تكوين أفكار ومبادئ تعيننا على المساهمة في مقاصد الفعل التي لا حد لها، ومحاسن الفنون، وسائر ما يهذب الشخصية الإنسانية، ويهذب معها المجتمع الذي تعيش فيه، ولا يكون قصارى الأمل من تلك المساعي المبذولة أن تجلب لنا الثروة والمظاهر المادية.
ومن الجانب الآخر يخشى الخطر الجائح من الإخفاق في استخدام السيطرة على الطبيعة التي أتاحتها لنا الخبرة الصناعية استخداما يهدف إلى الغايات الإنسانية؛ إما من التطوح إلى الحروب، أو من إقامة المجتمع على أنصاب من الآدميين محيت ملامحهم الشخصية. فما استطاع من قبل - حتى الرومان - أن يضمنوا طول البقاء لمجتمع يقوم على نخبة من العلية الأذكياء، وجمهرة من الرعية تراض على السكينة بالخبز وحلقات الألعاب، وإن المجتمع الغني الديمقراطي لينوط أكبر الرجاء بما لجميع أبنائه من الكفايات والأخلاق.
1 •••
على هذا النمط يسبق الكاتب الغد بنظرته إلى عواقب اليوم، فيخطو على مهل ويتجنب الوثبة، ولا ينسى مواطن الزلل مع عثرات الأمل، فلا نبوءة في الواقع هنا، وإنما هو ترتيب لسلسلة من الحلقات يتبع بعضها بعضا، ولا تأتي بجديد على غير انتظار، فالصناعة تقارب بين الأعمال والأرزاق وتمهد السبيل لكسب الوقت الذي يبذله من يشاء في تحصيل المزايا والأذواق التي توفر ثروات العقول والنفوس، ولا تحصر التقدم الصناعي في توفير المال والعتاد، وهذا إن شاء من يملكون سعة الوقت أن يبذلوها في مقاصد الفكر والروح.
وذلك هو مصير «الإنسان» كما تنبئنا به هذه «النبوءات» الوئيدة على حذر لا يخلو من رجاء، ورجاء لا يخلو من حذر.
وفي حدود هذه الخطوات الوئيدة ينظر كاتب علمي آخر إلى مصير «الإنسان» في عصر الصناعة، أو ينظر - كما قال في عنوانه كتابه - إلى الناحية الإنسانية من العلم فيعلق مصير الإنسان كله على «تربيته الشخصية» ويربط بين تربيته الشخصية وشواغل المادة ومطالبها، فلا يراهما منفصلين، ولا يراهما مع ذلك شيئا واحدا تستغرقه الماديات، وتستأثر به كله مطالب الرغد والرخاء.
وخلاصة تقديراته أن الإنسان يمكن أن يكون إنسانا تاما بشخصيته تامة، ولكنه لا يكون كذلك إلا إذا التفت إلى كل جانب من جوانب «الشخصية الإنسانية»، ولم يقصر التفاته إلى جانب المادة أو جانب البدن منها؛ لأن الشخصية الإنسانية عاطفة وعقل وضمير وليست مجرد أعضاء ووظائف وخلايا وأعصاب، ولو عرف الإنسان كل شيء من تركيب بدنه لما أحاط بأسرار قواه الشخصية، ولما نفذ إلى حقيقة سر الحياة، فإننا لا نعرف الموسيقى إذا عرفنا كل دقيقة وجليلة من الأخشاب والمعادن والأوتار التي تدخل في تركيب العود والقيثار والبيان، وبعض علماء الحياة يراقبون تغذية الحيوان ويلاحظون مثلا أن العواطف تتأثر ببعض الأغذية فتنقص أو تزيد: لاحظوا أن الفارة التي يقل المنجنيز في غذائها تهمل صغارها ولا تعطف عليها، وأنه لحسن منهم أن يلاحظوا هذا، ويصلوا منه إلى زيادة حصة الحيوان من ذلك الغذاء، ولكنهم إذا جاوزوا ذلك فقالوا: إن عاطفة الأمومة هي مقدار معلوم من المنجنيز فهم مخطئون، وخطؤهم في هذا الرأي كخطأ القائل: إن نغمات الموسيقى أخشاب وأوتار، وإن نقص الغذاء لينقص حركة الجسم وحركة الدوافع الحية، ولكن مادة الغذاء وعاطفة الحياة شيئان مختلفان، ومن الواجب أن نعرف تركيب الجسم وتركيب كل مادة فيه، ولكننا لن نعرف الشخصية الإنسانية من معرفة هذا التركيب؛ لأن هذه الشخصية الإنسانية تكوين عجيب يعجزنا الآن لأن نسبر أغواره، ولكننا قد نلمحها لمحا إذا لاحظنا الفوارق التي لا نهاية لها بين إنسان وإنسان، أو بين شخصية وشخصية، فلكل إنسان صوته، ولكل إنسان ملامحه، ولكل إنسان خطوط أصابعه، ولكل إنسان كتابة لا يكتبها غيره، ولكل إنسان تركيبه في فصيلة الدم وخلايا البروتين، ولكل إنسان قابليته للصحة والمرض وللمقاومة والإصابة، وهذا كله في المحسوسات التي ندركها بأيسر نظرة. أما الخفايا فمنها ما يجهله الإنسان نفسه في وعيه الباطن أو في وعيه الذي لا يتضح للشعور، ونعلم أن أدواتنا العلمية لا تمكننا من كشف هذه الخفايا إذا علمنا أنها تكمن كلها في الخلية التي يولد منها الإنسان، وأن جميع الناسلات التي يولد منها النوع الإنساني يمكن أن توضع في فنجان، وسيبقى الإنسان محجوبا عن نفسه ما دام محجوبا عن أعماق هذه الشخصية، وما دام منصرفا عن جانب الضمير منها، أو ما دام متجها إلى الخلط بين مادة جسمه وبين العوامل الحية التي ترتبط بتلك المادة؛ لأن ألحان الموسيقى لا توضع ولا تفهم ولا تتذوق بمعرفة الأخشاب والأوتار. كلا، ولا بمعرفة العلامات والإشارات التي تضبط بها الألحان والنغمات، وهنا ينبغي أن نسأل: ما هي حقائق الضمير؟ والجواب: أننا لا نعرفها جميعا، وأن ما نعرفه قد يختلط عند بعض الناس للجهالة أو للهوى والضلال، ولكن ما نجهله أو نخطئ فيه لا نتركه ولا نحتقره، بل نثابر على طلبه لنصحح خطأه وننفي جهله، ولو أننا تركنا كل حقيقة وجهلناها وأخطأنا فيها لما بقيت عندنا معرفة بالمادة ولا بالضمير.
وهنا يضرب المؤلف مثلا بالطفل الذي يبيت ليلة عيد الميلاد وهو يحلم بالهدايا التي يضعها القديس نيقولادس - أو سانت كلوز راعي الأطفال - إلى جانب وسادته، فإن هذا الطفل ولا ريب يحلم بخيال، ولكنه خير من الطفل الذي لا يتخيل شيئا عن فرحة عيد الميلاد، ولا عن هدايا الغيب، ولا عن شوق الانتظار الذي يخامر جميع النفوس في أمثال هذه الأوقات، فما دام عيد الميلاد موجودا، فالطفل الذي يدركه على صورة من الصور - حسبما يستطيع في خياله وفكره - أصح إدراكا من الطفل الذي لا يدركه إدراك الصغار، ولا إدراك الكبار، وعلينا في هذا العصر خاصة أن نعلم أن معرفة المحسوسات الظاهرة لا تستدعي إنكار الغيب، ولا إنكار ما وراء المحسوسات؛ لأن علمنا بالمادة المحسوسة قد انتهى بنا أو كاد أن ينتهي بنا إلى عالم كعالم الغيب وراء المحسوس أو وراء المعقول.
ويقول المؤلف بحق: «إن كبار العلماء لا ينكرون الغيب، وإن أناسا لا يزالون معدودين من أكبر العلماء كانوا يؤمنون بما وراء المحسوس، كان نيوتن مكتشف قانون الجاذبية يصلي ويؤدي فروضه الدينية في مواعيدها بغير انقطاع، وكان جاليليو مكتشف دوران الأرض يؤمن بالله والدين، وكان أينشتين يقول: إنك إذا أردت أن تعرف غاية الحياة فمعنى ذلك أن تكون متدينا، وكثير من خلفاء هؤلاء العلماء في العصر الحاضر يرجعون إلى الغيب كلما أوغلوا في العلم بالمحسوسات.»
ويردد المؤلف قول القائلين: إن الخوف كبير في عصرنا من شطط الإنسان في استخدام معلوماته، ومن الجائز أن يكون حتف النوع الإنساني في هذه الطاقة المخيفة إذا أساء استخدامها في الحروب، ولكن المؤلف يعود فيقول: إن هؤلاء المتشائمين يبالغون في الخوف من عوامل الشر والهدم التي ينطوي عليها طبع الإنسان، ولا يعطون عوامل الخير والبناء حقها من الأمل والثقة، مقاسا على الماضي في أحوال كأحوال العصر الحديث، ولقد كان اختراع النار يكفي للقضاء على عمران الإنسان كله في زمانه، ولكنه عزز هذا العمران وعلمنا أن نخترع أنواعا من النار لم تكن معروفة في عهد أجدادنا الغابرين، وكل ما اخترعناه من أنواع الوقود فهو توسع في استخدام النار، ولكنها قد حسن استخدامها في أوقات، وساء استخدامها في أوقات، وكلها في النهاية قد أضاف إلى العمران، ولم يكن سببا للقضاء عليه، ولا خطر على الإنسان في الغد على هذا الاعتبار، ولكننا لا نقنع بالأمان من الخطر إذا استطعنا أن نتمم أنفسنا، ونحن قادرون على إتمامها إذا عشنا بشخصية متوازنة بين عوامل العقل والعاطفة والضمير.
وهل معنى ذلك أننا سنعرف كل ما في أنفسنا من الخفايا والأسرار؟ لا ريب أننا نزداد علما بتلك الخفايا والأسرار جيلا بعد جيل، إلا أننا لا يلزمنا أن ننتظر طوال الأجيال لنعرف منها كل ما يستطاع؛ لأننا نعرف مطالب العقل والعاطفة والضمير، نعرف التطلع إلى الحقيقة، ونعرف الشوق إلى جمال الطبيعة والفنون، ونعرف كرامة المبادئ الرفيعة والأمثلة العليا في الأخلاق والآداب، ونعرف مطالب الضمير من العقيدة الروحية، وما نعرفه من هذه الجوانب المتعددة في الشخصية فهو حسبنا للموازنة بينها وبين مطالبنا البدنية، وحسبنا في الحذر من مسخ طبيعتنا بالاستسلام إلى جانب منها دون سائر الجوانب، وهو حسبنا للتقدم في طريق التمام.
وعند المؤلف أن هناك غاية أعلى من غاية الموازنة بين جوانب البدن وجوانب العقل والعاطفة والضمير، فإن عباقرة العالم كلهم يتوازنون في جميع الجوانب، ومنهم من تغلب عليه نزعة تغطي على جميع نزعاته، وبها يمتاز على سواد الناس، ويتمكن من خدمتهم بالفتوح الجديدة في ميادين العلوم والفنون والأخلاق ، إلا أن العبقريين يوسعون شخصيتهم بهذه النزعة الغالبة ولا يضيقونها، وأنهم يتمون بها ولا ينقصون، وهم الاستثناء في هذه القاعدة، ولا تخلو قاعدة من استثناء.
وسؤال المبدأ والختام عند المؤلف: ماذا يمكن أن يكون الإنسان غدا؟ وليس جواب المؤلف أنه سيعلو على الإنسانية إلى طبقة السوبر مان التي حلم بها دعاة القرن التاسع عشر، وإنما جوابه أن الإنسان يتمم نفسه غدا فلا يحاول التحليق بجناح واحد، وأن المستقبل لإنسان يعرف حق البدن ولا ينسى حق العاطفة وحق الروح والضمير. •••
والعالم الطبيعي شارلز جالتون داروين - حفيد داروين الكبير - يثب وثبته البعيدة في حساب السنين إلى ما بعد مليون سنة، ولكنه لا يجاوز في وثبته ذلك المدى الذي ذهب إليه زملاؤه من القانعين بالنظر إلى مدى القرن العشرين أو القرن الحادي والعشرين، فيكاد أن يقضي بالأمل في مصير الإنسانية دونهم، ويكاد أن يقول: إن العصر الذهبي يمضي ولا يقبل، وإن التنازع على البقاء خليق أن يعود بالعالم إلى معاركه العنيفة يوم كان العالم المعمور يضيق بساكنيه، ويضن عليهم بالكفاف الذي يكفيهم جميعا، فيتقاتلون أو يدفع بعضهم بعضا إلى الهجرة والابتعاد، وسيأتي اليوم الذي تضيق فيه موارد العالم عن سكانه، ولا يسعهم يومئذ أن يعتصموا بالهجرة لامتلائه بالسكان، وضيق منادح الخلاء في جميع بقاعه، إلا أن يقع ما ليس في الحسبان من أمر الأرزاق والسكان.
ويرى العلامة حفيد صاحب النشوء والتطور أن الناس يتغيرون ويتطورون مع الحضارة، ولكن الإنسان في دخيلته لا يلوح عليه أنه استراح إلى التطور الذي جاءه من قبل الحضارات المتوالية؛ لأنه يكن في طواياه بقايا الأزمنة المتطاولة التي سبقت تلك الحضارات، ويستريح إلى معاودتها كلما وجد بين يديه منفسا للمعاودة، وقد ينكشف منه الحنين إلى الماضي في كثير من عادات الجد واللعب التي تشملها أعماله السلمية، كأنها البديل الحاضر عن سوابقه في العراك والنزاع.
ولا ينسى داروين الحفيد أن الإنسان يتعلم، وأنه أقدر الحيوانات العليا على التعلم والاستفادة من التجارب المتعاقبة، والفرق بينه وبين أنواع الحيوان في
2
هذه الخصلة عظيم لا مثيل له في الفوارق المتعددة بين نوع منها ونوع آخر، إلا أن الحيوان يورث أبناءه تجاربه الطويلة؛ لأنها تتمثل في الغريزة التي تنتقل في لبابها بالوراثة، وليس علم الإنسان المكتسب بالعلم الموروث أو القابل للتوريث.
وهناك وراثة تكاد أن تكون خاصة بالإنسان تعوض النقص في وراثته لمعارف آبائه وأجداده، وتلك هي وراثة العقائد من طريق الجماعة التي يولد فيها، فلا يولد الإنسان بعقيدته العامة، ولا يخلقها لنفسه، ولكنه ينشأ عليها بتلقين من الجماعة يشعر به أو يتقبله على غير شعور منه، وتدور هذه العقائد قرابة عشرة أجيال، ثم تضعف وتخلفها عقائد أخرى مشتقة منها أو مناقضة لها في بعض الأحايين، ومن هذا التوارث في العقائد العامة يعود على الناس خير محمود العاقبة إذا بنيت العقيدة على صلاح؛ لأن وراثة الاعتقاد ووراثة الحماسة له تؤديان إلى القصد في جهود الجماعة فلا تحتاج في تجديد بواعثها إلى العمل كل جيل.
ويشير الدكتور داروين إلى الفرق بين الطبائع الإنسانية في أمر الاعتقاد، ويقتبس للتفرقة بينهما اصطلاحا شائعا يقسم الناس في هذا الأمر إلى قسمين: قسم الخراف، وقسم المعز، أو قسم المنقادين في القطيع، وقسم المفرقين من هنا وثم تارة على استقامة وتارة على انحراف، وكلا القسمين لازم لحياة العقيدة في استمرارها على وتيرة واحدة أو في استعدادها لقبول التنويع والتنقيح.
وليس من اللازم عند الدكتور داروين أن تكون العقيدة ديانة من ديانات العبادة الكبيرة التي ينتمي إليها عشرات الملايين من مختلف الشعوب، بل هو يعني بالعقيدة كل مبدأ يؤمن به صاحبه، ويستلهم منه الهداية في غاياته ومعاملاته لأبناء قومه أو أبناء نوعه، ولا غنى عن هذه العقائد الآن ولا بعد آلاف السنين.
فإذا أراد المصلحون تهذيب الإنسان فوسائل الإصلاح المعروفة الآن ثلاث: أن يتولى المصلح تعليم أتباعه بالإقناع والتفهيم ينتهي سعيه بانتهاء حياته، ولا يجتذب إليه غير القليلين ممن يعملون بآرائهم، ويتغلبون بالفهم على التقاليد والبواعث الموروثة، فإن لم يعتمد المصلح المهذب على الإقناع والتفهيم فسبيله أن يعتمد على التحسين «البيولوجي » أو تحسين الطبيعة على الطريقة التي تتبع في تحسين النبات والحيوان، وقد تنقضي الأجيال قبل أن تظهر لهذا التحسين ثمرة تدعو إلى المضي فيه والمثابرة عليه، فلا يبتدئ العمل به حتى يدب إليه الإهمال ويتوقف السير فيه إلى غايته المرتجاة، وقلما يتعاقب مصلحان اثنان يتمم أحدهما عمل صاحبه على نسق واحد، وقلما تتيسر له أسباب التنفيذ بعد حياته على النمط الذي يتوخاه، وينظر إلى عقباه.
فلم تبق من وسائل التهذيب المجرية غير وسيلة العقيدة الموروثة، وهي عند سريانها تمتد بأثرها عدة قرون، أو عشرة أجيال على التقدير المألوف.
وغاية ما يبلغه حفيد صاحب المذهب النشوئي ملخص في ختام كتابه إذ يقول: «إن الأمل كله مرهون بإمكان تقرير القوانين العلمية التي تسيطر على الحياة بما يقارب الدقة التي تقررت عليها قوانين العلوم الطبيعية.» ثم يقول: إن من حق غيري ممن يعرفون عن التجارب البيولوجية ما أجهله أن يمهدوا لتقرير تلك القوانين، ولكنني - مع التواضع البالغ - أجترئ على بيان الأسس التي أحسبها صالحة لأن تقاوم عليها، فإما أن نأخذ في هذه الأسس بقول القائلين: إن الإنسان - باعتباره حيوانا - خاضع لقانون تنوع الأنواع الذي يحكم على الإنسان بالبقاء بغير تبديل يذكر إلى مدى مليون سنة، وفي ذلك قضاء على فكرة الكمال الإنساني وآمال المتطلعين والمترقبين من ذوي الضمائر النبيلة والمطامح العالية، وإما أن نأخذ في تلك الأسس بقول القائلين: إن الإنسان حيوان آبد لا يسري عليه ما يسري على الحيوانات المدجنة، وإما أن نأخذ فيها بقول القائلين: إن الصفات المكتسبة لا تورث، وهو قول مقرر في شئون الحيوان، ولكنه قليلا ما يؤبه له في الشئون الإنسانية، فإذا بني العمل على هذه الأقوال على ما يقابلها، ويستبدل بها أمكن أحيانا أن نزن بها صلاح السياسة المتبعة في قيادة الشعوب، وأن يلاحظها السياسي الحكيم في عمله فلا يضيع جهده عبثا؛ لأنه بذلك دون سواه يستقيم على جادة التوفيق.
فما التدبير الذي ندبره إذن لمستقبل النوع الإنساني؟ أخشى أن يسفر الجواب عن قليل، وذلك لسبب جد بسيط وهو قلة اكتراث الناس لما سوف يجري في المستقبل البعيد، ومعظمهم إنما يكترث للغد الذي يمس أبناءهم وحفدتهم ويلوح له ما وراء ذلك كأنه شيء بعيد من الواقع، وقد ينظر المفكرون إلى المستقبل البعيد، ويرون في الوقت نفسه أن الشكوك والريب أكبر من أن تتضح خلالها خطة مقررة، ولنضرب لذلك مثلا: نفاد الوقود في الأزمنة المقبلة، فإنني أعلم أن أبنائي لا يصادفون منه أزمة ذات بال، وقد أعلم أن الجيل الخامس عشر بعد أبنائي لن يجدوا عندهم فحوما على الإطلاق، أتراني أكف عن إيقاد الفحم في الليالي الباردة خوفا من اليوم الذي يبحث فيه أبناء الجيل الرابع عشر من نسلي عن الفحم فلا يجدونه؟ إن هذه الأمور تلوح لنا في ابتعادها من الواقع المحسوس بالمكان الذي يجردها من الوزن والخطر، وإن الحياة لعلى خطر التقلب في كل حين، ومن العسير أن نتيقن من البقاء ولو إلى عشر سنوات، فلا جرم لا نرى أحدا يبالي جد المبالاة ما سيكون بعد قرن من الزمان، وما من خطب من خطوب الدنيا يشغل الإنسان أمدا أطول من ذاك.
بيد أن المستقبل البعيد قد يعمل له الآن ما لم تجر العادة بعمله قبل الآن، ومن ذاك أن مساعي الإصلاح كانت فيما مضى تنحصر في تحسين أحوال الإنسان ولا تعني كثيرا بتحسين طبيعته، فما هو إلا أن تتبدل الأحوال حتى تذهب المساعي إلى ضياع، وإنما الأمل الوحيد أن تنصب تلك المساعي على خطة من الإصلاح لا تنقضي بانقضاء الأحوال والظروف، وستكون أصول الوراثة المقررة في علم الحياة مرساة يستقر عليها كل نفع وثيق يرجى لنوع الإنسان.
وأعبر في الختام عن ميولي الخاصة فأقول: إنني شديد الاهتمام بمصير العالم، وأود حق الودادة أن يكون لذريتي دورهم فيه، ومهما يكن من نزارة العلم بالمستقبل، فليس مما يقنعني أن يكون مستقبلا تنقطع الصلة بيني وبينه، وأيا كان مصير الحياة إلى السعادة أو إلى الشقاء بعد أجيال - ولا مفر من الشقاء على أية حال - فإنها لتجربة تستحق العناء .
3
الفصل السادس
تعقيب وتمهيد
من نماذج البحوث التي أسلفنا إيجازها وتلخيصها نتعرف إلى شكل من الأشكال الخاصة بالقرن العشرين في بحوث علمائه التي يستفتحون بها مغاليق الغيب، ويتطلعون فيها إلى مجاهل المستقبل القريب والبعيد، فإن للقرن العشرين طابعا منفردا في هذه البحوث بين بحوث العلماء في بابها قبل بضعة قرون.
هناك نظرات الحكماء إلى المستقبل من قبيل الطوبيات
vtopias
أو المدن الفاضلة كما سماها الفارابي في ترجمته لجمهورية أفلاطون، وطريقة الطوبيين حين ينظرون إلى المستقبل أن يتفطنوا لعيوب الحاضر، ثم يرسموا للمستقبل مجتمعا يتنزه عن تلك العيوب ويصلحها بما يستطاع من أعمال الإنسان أو أعمال العناية الإلهية، ولا سبب عندهم يدعوهم إلى انتظار الطوبى الموعودة، إلا أنها أفضل من المجتمع الحاضر، وينبغي أن يكون مفضلا عليه في عرف الناس، ولا يدرون بعد ذلك أقريب هو أم بعيد؟ وموجود بعد حين هو أم غير قابل للوجود؟
وهناك أحلام اليقظة التي يتعلق بها فكر الحكيم، ويصوغها على ما يرتضيه، وكأنه ضرب من القصص التي تجمل الواقع بحلية مستعارة من الرؤيا والخيال.
وهناك الفراسة التي يستعان بها على كشف المجهول في الغد، كما يستعان بها على كشف المجهول في هذا الزمن؛ ظنون ألمعية كالتي عناها شاعرنا العربي إذ يقول في وصف ممدوحه:
الألمعي الذي يظن بك الظ
ن كأن قد رأى وقد سمعا
وأتم ما تكون هذه الفراسة حين تترقب الممكن، وتتجنب الشطط في الحدس والرجاء.
وهناك العصور الذهبية التي يلفقها الفكر والخيال معا من وقائع الماضي، وأمثلة الحاضر وأماني المستقبل، وقد يتوهم بعضهم أنها صفحة مطوية يعاد نشرها، أو أنها صفحة يكتبها الغيب وتستطلع منها السطور بعد السطور.
نظرات الباحثين عن المستقبل في القرن العشرين ليست في طابعها الخاص به على نموذج من هذه النماذج: ليست هي من الطوبيات، ولا من الأحلام ولا من فراسة الحدس والفطنة، ولا من صور العصور الذهبية، ولكنها أشبه ما تكون بحساب المهندس لحركات الجهاز المعروف بسرعته وطاقته، يمشي في أرض مرسومة على الورق، كما ترسم الخرائط على البيد ، وقد يكشف العيان منها عن خلل في التفاصيل، وإن لم يكن بها خلل في الأبعاد.
هي حساب: فهي تصيب كما يصيب الحساب، وتخطئ كما يخطئ، ولا يمتنع أن يكون خطؤها من وراء الحسبان أشد من خطأ الظن والفراسة.
ونحن نراجع «التقديرات» التي يبسطها لنا الباحثون في القرن العشرين كما ننظر إلى الخائض على قدميه في البحر اللجي إلى مقربة من الشاطئ، ونعلم أنه يخوض الموج على أرض ثابتة راسخة، ولكن ماذا يحدث يا ترى إذا أخذ في العوم والسباحة بعد المشي على قدميه؟ وكيف يتغير البحر اللجي عليه بين قوة الموج وقوته هو على السباحة، وبين الساحل القريب والقرار العميق؟
سيحدث الخلاف في التقدير لا محالة، ولكن التقدير مع هذا يظل لدينا تقديرا صحيحا على أصدق ما يكون في حيز الإمكان، وقد نلمحه نحن كما يلمحه الخائض السابح، وقد نجهله جميعا ولا لوم علينا أو عليه.
ومما يتسم به هذا الطابع الخاص بتقديرات القرن العشرين إلى المستقبل أنه مصحوب الحذر والتحفظ، يؤثر أن يتريث في مكانه خطوتين على أن يتقدم خطوة واحدة لا يعلمها، وتلك سمة من سمات البحوث العلمية في مختلف الدراسات، لا نريد أن نقول: إنها أصدق في العلم وأقرب إلى الأمانة العلمية، ولكنا نريد أن نقول بحق: إنها مأمونة عند الحساب قليلة الكلفة عند المطالبة بالدليل، فإذا لاحت للعالم صورة مشكوك فيها، ثم سكت عنها أمن المحاسبة، وخلص من المطالبة بأدلة الإقناع أو أدلة الترجيح، ولعله لا يناقض العلم إذا قرر ما يراه، وأبان عن شكه فيه، بل لعله لا يناقض العلم إذا قرره كما تقرره النظريات التي لا غنى عنها قبل الإثبات القاطع بالبرهان أو بالعيان.
وعلى هذا الحذر والتحفظ من المتطلعين إلى المستقبل في القرن العشرين، نرى أن التفاؤل بالغد شيء يبيحه لنا مد النظر إلى غاية مداه، فإنه تفاؤل لا يدخل بنا في عالم الطوبيات ولا في أحلام اليقظة، وليس من قبيل الحنين إلى العصور الذهبية، ولا من قبيل الفراسة التي تتأمل على البعد قبل أن تلمس البوادر مما تراه.
علم القرن العشرين فيه وعد كبير، أوشك من كبره أن ينقلب في بعض نواحيه إلى وعيد.
فمن وعده الكبير أنه يهيئ للأمم المتقدمة والمتأخرة شروط المعيشة الصحية، ويعلمها فنون العلاج والوقاية ويوفر لها أنواع المطهرات والمبيدات التي تدفع الأمراض، وتستأصل جراثيم الأوبئة، فتكثر المواليد وتقل الوفيات، ويتضاعف سكان الكرة الأرضية على نسبة لم تعهد في القرون الغابرة، وذلك كله علامة خير وبشير أمان، ولكنه - بما فيه من الخير والأمان - ينطوي على نذير بالشر غير مأمون العاقبة، بعد أجيال.
ونذيره بالشر أنه يربى بعدد السكان على الكفاية من الأقوات والأرزاق، فيتناحرون ويلجئون في حروبهم إلى أسلحة جائحة لم يعهد لها كذلك نظير من قبل في الإبادة والتدمير.
ويسمعنا القرن العشرون وعده الآخر بعد هذا الوعيد المحذور: يسمعنا وعده بالقدرة على استدراك النقص في الأقوات والأرزاق بما يستطيعه الآن، وما يهدي إليه في المستقبل، من تسخير العلم والصناعة في استخراج الأقوات والأرزاق من الأرض البور، ومن المواد المستصلحة للغذاء، ومن ذخائر الطبيعة التي أهملها الإنسان قبل الآن عجزا عن تسخيرها وجهلا بما تحتويه، وقد يتقي إنسان المستقبل غوائل ذلك النذير بتدبير نفسه في شئون نسله وأسرته، فلا يضيق بالرزق له ولذريته على قدر مقدور.
ويعود المنذرون المتشائمون فيتساءلون: ترى هل تتم الوقاية قبل الخطر؟ وهل من ضمان لتأجيل الخطر، وتعجيل الوقاية قبل فوات الأوان؟
ومناط الأمل كله في دفع الخطر أنه خطر عظيم، بل إنه الخطر الأعظم والخطر الأخير الذي لا خطر بعده، ولا استدراك لجرائره ومعقباته، فإن لم يكن في وسع الإنسان أن يتعقل ويعمل رويته في هذا المأزق الذي لا مأزق قبله ولا بعده، فالآفة في جهله شر من الآفة المحذورة من كل مصاب، وبليته واقعة محتومة قبل البلية بأسلحة.
ومن وعود القرن العشرين التي يرجى أن تنجزها الأيام على مهل، وعلى درجات أنه سوف يتأدى إلى صلاح الإنسان نفسه، وصلاح الجماعة الإنسانية بما يمهده لها من حسنات العلم والصناعة.
وأقرب هذه الحسنات إلى التحقيق أن تتقارب الأمم وتتقارب الطوائف والطبقات في المجتمع الواحد، فإن اشتباك العلاقات والمعاملات بين أمم العالم يسوقها إلى التعاون باختيارها وعلى كره منها، وانتشار الصناعة يؤدي إلى توزيع الأعمال والأرزاق بين الطوائف والآحاد، كما يؤدي إلى توزيع الكفايات والمواهب، فلا تتحكم طائفة واحدة في غيرها، ولا تعجز طائفة من الطوائف عن صيانة حقوقها، ولا تنفصل هذه الحقوق كل الانفصال بين فريق وفريق من أبناء الأمة الواحدة، ويشفع هذا التقدم في حق الفرد وحق الطائفة أن يتسع الفراغ للمطالب الكمالية - مطالب الذوق الجميل والفطنة المتفتحة والرياضة المقومة للأبدان والأذهان - فيتقدم الإنسان في خلقه وأدبه، ولا يقف به تقدم الصناعة عند تقدم الآلات والمصنوعات، وبين الوعد والوعيد من طوالع القرن العشرين تسوغ لنا الموازنة على الغيب، فلا نغلو في التفاؤل إذا رجحنا جانب الوعد على جانب الوعيد، فإنه جانب له أسبابه الملموسة ومقدماته الراجحة، ودعائمه التي تستقر على الأرض، ولا تطير إلى أشباه السحاب من دعائم الطوبيات والأحلام. •••
فيما يلي من فصول هذا الكتاب تعقيب يضيف إلى ما تقدم من التمهيد ولا يخالفه في أساسه، ولا في سياقه؛ لأنه لا يفارق قواعد العلم التي تحراها الباحثون وأصحاب الآراء، ولكنه يتحرى التفسير والأمل، حيث يتحرون الإحصاء والحذر، وكلاهما جائز لنا - بل واجب علينا - إذ أردنا أن نأخذ من علم هذا القرن كل ما يعطيه.
ليس العلم مجعولا للأخبار وحدها، ثم ينقلب بعدها جهلا لا فائدة فيه.
إنه لمجعول كذلك للفروض، أو لما يسميه العلماء المتحرجون بالنظريات، وإنها لتلحق بكل علم من علوم اليقين، وتسبق كل علم يتبعها، وإن لم يبلغ بعد مبلغ اليقين.
ونحن فيما يلي من التعقيب لا نبيح لأنفسنا أن نلم بفرض أو تفسير لم تمهده لنا سوابق العلم ومقدمات التاريخ، ولكننا - على الكفة الأخرى - لا نبيح لأنفسنا أن نهمل فرضا واحدا يقوم إهماله على مجرد الدعوى، أو على مجرد الحذر، ولا يقطع به قول فصل أو خبر وثيق.
وقبلتنا في النظرة إلى الغد أن نسأل الماضي عن معناه ، وأن نلتمس هذا المعنى فيما سيكون - وفيما سوف يكون - قياسا على ما كان.
إن للتاريخ الإنساني وجهة تدل عليها العقبات والعوائق، كما تدل عليها الدوافع والممهدات، وإن تاريخ الآلة من عهدها الحجري إلى عهد الذرة لمعالم قائمة تهدينا إلى تلك الوجهة من البداية إلى النهاية، وعلى هذا الفرض - أو هذه النظرية - مدار النظر فيما يلي من التعقيب.
الباب الثاني
تعقيب ومراجعة
يشتمل هذا الشطر من الكتاب - وهو الباب الثاني منه - على الفصول التالية: (1)
معنى التاريخ. (2)
غاية النوع. (3)
الآلة. (4)
خواص المادة والنظرة «المادية». (5)
الإيمان. (6)
العوالم الأخرى. (7)
عالمنا. (8)
أفريقيا وآسيا. (9)
المجتمع. (10)
الأسرة والمرأة. (11)
الفن والعلم. (12)
خاتمة في سطور.
الفصل الأول
التاريخ
هل للتاريخ الإنساني معنى؟ هل للماضي رابطة بالحاضر تهدي إلى المستقبل على سبيل اليقين أو على سبيل الظن والترجيح؟
يخطر هذا السؤال على الذهن كلما نظر إلى المستقبل ليستطلع خباياه، ويعود الذهن بعد الجهد الجهيد بجوابين مختلفين كلاهما يحتاج إلى دليل.
نعم، للتاريخ معنى يدل على خطة مطردة بين ماضيه وحاضرة ومستقبله.
كلا، ليس للتاريخ معنى، ولكنه مصادفات تتكرر أو تتناقض على غير وتيرة معروفة.
والذين يقولون بهذا الرأي يحسبون أنهم خلصوا من السؤال والمناقشة، وأنهم غير مطالبين بالدليل؛ لأنهم ينكرون ولا يدعون.
لكنهم في الواقع مطالبون بأدلتهم كما يطالب بها القائلون بالخطة والتدبير، فإن الإثبات والنفي يتساويان في طلب الحقيقة، وأن اختلفا في ساحة القضاء، وليس المدعي وحده هو الذي يبحث عن الحقيقة ويسأل عنها.
إن الكواكب والسيارات تجري في أفلاكها وتطلع في بروجها ومنازلها، ونعلم من حركاتها الماضية كيف تكون حركاتها التالية، ومتى يعرض لها الكسوف والخسوف، وأين تشرق وأين تغيب.
فلم تجر حركات التاريخ الإنساني على غير هذا النسق؟ وكيف ينتظم مدار الفلك، ولا ينتظم مدار الحياة الإنسانية؟
من قال: إن النظام هنا موجود كالنظام في حركات الأفلاك، ولكنني أجهله ولا أعرف من ماضيه وحاضره ما يدل على مصيره فهو - بحق - صاحب القول الذي يعفي قائله من الدليل.
أما الذي يقرر الاختلاف جزما وتوكيدا بين حركات الأفلاك وحركات الأمم ، ولا يرى في ذلك غرابة، ولا يسأل له عن سبب فهو الذي يقرر حكما متعسفا بغير دليل، ولا بد له من دليل.
لم يختلف نظام الكواكب ونظام الأمم؟ ولم يعتبر هذا الاختلاف أمرا طبيعيا يدعيه من شاء، ولا يلزمه البرهان على ما يقول؟
إن إنكار النظام هنا ليس بأيسر الجوابين، بل هو عند البحث في أسبابه ونتائجه أصعب الجوابين وأغربهما، وأحوجهما إلى البحث من جديد، إلى أن يستقر البحث على قرار.
من قال بالخطة المتبعة والتدبير المقدر فليس من اللازم أن يبسط أمامنا الخطة المتبعة بتفاصيلها، ويضع أيدينا على أوائلها وخواتيمها، وكل ما يلزمه «أولا» أن يدحض حجة الفوضى والارتجال الأعمى، وأن يقرر الفرض المعقول، ثم يقرر أن الواقع يؤيده، ويجري في مجراه، وأدل من ذلك على صحة الفرض المعقول أن الغرض المقصود من الخطة المتبعة يتحقق بما يظهر أنه يناقضها، كما يتحقق بما يظهر أنه يجاريها ويمضي في طريقها.
وسنرى أن هذه الدعوى يسيرة الإثبات، أو أنها على الأقل أيسر إثباتا من دعوى الفوضى والعمل الجزاف.
أما نفي الخطة المتبعة، وادعاء المصادفة المحضة، فليس من اليسر بالمكان الذي يحسبه من يقولون بالمصادفة على أي وجه من الوجوه، وإنهم ليقولون بالمصادفة على وجوه كثيرة، دليل بعضها غير الدليل الذي يقوم به ادعاء الآخرين.
فالمصادفة عند بعضهم مرادفة لمعنى الفوضى والخبط في الظلام، تهدم اليوم ما تبنيه، وتبني ما تهدمه، وتتقدم وتتأخر في العمل الواحد وفي الساعة الواحدة، وتتصرف في عموم حركاتها وأفعالها كأنها مئات من الأضداد يجذب كل منها إلى ناحيته، ولا يستطيع أحد أن يعلم أنه يجذب في الناحية الواحدة مرتين، ومن ادعى لك ذلك فلا حاجة إلى تفنيد قوله بالبحث الطويل وراء حوادث الماضي والحاضر، فإن ظواهر اللحظة الواحدة كافية لتفنيد ما يدعيه، وإن فهمه للمصادفة حتى على هذه الوجه لا يتأتى بغير وجود النظام الذي ينبغي أن تقاس إليه مصادفات الفوضى والخبط في الظلام، ولا بد من بعض النور لنعلم كيف يكون ذلك الخبط في الظلام .
والمصادفة عند غير هؤلاء لا تنقض النظام، ولكنها قد تصاحبه وتتممه، وقد تلازمه في حالات وتفارقه في حالات، وعلى هذا النحو تفهم المصادفة في مذهب الفيلسوف الكبير شارل بيرس
Charles Peirce
رائد اليرجمية المشهور، فإنه لا يفهم المصادفة كأنها الضد المناقض للقوانين الطبيعية، بل يفهم منها أنها قوانين في انتظار التكوين، وأن قوانين الكون لم تتم جميعا في لحظة واحدة، ولم تكن هكذا كما نعهدها الآن في كل زمن وكل ظاهرة طبيعية، ولكن القوانين الكونية أخذت في جريانها مجرى العادة على درجات وأدوار متعاقبة، ومن الجائز أن يشمل القانون الواحد كل ظاهرة من ظواهره في الكائنات المادية، ولا يشمل جميع الظواهر فيما يتعلق بالحياة، ومن أمثلة ذلك عنده أن قانون الحركة المكنية التي تطرد وتنعكس لا ينطبق على حركة النمو في النبات أو الحيوان، وأن الحقائق التي تستخرج من حركات الأجسام في الجملة لا يلزم أن تطابق حركات أجزائها، أو جزئياتها الدقيقة كل المطابقة.
فالمصادفة عند الفيلسوف بيرس لا يتحتم أن تناقض القانون الطبيعي أو تبطله، وقد يكون حكمها كحكم مشروعات القوانين أو حكم القرارات الفرعية في اصطلاح المشرعين، فمن قال بها لم يحسب من القائلين بإلغاء الخطة المتبعة في سياسة الكون. •••
وتفهم المصادفة بمعنى غير ما تقدم عند فريق من القائلين بنفي القصد والتدبير في حركات التاريخ وحركات الطبيعة على الإجمال، فلا هي فوضى تناقض القوانين، ولا هي تتمة للقوانين أو زيادة عليها تجاورها ولا تدحضها.
فعند هذا الفريق من القائلين بالمصادفة أن المصادفة هي القوانين الطبيعية ذاتها، وأن القوانين الطبيعية إنما تولدت من المصادفة بغير تدبير مقصود.
قال أحد هؤلاء: إننا لو فرضنا أن فردا أمام صناديق الحروف يرتبها جزافا على كل وضع محتمل لتكونت منها في وضع من الأوضاع كتب مفهومة كإلياذة هوميروس؛ لأن الإلياذة مجموعة من الحروف على وضع من الأوضاع لا بد أن ينتهي إليه التعديل والتبديل في ترتيب حروف الصناديق على طول الزمن، وليس أطول من الزمن الذي مضى على الكون مضطربا متقلبا بين ألوف الألوف من الأشكال والقوالب التي تتناسق أحيانا، وتتضارب أحيانا، ولا بد لها من التناسق على شكل من تلك الأشكال في وقت من الأوقات.
وهذا القول ضرب من التخمين يستلزم وجود التدبير وراء ذلك التبديل أو التعديل؛ لأنه يستلزم «أولا» أن يجري التبديل أو التعديل في وضع الحروف على كل وجه محتمل، ولا يدع وجها واحدا يتخيله الذهن إلا صار إليه ثم عدل عنه إلى غيره، ويستلزم «ثانيا» أن يكون هناك اجتناب متعمد للخطأ، وأن يكون ذلك الخطأ معروفا بالنسبة إلى الصواب المقصود في النهاية، وإلا فإن الفرد يمكن أن يقع في أخطاء متعددة ويعود إليها أو إلى مثلها بغير نهاية، فإن قدرنا أن ذلك لا يقع فنحن نقدر إذن أن هناك تدبيرا يقود يديه ويوحي إليه أن يختار ترتيبا بعد ترتيب على كل وضع يخطر على البال، وقد يضع الألفات في موضع الياءات، أو يضع الحروف جميعا في عين واحدة، فلا يؤدي تكرار وضعها إلى نسق تتألف منه الكلمات، وإن مصادفة كهذه المصادفة لهي أدل على الغاية والاستقامة على طريقها من قول الذين يقررون قيام القوانين من البداية، هكذا بطبيعة مستقرة في أصل الوجود، وهو قول غريب - ولا ريب - ولكنه أقل غرابة من الخطأ الذي يتكرر على وجه، ولا يعود إلى الخطأ مرة أخرى، ولا يدع احتمالا واحدا إلا استقصاه كأنه يحصي جميع الاحتمالات بغير نسيان ولا إخلال.
وآخرون يقولون: إن القوانين ليست بقوانين في لبابها، وإنما نحن جزء من هذا الكون نلائمه ويلائمنا، ولا بد أن نشعر بالوفاق بين وجوده ووجودنا، فنسمى هذا الوفاق قانونا وما هو بقانون، إنما نحن مستقرون في عالم من العوالم، وهذا الاستقرار هو العلاقة القائمة بيننا وبين عالمنا، نسميها نظاما وليست هي بنظام في جميع الأحوال، وعلى جميع التقديرات.
وفحوى كلام هؤلاء أن القانون لا يوجد وليس من طبيعته أن يوجد، وأنه إذا وجد، فمن الواجب ألا نكون نحن موجودين على وفاق معه؛ لأن هذا الوفاق يلغي تصورنا للقانون في جميع الأحوال، وعلى جميع التقديرات ، وفحوى هذا الكلام مرة أخرى أننا بين عالمين لا يتشابهان: عالم نستقر فيه ولا يوجد فيه القانون، وعالم يوجد فيه القانون ولا قرار لنا فيه. •••
وعلى أي معنى من هذه المعاني فهمنا المصادفة، نرى أنها حل قاصر عقيم، أو نرى أنها في نهايتها إغضاء عن الحلول، وبحث موقوف كأنه إلقاء للعبء عن الكاهل في منتصف الطريق، مع تجاهل البقية الباقية من الطريق، فليست المصادفة إذن أقرب الحلول ولا أضمن المواقف، وليست هي كما يحسب أصحابها أمانة علمية تنتهي عند حدود المعرفة الإنسانية؛ لأنها في هذا الباب أقل من حرف «س» الذي يشير إلى المجهول، ويتركه مجهولا إلى حين، فإن حرف «س» أمانة علمية لا شك فيها من جانب الباحث الذي يجهل الحل ويعترف بجهله إياه، ولكن المصادفة جزم برأي ونفي لرأي مخالف له، وهو الرأي القائل بالتدبير، ومن جزم بهذا الرأي بغير دليل قاطع ينفي ما عداه، فليس له أن يسمي ذلك أمانة علمية، وإن كان من العلماء الأمناء.
إنما الأمانة في مسألة كهذه أن نقف منها موقفنا من الأرصاد الجوية التي تصيب وتخطئ، وقد تخطئ أكثر مما تصيب، وهي - مع ذلك - تنبئنا عن ظواهر طبيعية محكومة بقوانينها التي لا يمتري فيها باحثان، فما من عالم يقول: إن الرياح وأشعة الشمس وعوارض المد والجزر وحرارة القشرة الأرضية وطبقات الجو العليا تندفع بغير ضابط وتسكن لغير سبب، وما من عالم يزعم أن النبوءة عنها مستحيلة مع الوقوف على جميع أسبابها وعواملها، غير أن الرأي السليم فيها أن نفهم أنها عوامل طبيعية قابلة للتقدير الدقيق بجميع تفصيلاتها وتقلباتها، ولكننا لا نحيط بها جميعا، ولا نحقق النتائج على صحتها؛ لأننا لا نحقق الأسباب على صحتها، وهي هي تلك العوامل المحسوسة المتكررة الخاضعة للمراقبة والتسجيل في مواقعها من الأرض والفضاء.
ونحن نسمح لأنفسنا بالجهل في أمثال هذه الظواهر الطبيعية، ونسمح لأنفسنا بالتردد في الحكم عليها، ونقرر وجود الضوابط لها، ونحن عاجزون عن ضبطها، فأحرى بنا أمام العوارض التاريخية التي تتسع لمجهولات الطبيعة الظاهرة والباطنة أن نقف منها موقفا كهذا الموقف، وأن ندين بالأمانة العلمية على هذا النحو، فلا نزيد عن حرف «س» الذي يرمز إلى المجهول، حتى نستبدل به جوابا أقرب إلى الوضوح والبيان.
ولسنا نريد أن نخطو خطوة واحدة وراء الحد الذي تسمح به الأمانة العلمية حين نفضل القول بالتدبير على القول بالمصادفة العمياء، ولكننا نريد أن نضيف النظريات العلمية إلى التجارب المقررة؛ لأن الأمانة العلمية تقضي علينا بأن نطرق كل باب من أبواب التفسير، ولا نغلق بابا منها بغير برهان.
إن الأرصاد لم تثبت لنا شيئا قاطعا عن حركات الكهارب والنويات، وعن السوالب منها والموجبات، والمتردد منها بين السلب والإيجاب، تارة إلى هذا وتارة إلى ذاك، ولكننا أضفنا النظريات إلى التجارب فيما نعلم عنها، فصح التقدير في كثير من الأحوال.
لتكن عندنا إذن شجاعة النظريات العلمية لتفسير الظواهر المطردة في تواريخ الأمم، لا بل هو الواجب العلمي وليس بالشجاعة العلمية وكفى، إذ كان الواجب يأبى علينا أن ندع نظرية من النظريات دون أن يكون لإهمالها سند ثابت لا مراجعة فيه.
وأحرى بالمفكر العصري أن يتوسع في مذهب الفيلسوف الكبير وليام جيمس الذي شرحه قبل هذا القرن العشرين في مقاله البديع عن إرادة الاعتقاد (1897)، وسماها أحيانا بشجاعة الاعتقاد، وحجة المفكر العصري في ذلك أن الزمن قد تقدم بنا كثيرا في هذه الوجهة وفرض علينا شجاعة أدبية غير الشجاعة الأدبية التي كانت مفروضة علينا في عصور الحجر الظالم والتقليد الأعمى والاستسلام الذليل للخرافات والأوهام خوفا من إغضاب الطغاة أو إثارة الدهماء، ففي تلك العصور الغاشمة كان الشك واجبا عقليا، وكان إعلان الشك شجاعة أدبية نفسية، ولكن هذا الشجاعة في عصرنا هذا سيف يضرب في الهواء وحرب في ميدان خلو من الأعداء، وإنما الشبح الجديد الذي يتقاضانا شجاعتنا الأدبية هو شبح العناد في الإنكار والانطلاق إلى الطرف الآخر وهو طرف الأحجام عن إظهار الاعتقاد أو الميل إليه خوفا من مظنة التأخر والجحود، فأصبح الإنكار مجاراة للعرف أيام الجهالة والجمود.
يقول الفيلسوف الكبير وليام جيمس في مقاله عن إرادة الاعتقاد:
إن القضية التي أدافع عنها هي: إن طبيعتنا الوجدانية لا يحق لها، بل يجب عليها أيضا أن تفصل في مسألة الاختيار بين الآراء كلما كان الاختيار بينها داعية صدق لا تقبل الحل بالوسائل العقلية؛ لأننا إذا قلنا في هذه الحالة: دعونا نترك الباب مفتوحا، فهذه حالة وجدانية لا تختلف عن القول بنعم أو بلا، وفيها نفس المجازفة بفقدان الحقيقة.
ويقول في مقاله هذا، وهو قريب مما نسميه بشجاعة النظريات:
إن الاعتقاد - حين نقيسه بالمقياس العملي - لا بد أن يسبق الإثبات العلمي، ونزيد على ذلك أنه هناك طائفة من الحقائق يكون الاعتقاد عاملا من عواملها كما يكون معبرا عنها، وأن العقيدة بالنسبة إلى هذه الحقائق لا تعتبر جائزة أو مناسبة ولا زيادة، بل تعتبر مع ذلك جوهرية وضرورية لا غنى عنها، وأن هذه الحقائق لا تصبح حقائق حتى تكون عقيدتنا هي التي جعلتنا كذلك.
وعلى هذه السنة نكون علميين، ولا نقنع بالفلسفة وحدها إذا وضعنا النظرية العلمية مكان القانون العلمي المقرر، وفسرنا ظواهر التاريخ بمعنى القصد والغاية، ورأينا أن الاعتماد على الشجاعة العقلية هنا أولى بنا من الاعتماد على الراحة والقول بالمصادفة هربا من تكاليف الدعوى، وإسقاطا لمئونة التفسيرات.
ليكن هذا المذهب في دراسة التاريخ نظرية علمية تقيس المعلوم على المجهول، وتطرق أبوابا من الاحتمال المفتوح لا يجوز للعقل الأمين أن يوصدها، ويحرم النظر فيها بغير برهان.
ودعوانا أن نظرية التاريخ المفهوم، أو نظرية الغاية في التاريخ، تفسر لنا أمورا كثيرة لا تفسرها المصادفة البحتة بغير معنى، فضلا عن المصادفة التي تلغي المعنى، وتحسب الحوادث فوضى تخبط من ماضيها إلى مستقبلها خبط عشواء.
وعلينا أن نبني دعوانا على أساس صالح لإقامة البناء عليه، وهذا الأساس هو مطابقة الواقع للغاية التي يمكن أن نتخيلها إذا قررنا أن التاريخ تدبير يشير إلى وجهة، فما هي الغاية التي يتصورها العقل، ويتطلبها البحث من وراء حوادث العالم بالنسبة إلى النوع الإنساني، وبالنسبة إلى الإنسان الفرد، وبالنسبة إلى الطوائف والجماعات؟
إننا إذا استطعنا أن نوفق بين الحوادث المتفرقة، وبين هذه الغاية جاز لنا، بل وجب علينا أن نقول بمعنى التاريخ، وذلك ما نتحراه ونرجو أن نتبينه في المقارنة الموجزة بين بداية التاريخ المعروفة وبين حاضره المشهود.
الفصل الثاني
غاية النوع
إذا كانت للتاريخ الإنساني وجهة فهي وجهة أبدية تحيط بالزمن كله غير مقصورة على الإنسان منذ ابتداء تاريخه، ولا قبل ابتداء ذلك التاريخ.
ومثل هذا الوجهة لا ندركها من الإلمام بنقطة واحدة في مجرى الزمن، ولا نستطيع أن نحيط بها إلى نهاية الزمن، إن كانت له نهاية.
إن نقطة واحدة من الزمن كنقطة واحدة من المكان، لا تدل على شيء في ذاتها ولا تدل على ما حولها، وقد تبدو لنا كأنها بقعة مهملة أو وصمة تستحق أن تزال، كما تبدو النقطة الصغيرة في الصورة الكبيرة، وهي - لو زحزحنا عنها الغطاء قليلا من قبلها ومن بعدها - ترينا من الصورة عينا ناظرة في وجه كائن حي ندرك وجوده، وإن كنا لا نراه.
أما غاية الزمن كله - ولا سيما الغاية الأبدية - فنحن لا نحيط بها، وأن تكشفت لنا بجميع أسرارها؛ لأننا - في مداركنا المحدودة - لا نحيط بوجود أبدي غير محدود، ولن نرى من الغاية القصوى إلا ما اقترب منا ووافق أبصارنا وبصائرنا، ولن نراه على حقيقته الكاملة الوافية، بل قصارانا من الجهد أن نراه كما يتمثل لنا رموزا مترجمة عن الحقيقة، كما نترجم هزات الأثير والهواء بالألوان والأصداء.
إنما ندرك وجهة التاريخ بفترة منه بين النقطة الحاضرة والغاية الأبدية.
ندركها بشوط من أشواطه الطويلة يبتدئ وينتهي على علم منا، وله بين بدايته ونهايته مسيرة مطروقة نعرف منها معالمها ومراحلها، ونعرف من تلك المعالم والمراحل: هل هي وجهة متتابعة أو شتات من الخطى في كل اتجاه، وإلى غير اتجاه؟ فلنفرض ولنقدر.
ولنا - بل علينا - أن نفرض ونقدر كما تعلمنا من العلم العزيز علينا نحن أبناء القرن العشرين.
لنفرض وجهة التاريخ التي نعقلها والتي نتمناها للنوع الإنساني، كما نتمناها للإنسان الفرد والجماعة من الناس.
لا نستطيع بعقولنا وعواطفنا أن نتمنى للنوع الإنساني غاية أفضل وأطيب من الوحدة العالمية التي يتحقق بها وصف النوع وتمامه.
ولا تستطيع عقولنا وعواطفنا أن تتمنى للإنسان الفرد غاية أفضل وأطيب من زيادة الكفاية والمعرفة.
وليست للجماعات المتفرقة غاية أفضل لها وأطيب من أن تتقارب على سنة الإنصاف، وأن تزول بينها فوارق الظلم والخضوع. •••
فإذا كنا قد أحسنا التقدير على هذا الفرض الذي نتمناه ونعقله، فلعلنا نحسن الملاحظة إذا رجعنا إلى حوادث التاريخ من مطلعه، ففهمنا أن هذه الوجهة قائمة، وأن النوع الإنساني يتجه فعلا من التفرق إلى التضامن، كما يتجه الفرد من الهوان والضياع إلى الكرامة والكفاية، وتتجه الجماعات من التفاوت والتغابن إلى التقارب والإنصاف، وقد تتردد في الاختيار بين هذه الوجهة وبين وجهة أخرى تماثلها، ولكننا لا نتردد طويلا في ترجيح هذه الوجهة وأمثالها على القول بالعبث والفوضى في تاريخ الإنسان كله أو القول بنقيض تلك الوجهة في جميع تلك الأحوال. (أ) وجهة النوع الإنساني
فالنوع الإنساني ينتقل في تاريخه المعروف من التفرق في الموقع والمصلحة إلى التضامن في جوانب الأرض، وفي مرافق المصلحة العالمية.
ينتقل من القبيلة، إلى الشعب، إلى الدولة، إلى الجامعة الدينية أو العنصرية، إلى التوازن بين مجموعة ومجموعة من الفئات الدولية، إلى هذا الاشتباك المتلاحم في سياسة العالم ومواصلاته، وعلاقته إلى الوحدة التي أوشكت أن تكون وحدة للكرة الأرضية أمام غيرها من العوالم والأفلاك.
وقد أصبح التضامن العالمي تيارا يطوف بكل جانب من جوانب الكرة الأرضية، ولا يقوى على الخروج من نطاقه أقوى من الدول والشعوب، بل إن أقوى الأقوياء مضطر أن يحمل من أعباء هذا التضامن وجرائره ما ليس يضطر إلى حمله من هم أقل منه قوة وأضعف منه علاقة بمسائله ومراميه.
وقد مضى على الكرة الأرضية من مستهل التاريخ ألوف السنين وهي منقسمة إلى عالمين منعزلين، يجهل أحدهما الآخر، ويجهل أنه موجود معه على ظهر الكرة الأرضية، ثم مضت عوامل الوحدة العالمية في طريقها فانكشف كل من العالمين لصاحبه، وقبل عنهما منذ ذلك الحين: أنهما عالم جديد، وعالم قديم.
ثم مضى ردح من الزمن خيل فيه إلى أحد العالمين أنه قادر على الاعتزال بأهله وبلاده عن الشطر الآخر من الكرة الأرضية؛ إيثارا للسلامة واجتنابا للمآزق، واكتفاء بما عنده من مسائله وشواغله، وهي غير قليل، وافترق ساسة هذا العالم - وهو العالم الجديد - فكان أعلاهم صوتا وأكثرهم أتباعا من ينادي بالعزلة، ويوصى بالابتعاد غاية الابتعاد من مشاكل القارة الأوروبية، وغيرها من القارات في العالم القديم، وكانت الحرب العالمية الأولى حجة لأنصار العزلة يذعن لها معارضوهم أو يكادون يذعنون مترددين متحيرين، فإذا بالحرب العالمية الثانية تنقل المسألة من مجال الرأي، والبحث إلى مجال لا محل فيه لحكم غير حكم الضرورة، ولا متسع فيه لتعدد البحوث والآراء، وإذا بالعالم الجديد يشترك في كل مشكلة من مشاكل القارات التي كان يحسبها من قبل فضولا لا يعنيه، فلو أراد أن يتنحى عنها لما استطاع ولو أراد كلا العالمين أن يعتزل صاحبه لأعياه سبيل الاعتزال.
وقد يكون دليل النكسات أدل على وجهة التاريخ هذه من دليل الخطوات المطردة في طريق التضامن والوحدة، فإننا لا نزعم أننا نعلم كيف كانت هذه النكسات جزءا من عوامل السعي إلى الوجهة المتتابعة، ولكننا نكتفي بأن ننظر إلى كل نكسة من هذه النكسات على حدة ثم ننظر إلى حالة العالم الإنساني قبلها وبعدها، فنرى على التحقيق أن العالم الإنساني كان بعد كل نكسة منها أقرب صلة، وأدنى إلى التضامن مما كان قبلها بسنوات.
كانت حروب الشرق والغرب على عهد الدولتين الفارسية والرومانية أبعد شيء أن تكون تمهيدا للتقارب بين أنحاء العالم وأبنائه، وكذلك كانت غارات التتار وغارات الصليبيين وغارات المستعمرين كانت نكبات ونكسات، وحاربها من ابتلي بشرورها كما تحارب النكبات والنكسات، ولكننا ننظر إلى العالم بعد كل نكسة، أو نكبة منها، فنرى أنه تقارب ولم يتباعد، وأنه تهيأ بعدها لنكسة جديدة أكبر منها ليخرج منها كذلك أقرب صلة وأدنى إلى وجهة الوحدة العامة والتضامن الوثيق.
وكانت الصين في عزلتها العريقة، فلما سطا عليها الاستعمار خرجت من عزلتها واجتمعت كلمتها بعد فرقتها، وكان من عجيب شأنها أنها أخرجت أمة أخرى من عزلتها المختارة - وهي أمة الولايات المتحدة - لتقضي في مسألة الشرق الأقصى بسياسة الباب المفتوح لجميع دول العالم، بدلا من استبداد كل دولة بحصة من الحصص تستأثر بها، وتذود الآخرين عنها.
وكانت الهند أمما لا يجمعها اسم ولا تربط بينها عصبة، فلما ابتليت بالاستعمار أصبحت أمة واحدة؛ لأنها وجدت نفسها أمام عدو واحد، وخرجت من غاشية الاستعمار دولتان عالميتان لهما في سياسة الشرق والغرب وزن لا يسقط حسابه من ميزان.
وقد كان عدد الأمم التي استقلت وأخذت مكانها في السياسة العالمية أكثر عددا وأكبر شأنا بعد كل من الحربين العالميتين مما كان قبلها، وكانت مهمة الهيئات الدولية المشتركة بعد الحرب الثانية أهم وأعم من جميع الهيئات التي سبقتها. (ب) الإنسان الفرد
ووجهة التاريخ بالنسبة إلى الإنسان الفرد أوضح - فيما نرى - من وجهة النوع كله، كما تبينت من الانتقال المتتابع من تضامن القبيلة المنعزلة إلى تضامن العالم الذي تمتنع فيه العزلة على من يريدها.
فلا شك أن التاريخ يتنقل بالإنسان الفرد من حالة مبهمة مهملة إلى حالة الشخصية المستقلة بحقوقها وتبعاتها، المتميزة بكيانها وحرمتها.
فمن فرد لا تتميز حياته من حياة أبناء القبيلة إلى «شخصية» محدودة المعالم تحاسب بعملها ولا تؤخذ بجريرة غيرها.
وكان الفرد من أفراد القبيلة يقتل بذنب كل فرد من أفرادها، وبقيت هذه الحياة الضائعة في حياة المجموع إلى ما بعد عصر القبيلة البدائية بأجيال طوال أدركت عهد الشرائع المكتوبة في دول الحضارة والسنن الاجتماعية، فكانت شريعة حمورابي تقضي على الأب الذي قتل بنت رجل آخر أن يسلم بنته إلى ذلك الرجل ليقتلها قصاصا لبنته، وتحسبها - من ثم - شيئا مضافا إلى أسرتها أو إلى أبيها لا تستقل بحياة خاصة لها أو بحقوق واجبة لحياتها، وجاءت شرائع الرومان بعد ذلك على هذه الوتيرة في حقوق الأتباع والفروع، ثم تقدمت مع تقدم الزمن حتى أصبح كل فرع من فروع الأسرة أصلا قائما على جذوره مستقلا بكيانه، أهلا للحق وأهلا للتبعة في عمله.
وليس للتفاضل بين الإنسان والإنسان مقياس واحد أصدق من المقياس الذي نستمده من وجهة التاريخ بالنسبة للإنسان الفرد كما كان وكما يكون مع تعاقب الأطوار وتتابع الأجيال، وأوجز ما يقال في المقياس الذي نستمده من وجهة التاريخ أنه المقياس الذي ينبئ عن تكامل الشخصية الإنسانية في حقوقها وتبعاتها.
فالعالم يعطينا مقياسه الذي نفضل به العالم على الجاهل، والأخلاق تعطينا مقياسها الذي نفضل به خلق الصلاح والنفع على خلق السوء والضرر، والاجتماع يعطينا مقياسه الذي نفضل به الوجاهة والشرف على الضعة والخمول، والمال يعطينا مقياسه الذي نفضل به المليء المكتفي بنفسه على العاجز المفتقر إلى غيره، والعبقرية تعطينا مقياسها الذي نفضل به الفطنة المبدعة على الذهن العقيم، والخاطر الكليل.
وهذه كلها مقاييس صادقة للتفاضل بين الناس في مواضعها وموضوعاتها.
ولكنها كلها لا تبلغ في الدقة، وفي الصحة، ما يبلغه المقياس المستمد من وجهة التاريخ، وهو مقياس «الشخصية» المسئولة الكاملة: الشخصية التي تسأل عن أعمالها، وتحاسب بتبعاتها.
ليس العالم بأفضل من الجاهل في كل حالة، ولكنه أفضل منه في حالة واحدة، هي الحالة التي يكون فيها العالم أقدر منه على النهوض بالتبعة والاستقلال «بالشخصية» في حقوقها وفي واجباتها.
وليس العباقرة والسراة بأفضل من الأغبياء والوضعاء في كل حالة، ولكنهم أفضل منهم في تلك الحالة بعينها، وهي القدرة على النهوض بالتبعة.
ولنا أن نقول ما نشاء في فضل الكبير على الصغير، والسيد على العبد، والرئيس على المرءوس، والرجل الرشيد على الطفل اللاعب، والعلم المشهور على النكرة المجهول.
لنا أن نقول ما نشاء عن فضل إنسان على إنسان كيفما كان هذا الإنسان أو ذلك الإنسان، ولكننا نخطئ في التفضيل ما لم يكن مرجع الفضل إلى تلك المزية التي نستمدها من وجهة التاريخ، وهي مزية الشخصية الكاملة المسئولة عن تبعاتها، فإنها هي المزية التي لا يدل عليها فضل العلم ولا فضل الأخلاق، ولا فضل العبقرية، ولا فضل الوجاهة، ولا فضل السن، ولا فضل الخبرة، فإنها جميعا أفضال تنفصل عن مزية النهوض بالتبعة فلا تغني شيئا، ولا تتم لها قيمة، فإذا سكت عن كل فضل وكل صفة وقلت عن إنسان: إنه أصلح للنهوض بالتبعة فقد غنيت عن البيان وجمعت الفضائل بأنواعها ودرجاتها في فرد عنوان.
وتلك هي المزية الأولى التي تبرز لنا من متابعة النظر إلى وجهة التاريخ: إنها انتقال من حالة الكم المهمل والرقم المتكرر إلى حالة «الشخصية» المتميزة بالحق والتبعة، ولعلها المزية التي تعيننا في كل مفاضلة بين مجموعة من الناس، وغيرها من المجاميع الإنسانية، وليس مبلغها من الصدق أن تعيننا في أسباب المفاضلة بين إنسان وإنسان، فمن قال عن أمة من الأمم إنها أوفر نصيبا من «الشخصيات» الحرة التي تناط بها التبعات فلا حاجة به إلى الإسهاب في تسمية الفضائل والصفات. •••
ولم تخل هذه الوجهة من نكساتها في العصور المتطاولة بين ثورات الحرية وثورات الطغيان، وبين دعوات التقدم ودعوات الرجعة والجمود على القديم، وبين قلاقل الاضطراب في انتظار الاستقرار، ويحسبون من هذه النكسات تلك المذاهب المتأخرة التي تغض من قداسه الحرية الفردية، ولا تبالي أن تغرقها في غمار الجماعة؛ لاعتبار أصحاب تلك المذاهب أن الحرية الفردية ومصلحة الجماعة طرفان متناقضان.
على أن العبرة بالأعمال لا بالأقوال، وبالنتيجة المقصودة لا بألفاظ المصطلحات التي تجري على ألسنة الدعاة. ونتيجة تلك المذاهب - إن صحت مقدماتها - أن تتحرر الشخصية الإنسانية من ذل الضنك والفاقة، وتتخلص من مهانة التسخير وربقة الاستعباد، وأن ينال الملايين من الكرامة تلك المنزلة التي كانت في الأزمنة الغابرة حكرا للآحاد المعدودين، وليست هذه النتيجة مما يناقض وجهة التاريخ في انتقاله بالفرد من الإهمال إلى الرعاية والحسبان. (ج) الطوائف والجماعات
والطوائف الصغيرة لا تعد مجرد مجموعات حسابية من الأفراد لأنها ظواهر اجتماعية ترتبط بتركيب بنية الأمة، ولكنها على أغلبها وأعمها لا تبرز بوجهة تاريخية خاصة بمعزل عن حياة الأمة التي تحتويها، إلا أن تكون من تلك الطوائف التي تتنازع الغلبة على المجتمع لولاية الحكم أو تأييد ولاته، كما يحصل فيما سمي حديثا بحرب الطبقات، ويؤخذ من تجارب العصر الحديث أن هذه الطبقات ذات وجهة تاريخية تؤثر في مجرى الحوادث، وأنها تميل إلى التوازن والتعاون أو إلى التقارب والتضامن كلما ارتقى النظام الاجتماعي في الأمة، وتمضي مجارية ولا تمضي مدابرة للوحدة العالمية.
وربما حدث في الأمم المتخلفة أن تنبري فئة من طلاب الانقلاب لاستئصال كل طبقة في المجتمع غير الطبقة التي تعتمد عليها في تقرير سلطانها، ولكن هذه الطبقة لا تلبث أن تتمخض عن طبقات جديدة تملأ فراغ الطبقات المستأصلة، وتؤكد من جديد أن الشخصية الإنسانية تستوفي كيانها، وأن الأمم لا تستغني عن التعاون بين طوائفها. •••
من هذا العرض المجمل نرى أن الغرض الذي قدرناه غير بعيد عن الواقع في وجهة التاريخ بالنسبة إلى النوع الإنساني أو إلى الإنسان الفرد أو إلى الجماعة التي تبرز لها مع الزمن وجهة تاريخية، ويسوغ لنا أن نقول: إن كثيرا من الفروض التي يتقبلها الباحثون العلميون تختلف عند التطبيق العملي اختلافا أبعد من الاختلاف بين الوجهة المفروضة والوجهة الواقعية في هذه المسألة، وقد يحق لهذا الفرض عن وجهة التاريخ أن يتلقى من قبول العلماء أكثر مما تلقاه ويتلقاه، ولا نخالهم يترددون في قبوله ويسرعون إلى الاعتراض عليه لو لم يكن تحقيق تلك الوجهة مصحوبا بالكوارث والشرور التي امتلأت بها الدنيا في تاريخها الطويل، ولا تزال تمتلئ بها في تاريخ العصر الحاضر، ولا يؤمل أن تنتهي فيما يتوقع من تاريخ المستقبل القريب.
يقولون: أيجوز أن نقول بالحكمة والقصد في تاريخ العالم مع هذه النقائص والآلام التي يبتلى بها الأحياء من كل نوع ولا سيما نوع الإنسان؟ ألا يجوز لنا أن نتردد ونرتاب قبل الذهاب إلى القول بالحكمة والغاية في عالم يتخبط هذا التخبط بين التقدم والتأخر، وبين الرجاء والخيبة، وبين الثقة والحيرة؟
نقول: بلى، يجوز إذا استنفدنا كل تفسير معقول لهذه المفارقات، وجربنا غير هذا الغرض فوجدناه أقرب إلى الفهم والأمل مما فرضناه وقدرناه.
لم لا نقول: إن عوارض النقص والألم ودواعي الحيرة والخيبة هي بعض النكسات التي رأينا أنها تفعل الخطوات المسددة في هذا الطريق ؟
لم لا نقول: إن الوجود الأبدي لا يحكم عليه من نقطة واحدة، أو نقط شتى غير متصلة ولا متلاحقة في العصر الواحد، ولا في مختلف العصور.
لم لا نقول: إن الكون لا ينحصر في مرضاة المخلوق، وأن «الكل» لا يرمى بالنقص لما يقع لا محالة من النقص في الأجزاء.
إن الأمانة العلمية - ولا نقول الأمانة الدينية - تتقاضانا أن نسأل أنفسنا هذه الأسئلة، وأن نفرغ من أجوبتها اليقينية قبل أن نجزم بالقول الفصل في هذه المسألة الكبرى، ولعلها أكبر مسائلنا - نحن بني الإنسان - على الإطلاق؟
وقبل أن نلغي من أذهاننا فكرة الوجهة التاريخية المقصودة من أجل نقائص الكون وشروره، ينبغي أن نتصور الكون الذي يخلو من النقائص والشرور كيف يكون، وينبغي أن نؤمن بأن الصورة الأخرى أقرب إلى الحكمة مما فرضناه وقدرناه.
عالم ليس فيه صغير يكبر، ولا ناقص يتم، ولا جزء يستوفيه جزء آخر، ولا حاضر يأتي بعده مستقبل، ولا مجهود يبذل، ولا فارق بين موجودين يتسلل من جانبه الشعور بالحاجة والسعي إلى تداركها، والحيلة في دفعها وإصلاحها من حين إلى حين، ومن مكان إلى مكان.
عالم كهذا كيف يكون؟ وإذا كان كيف يكون أصلح وأكرم لوجود الإنسان؟
أناس يتساوون جميعا في السعادة والرضى، ويتساوون جميعا في السن والميلاد، وفي الصحة والفكر والقوة والأخلاق والجمال.
أناس على هذه المساواة نفرض وجودهم، فنفرض أنهم يوجدون هكذا كما توجد المصنوعات في قوالب الصناعة، وليت هذا الفرض متيسر بغير فرض آخر أصعب منه، وأبعد من الإمكان، وأقرب إلى الاستحالة والامتناع.
ذلك الفرض الآخر هو المساواة بين الأماكن والأوقات، ومن وراء ذلك المساواة بين الأيام والأفلاك والعناصر والأشياء، ومن وراء ذلك عالم لا شيء فيه؛ لأن الشيء لا يوجد في عالم تمتنع فيه الفروق وتتشابه فيه جميع الموجودات.
ما البديل المفضل إذن من هذا العالم الذي نحن فيه؟
ليس ثمة إلا بديل واحد، وهو أن يوجد الناس بطبائع الخير والسعادة، كما توجد المعادن والجمادات بخصائصها وتراكيبها.
والناس يوجدون كذلك - إن أمكن وجودهم - في عالم لا تتكرر فيه المخلوقات، ولا تتعاقب ولا تحس الحاجة إلى شيء، ولا يحدث لها الإحساس إلا كما يحدث الأثر في المادة الصماء.
والناس لا يمكن وجودهم على هذه الصورة في عالم تتميز فيه الأشياء؛ لأن الأشياء لا تتميز في عالم يتشابه فيه الزمن والمكان، وتتساوى أجزاؤه، كما تتساوى أجزاء الفضاء.
هذا هو البديل من العالم كما عهدناه، فمن ارتضى هذا البديل فله أن ينكر الوجهة في التاريخ، وأن يفهم المصادفة كما يشاء، ويفهم الحكمة والتدبير كما يشاء، ولكنه لا يستطيع أن يزعم أن هواه قضية مسلمة، واختيار متفق عليه.
الفصل الثالث
الآلة
قصة الآلة أعجب القصص في تاريخ الإنسان؛ لأنها القصة التي نستطيع أن نبصر في خلالها عوامل الحضارة من بداءتها إلى ما انتهت إليه في أيامنا، وما تنتهي إليه بعد هذه الأيام، وهي إلى جانب ذلك قصة الحكمة الخالدة التي تتجلى لنا من وراء تاريخ الإنسان، ونستطيع أن نلمس عبرتها في أدوار ذلك التاريخ.
الآلة من عمل الإنسان، أو الإنسان من عمل الآلة؟
من قال: إن الآلة من عمل الإنسان لم نشعر بغرابة في قوله، ولكننا كذلك لا نرى أنه قال قولا يستحق عناء ترديده؛ لأنه من تحصيل الحاصل، ومن تبيين ما لا يحتاج إلي بيان.
ولكننا نستغرب أن يقال: إن الإنسان من عمل الآلة، ولكنها الغرابة التي تتراءى بها كل حقيقة جديرة بالنظر فيها والبحث عنها، خفية عند النظرة الأولى، جلية بعد التأمل وإعادة النظر أصدق جلاء.
ليكن رأي العلماء ما يكون في مذهب النشوء والتطور، وليكن منهم من يقول: إن الإنسان حيوان من الحيوانات العليا، نشأ معها أو تسلسل منها، أو فليكن منهم من يرفض هذا القول، ويقصر التطور على كيان الإنسان عضويا حيويا أو أدبيا فكريا كيفما اختار.
ليقل من شاء هذا وليقل من شاء ذاك، فلا اختلاف بين الفريقين في حقيقة واحدة لا تتوقف على هذا القول أو ذاك، وهي أن استخدام الآلة كان من أوله أكبر فارق بين الإنسان والحيوان الأعجم، وإن الإنسان - لو بقي كالحيوان - عاجزا عن استخدام الآلة لم تكن له حضارة، ولم تكن له حياة اجتماعية، أو فردية، تختلف كثيرا عن حياة الحيوان.
إن الحيوانات في جملتها عاجزة عن استخدام الآلة على أبسط ما تكون في حالتها البدائية، عاجزة عن استخدامها دفعة واحدة على فترات متقطعة، وعاجزة عن مواصلة استخدامها من باب أولى.
فليس في وسع الحصان - مثلا - أن يقذف حجرا، أو يحمل عصا أو يحرك شيئا بواسطة من الوسائط غير أعضاء جسده.
وقد تستطيع الحيوانات العليا - كالقردة - أن تقذف بالحجر أو تحمل العصا من فروع الشجر، وربما استطاعت أن تحرك شيئا بعيدا عنها إذا شاهدت أمامها من يفعل ذلك، فعمدت إلى محاكاته وهي لا تدري ما تفعل، أو تدريه، ولا تبتدئه من عندها عن روية وتفكير.
ولكنها - سواء درت أو لم تدر - عاجزة عن مواصلة الانتفاع بالآلة البسيطة من الحجر أو من فروع الشجر؛ لأنها تحتاج إلى يديها لتمشي عليها، ولا تقوى على استخدام الرجلين والاكتفاء بهما في حركة المشي خطوة واحدة إذا هي انتقلت من مكانها.
فاستخدام الآلة وانتصاب قامة الإنسان أمران متلازمان، واستقامة الإنسان في وقوفه ومشيه هي الفاصل الواضح بين أطوار الحياتين: أطوار الحياة الإنسانية، وأطوار الحياة الحيوانية.
وبين انتصاب القامة وصلاح اليدين للعمل المتواصل المتعدد ملازمة ظاهرة في تكوين بنية الإنسان، وتكوين دماغه، وارتباط الحركة اليدوية بالحركة الفكرية في أعماله.
ولا يهمنا أن يقال في هذا السياق: إن الإنسان ارتقى؛ لأنه صنع الآلة أو أنه صنع الآلة لأنه ارتقى، فكلا القولين يفيد شيئا واحدا، وينتهي إلى نتيجة واحدة، وهي ارتباط تاريخ الآلة بتاريخ الإنسان وحضارته وتفكيره وسائر مزاياه التي ميزته من عامة الأحياء أعلاها وأدناها على السواء، فالإنسان حيوان صانع للآلات كما قال بنيامين فرنكلين في تعريفه الجامع المانع لهذا الحيوان الناطق بما ينطوي عليه معنى النطق من ملكة واستعداد، ومن قال: إن الآلة ميزت الإنسان بين أنواع الحيوان، فله أن يقول: إن الآلة صنعت الإنسان.
قلنا في كتابنا عن فرنكلين: «إن تعريف فرنكلين للإنسان في الحقيقة أصدق تعريف له وأوفاه بالشرط الجامع المانع في التعريف، فما من فارق بين الإنسان والحيوان أوضح وأثبت من قدرة الإنسان على صنع الآلة واستخدامها، وهذه القدرة هي المقصودة بتعريف فرنكلين لا وجه للاعتراض عليها بتفاوت الناس فيها، فليس الاعتراض الصالح على تعريف الإنسان بالحيوان الناطق أن بعض الناس لا ينطقون ولا يفكرون، وأن بعضهم يولدون بكما أو مجانين، وليس من الاعتراض الصالح على تعريف الإنسان بالحيوان الاجتماعي أن يشد بعض الناس ويتأبد في الخلاء وينفر من الاجتماع، ولكن العبرة من هذه القصة أوسع وأدق من أن يحيط بها تعليق واحد، وكفى منها هنا أن تبرز قدرة العقل العلمي المطبوع على التعريف وإقامة الحدود والفوارق، وأن تبرز تلك الرابطة الوثيقة في طبيعة فرنكلين بين الإنسانية وصنع الآلات.»
هذه الرابطة الوثيقة بين قصة الآلة وتاريخ الحضارة الإنسانية، أو تاريخ نوع الإنسان في تطوره وارتقائه، هي مدار العبرة الخالدة، ومظهر الحكمة الإلهية في ذلك التاريخ، وأدعى الأمور إلى إظهار هذه الحكمة أن نذكر أن الآلة قد فرضت على الإنسان اضطرارا كما تفرض الأخطار والنكبات، وأن نذكر من آراء الناس فيها قديما وحديثا كيف نظر إليها الهداة من الفلاسفة والقديسين، فإنهم لم ينظروا إليها قط نظرة المختار الذي يحمدها ويتمناها لأبناء نوعه، ولم يكن في أقوال الفلاسفة والقديسين عنها ما يدل على أنها من تدبير نوع الإنسان لنفسه، وإنما هي من تدبير آخر غير تدبير النوع الإنساني، يساق إليه حينا على ما يريد، وأحيانا على غير ما يريد. •••
فمنذ القدم جعلت الآلة رمزا للتسخير وفقدان الإرادة، ولحق بها في هذا الاعتبار من يعمل بالآلة ومن يصنعها، فالعاملون بالآلات مسخرون، والذين يصنعونها مسخرون، وكلهم تجردهم الآلة من إنسانيتهم، وهي في منشئها مزية الإنسان على عامة الأحياء.
ولما تخيل الناس الأرباب على صورة البشر تخيلوا الرب الذي يصنع الآلات دميما ممسوخا أعرج شائه المنظر، يتقبله الأرباب في علياء «الأوليمب» على مضض، ويهمون بطرده من سمائهم أنفة من جلوسه إلى جوارهم، ولم يصبروا عليه إلا لحاجتهم إليه .
ذلك هو «هيفستوس» الحداد كما عرف في ملاحم اليونان الأقدمين، ويسمى أيضا «ملسيبر» الذي عاشت قصته بهذا الاسم في الآداب الأوروبية إلى العصور الحديثة، وقال في ملتون: إن زيوس رب الأرباب قذف به من السماء: «فظل يهوي من الصباح إلى وقت الظهيرة، ومن الظهيرة إلى المساء الندي نهار صيف كامل، هبط بعده عند مغرب الشمس كالنجم المنقض من السمت إلى جزيرة بحر إيجه: لمنوس.»
وفي قصة أخرى من قصص «هومر»: إن أمه هي التي قذفت به من سمائها بعد مولده؛ لأنها استقبحته وعافت منظره فنبذته خجلا من الظهور به بين الأرباب، وقد هبط به الشعراء المتأخرون من «أوليمب» الآلهة، وزعموا أنه يعمل في مخبأ مدفون في الأرض تحت البراكين الثائرة، فخلط الرومان بينه وبين الرب «فلكان» رب المواقد والنيران.
ويظهر أن تمثيل هيفستوس على هذه الصورة قديم متواتر بين شعوب المغرب والمشرق، ففي الإصحاح الرابع من سفر التكوين: «إن لامك اتخذ لنفسه امرأتين: اسم الواحدة عادة، واسم الأخرى صلة، فولدت صلة توبال قين الضارب كل آلة من نحاس وحديد.» وهو اسم مركب من كلمة طورانية وكلمة سامية، حيث التقت اللغتان قديما في وادي النهرين، ومعنى توبال أعرج، ومعنى قين حداد، وتطلق في العربية أحيانا على العبد المسخر في الصناعة.
قال الأستاذ سليمان البستاني مترجم إلياذة هومر في تعليقاته على النشيد الثامن عشر منها:
قيل أخذ اليونان عبادته عن المصريين حيث كان يسمى فتالي، وآلهة النار عند البلاسجة والطرواد، ثم الرومان، تدعى - فستا - تطرقت إليهم عبادتها من الفرس، ومن الغريب أن يكون هذا التشابه بين المعبودين، وأحدهما ذكر والأخرى أنثى، والأغرب من ذلك أن أول صيقل لجميع المصنوعات الحديدية والنحاسية في التوراة هو توبال قين، وتوبال أو طوبال باللغات التترية - ومنها التركية - الأعرج، وقين باللغات السامية - ومنها العربية - الحداد، وكلاهما لقب هيفست، مع أن توبال قين كان قبل عهد هوميروس بحسب نص التوراة بنحو ألفي عام.
وإذا كان هذا شأن صناع الآلات ومخترعيها بين الأرباب وأوائل الأسلاف، فلا جرم يهون شأنهم بين البشر، ويساويهم أو يقل عنهم من يعملون بها، ويعولون في معيشتهم عليها، فقد أوشك هذا العمل أن يكون من لوازم الرق والعبودية أو لوازم الضعة والهوان، فمن عمل الآلة لنفسه أو عمل بها لغيره فهما عند الأقدمين في المهانة سواء.
وجاء أرسطو فقسم النوع الإنساني إلى طبقتين: طبقة حرة ذات إرادة، وطبقة مستعبدة لا حرية لها ولا إرادة، وجعل هذه الطبقة في حكم الآلات؛ لأنها وسيلة لخدمة المسخرين لها بغير اختيارها.
ولما ظهرت آلات البخار والكهربا وشاعت المكنات الكبرى التي يديرها المئات من العمال والصناع لم يرتفع شأن العامل والصانع في نظر المحدثين عما كان عليه في نظر الأقدمين، بل هبط كثيرا في القرن الأول من نشأة الصناعة الكبرى، لأن الصناع الأولين كانوا ينفردون بأعمالهم أحيانا ويتصرفون بإدارة آلاتهم وأدواتهم، ويحتاجون إلى الذكاء والحيلة في إتقان مصنوعاتهم، ويفوقون غيرهم ممن لا يحذقون الصناعة في حسن الفهم والملاحظة، فلما نشأت المكنات الكبرى وتشابهت أعمال الصناع استغنى الصانع عن الفهم والملاحظة، وكاد أن يعتمد على يديه أو على عضلات بدنه في أداء مهمته المتكررة المتشابهة بغير تنويع أو تفكير، وصح فيه أنه أصبح في حكم الآلة التي يديرها، بل تطورت صناعة المكنات شيئا فشيئا، حتى حلت فيها المفاتيح والأزرار محل الأيدي والعضلات.
ولم يمض غير قليل على انتشار الصناعات التي تدار بالبخار والكهرباء حتى انطوت كلها في عنوان واحد يحتوي الآلات في أطوائها، ويحتوي معها أصحاب المصانع وأصحاب أموالها، وجمهرة العاملين فيها من العاملين بأفكارهم، والعاملين بأيديهم، بل يمتد حتى يحتوي سياسة الدول التي اتسعت فيها ميادين الصناعة الحديثة، ودفعتها إلى التوسع في غزو البلدان وفتح الأسواق واحتكار موارد لخامات المصنوعة، وحصر المناطق التي تباع فيها، والتنازع بينها على السيادة العالمية للاستئثار بتلك الأسواق والمناطق، والاستعداد لذلك التنازع بما يستلزمه من سلاح ومكيدة، وما يقتضيه من إثارة الفتن وشن الغارات، وإشعال نيران الحروب، فأصبحت كلمة «الصناعة الكبرى» عنوانا لجميع هذه الخطط والمطامع، ولكل ما يتصل بها من مرافق المال، ومساعي السياسة ، وبواعث الأخلاق والعادات.
ونظر المفكرون إلى «الصناعة الكبرى» في إبان نشأتها وامتدادها نظرتين متعارضتين: فمن كان من بناتها ومؤسسيها والمقيدين بنظامها فقد حسبها من ضرورات التقدم التي تقترن فيها النعمة بالنقمة، ويحتمل فيها الضرر الكبير في سبيل المنفعة التي لا غنى عنها، ومن كان من المفكرين خلوا من مطالبها وأغراضها بعيدا من قيودها وشباكها فهي عنده محنة من محن الزمن الأخير تربى سيئاتها على حسناتها وتغيب منافعها في غياهب آثامها وجرائرها، ووصفها بعضهم بالصناعة الجهنمية، وخيل إليه أن «المكنة الضخمة» إنما هي «الجقرنوت» الساحقة يركبها إله المال بدلا من إلهها القديم «فشنو»، ويجتاح بها كل ما قابله في طريقه ليستوي عليها معبودا بين قرابينه وضحاياه.
وتقابل في رأي المفكرين المنكرين عالم الصناعة وعالم الطبيعة، أو تقابلت عندهم الحياة المصطنعة الملفقة، والحياة الفطرية السليمة التي بدا لهم أنها الحياة المثلى، وأنها نقيض تلك الحياة المختلفة التي تمسخ النفوس، وتفسد ما بين الإنسان والإنسان من روابط العطف ووشائج الرحم والولاء.
وعلى أثر الهجمة الأولى من هجمات هذا «الجقرنوت» الحديث سرت في العالم دعوة خفيفة، أو رفيعة، كادت تغطي شيئا فشيئا على ضجيج «المكنة» الصاخبة التي ملتها الأسماع، وأعارتها ما أعارته من صغواتها على كره منها، وكانت تلك الدعوة التي سرت خفيفة تارة، ورفيعة تارة أخرى، هي دعوة العودة إلى الطبيعة أو دعوة السلام مع الله كما سماها بعض أقطابها الأولين، وتقاس هذه الدعوة في الزمان، كما تقاس في المكان، فينكشف لنا مدى اتساعها ونشاط الأذهان لقبوها حيثما تنقلب الصناعة الكبرى في خطواتها، كأنما تطاردها في مسيرها على حسب انتشارها وشيوعها، واحتدام مشاكلها وأخطارها.
فمن شعراء البحيرة في إنجلترا بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، إلى هنري ثورو
Thoreau
في أمريكا الشمالية من أوائل القرن التاسع عشر إلى ما بعد منتصفه، ثم تنتقل إلى شرق القارة الأوروبية في روسيا، فينادي بها رسولها تولستوي بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتبلغ الهند فتعود إليها مع الجقرنوت الحديث، وترتفع بها عقيدة قديسها وزعيمها مهاتما غاندي، أكبر رسلها في العالم الحديث، وآخر من حارب «المكنة» الضخمة ليعود بالناس إلى آلات البداءة التي يكاد أن يصنعها الصانع بغير حاجة إلى معمل ولا أداة.
وتلاقى المصلحون الأخلاقيون، والمصلحون الاقتصاديون في هذه الدعوة إلى الطبيعة فنشأت مدرسة «الطبيعيين»، وقال المؤمنون بمذهبها: إن الأرض ينبوع كل خير ومنبت كل عمل، وإن الأرض تعطي ولا تعقب عطاءها بالشر والعداوة، ولكن الصناعة التي تنفصل من الأرض تأخذ منه أضعاف ما تعطيه، وتسوي بينه وبين الآلة الصماء في التقدير والتقويم، ولكنها لا تعفيه من الألم والضغينة إعفاءها للآلة الصماء. •••
وعلى هذا النمط قضى عقل الإنسان قضاءه في الآلة منذ خرج بها من عداد العجماوات، وامتاز بها بين عامة الأحياء، وهو لا يدري بهذه المزية، فلو كان في مقدور نوع الإنسان أن يدبر لنفسه على مدى القرون، لما ارتضى الآلة تدبيرا له يقدر له منافعه ونتائجه قبل عشرات الألوف من السنين، ويثابر على رضاه مستزيدا من خطاه شاعرا باقترابه في كل خطوة من هدف مرسوم يريده، ويصبر على عثراته؛ لعلمه بما وراءها من نهاية مطلوبة وأمنية مبتغاة.
كلا، إن نوع الإنسان كان خليقا أن يحكم على الآلة في كل مرحلة من مراحل تاريخها كأنها - على أحسن ما تكون - ضرورة مكروهة يلجئه إليها ما هو أكره منها، ويعتمد عليها لأنه مسوق إليها، يرميها من يده قبل استخدامها لو استطاع، ولا يصبر عليها - كما هو شأنه معها - إلى أن يلقيها من يده بعد الفراغ منها. •••
وجملة القول: إن تاريخ الآلة عند الإنسان ينتهي إلى تاريخ شيء محتقر أو مكروه، ولكننا إذا نظرنا إليها نظرا يحيط بالنوع الإنساني منذ نشأته إلى هذه السنوات الأخيرة، وما سيليها من السنوات اللاحقة، فقد يسفر هذا النظر عن حقيقتين يقل الخلاف عليهما، وهما: «أولا» إن الآلة صاحبت تقدم الإنسان فردا وجماعة، وكانت مقياسا لدرجات الحضارة عند أممه عصرا بعد عصر وفي جميع العصور، فهي على الجملة مقياس الفارق بينه وبين الحيوان الأعجم في أعلى أنواعه وأقربها إليه .
والحقيقة الثانية أن منافع الآلة غير المقصودة لا تقل عن منافعها المقصودة التي تدخل في تدبير الفرد أو الجماعة، فما من آلة قديمة أو حديثة تنحصر منافعها في حدود الغاية التي تستخدم لها وتخترع من أجلها، وما من حكمة إنسانية يمكن أن تنحصر فيها تلك المنافع، أو يمكن أن تستوعب مقدماتها ونتائجها من النظرة الأولى.
كانت الآلة الأولى صخرة أو فرعا من فروع الشجر وسيلة لإصابة الصيد أو اتقاء السباع الضارية، وهذه هي فائدتها التي تدركها حكمة الإنسان، ويعمل على طلبها.
ولكن الفائدة غير المقصودة من استخدام الصخرة أو فرع الشجرة أكبر جدا من هذه الفائدة التي تكفل له البقاء وحماية النفس بين الأعداء؛ لأنها فائدة تتقدم به وتزيد في قدرته، وتنمي ملكاته، وتنقله من الحيوانية إلى الإنسانية، وتخطو به الخطوة التي يقف عندها الحيوان فلا يتقدم، ويبتدئ منها الإنسان فيبلغ ما هو بالغه اليوم من تمييز وامتياز.
فاستخدام الآلة في رأي العلماء جميعا هو الذي جعل اليدين في الإنسان أتم وأقدر من اليدين في ذوات الأربع، وهو الذي شحذ العلاقة الفكرية والمادية بين الدماغ وسائر أعضاء الجسد وحواسه، ولا اختلاف بين الباحثين في علم الإنسان على ذلك، وإنما يختلفون في التقديم والتأخير بين سائر الإنسان على قدميه منتصب القامة وبين ارتقاء دماغه وابتدائه في التفكير.
فمن العلماء من يرى أن الإنسان ارتقى فكرا، فهداه التفكير إلى استخدام الآلة واكتسب المرونة الجسدية والفكرية من توفيقه بين الأغراض، والمجهودات التي يستخدم من أجلها الآلات، ويرى علماء آخرون أنه استوى قائما على قدميه، واستطاع أن يمشي معتدل القامة، فتمكن من استخدام الآلة، واستعمال اليدين في حملها وتصريفها، وتسديدها إلى غاياتها، وتعلم من ذلك كيف يوفق بين حركات الجسم وهداية الدماغ، فكان هذا سببا لنموه واطراد تقدمه، وازدياد قدرته على الفهم والحركة الجسدية في وقت واحد.
فالأستاذ واشبرن
Washburn
أستاذ علم الإنسان «الإنثروبولوجي» في جامعة شيكاغو يقول في فصل كتبه سنة 1941: «إن المعروف عن الأجزاء الأخرى من الهيكل العظمي قليل، ولكن يستطاع أن نعتبر من المقرات البينة الآن أن اعتدال القامة وكل ما يصاحبه مما يساعد عليه في تركيب الجسم هو مرحلة بلغها الإنسان قبل وصوله إلى هيئته التي استقر عليها.»
1
وقد لخص الدكتور أشلي مونتاجو طرفي الرأي حول هذه المسألة في عجالة علمية سماها: «الإنسان في أول مليون سنة»، قال فيها عند الكلام على نسب الإنسان:
في أفريقيا الجنوبية - وبخاصة في أخريات السنوات العشرين - كشفت هياكل عظمية من متحجرات القردة سميت قردة الجنوب، وأدعى ما فيها إلى الالتفات أنها في كل شيء قردية، إلا في سعة الجمجمة، وعظام الفخذ والساق والقدم؛ فإنها شبيهة بالعظام البشرية، ويتحقق من عظام الفخذ والساق أن قردة الجنوب كانت تمشي معتدلة أو على نحو من الاعتدال، ومن ثم نشاهد لأول مرة علامات ثابتة تدل على ترتيب تطور البنية الإنسانية، وقد حدث هذا الاعتدال قبل نمو الدماغ إلى الحجم الذي يماثل دماغ الإنسان، وكان بعض الثقات يحسبون أن الترتيب مختلف، ولكننا الآن نعلم يقينا أن سلف الإنسان اعتدلت قامته أولا قبل أن يبلغ مبلغ الإنسانية.
كم عاشت هذه القردة الجنوبية؟ لا نعلم علم اليقين لأن طبقات الأرض في الإقليم الذي وجدت فيه بقايا تلك القردة لم تدرس دراسة وافية، إلا أن الأكثرين من المختصين يرجحون أنها عاشت في العصر المحدث الأخير
أي قبل مليون سنة أو نحوها، وربما انقرضت هذه القردة قبل ربع مليون سنة أو أقل من ذلك.
ثم استطرد قائلا بعد استبعاده أن تكون هذه القردة أسلافا مباشرة للإنسان: «هل كان لها نوع من الكلام؟ لا نعلم، وربما كانت لها مبادئه الأولى، فهل كانت لديها آلات؟ يجوز أنها كانت تستخدم شيئا منها، فإن في بعض أقاليم أفريقيا الجنوبية حصى دقاقا مصفحة كثيرة العدد من المحقق أنها استخدمت كالآلة، ويجوز أنها من صنع سلف الإنسان، وقد وجد بعضها ومعه أسنان القردة الجنوبية، ويزعم بعضهم أن تلك القردة الجنوبية استخدمت عظام الرباح - أحد السعادين - آلات لها، ودعا إلى هذا الظن أن جماجم كثير من هذه السعادين قد وجدت مع بقايا القردة الجنوبية على حالة يفهم منها أنها ضربت على رءوسها، فاعتقد الأستاذ رايموند بارت
Bart
من أفريقيا الجنوبية أنها من عمل القردة، وأن هذه كانت تستخدم بعض الآلات أو الأدوات، وأن كان كثير المختصين يتردد في اعتقاد ذلك ما لم تؤيده أسانيد أخرى.»
2
وقد خيل إلى آحاد من النشوئيين أن تكرار التجربة التاريخية بوسائل العلم الحديث مستطاعة، فشرعوا في إعداد العدة للاستعانة بالجراحة على تقويم عظام الحيوانات العليا التي تقوى على المشي معتدلة بعد تعديل عظام الحقوين، وتثبيتها في مفاصلها على نحو يمكنها من الحركة ولا يحوجها إلى المشي على أربع من حين إلى حين، ويظن النشوئيون الذين يشرعون في هذه التجارب أنهم سيعرفون بعض الشيء على الأقل عن ترتيب نشوء الكلام، واستخدام الدماغ والأجهزة الصوتية في النطق المفيد، وهم لا يجهلون أن الحيوان الفرد لا يدرك في مدى حياته القصيرة ما أدركه نوعه في مئات القرون، ولا يجهلون كذلك أن الذي يدركه الفرد بعملية جراحية في عظامه لا يورث ولا ينقل بالوارثة - كله أو بعضه - ما لم يتسرب أثره إلى الخلايا الناسلة
Genes
وصبغياتها
Chromosomes
ولكنهم يترقبون من تغيير مسلك الحيوان بعد اقتداره على المشي المعتدل أن يفهموا كيف ابتدأ تحسين الأجهزة الصوتية، وتهيئة اللسان للكلام مع التجاوب بين عمل الدماغ وحركات الأعضاء، وقد يحدث في عمر الحيوان الفرد ما يكفي لتعيين الاتجاه إن لم يكن كافيا لإدراك الوجهة أو للاقتراب منها كما حدث في أطوار التاريخ. •••
ونعود فنقول: إن النشوئيين قد يختلفون فيما بينهم، وقد يختلفون بينهم وبين غيرهم، ولكن الواقع الذي لا خلاف فيه أن الفارق بين الحيوان والإنسان مرتبط بتاريخ استخدامه للآلات، وأنه لولا قدرة الإنسان على صنع الآلات والاستعانة بها على مطالبه لما كانت له مزية تفرق بينه وبين العجماوات.
وننتقل من الإنسان الفرد إلى الإنسان الاجتماعي في الشعب أو الأمة.
إننا في غنى عن تتبع الأدوار التي مرت بها الصناعات لنعلم أنها كانت في كل دور من أدوارها مقياسا لحضارة الأمة، وعنوانا على المزايا الفكرية والخلقية التي تميزها على غيرها، وقد نعلم من عرض حالة الصناعة في دور واحد من أدوارها أن فوائدها المقصورة لا تستقصي جميع فوائدها، وإن الصناعات التي يتقنها الإنسان للحرب لا تلبث أن تدخل في عداد الصناعات التي يقوم عليها السلم ويقوم عليها العمران، ومن المشكوك فيه أن الصناعة كانت تتقن تطريق الحديد وتليينه على درجات من المرونة والمضاء لو لم تعمل على إتقان السيوف والحراب والدروع، فإن آلات الحرث والحفر تصنع بغير حاجة إلى الإمعان في أساليب التطريق والتليين، ولكن معالجة الحديد قد أغنت في صناعات السلم والعمران فوق غنائها في صناعات القتال والتدمير.
ولما نشأت صناعات البخار والكهرباء ظهر للآلات أثر جديد لم يكن منه بد لترقية الاجتماع، ولم تكن إليه وسيلة بغير «المكنة الضخمة» التي جاء بها إلى التاريخ عصر البخار والكهرباء، وهي تلك «الأداة الجهنمية» أو «تلك الأداة الشيطانية» كما وسمها الحكماء بمعزل عن حكمة التاريخ.
لقد كان بناء الصناعة الكبرى على المكنات الضخام مظهرا من مظاهر التوازن في المجتمع بين أصحاب الثروة الزراعية وأصحاب الثروة المعدنية وأصحاب الثروة التجارية، وكان قيام هذه الصناعة الكبرى دليلا على تكافؤ القوى بين أصحاب الضياع وأصحاب المعامل وأصحاب المتاجر والأسواق، ثم جاءت المكنة الضخمة بقوة جديدة لم تكن تعرف نفسها، ولم يكن أحد يعرفها، ولم يكن لها - لو عرفت - من سبيل إلى سماع صوتها، فقد جمعت المكنة الضخمة مئات الصناع وألوفهم في صعيد واحد، وكان اجتماعهم بهذا العدد في رابطة واحدة عدة حية تعتمد عليها الصناعات في انتظامها وتوفير إنتاجها، فتم التوازن الاجتماعي حيث اجتمعت هذه القوة للطوائف التي كان من السهل ظلمها ومن الصعب إنصافها، وهي متفرقة تدير آلاتها المفردة على حدة.
كان لأصحاب الأموال سلطانهم الذي لا يدفع، سواء كانوا من ذوي الثروة الزراعية، أو ذوي الثروة الصناعية، أو ذوي الثروة التجارية، وكانوا ربما تنافسوا بينهم فاضطرتهم المنافسة إلى الاعتدال في مطالب كل فريق منهم، ولكنهم كانوا إذا استبدوا بسطانهم يدا واحدا لم يردعهم رادع، ولم يعسر عليهم أن يجوروا بمطامعهم على حقوق غيرهم وعلى حدود الشريعة والعرف السديد، فكان قيام القوة الجديدة - قوة الأيدي العاملة - خيرا عميما يحقق مصالح الطوائف جميعا، ويجعل مسألة الإنصاف الاجتماعي مسألة لا تتوقف على حسن النية من طلاب الخير العميم.
بيد أنه كان خيرا لم يخلص من الشر في جميع الحالات، إذ كانت الصناعة الكبرى قد ظهرت في بلاد لا توازن فيها بين قوى الثروة المنوعة كما ظهرت في البلاد التي توازن فيها سلطان أصحاب الضياع وأصحاب المعامل وأصحاب المتاجر والأسواق، فكان ظهور القوة الجديدة سببا من أسباب الطغيان على المجتمع من الأدنى إلى الأعلى، بعد أن كان الخوف كل الخوف من طغيان العلية على من دونهم مالا وعلما، وقدرة على إسماع الصوت وإبلاغ الشكاية، وإحقاق الحقوق، وتبين مع شيوع الجهل والتنافر بين طوائف الأمة أن تسخير الجهلاء من المحرومين لعبة سهلة على من يحسن خداعهم وإثارة ضغائنهم واستغلال شكاياتهم، وقد يسخرهم دون أن يشبعهم أو يرفه عنهم؛ لأنه يشبع فيهم شهوات النقمة على من هو أحسن حالا وأكبر جاها وأدنى إلى رخاء المعيشة، وقلما يعنيهم أمر الحكومة الحرة؛ لأن فقدان الحرية لا يسلبهم شيئا يحرصون عليه من فكرة أو مبدأ أو متعة روحية.
ولا ريب أن الطغيان من الأدنى بغيض وخيم العاقبة كالطغيان من الأعلى أو أبغض وأوخم في عقباه البعيدة أو القريبة، ولكنه مع هذا ضرورة لا محيد عنها إذا كان هو الوسيلة التي لا وسيلة سواها لإنقاذ الملايين من مرارة الضيم والإهمال، وأنه ليهون خطبه - على فداحته - إذ بدا من ورائه أمل في زواله وتلطيف جرائره بعد الاستفادة منه في كبح طغيان الأقوياء على الضعفاء.
وعند «المكنة الضخمة» ترياق العلة التي جلبتها، ومنها يكون الدواء كما كان منها الداء.
إن المكنات الضخام لا تبقى طويلا على الصورة التي عهدها الناس منها لأول نشأتها.
لقد كانت لأول نشأتها تحتاج إلى مهندس واحد يفهم تركيبها ويحسن إدارتها، ويعتمد في تنظيم عملها وإصلاح خللها على الذكاء والدراية العلمية، وقد يعاونه على إدارتها مساعدون قليلون - بل جد قليلين - يتعلمون مثل تعليمه ويفهمون مثل فهمه، ولا حاجة بعد المهندس ومساعديه إلى معونة غير المعونة اليدوية التي يتساوى فيها الذكاء والغباء، ويتكرر فيها العمل الواحد على أيدي المئات والألوف كما تتكرر أعمال الآلات.
إنسان واحد وألف آلة، ولا فرق في ذلك بين نوع ونوع من المكنات الضخام التي قامت عليها الصناعة الكبرى منذ أواسط القرن التاسع عشر، إلى العقود الأولى من القرن العشرين.
إن عهد هذه المكنة ينقضي في كل أمة من الأمم التي نهجت على سياسة التصنيع وذهبت تتدرج في تعميم الصناعة الكبرى، وسيصبح «الآدميون الآلات» نمطا عتيقا لا نفع له بعد شيوع التنويع في المكنات، وشيوع الأجهزة المختلفة في المكنة الواحدة، ولن تكون هناك سخرة آلية محصورة في فئة كبيرة من فئات العاملين في الصناعة، ولن تكون هناك قوة طاغية تعتمد على السخرة الآلية متى زالت هذه السخرة من قرارها.
وكلما انتشرت الصناعة لزم الذكاء في استخدام الآلات، وشاع استخدامها في المكتب والنادي والمتجر والبيت والديوان، ولم يبق عمل الذكاء مقصورا على المكنة الضخمة في المصانع الجماعية، وأصبحت الصناعة اليدوية المجردة من الخبرة العقلية والدراية الفنية شيئا نادرا يقل من يزاولونه ويرتضونه ويناط أداؤه بذوي القصور الطبيعي من الأغبياء وضعفاء العقول، وقد رأينا فيما تقدم من البحوث عن حالة التعليم في القرن المقبل أن علماء التربية سيحتاجون إلى جهد غير قليل لتدبير العمل الذي يوكل إلى هؤلاء القاصرين ضنا بالذكاء أن يبذل في أعمال تستغني عن الذكاء، وشعورا بالحاجة المزدادة إلى درجات من الفطنة تصلح لكل درجة من درجات الإنتاج وتسيير الآلات.
ولا يخفى أن تهيئة التعليم الصناعي الذي ينجب الخبراء المطلوبين في كل فرع من فروع الصناعة، لا يتأتى بغير مرحلة عامة من التعليم الأولي كفيلة على الأقل بمحو الأمية، وتزويد الناشئ المتعلم بقسط من المعرفة، يرتفع به عن تلك الآدمية الآلية التي تنساق مغمضة الأعين للدعاة المغررين والطغاة المستبدين.
ويصحب هذا في المجتمع الصناعي المتقدم نظام آخر يمنع التفاوت الواسع بين الطبقات ، فإن المساهمة في الشركات التي تملك معامل الصناعة الكبرى باب مفتوح لكل من يملك ثمن السهم والسهمين والأسهم القليلة التي لا يعجز عنها أصحاب الموارد المحدودة ممن يعيشون بالمرتبات والأجور.
فالمكنة الضخمة التي تشق المجتمعات، وتقطع الصلة بين طبقاتها تعود فتعقد هذه الصلة، وتملأ الفجوة بين كل طبقة، وما يليها ممن هم فوقها، ومن هم دونها في العلم والعمل والذكاء والمعيشة، ومن آثارها في مناح كثيرة أنها تقارب بين دواعي الاتصال والتعاون، وتباعد بين دواعي القطيعة والبغضاء، وتتقارب هذه الدواعي اضطرارا كما تتقارب اختيارا بما يناسبها من الآداب والأخلاق، فإذا امتنع التوازن في المجتمعات التي يسيطر عليها أصحاب الأموال أو يسيطر عليها أصحاب الأعمال اليدوية، فلا بد من التوازن في المجتمعات التي يملك فيها الأوساط سلاحا كسلاح الأغنياء المحتكرين للثروة أو سلاحا كسلاح العمال اليدويين القادرين على تعطيل الأعمال أو على التهديد بالإضراب، إذ يستطيع هؤلاء الأوساط أن يجردوا سلاحا كسلاح أصحاب الأموال؛ لأنهم يحتلون مراكز الإدارة الهندسية والاقتصادية، ويستطيعون أن يجردوا سلاحا كسلاح العمال اليدويين؛ لأنهم يملكون التعطيل ويملكون التهديد بالإضراب، وليس من اليسير أن يستبد أصحاب الأموال أو يستبد العمال اليدويون متى قامت في المجتمع طبقة وسطى بين الطبقتين لها صوت مسموع ووسيلة إلى إسماع صوتها وإثبات حقها ورفع الضغط عنها من أعلاها ومن أدناها، وأبعد ما يكون المجتمع عن استبداد العلية أو استبداد الجماهير إذ امتدت فيه طبقاته الوسطى امتدادا يتغلغل بها في الطبقتين ممن هم أعلى منها، ومن هم دونها، ويحاول من يريد التفرقة هنا أو هناك أن يضع الخط الفاصل حيث ينقطع الشبه بين الجانبين فيعييه الفصل الحاسم على وجه من الوجوه. •••
فتاريخ الإنسان الاجتماعي، أو تاريخ الإنسان في الحضارة ملازم إذن لتاريخ «الآلة» كل الملازمة: تطورها مقياس صادق لتواريخ الحضارات وللفوارق المحمودة - أو غير المحمودة - التي تمييز بعضها من بعض، وترتقي الآلة البسيطة إلى المكنة الضخمة فيكون ارتقاؤها في المجتمعات المتقدمة مظهرا عاما من مظاهر التوازن بين طوائفها ووسائل نفوذها واقتدارها على تبليغ صوتها وتقرير حقها، فإذا ظهرت الصناعة الكبرى في مجتمع لم يستوف تكوينه الاجتماعي، ولم تتوازن فيه القوى والمصالح فهي خليقة أن تتدارك هذا النقص وأن تخلق هذا التوازن مع الزمن وتخلق معه أسباب التعاون بين الطبقات، وأسباب التغلب على كل طغيان من إحداها على الأخرى. •••
إن أثر الآلة في حضارة الإنسان الاجتماعي لا يقل عن أثرها في ثقافة الإنسان الفرد أو في قياس الفارق بينه وبين الحيوان.
ولا يقل عن هذين الأثرين البارزين أثرها في حياته العالمية: حياة النوع الإنساني على تباعد أقطاره، وتفاوت أقوامه، وتنازع القوى بين حكوماته وشعوبه.
فقد ولد العالم بعلاقاته المشتبكة يوم ولدت المطبعة والإذاعة والباخرة والطيارة، وتقررت مبادئ التضامن العالمي عملا في هذا العصر من عصور الصناعة بعد أن طالت دعوة المصلحين إليه، وترددت كلمة «النوع الإنساني» بغير معنى أو بمعناها المصطلح عليه في الألسنة والأوراق، ومهما يقل القائلون في قيمة هذا التضامن الحديث فليس هو اليوم بالحبر على الورق، ولا بالصدى الذاهب بين الألسنة والأسماع: إن العالم الإنساني اليوم أوسع نظاما من أن تحكمه أكبر دولة وأوثق اتصالا من أن تهمل فيه أصغر دولة، وما من كارثة في جزء من أجزائه تؤمن عاقبتها في أجزائه المترامية، على ما بينها من تباعد في المكان وتباين في المصالح والأهواء، ولا يحدث هذا في العالم بغير تضامن «واقعي» بين أجزائه، كائنا ما كان سببه، وكيفما اختلف النظر إليه في دساتير الأخلاق.
فإذا قيل: إن هذا التضامن ضرورة غير مقصودة، لأسباب غير محمودة، ففي ذلك مصداق للحكمة التي تفوق إرادة الإنسان وتسوقه في تاريخه مرحلة بعد مرحلة، وهو جاهل بما يساق إليه.
ونعود فنقول: إن الإنسان لم يصنع الآلة وهو يقصد إلى جميع فوائدها وعواقبها، وإنه قد يقصدها سلاح حرب فلا تلبث أن تصير على غير قصد منه دعامة سلام، وقد صح هذا كثيرا في تاريخ الإنسان الفرد، وتاريخ الإنسان الاجتماعي، ولكنه أصح من ذلك في تاريخه العالمي أو تاريخ هذا التضامن العالمي في الزمن الأخير، فما كانت منافع المواصلات لتقود الإنسان إلى إتقان الطيران هذا الإتقان لولا فعله في الغارات والحروب، وما كانت أمانة العلم لتفلح وحدها في شق الذرة، وإبداع الأقمار الصناعية، وإطلاق الصواريخ، وتركيب سفن الفضاء، وما كانت خصائص المادة وأسرار العناصر والأجسام لتنكشف للعلماء وتنقاد للمخترعين لو لم يكن منها سلاح ووقاء وخوف من عدو أو عزم على اعتداء، فليست هذه الروائع العلمية مما يتاح للعلماء وينقاد للمخترعين بغير القناطير المقنطرة من الذهب، وليس إنفاق القناطير المقنطرة مما تتحمله شركات البيع والشراء أو تتفتح له حزائن الأغنياء، أو يأذن به ولاة الأمر والنهي إذا انكشف عنه الغطاء.
الفصل الرابع
خواص المادة والنظرة «المادية»
النظرة المادية نقيض النظرة المجردة إلى الأشياء في اصطلاح الأقدمين والمعاصرين، سواء كانوا من الفكريين المثاليين أو من الحسيين الواقعيين.
وأساس هذه التفرقة قديم عند الأمم التي اشتغلت بالفلسفة والعلم، مع اختلافها في المزاج والعقيدة ووجهة النظر.
فعند الفيلسوف الهندي القديم: إن المادة وهم باطل، وإننا مطالبون بأن نلغي وجودها ونفرض عدمها إذا أردنا أن ننفذ إلى الحقيقة المجردة التي لا تتلبس بالأوهام والأباطيل.
وعند الفيلسوف اليوناني: إن المادة كثيفة غليظة، وإن الفكر في لبابه صاف خالص من شوائب التجسيم والتجسيد، ولا شك أن الفكرة الجغرافية كان لها عمل كبير في هذه التفرقة من أساسها الأول، لأنها فرفت بين الكائنات الأرضية والكائنات السماوية، أو فرقت بين هذه المحسوسات الكثيفة الترابية، وبين الكائنات العليا التي لا يحس منها غير النور الذي ينبعث منها، وهو بسيط صاف لا تركيب فيه، ولا يعتريه إلا ريثما يختلط بالأجسام، ثم ينفصل عنها فيعود إلى الطهارة والنقاء.
فكل ما تحت القمر فهو مادي غليظ عرضة للفساد والانحلال، ويأتيه الفساد والانحلال من جانب التركيب الذي لا يدوم على حالة واحدة، ومن فقدانه الدوام يتطرق إليه العطب والفناء.
ولا نذكر هنا فلسفة المصريين الأقدمين فيما يرجع إلى النظرة المجردة والنظرة المادية، فإنهم لم يفصلوا بين النظرتين ولم ينظروا إلى الوجود كله إلا على اعتباره وجودا واحدا تمتزج فيه الروح والجسد ، ولا يلزم من اختلافهما أن ينفصلا عنصرين متناقضين، فلا تنفرد الروح بالبقاء، ولا يمتنع على الجسد أن يبقى ملازما لها أو منفصلا عنها إلى حين. •••
ثم انقضى عصر الفلسفات القديمة واتخذت التفرقة بين النظرة المادية والنظرة المجردة مناهج شتى في العصور الوسطى بين الفلاسفة المستقلين والفلاسفة المفسرين لأصحاب الآراء الخالية، فانقسم هؤلاء جميعا إلى قسمين متناقضين: قسم الواقعيين، وقسم الاسميين، وأطلق «الواقعيون» على الذين يحصرون الوجود في الأفراد المحسوسة، وأطلق «الاسميون» على الذين يقولون بوجود النوع مستقلا عن الفرد بكيان غير محسوس.
فالواقعيون يقولون بوجود هذه الشجرة وتلك الشجرة وكل شجرة يرونها، أو يلمسونها ويحسونها على نحو من الإحساس الجسداني، ولكنهم يرون أن «الشجر» كلمة تقال لتدل على جنس الأشجار في جملتها، واسم لا وجود له في الخارج غير وجود مسمياته المتفرقة.
وعلى نقيض هؤلاء «الاسميون» الذين يقولون بأن «النوع» هو الموجود الحقيقي، وإن الأفراد المحسوسة إنما هي محاكاة ظاهرية تحاول أن تمثل ذلك الوجود العام على صورة من صور الوجود الخاصة التي تدركها الحواس.
وجاء بعد الواقعيين والاسميين أناس مثلهم في هذه التفرقة بين النظرة المادية والنظرة المجردة، ولكن على أسلوب آخر: هؤلاء هم الحسيون العقليون يقابلهم المثاليون المنطقيون، فلا وجود عند الحسيين العقليين لتلك الأمثلة العليا والحقائق الغيبية التي يؤمن بها المثاليون المنطقيون، ويستدلون عليها ببراهين المنطق وأدلة القياس، وإنما الوجود الحق للمادة التي يحدها المكان والزمان، ويثبتها العيان، وما يؤيده من حواس الإنسان.
ثم جاءت المادية الحديثة قبيل القرن العشرين فأنكرت جميع المجردات، ولم تثبت شيئا غير الأجسام كيفما كانت في تراكيبها التي تدركها الحواس أو تكشفها أدوات الرصد والتحليل.
وسمي العصر الحديث - بين أسمائه الكثيرة - باسم العصر المادي أو عصر الماديات على إطلاقها، وجعلوا الماديات على كل شيء يطلبه الجسد، ويستمتع به الحس، ولا يتجرد عن «الجسدية» على حال من الأحوال.
ولقد حسب الكثيرون أن هذه «المادية» خليقة أن تقضي على نظرة التجريد قضاءها المبرم الذي لا رجعة لها بعده، وأن الذي بقي من نظرات التجريد - بعد فلسفة الواقعيين وفلسفة العقليين - وشيك أن يذهب ذهابه الأخير في إبان عصر المادة الحديث، فكلما استغرق الباحث في النظرة المادية فهو مبتعد بحكم الضرورة عن نظرات التجريد، ابتعاد النقيض من النقيض.
وغير هذا هو الذي حدث ويحدث مع توالي الكشوف عن أسرار المادة وعناصر الأجسام ومآل هذه العناصر في النهاية ونشأتها قبل أن تتعدد وتبلغ العشرات.
فلم يعرف الناس نظرة التجريد كما عرفوها في هذا «الزمن» الغارق في ماديته كما يقال.
كان الفيلسوف المادي - والعالم المادي معا - في منتصف القرن التاسع عشر يعلن الإيمان بالمادة دون غيرها لأنه يحسب أن وجودها هو الوجود الثابت بغير برهان، وأنها تملأ عيانه، وتصدم يديه وقدميه، ولا تحوجه إلى فهم حقيقتها وراء النظر واللمس، ووراء صدمة الواقع المقرر بغير جدال، ولا إمعان في الخيال.
ولكن ما هي تلك «المجردات» التي يتحدث عنها غير الماديين؟
وهم لا نراه، خيال لا نعقله، فروض لا تبرأ من النقائض، وضروب المحال.
ثم وصف علماء المادة وفلاسفتها هذه المادة التي لا تجريد فيها، فإذا هم يعيدون فيها ما قاله، الروحانيون عن المجردات، فما يقوله الماديون عن سر المادة إنما هو وهم لا يرى وخيال لا يعقل، ونقائض من الفروض في التفسير الواحد، ودع عنك غيره من التفسيرات. •••
كانت مادة الأقدمين معدنا للكثافة والغلظة، وضدا لمعنى الصفاء والتجريد؛ لأنها من معدن يناقض النور السماوي في بساطته ولطفه ونزاهة مكانه، فأصبح قوامها كله من النور المحض يتساوى أكثفها وألطفها، كما يتساوى أثقلها وأخفها في استمداد هذا القوام من ينبوعه الأصيل، وكلما ثقل وزنها كان هذا الثقل عنوانا لوفرة نصيبها من النورانية أو من الشعاع المنطلق بلا جثمان.
وكانت مادة المحدثين حقيقة واقعة مأخوذة في اليدين، يعدون من غريب القول إن يسأل السائل هل هي مفهومة أو غير مفهومة؛ لأنها أظهر وأثبت من أن يصل الأمر فيها إلى الفهم بالذهن المجرد وهي قائمة أمامنا بألوانها وأحجامها وأجرامها الصلدة التي تصدم الأكف والأقدام، فأصبحت هذه الحقيقة الواقعة المأخوذة باليدين شيئا يدق عن إدراك العقول ويبلغ من الدقة غاية ما يبلغ الروح المجرد في خفائه وصفائه، فكل هذه الأجسام الكثيفة إنما هي ذرات صغار لا تدركها العيون، ولا يدركها العقل إلا بالحساب والتقدير، وكل ما انطوت عليه هذه الذرات، إنما هي هزات أو جزئيات لا ندري على التحقيق أيهما تكون، وقد يفسرون الظاهرة الواحدة بالهزات من ناحية والجزئيات من ناحية أخرى، ويتممون هذه بتلك على نحو يستغربونه من شراح «الروحانيات» والمجردات، وما إليها من خلائق البديهة والخيال.
وما قصارى الهزات والجزئيات بعد هذا التردد بين التفسيرين؟ قصاراها أنها حركات في ظن من الظنون يسمى بالأثير، لا يعرف بلون ولا طعم ولا مس ولا عدد ولا طول ولا عمق مقيس بغير الحساب والتقدير.
وآل أمر الامتداد كذلك إلى الحساب والتقدير؛ لأنه جاوز الحس والتصوير ولحق في النهاية بالغيبيات وما شاكلها من فروض البديهة والخيال، ففي الثانية الواحدة يعبر شعاع النور قريبا من ثلثمائة ألف من الكيلومترات، وكم يعبر إذا انقسمت خفقة الثانية الواحدة إلى ألف خفقة؟ وماذا يكون جزء من ألف جزء من الثانية في حساب الزمن المعهود.
وتضاءل شأن «الامتداد» الذي سميت باسمه المادة فأصبح إدراكه وإدراك المعاني الذهنية على حد سواء، لا نهاية للصغر بعد أن كان المظنون أن اللانهاية صفة من صفات السعة الشاسعة من الآفاق والآباد.
وإذا تركنا اللانهاية في الصغر أو في الكبر، ووقفنا عند المحدودات في عالم الأجسام والمعاني، فالعجب هنا أعجب من كل أعجوبة روحانية عزت على قرائح المتعمقين في التفكير والتخمين.
إن الناسلات أو الجنيات
Genes
التي يتكون منها النوع الإنساني كله توضع في فنجان صغير يحتوي كل ما في هذا النوع من القوى الكامنة والخصائص المميزة والموروثات الباقية في وظائف الأعضاء وفي الأذهان والطوايا الخفية: يحتوي من جراثيم التكوين كل ما توزع من الملكات والأخلاق في أكثر من ألفي مليون من أبناء الأمم الأحياء يتوارثون ملكاتهم وأخلاقهم من أضعاف هذه الملايين في مئات القرون، فلماذا بقي من معنى الامتداد القديم؟ وأين مسافات الفضاء أو مسافات الزمن في هذه المقاييس والمقادير؟ وأين يذهب بنا التجريد المفروض وراء هذه الخفايا التي لا تؤخذ باليد ولا بالفكر إلا مع التسليم والاعتراف في النهاية بالعجز والقصور، وإذا كان جزء من ثلاثة آلاف مليون جزء محتواة في فنجان صغير يحفظ جرثومة الطبائع والأفكار والأعضاء في إنسان عظيم أو صغير، فماذا بقي من المعجزات للذين يتحدثون عما وراء الطبيعة، وما وراء المادة وما وراء العقل والعيان؟ وأين هو الفاصل القائم الذي يسمح للمادي الفخور بماديته أن يقول لخصمه: أنا مادي المس الحقيقة، وأنت خيالي تطير وراء المحال؟ •••
زعم فيثاغوراس قبل خمسة وعشرين قرنا أن الوجود كله قوامه من عدد ونغم، أو أن الوجود كله بعدده ونغمه يقوم على النسب الموسيقية.
ولم يذكر فيثاغوراس شيئا عن الموجودات المعدودة، فهو يذكر العدد، ولا يعنيه أمر المعدودات كأنه يقدم العدد في الاعتبار، ويجعل النسبة الموسيقية بين الأعداد أصلا تتبعه الفروع.
وسمع بهذا الرأي الفلسفي كاتب يعرف الكيمياء معرفة الصيدلي الماهر، ويشتغل بالدراسات العلمية الحديثة، ولا سيما مذهب النسبية في شعبتها الخاصة وشعبتها العامة، فما كاد الكاتب الصيدلي يصغي إلى ذلك الرأي الفسلفي حتى صاح محنقا: ما هذا اللغو السخيف؟ الوجود كله عدد؟ الوجود كله نسب موسيقية؟ أما آن للعقل البشري أن يتحرر من هذا الهراء العقيم الذي أكل عليه الزمان وشرب وضاعت فيه الدهور عبثا بين الجدل والسفسطة؟
ولم يقنع الكاتب الكيمي بما قال في ثورة العضب، بل كتب مقالا بهذا المعنى لم يعدل فيه عن وصف الفيلسوف الكبير بالسخف والجهالة.
ولقيت صاحبنا فقلت له: إن آخر من يحق له أن يرمي الفلسفة العددية بالسخف لهو الباحث الذي يعرف الكيمياء معرفتك، ماذا تقول الكيمياء عن أصل المادة بحذافيرها وأصل المعدودات على «تعدد» حسابها.
قال: إنها من عناصرها المعروفة.
قلت: وماذا نعرف من عناصرها؟
فمضى يسرد التعريفات المعلومة لتركيب النواة وكهاربها بين موجبة وسالبة ومحادية، إلى آخر ما يقال عنها في بسائط الكيمياء.
قلت: علام يقوم الاختلاف بين عنصر وعنصر منها؟
قال: إنه بالطبع قائم على عدد النويات والكهارب.
قلت: والنويات والكهارب من أين جاءت؟ أليست هي جميعا من شعاع وتئول إلى شعاع بعد الانحلال؟ فما هو الشعاع؟ أليس هو هزات في الأثير؟ وما الفرق بين هزات الأثير إن لم يكن فرقا بين عدد ونسبة؟ وهل في الأثير شيء معدود غير هذا العدد المفروض؟
إن عناصر المادة إذن تختلف باختلاف ما فيها من أعداد الهزات في الأثير، ونرجع إلى الأثير فلا نجد هنالك جسما ولا كائنا شبيها بالأجسام التي تقاس بالوزن أو بالحجم أو بالأطوال والأبعاد، وكل ما نعرفه إذن أعداد مفروضة لا نعرف معها معدودات موجودة، فماذا قال فيثاغوراس غير هذا مما يحق لنا اليوم أن نصفه بالسخف والهراء؟ عدد، ونسب مقررة بين الأعداد، يتبع بعضها بعضها، ولا يعسر على الخبير بها أن يتبين الموضع الخالي في السلسلة المتلاحقة على حسب أعدادها وضوابط النسبة بينها.
كل ما نعرفه عن تركيب المادة أنها أعداد مفروضة ومعدودات مجهولة، ومن قال بهذا الرأي قبل العلم الحديث بخمسة وعشرين قرنا لا يستحق منا الوصف بالسخف والهراء، بل هو حقيق منا بكل إعجاب وإكبار، وجدير بنا أن نتعلم منه كيف نفكر ونفتح أبوبا التفكير أمام عقولنا، فإن لم نتعلم منه ذلك فلنتعلم على الأقل كيف نتردد في إغلاق أبواب الفكر، وفي حجب العيون بالأيدي حتى لا ترى ما لعلها قادرة على رؤيته، لولا هذا الحجاب.
على أن العلم الرياضي قد اضطر العلماء الماديين وغير الماديين أن يسلموا بقول يشبه رأي فيثاغوراس في العدد بلا معدود، فلم يقل أحد منهم عن إقليدس: إنه مخرف سخيف لأنه يقول عن النقطة الهندسية أنها شيء بغير طول ولا عرض، ولا عمق أو ارتفاع، ثم يقول مع ذلك: إن الخط المستقيم مجموعة من هذه النقط بغير عدد معروف يميز بين الطويل منه والقصير.
اضطر الماديون وغير الماديين اضطرارا إلى تسليم هذا الفر المجرد، وبنوا عليه علوم الهندسة العملية والنظرية، فهي قائمة على غير أساس، إن لم تقم على هذا الأساس.
وزبدة هذه الفروض في العلم الطبيعي أو الفلسفة أو الرياضة أن الحواس لا تعطينا وصفا للمادة - أو للامتداد نفسه - يغنينا عن النظرة المجردة التي يدركها العقل، ولا تدرك بالأبصار والأسماع، بل ربما عجز العقل عن إدراكها، ولم يستطع أن يذهب فيها مذهبا وراء التسليم.
ومن أقرب النتائج إلى موقف العلم الحديث عن هذه الفروض المسلمة أن نلغي كل ما وقر في أخلادنا عن النظر المجرد إلى حقائق الوجود، فليست الكثافة هي الحقيقة كلها، وليس الخفاء هو العدم كله، وليس في المحسوسات على إطلاقها شيء واحد لا ينتهي بنا إلى خفاء.
وإذا عاب الماديون على الفكريين أنهم يتوارثون أوهام الأقدمين في المسائل الروحية، ولا يتخلصون منها على ضوء العلم الحديث، فمن واجبهم أن يذكروا نصيبهم من هذه الوراثة، ومن هذا العجز عن الخلاص من بقايا القرون الخالية، فما يزال في أذهانهم أثر - بل آثار - من صورة الأرض التي تقابل السماء وتناقضها في الجوهر والبناء، فلا ثبوت عندهم إلا لهذا القرار الذي يصدم القدمين، ولا معنى عندهم لما بعد الطبيعة، ولا يجوز عندهم أن تكون الطبيعة نفسها حقيقة وراء الحواس ووراء العقول.
الفصل الخامس
الإيمان
لم يكن العلماء المفكرون في القرن السابع عشر أفضل تفكيرا من خصومهم الجامدين من رجال الدين في زمانهم أو من عامة الجهلاء المقلدين.
كان الخصمان المتنافران يصلان إلى النتيجة الواحدة من المقدمة الواحدة.
إثبات دوران الأرض حول الشمس ينفي وجود الله، ويبطل الإيمان به عند هؤلاء وعند هؤلاء، فهم من الجانبين المتقابلين يفكرون على نسق واحد، ويرجعون إلى قضية واحدة في فهم الكفر والإيمان.
ولم يخطئ العلماء المفكرون هذا الخطأ؛ لأنهم أساءوا فهم العلم، وعجزوا عن التفكير القويم، وإنما ساقهم إلى الخطأ أنهم خلطوا بين الإيمان وبين رجال الدين، وخيل إليهم أن رجال الدين هم أصحاب قضية الإيمان وهم المختصون بفهمها وتفسيرها، والهداية إلى أسرارها، فإذا بطلت دعواهم بطلت دعوى الإيمان من أساسها، ولم يبق لأحد حق بعد حقهم في تجديدها واستئنافها.
ولو تمادى العلماء المفكرون كلهم في هذا الخطأ حتى اليوم لصح القول بقضاء العلم على الدين منذ ثلاثة قرون، وتقرر في الأذهان أن العالم يبتعد من الدين كلما ازداد نصيبا من معارف العلم الحديث.
ولكننا اليوم بعد ثلاثة قرون لا نستطيع أن نقول: إن العالم أبعد من الدين مما كان عند ظهور طوالع العلم الحديث، ونستطيع أن نقول على التحقيق: إن نصيبه من العلم الحديث أوفر وأوفى من نصيب العالم في القرن السابع عشر، بل من نصيبه عند بداءة القرن العشرين.
ما الذي تغير من تفكير علماء الأمس وعلماء اليوم؟
تغير وضع القضية.
تغير أصحاب الدعوى، فأصبح لها طرف واحد، يتلقى المدعون فيه والخصوم.
قضية الإيمان اليوم هي قضية الوجود، وليست قضية الجامدين أو المتحررين من رجال الدين، وإذا صار الأمر إلى قضية الوجود، فالإثبات والنفي فيها مطلوبان من كل موجود يعقل ويبحث عن حقيقة وجوده، أيا كان رأي الجامدين أو المتحررين من رجال الدين في جميع الأديان.
تغير وضع القضية فتغير فيها موقف الهجوم وموقف الدفاع، من هجم فيها فإنما يهجم على عقله ووجدانه، ومن دافع فيها فإنما يدافع عن عقله ووجدانه، ومن ظن أن طائفة من الناس أحق بالهجوم والدفاع فقد نزل عن حقه في وجوده وحياته، وعن حقه في استطلاع أسرار الوجود والحياة فيما حوله، وهو أكبر ما للحي العاقل من حقوق.
في رسالتنا عن «عقائد المفكرين في القرن العشرين»، قلنا: «إن أسباب الشك منذ نشأة العلوم الحديثة خمسة ليس أقوى منها وأعظم فعلا في عقول المفكرين الأوروبيين وفي عقول غيرهم ممن نظروا إلى دلالتها مثل نظرتهم وحكموا بها على الأديان مثل حكمهم، وهذه الأسباب الخمسة هي:
أولا:
كشف كوبرنيكس لمركز الأرض من المنظومة الشمسية، ومن الأجرام السماوية على العموم.
ثانيا:
ظهور القوانين الطبيعية التي سميت بالقوانين المادية أو الأولية.
ثالثا:
مذهب النشوء والارتقاء.
رابعا:
علم المقارنة بين الأديان والعبادات.
خامسا:
مشكلة الشر، وهي ليست من مشكلات القرن العشرين خاصة، ولكنها تخصص بالقرن العشرين لما تفاقم فيه من الحروب.»
كان التقليد الشائع عند المفكرين المنكرين من طراز القرن السابع عشر أن يحيلوا على الدين كل خطأ من أخطاء رجال الدين الجامدين الذين يرفضون كشوف العلم وآراء العلماء في هذه البحوث والنظريات.
وكان لهم وجه من الشبهة في ذلك التقليد الذي نظلم العلم بنسبته إليه، ولكن ما هي الشبهة عندهم على الإيمان بالله إذا تحولت القضية من قضية خاصة برجال الدين الجامدين إلى قضية عامة للوجود، ولكل ما هو موجود.
ما الذي يمنع أن يكون دوران الأرض حول الشمس أدل على الحكمة الإلهية؛ لأنها في موضعها من المنظومة الشمسية قد أصبحت أصلح للحياة من جميع السيارات.
وما الذي يمنع أن تكون النواميس في الطبيعة أدل على الحكمة الإلهية من الفوضى والاختلال؟
وما الذي يمنع أن يكون التطور آية من آيات الهداية الإلهية التي ترتقي بالمخلوقات، وتبث فيها عوامل التنوع والارتقاء.
وما الذي يمنع أن يكون التدين اجتهادا يبلغ فيه الإنسان ما هو قادر على إدراكه طبقة بعد طبقة وجيلا بعد جيل.
وما الذي يمنع أن يكون «الشر» أدل على فضل الحياة والحرية من خلق الناس كما تصنع القوالب وتخرط الحدائد والأخشاب.
إن تلك الكشوف العلمية لا تطوي صفحة الدين إلا إذا أسيء وضع القضية، وفهم الدين على أنه بضاعة فئة من الناس يروجونها، ولا يحفل أحد غيرهم برواجها أو كسادها، بل عليهم أن يحترسوا منها كما يحترس المشتري من تاجر ماكر يبيعه ما لا يحتاج إليه.
إلا أنها إذا وضعت في موضعها، وفهمت على أنها قضية الوجود والحياة، فكل ما كشفه العلم وما سيكشفه خليق أن ينشر منها كل يوم صفحة جديدة، ويفتح منها كل مرة بابا لم يكن قبل ذلك بمفتوح للباحثين، وقد فهمت تلك الكشوف على هذه الصفة حديثا فلم ينكر الفكر مكان الكرة الأرضية في وسط المنظومة الشمسية، بل رأى فيها آية من آيات الحكمة الإلهية أقرب إلى التصديق من زعم الزاعمين أنها مستقرة في مركز الكون، وأن القائلين بانحرافها عن ذلك المركز يبطلون القول بحكمة النظام في الأرض والسماء، وحكمة خلق الإنسان في موضعه من ذلك النظام.
لو كانت الأرض ترتج من فزع أبنائها لارتجت فعلا من فزع المتدينين الجامدين يوم سمعوا أنها كرة، وأنها تدور ولا تستقر في مكانها من مركز الوجود، ولكن الكرة الأرضية خرجت من ذلك المركز المزعوم ودارت في مدارها بين السيارات، فتمت لها في هذا المدار شرائط الحياة، واستعدت بذلك لظهور الأحياء عليها، وإظهار البرهان القوي على الحكمة والقصد، من حيث لا يظهر للعقل من إثباتها في مركزها القديم.
لم توسطت بمدارها بين أقصى البعد من الشمس وأدنى القرب منها، وبين أقصى البرد وأقصى الحرارة؟
ولم توسطت في حجمها بين الضخامة التي تشل حركة الأجسام بوطأة الجاذبية الثقيلة وبين الخفة التي تطلق الموجودات عنها إلى الفضاء ولا تمسك حولها بالجو الصالح للحياة؟
ولم اختلف عليها النور والظلام فتيسرت فيها تراكيب الكيمياء التي لا تتيسر مع أطباق النور أو أطباق الظلام؟
ليكن تعليل هذه الأحوال على الوجه الذي ترتضيه عقول الباحثين فيها من جوانب النظر المتباينة، فإنما نحن على كل وجه من وجوه التعليل أمام صفحة مفتوحة للبحث في أسرار الخلق لم يطوها القول بخروج الأرض من مركز الكون المزعوم إلى مدارها المتنقل بين السيارات، وهكذا تبقى القضية التي خيل إلى المنكرين في القرن السادس عشر أنها قضية سقطت فيها الدعوى وبطل فيها الخلاف، وهكذا مضت عدة قرون ولم يبتعد العقل في القرن العشرين من الإيمان بمقدار نصيبه من المعارف والكشوف، بل هو أحرى أن يبتعد من الإنكار كلما اطلع على كشف جديد من كشوف العلم الحديث، وأحرى بالعصر الحاضر أن يسمى عصر الشك في الإنكار، إذا قيل عن العصور القريبة الماضية إنها عصور الشك في الإيمان. •••
ولا ندري ماذا تصنع ثلثمائة سنة أخرى بمسألة الإيمان والإنكار في نظر العقل والبديهة بعد هذه الخطوات التي خطاها الفكر الإنسان منذ القرن السابع عشر إلى هذا القرن العشرين، ولكن المشاهد أن أفكار المعاصرين قد استفادت كثيرا من تحويل المسألة من مسألة جدل وملاحاة بين العلماء وأدعياء الدين المحترفين إلى مسألة إنسانية ، يضيرنا أن نهملها، ولا ينفعنا أن نكتفي فيها بالتفتيش عن سخافة الجامدين والجهلاء.
ومما استفاده الفكر الإنساني في القرن العشرين أنه فصل في مسألة أخرى لا تقل عن هذه المسألة في قيودها الوبيلة، وفي نتائج الخلاص من إسار تلك القيود، وتلك هي مسألة القطيعة بين العلم والفلسفة، وحسبان النظر فيما وراء المادة فضولا يوشك أن يخل بكرامة العلماء ويخرج بهم من نطاق العلوم.
فالنظرة المجردة اليوم نظرة اضطرارية لا اختيار فيها للعالم الذي كان يظن أنه في حل من تركها، بل يظن أنه مطالب بالابتعاد عنها، فليس للعقل العلمي اليوم محيص من النظر المجرد إلى أصول الموجودات وهو قائم في صميم هذه الموجودات المادية، وليس «ما وراء المادة» في القرن العشرين عالما سحيقا يوغل فيه بالظن والخيال، بل هو عالمه الذي يشاهده بالعين وينتهي إليه بالتجربة ويفكر فيه، ويتخيله على اضطرار بعد انتهائه بالحس إلى غاية مداه، وقد كان الفرض الرياضي عند علماء التجربة العملية حيلة موقوتة يسمح بها مغضيا عنها في انتظار الوصول إلى الحل المأمول، وكانت النقطة الهندسية - مثلا - لغزا علميا من ألغاز الرياضة التي تشبه الألعاب التي يقبلها من يقبلها ريثما يصل إلى الجد المفيد في التطبيقات العملية: قل أيها الرياضي الحريص على تعريفاته العزيزة كيفما شئت إن النقطة شيء ليس بشيء، وبعد تمتد منه جميع الأبعاد، ولا طول له ولا عمق ولا ارتفاع، فما دمنا نبني ونهندس، ونحسب في عالم الأبعاد والمسافات فلا بأس علينا من فروضك وألغازك في فراغ الأوهام.
غير أن الرياضي المولع بتعريفاته الأولية يعود اليوم فيسأل علماء التجربة والعمل أن ينتهوا بتجاربهم إلى شيء في الفضاء يختلف في إدراك العقول والحواس عن النقطة الهندسية فلا يحيرون جوابا، ولا يحسبون أنهم أفلتوا قيد شعرة من المادة إلى فراغ الأوهام، كل ما نلمسه ونحسه ونراه ونعقله إن هو إلا حركة في الأثير، وكل ما نعرفه من الأثير أنه فضاء لا ندري ما الذي يتحرك فيه، وما معنى الحركة فيه من هنا أو هناك.
ويضطر الطبيب وعالم الحياة - كما يضطر الرياضي وعالم الطبيعة - إلى هذه النظرة المجردة حين يشرح مخ الإنسان وينتظر نتيجة التشريح فيرى أن جسم «المخ» لا يحتوي الفكر احتواء الآنية المحسوسة كما خطر للكثيرين من الماديين الذين قرنوا بين مادة المخ ومادة التفكير، فقد يزال جزء من المخ كثير أو قليل ويبقى للعقل كل ما كان فيه من علوم ومعارف وذكريات وأخيلة وكلمات ومعان ولغات، وقد يعاب تكوين المخ وصاحبه من فلتات العبقرية والنبوغ، وقد يصغر المخ حجما ووزنا، وقدرته على التفكير أكبر من قدرة المخ الذي يزيد عليه في حجمه ووزنه، وقد كان الفيلسوف ديكارت يرجح على سبيل الظن أن الغدة الصنوبرية في الدماغ هي نقطة الوصل بين الجسد والفكر وملتقى العالمين المتقابلين: عالم المادة، وعالم الروح، وكان الفيلسوف يعتقد أنه بلغ غاية التسامح الذي يستطيعه من يفرق بين العالمين ويضطر إلى صلة يعقدها بينهما مع هذا التفريق، فاليوم لو عاد لرأي المغرقين في التجسيم يسبقونه إلى التسليم باختلاف مادة التفكير من مادة الدماغ كله، بما فيه من غدة صنوبرية ومن أغشية وتلافيف.
ولم تتمحض - بعد - بحوث العلم في إشعاع الدماغ وعلاقة هذا الإشعاع بالتفكير والانفعال، ولم تجر المقارنة الوافية بين الإشعاع المنبعث من دماغ الإنسان والإشعاع المنبعث من دماغ الحيوان في أحوال الشعور والانفعال، ولم يظهر للعلماء الباحثين في هذه الظواهر محور الفارق بين إشعاع المخ الإنساني في حالة التفكير والتأمل وإشعاع المخ الحيواني في حالة الاضطراب الجسداني الذي لا تفكير فيه، ولم تكمل، بعد، محاولات التجربة العكسية في هذه الظواهر الفكرية أو الشعورية، فلم يعرف أحد من الباحثين كيف يستطيع أن يحدث بالإشعاع الذي يرسله إلى الدماغ أثرا كالذي ينشأ في داخل الدماغ أثناء اشتغاله بالتأمل أو بالروية أو بالأعمال الفنية والعلمية، وكل أولئك من التجارب اللازمة في هذه الدراسة الطريفة التي لم تسبق لها سابقة من نوعها قبل القرن العشرين. بيد أننا لا نحتاج إلى الانتظار الطويل لنعلم أن العالم المهم في التفكير شيء غير الحجم والمقدار، وأن المخ لا تنقص معلوماته ومحفوظاته بنقصان جزء منه يستأصله الجراح في بضع لحظات، ولسنا نريد أن نسبق السنوات فضلا عن الأجيال والقرون، ولكننا نستبعد منذ الآن أن يجيء اليوم الذي يستطاع فيه تكييف المخ بالأشعة المرسلة إليه من الخارج ليعرف لغة من اللغات أو قضية من قضايا الفلسفة أو درسا من دروس الكيمياء والجغرافية والرياضة، أو ليكسب ملكة من ملكات النظم والتصوير والتمثيل وما نحا نحوها من الفنون، وغاية المستطاع - على ما نعتقد - أن ينجح الباحثون في تسجيل إشعاع المخ بالرسوم الكهربية، وإدراك دلالتها على نشاط المخ أو كسله وعلى رجحانه أو نقصه، وربما نجحوا كذلك في تنشيطه وتنبيه قدرته، وحضه على عمله، وتمييز ذلك العلم الذي يحض على أدائه، أما أن تنقل الأشعة إلى المخ فكرة لم يبتدعها ولم يستعد لها بتكوينه وتربيته فليس ذلك بالمستطاع، ولا هو مما تنبئنا عنه أوائل البحث كما بدرت لنا حتى الآن.
وأيا ما كان مآل هذه البحوث بعد زمن قريب أو بعيد فليس من الممكن أن نرجع بعمل المخ إلى حركة أكثف من مادة الشعاع في الأثر، وذلك شوط في تنزيه الملتقى بين الجسد والفكر لم يحلم به الفيلسوف الذي قنع بالغدة الصنوبرية ملتقى بينهما في تكوين الدماغ، وجعل التفكير أساس البراهين على صدق وجود الإنسان ووجود الإله. •••
إن الشوق إلى الإيمان من أقوى أشواق النفس الإنسانية، شوق متصل بحب الحياة وحب المعرفة وحب الجمال وحب الكمال، وحسبنا منه أنه شوق يعيننا على اليأس ويمنحنا الأمل، ويجعل للحياة معنى يتصل بالدوام.
وليس المتشككون أضعف الناس حظا من هذا الشوق المتأصل في أعماق النفس البشرية، فإنه كالعاشق القلق المستريب حظه من الحب أعمق من حظ الخلي الذي يسقط الحب من حسابه، فلا يعينه أن يثق، ولا أن يشك، ولا أن يستريح من قلق يساوره وخواء يشعر به ولا يرتضيه.
هؤلاء المتشككون في هذا العصر يحارون بين شك يحيك بضمائرهم وشوق محتبس لا يجد سبيلا إلى الانطلاق، وفضيلة القرن العشرين في أمر هؤلاء المتشككين أنه فتح أمامهم هذا السبيل وفسح لهم مجال النظر في الغيبيات، وحقائق الوجود من وراء الحواس والعقول: كان العلم يخجلهم من هذه الغيبيات كما يخجلهم من الأوهام التي انقضى زمانها بانقضاء الخرافات، بل بانقضاء الفلسفة التي تخوض في ظنون لا تقع تحت الحس ولا تقبلها العقول، فأصبح العلم أقرب إلى هذه الغيبيات من المخرفين والمتفلسفين، وحقت عليه الكلمة من مقدماته التي لا يملك الرجوع عنها إذا ملك الفيلسوف أو صاحب الظن أن يرجع عما يشاء من الفروض والأظانين.
وفضيلة القرن العشرين بعبارة أخرى أن العقل البشري إذا اشتاق فيه إلى الإيمان استطاع أن يطلبه ولم يخجل من طلبه، وأنه يطلبه من العالم والفيلسوف والمتصوف والمؤمن بدينه، ولا يطلبه متخاذلا متنابذا يداري سره من علانيته، ويستر جانبا من تفكيره؛ لكيلا يطلع عليه جانب آخر يعارضه أو يزدريه.
إن ثلثمائة سنة في عصر السرعة تصنع المعجزات في عالم المجهول علما وصناعة وإيمانا واعتقادا وعلاقات بين الأمم في الدنيا الواسعة، وبين آحاد الناس في الأمة الواحدة، وقد يضل البصر عما سيكون بعد تلك السنين، ولكننا نتقدم على أمان إذا قصرنا النظر على ما بقي في القرن العشرين من سنيه الأربعين؛ لأننا نبصر مواقع الخطى في هذا الأمد القريب، ونلمس طبيعة العقيدة التي تتهيأ لمن يبحث عنها وهو لا يهاب النظرة المجردة إلى الغيب، ولا يخضع لسلطة ترهبه بالزواجر والقيود، وكلما أمعنت به الوحدة العالمية في مناهجها الفكرية والخلقية خلص من قيد ثقيل من قيود العصبية التي تفكك روابط الإنسانية، وتجعل الدين سدا من سدود الفرقة والبغضاء، بدلا من الإيمان بوجود واحد فوق الأرض وتحت السماء. •••
نحن نتقدم على أمان في استطلاعنا للغيب القريب إذا تذكرنا كيف انتهى الزمن بقضية الإيمان والإنكار من القرن السابع عشر إلى القرن العشرين: إنه نقلها من خصومة على المراسم والشعائر ودعاوى المتدينين المحترفين، إلى بحث صادق عن حقيقة الحياة وحقيقة الغيب والشهادة بغير خصومة ولا لجاجة بين قوم أصلاء في الدعوى وقوم أصلاء في الإنكار، وليس للباحث الذي يتقدم على هدى هذه الحقيقة من قبلة غير جوهر العقيدة الخالصة مبرأة من حواشي المراسم والشعائر والتقاليد، عالمية غير ذات عصبية، وبصيرة غير منقادة لبقية موروثة ولا سلطة ظاهرة أو خفية.
قبلة الإيمان في المستقبل تتلاقى مع وجهة النوع الإنساني الذي يتقدم إلى الوحدة العالمية ووجهة الإنسان الفرد الذي يتقدم إلى الحرية والكرامة، ولا حرج على متدين أن يبقى على دينه الموروث ويستصفي منه جوهره المبرأ من غواشي الخرافة ونفايات التقليد، فإن الأديان تتوحد بالجوهر وتتفرق بتلك الغواشي والنفايات، ولا مبالاة بالقشور التي تعلق بلباب الدين حيث يقوى ضمير الفرد الحر على التخلص منها، وحيث تتمكن عوامل الوحدة الإنسانية من التغلب عليها فتبقيها متسامحة أو تنفيها متجافية، ولا تسمح لها على الحالين أن تعوقها عن قبلتها. •••
وحسب القرن العشرين حصة من الحرية الفكرية أنه أطلق الفكر من عقاله الذي حاكه لنفسه بيديه، فإنه وصل بالعلم إلى ما وراء المادة المحسوسة فلم يجد هنالك خرافة من خرافات العجائز ولا أسطورة من أساطير الأولين، بل وجد الأصل الأصيل لكل موجود مشهود أو غير مشهود، فاستباح لنفسه أن يبحث ويتطلع ويطرق الأبواب التي تطرق للإفضاء إلى ما وراء المادة والفضاء، ومنها أبواب الفلسفة وأبواب العقيدة، وكانت حريته هذه من قيود نفسه أنفع له من كل حرية استفادها من ثورته على رجال الدولة أو رجال الدين، إذ كانت حريته المستفادة من ثورته على غيره لا تحميه أن يتعثر في سعيه إلى الحقيقة وهو يضع العراقيل بيديه أمام خطواته، ويحسب أنه يصون كرامته بالأحجام عما وراء المادة ووراء التجربة المادية، فيما استأثر به قبل ذلك دعاة العقيدة وأصحاب الفلسفة المثالية.
ونحسب أن الثمرة الأولى من ثمرات هذه الحرية «الذاتية» قد ظهرت، ولم تزل تمعن في الظهور في أواخر القرن الماضي إلى منتصف القرن الحاضر، وبدا من طوالعها أن تتمشى العقول في طريق واحد على تعدد الميادين التي تسلكها، فليس بينها اليوم ذلك التقاطع المقرر منذ البداءة بين قبلة العالم وقبلة المتصوف وقبلة الفيلسوف، كل منهم يولي شطرا غير شطر صاحبه، إلى غير لقاء.
وقد ندرك هذا الاتفاق في الغاية من أيسر نظرة إلى مذاهب الفلسفة التي نشأت بين أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، فإن المذاهب الجديدة - من واقعية أو مثالية - تمضي على نهج واحد أو على خط واحد في الاعتراف بالمادة والفكرة، وكل ما تختلف فيه أن تذكر موضع الابتداء وموضع الانتهاء، ومثلهم في ذلك مثل من يسمي خط السفر فيقول: إنه خط يمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، أو يقول: إنه يمتد من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي، وكلاهما يتكلم عن خط واحد لا عن خطين اثنين.
فالبرجمية مذهب ينادي إمامه الأكبر - وليام جيمس - بإرادة الاعتقاد أو بواجب الاعتقاد، وهو - على هذا - أجهر الفلاسفة صوتا بتقرير الواقع دون أن يناقض نفسه في الحالتين، غذ هو ينادي بتقرير الواقع ولا يعتبره نقيضا للفكرة ولا للآراء المثالية، وإنما هو ترجمان الحقيقة الذي يفسرها ويشرحها ويتولى إثباتها وضبط معاييرها، وفرق بعيد بين من يقول بالواقع المحسوس وينفي ما عداه، ومن يقول: إن الواقع لا غنى عنه للدلالة على ما عداه.
وننظر إلى المذهب المثالي والمذهب الواقعي كما يتمثلان في آراء الفيلسوف برادلي
Bradley
والفيلسوف صمويل ألكسندر
Alexander ، فإن مذهب برادلي المثالي فحواه أن الوجود الإلهي حقيقة لا بد منها تترقى الموجودات المادية إليها ولما تدركها، ويقابله مذهب ألكسندر الواقعي بما فحواه أن الوجود الإلهي حقيقة لا بد منها أيضا، ولكنها تنتج من ارتقاء المادة شأوا بعد شأو من تفاعلي الزمان والمكان.
فهما إذن رأيان لا ينكران الواقع، ولا ينكران الحقيقة الإلهية، ولا يختلفان فيما هو الأعلى منهما وما هو الأدنى، ولكنهما يختلفان بعد ذلك في نقطة الابتداء.
وجدير بالتنويه هنا أن المذاهب الواقعية والمثالية جميعا في القرن العشرين تعنى أشد العناية بحركة الزمان في الفضاء، فإن هذا الزمان الذي كان في عرف الأكثرين فرضا رياضيا يقتضيه ترتيب الحوادث قد أصبح الآن جوهرا أصيلا للموجودات بعد أن تبين العلماء أن الموجودات المادية كافة تئول إلى حركة في الأثير ، وهو مرادف عندهم للفضاء، وهذا الذي عنيناه حين قلنا في التعليق على مذهب ألكسندر: «لا شك أن مذهب أينشتين عن الزمان والمكان كان له أثر كبير في وقوع هذا الخاطر في روع الفيلسوف، ولكن الأثر الأكبر ولا شك يرجع إلى مباحث العلوم الطبيعية في الحرارة والكهرباء، ولا سيما المباحث التي قررت أن ذرات المادة تتحول إلى إشعاع، فإذا كان الإشعاع هو أصل المادة، وكان الإشعاع مجرد حركة، فلا جرم يخطر للفيلسوف أن حدوث الحركة في الفضاء هو أصل المادة في صورتها الأولى.»
1
ومن عجائب الاتفاق في هذه المناحي الفلسفية أن يكون ألكسندر الواقعي تلميذا في مذهبه عن الزمان لهنري برجسون أكبر المثاليين من أعلام الفلسفة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فمذهبه في الزمان شبيه بمذهب برجسون الذي يقول بأن الزمان أصيل في خلق المادة، وأن «التغير» الذي هو قوام الزمان ينشئ الكائنات وينميها ولا يفنى ماضيه بانقضائه، بل يتسع مع الحاضر كما يتسع النهر في مجراه ويشق طريقه إلى المستقبل محتفظا بما كان وبما هو كائن إلى أن يتجمع كله فيما يكون. ومثل هذه الصورة للزمان لم تكن لتخطر على بال الفلاسفة المحدثين لو لم تمتلئ أذهانهم بفكرة الحركة في الأثر كما تتراءى في سريان شعاع الضوء خلال الفضاء، فإن الفيلسوف لا يعدو حدوده حين يقول بأصالة الحركة الزمانية قبل تجسم المادة، إذا كان العالم - الموكل بالتجارب الحسية - يقول بأن المادة «مستمدة» من شعاع يسري في فضاء، وأنها حركة مجردة لا يعرف العلم ما هو المتحرك فيها وما هو مصدر الحراك على صورة الضوء أو على صورة الحرارة أو على صورة الكهرباء.
هذا في نطاق البحوث الفلسفية.
أما في نطاق البحوث العلمية فقد أصبح البحث فيما وراء المحسوسات خطوة طبيعية بعد تجريد المادة في الأثير من صبغتها المحسوسة، فنشأ في أوائل القرن علم حديث يسمى بالسيكولوجية المقارنة
يدور البحث فيه على انتقال المشاهدات بغير وساطة الحواس، ولا يزال هذا العلم معدودا من الخطوات الجريئة بحكم التقاليد التي يطول أمدها بعد أوانها في عادات الكثيرين، ولكن العلماء الذين باشروا التجربة في هذا العلم الحديث يرون أن الظواهر التي راقبوها لا تقبل التفسير بفرض من الفروض المصطلح عليها، وأن المضي في التجربة أجدى وأقرب إلى الأمانة العلمية من العدول عنها، وذلك حسب الحديث من بواكير النجاح.
يقول الأستاذ راين
Rhine
من جامعة ديوك
Duke
بالولايات المتحدة: «إن بعض الرواد السابقين في هذه المباحث كانوا من علماء الطبيعة النابهين، كالسير أوليفر لودج، والسير ويليام كروكس، والسير ويليام باريت، ثم حدث بين حين وحين أن كان يسهم في تلك المباحث بعض العلماء الممتازين، وأن ظل بعض المتخصصين من علماء الدراسات النفسية بمعزل عنها، وقد كان بين أولئك الرواد الأساتذة ويليام جيمس، وجورج هيمانز، وويليام مكدوجال، وكان من ثمرة مباحثهم أن يقام أساس صالح لاستمرار النظر في النجوى على البعد
Telepathy ، وصحيح أن المباح التي أجريت في معامل هارفارد وجروننجن وستانفورد خلال السنين الخمس والعشرين الأولى من القرن العشرين لم تعمر طويلا لقلة المشجعات من جانب المتخصصين، إلا أن النتائج التي أسفرت عنها مباحث الرواد كانت مشجعة على المضي فيها، وأن لم تقبل على علاتها، لأنها ساعدت على إقامة معمل خاص لها بعد قليل، فقد بدئت مباحث علم النفس المقارب في جامعة ديوك سنة 1930 برعاية الأستاذ مكدوجال، وأدى استمرار البحث فيها إلى تأسيس مركز لها سمي بعد ذلك بمعمل جامعة ديوك للدراسات النفسية المقاربة، وظهرت في سنة 1934 رسالة مقصورة على هذا الموضوع تلخص نتائج التجارب التي أجريت خلال السنوات الثلاث بعنوان: «مدركات ما وراء الحس» وتلاها إصدار مجلة علم النفس المقارب سنة 1937 يشارك فيه تحريرها الأستاذ مكدوجال.» •••
واستطرد الأستاذ راين إلى إجمال التحقيقات التي تمت منذ إنشاء المجلة إلى ما قبل منتصف القرن العشرين، وأشار إلى الشروط التي اتبعت لتوحيد أسلوب البحث وضمان الاتفاق في التجربة وامتحان النتائج الموثوق بها أيها ينسب إلى النجوى على البعد
Telepathy
وأيها ينسب إلى الكشف
Clairvoyance
وأيها ينسب إلى المصادفة، فإذا بقيت بعدها نتائج أخرى أمكن أن يقال: إنها مما يثبت وجود الوساطة غير المحسوسة بين الإنسان وما يدركه من الأشياء، ويؤخذ من الإحصاءات أن جانب المصادفة قليل، وأن التجارب التي تحتاج إلى تفسير غير معهود يزداد ويبتعد في خصائصه عن كل من النجوى على البعد، وعن الكشف كما يبتعد عن الاشتباه بالتنويم المغناطيسي، وهذه تجربة من تجارب شتى تدل على سائرها.
قال الأستاذ: «ودلت التجارب على وجود عامل غير مجرد المصادفة، واقتنع المجربون أنفسهم بأن النتائج لا يمكن تأويلها بسبب من الأسباب المعهودة.»
إلى أن قال: «ووضعت البطاقات في منزل آخر على بعد مائة ياردة، وحاول هيوبرت بيرس الذي كان يومئذ طالبا لعلم اللاهوت أن يميز البطاقات، فأسفرت التجربة عن ستين - يمكن أن ينسب إلى المصادفة - من ثلثمائة، أي عشرين في المائة، وعن 119 مرة أصاب فيها بيرس، أي ما يقرب من أربعين في المائة، وهي نسبة لا يمكن أن تعزى إلى المصادفة، إذ كانت مثل هذه المصادفات لا تتفق أكثر من مرة في كل ترليون، واحتمال التواطؤ بين الرجلين يدحضه إجراء التجارب بعد ذلك على مشهد مني.»
2
فإذا استمرت التحقيقات على هذه الوتيرة بقية السنين الأربعين من هذا، فالمنتظر أن تتم وسائل التأكد من المصادفة وغير المصادفة في هذه التجارب، وأن يتقرر الامتحان العلمي الذي تعرض عليه مباحث هذا العلم الجديد، وقد تثبت الوسائل المختارة وجود العوامل غير المحسوسة أو لا تثبتها ولا تنفيها، إذ كان من الواجب أن نفرق بين وسائل الكشف وبين الحقيقة المطلوب كشفها. فإن المنظورات والمسموعات كانت ملء الفضاء والهواء قبل أن تمسكها المصورة الشمسية وأجهزة الإذاعة، وليس في وسع العلم أن ينفي «المجردات» مع وجود الأثير مجردا من جميع صفات المادة، واقترابه بذلك من حدود المجردات الفكرية والنفسية. •••
ويرى أن الأستاذ راين حرص في كلمته على التنبيه إلى قيام الرواد في مباحث الظواهر النفسية من بين الأقطاب المشتغلين بالعلوم الطبيعية؛ لأن المشهور عن الباحثين في علوم الطبيعة أنهم أشد الباحثين إنكارا لما وراء الطبيعة، وما يشتمل عليه من المسائل الغيبية، خلافا للباحثين في مسائل علم النفس فإنهم أقرب العلماء إلى المسائل الروحية وأحراهم أن ينظروا إلى شئون الغيب بشيء من الترخص والسماحة الفكرية.
على أن المشاهد في السنوات الأخيرة أن كفة التردد في شئون الغيب تتحول من جانب الإيمان إلى جانب الإنكار بين أقطاب العلوم الطبيعية، فليس بالنادر بينهم من يستند إلى علمه في ترجيح الإيمان على الإنكار، بل لعل هؤلاء العلماء اليوم ينقسمون إلى فريقين لا تناقض بينهما في مسألة العقيدة الغيبية، إذ ينعقد الإجماع بينهم على أن العلم التجريبي وصاف غير كشاف، يجمع الوقائع ويرتبها ولا يتعدى الإحصاء والتقرير إلى كشف المجهول، والتعرض له بالنفي والاثبات، فهم بين مؤمن يرى في علمه ما يعزز إيمانه ويشجعه عليه، وبين واقف موقف الحيدة يترك الدعوى العلمية جانبا كلما عرض لشئون الغيب والعقيدة.
ومن علماء الطبيعة الذين يحق للقارئ أن يعتبرهم مثلا لأصحاب الإيمان المعزز بالعلم الأستاذ كريسي موريسون
Cressy Morrison
لأنه كان رئيسا لمجمع العلوم بنيويورك وعضوا دائما من أعضاء مجمع العلوم البريطانية، وزميلا في متحف التاريخ الطبيعي وركنا من أركان مجلس البحوث العلمية، وكتابه الذي سماه «الإنسان ليس وحيدا»
3
فحواه في بضع كلمات أن حقائق الوجود لا تقبل التفسير بغير تقرير وجود الخالق الحكيم.
ويبدأ العلامة كريسي كتابه النفيس ببيان الضعف البالغ في تعليل الحياة على الأرض بمحض المصادفة فيقول في مفتتح الفصل الأول:
خذ عشرة بنسات كلا منها على حدة وضع عليها أرقاما مسلسلة من واحد إلى عشرة، ثم ضعها في جيبك وهزها هزا شديدا ثم حاول أن تسحبها من جيبك حسب ترتيبها من واحد إلى عشرة، إن فرصة سحب البنس رقم واحد هي بنسبة واحد إلى عشرة، وفرصة سحب رقم واحد ورقم اثنين متتابعين هي بنسبة واحد إلى مائة، وفرصة سحب البنسات التي عليها أرقام 1 و2 و3 متتالية هي بنسبة واحد إلى ألف، وفرصة سحب 1 و2 و3 و4 متوالية هي بنسبة واحد إلى عشرة آلاف، وهكذا حتى تصبح فرصة سحب البنسات بترتيبها الأول من واحد إلى عشرة هي بنسبة واحد إلى عشرة بلايين، والغرض من هذا المثل البسيط هو أن نبين لك كيف تتكاثر الأعداد بشكل هائل ضد المصادفة، ولا بد للحياة فوق أرضنا هذه من شروط جوهرية عديدة، بحيث يصبح من المحال - حسابيا - أن تتوافر كلها بالروابط الواجبة بمجرد المصادفة على أي أرض في أي وقت، لذلك لا بد أن يكون في الطبيعة نوع من التوجيه السديد، وإذا كان هذه صحيحا فلا بد أن يكون هناك هدف.
وبعض علماء الفلك يقولون لنا: إن مصادفة مرور نجمين متقاربين لدرجة تكفي لأحداث مد خفاق هدام هي في نطاق الملايين، وإن مصادفة التصادم نادرة لدرجة وراء الحسبان، ومع ذلك تقول إحدى نظريات الفلك: إنه في وقت ما - ولنقل منذ بليوني سنة مضت - قد مر نجم بالفعل قريبا من شمسنا لدرجة كانت كافية لأن تحدث أمدادا مروعة، ولأن تقذف في الفضاء تلك الكواكب السيارة التي تبدو لنا هائلة ولكنها ضئيلة الأهمية من الوجهة الفلكية، ومن بين تلك الكتل التي اقتلعت تلك الحزمة من الكون التي نسميها بالكرة الأرضية، إنها جسم لا أهمية له في نظر الفلك، ومع ذلك يمكن القول بأنها أهم جسم نعرفه حتى الآن، ويجب أن نفرض أن الكرة الأرضية مكونة من بعض العناصر التي توجد في الشمس لا في أي كوكب آخر، هذه العناصر مقسمة على الكرة الأرضية بنسب مئوية معينة، قد أمكن التحقق منها لدرجة مقبولة فيما يتعلق بالسطح، وقد حولت جملة الكرة الأرضية إلى أقسام دائمة، وحدد حجمها وسرعتها في مدارها حول الشمس هي ثابتة للغاية، ودورانها على محورها قد حدد بالضبط لدرجة أن اختلاف ثانية واحدة في مدى قرن من الزمان يمكن أن يقلب التقديرات الفلكية، ويصحب الكرة الأرضية كوكب نسميه بالقمر، وحركاته محددة، وسياق تغيراته يتكرر كل ثماني عشرة سنة، ولو أن حجم الكرة الأرضية كان أكبر مما هو أو أصغر، أو لو أن سرعتها كانت مختلفة عما هي عليه لكانت أبعد أو أقرب من الشمس مما هي، ولكانت هذه الحالة ذات أثر هائل في الحياة من كل نوع بما فيها حياة الإنسان، وكان هذا الأثر يبلغ من القوة بحيث إن الكرة الأرضية لو كانت اختلفت من هذه الناحية أو تلك إلى درجة ملحوظة لما أمكن وجود الحياة فوقها، ومن بين كل الكواكب السيارة نجد أن الكرة الأرضية فيما نعلم الآن هي الكوكب الوحيد الذي كانت صلته بالشمس سببا في جعل نوع حياتنا ممكنا.
أما عطارد، فإنه بناء على القوانين الفلكية لا يدير إلا وجهة واحدة منه نحو الشمس ولا يدور حول محوره إلا مرة واحدة في خلال الدورة الكاملة للشمس، وبناء على ذلك لا بد أن جانبا من عطارد هو أتون صحراوا والجانب الآخر متجمد، وكثافته وجاذبيته هما من القلة بحيث إن كل آثار للهواء فيه لا بد أن تكون قد تسللت، وإذا كان قد بقي فيه أي هواء فلا بد أن يكون في شكل رياح هوجاء تجتاح هذا الكوكب من جانب إلى آخر.
أما كوكب الزهرة، فهو لغز من الألغاز به بخار سميك يحل محل الهواء، وقد ثبت أنه لا يمكن أن يعيش فيه أي كائن حي. وأما المريخ، فهو الاستثناء الوحيد، وقد تقوم فيه حياة كحياتنا سواء في بدايتها أو تكون على شفا الانتهاء، ولكن الحياة في المريخ لا بد أن تعتمد على غازات أخرى غير الأكسجين، وعلى الخصوص الهيدروجين، إذ يبدو أن هذين قد أفلتا منه ولا يمكن أن توجد مياه في المريخ، ومعدل درجة الحرارة فيه أقل كثيرا من أن تسمح بنمو النبات كما نعرفه ...
وتدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة، والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة ميل فقط في الساعة، ولم لا؟ عندئذ يكون نهارنا وليلنا أطول مما هما الآن عشر مرات، وفي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار أو في الليل قد يتجمد كل نبات في الأرض، إن الشمس التي هي مصدر كل حياة تبلغ درجة حرارة مسطحها اثني عشر ألف درجة «فارنهيت» وكرتنا الأرضية بعيدة عنها إلى حد يكفي لأن تمدنا هذه النار الهائلة بالدفء الكافي لا بأكثر منه، وتلك المسافة ثابتة بشكل عجيب وكان تغيرها في خلال ملايين السنين من القلة بحيث أمكن استمرار الحياة كما عرفناها، ولو أن درجة الحرارة على الكرة الأرضية قد زادت بمعدل خمسين درجة في سنة واحدة لمات كل نبت، ومات معه الإنسان حرقا أو تجمدا. والكرة الأرضية تدور حول الشمس بمعدل ثمانية عشر ميلا في الثانية، ولو أن معدل دورانها كان مثلا ستة أميال أو أربعين ميلا في الثانية لكان بعدنا عن الشمس أو قربنا منها بحيث يمتنع معه نوع حياتنا ... إلخ.
4
ثم عرض العلامة كريسي لمشاهدات أخرى مستمدة من سائر العلوم الطبيعية يتعسر تفسيرها بمحض المصادفة غير المقصودة وتوحي إلى الذهن صدق الإيمان بالخلق والتدبير، وأولها في علم الحياة تلك الجرثومة الحية التي تنبعث بقوة لا وزن لها ولا كثافة ولا امتداد فتغالب الطبيعة وتشق الصخر وتفرض على العناصر أن تنحل لتعيد تركيبها، وتحول الماء والحمض الكربوني إلى ماء وخشب وتجعل الخلية الحية «البروتبلاسمية»، وهي أشبه بنطفة من ضباب قادرة على بث الحياة في كل جسم يتقبلها، وهي بذلك ذات قدرة أكبر من قدرة النبات والحيوان لم تخلقها الطبيعة؛ لأن قدرتها هذه لا تنبت من غيرها، ولم يكن في وسع الصخر الذي صهرته النار ولا الماء الذي لا ملح فيه أن يهيئ لها أسبابها فما الذي هيأ لها هذه الأسباب؟
ويضرب الأستاذ أمثلة من علم الحيوان لا تفسرها المصادفة، ولا تكفي كلمة الغريزة لتفسيرها؛ لأنها ليست أكثر من كلمة ترمز إلى الصورة الواقعة، ومن ذلك غريزة سمك السلمون الذي يعيش في البحر زمنا ثم يرجع إلى مكانه من النهر الذي خرج منه وينفلت من كل جدول من الماء ينقل إليه غير الجدول الذي ولد فيه، ومثله ثعبان الماء الذي يخرج من الأنهار عند نضجه، ويتجه إلى البحر المحيط عند جزائر معلومة يضع ذريته في شواطئها، ثم يموت فتعود هذه الذرية إلى مواضع الماء العذب التي نزح منها آباؤها، ولم يحدث قط أن ثعبانا منها يصاد في أوروبة إذا كان موطنه الأول في الأمواه الأمريكية أو يصاد في أمريكا إذا كان موطنه الأول في أمواه القارة الأوروبية.
ويذكر الأستاذ من تلك المشاهدات عوامل الوراثة في الناسلات والصبغيات، فإن هذه الناسلات والصبغيات التي يتولد منها نوع الإنسان كله توضع في جوزة صغيرة، ومنها تنبت جميع الخصائص الموزعة في الذكور والإناث من جميع بني الإنسان، فكيف تكمن عوامل الوراثة كلها في ذلك الحيز الصغير لتحفظ لكل فرد من الناس أخفى ما استدق من صفاته ووظائف حياته وتركيب أعضائه وخلاياه على ما فيها من ودائع لا يدركها الإحصاء؟
وقد عرض المؤلف لغير ذلك من الأمثلة العلمية التي يفسرها المنكرون بكلمة لا معنى لها كالغريزة أو المصادفة ويفضل عليها المؤمنون تفسير القصد والحكمة في تدبير أحوال الوجود، ويطلبون ممن يرفض هذا التفسير دليلا على رفضه أقوى من الدليل على قبوله، فلا يسمع منهم دليل.
ولا يخفى أن آراء العلماء والفلاسفة إنما هي سند للإيمان الديني يعززه، ولا يخلقه ما لم يكن له قرار في بديهة الإنسان، فهذه البديهة تسعى سعيها وتتلمس طريقها في هذا العصر كما تلمسته فيما غبر من عصور التاريخ، وستعمل ما تستطيعه وتتزود من العلم والفلسفة بما يصلح لها من زاد تسيغه، ولم تعقم بديهة التدين، ولا يبدو أن العالم اليوم أقل إيمانا مما كان في زمن من الأزمنة الخالية، ولا أن النفوس تطمئن في زماننا إلى شكوك التعطيل التي كانت تقلقها وتحيرها قبل عصر العلم الحديث، وإنما موضع النظر أن المرتابين من الأقدمين كانوا يهجرون دينا ليدخلوا في دين يتلوه، وكانوا يرتابون وينتظرون النبوءات لجلاء شكوكهم واستلهام عقائدهم، فماذا ينتظر المرتابون في عصر العلم الحديث؟ هل ينتظرون نبوءة جديدة تأتيهم بدين جديد؟
قد يكون في المرتابين من أبناء العصر من تخامره هذه الفكرة، فهو في مرد أمره سواء ومن يبحث عن عقيدته على هدى بصيرته وعقله، لأن المهم في مشكلته أن يشعر بالحاجة إلى العقيدة، وأن يعلم أنها معرفة شريفة لا يمنعها العلم الصحيح ولا يعارضها التفكير السليم، ومن صدقت طويته على هذه النية فهو قريب من معتقده الذي يهتدي إليه ببديهته وتفكيره، وليس أقرب من الملقى بين العقائد الإلهية إذا خلصت إلى جوهرها وصفيت من أخلاط الوثنية وقشور التقاليد.
ولا ننسى عمل «الشخصية الإنسانية» في الهداية الروحية، فإن العقيدة تظل معنى من المعاني يحوم عليه الذهن كما يحوم على حقائق الرياضة والحكمة ما لم تتمثل في «شخصية» محبوبة موقرة تنقلها إلى الحياة بما تبعثه من الثقة وتوحيه من القداسة التي تقرب السماء من الأرض، وتعقد الصلة بين الحياة الأبدية التي لا حدود لها وبين هذا العالم المحدود.
كذلك كانت رسالة الأنبياء، وكذلك تكون الرسالة من الهداة المصلحين الذين يترسمون آثار الأنبياء في دعواتهم إلى الخير والكمال، وسيأتي اليوم القريب الذي يكون فيه العلم معوانا ميسرا لذوي الرسالات من الدعاة المصلحين، إنه يغنيهم عن خوارق العادات التي تطلبها الأولون ردحا طويلا من الدهر ليستيقنوا من عالم الغيب ويلمسوا دلائل القدرة التي لم يلمسوها في عالم الشهادة، فمن هذا العلم يتعلم الإنسان الحديث أن العادات كلها خوارق، وأن المحسوسات جميعا مغروسة في الغيب المحجوب الذي لا تدركه الأبصار ولا العقول، وقد تكشف لنا الفترة الباقية من هذا القرن أن المستقبل أصلح للدين من الماضي السحيق الذي ظن أوجست كونت أنه أوان الدين، وظن أن الدين ثمرة من ثمرات جهله وضعفه، وأنها قد انتهت بانتهائه، فنحن نرى من الآن أن التدين لا ينتهي عند ابتداء التعقل والدراية، بل أوضح من ذلك أمامنا أن المعرفة تبلغ بالعقل الإنساني غاية مداه، فتطرق له أبواب الإيمان.
الفصل السادس
العوالم الأخرى
كان العلماء في أول هذا القرن يشكون في إمكان الطيران بجسم أثقل من الهواء، ومضت سنوات على منتصف القرن والطيارة - من كل وزن - تسبق الصوت، ولا تكتفي بما وصلت إليه.
وبعد أن كان السؤال، هي نرتفع في جو الأرض بجسم أثقل من هوائها، أصبح السؤال على ألسنة العلماء والمستطلعين، هي نصل بالطائرة إلى أجواء السماء؟ وهل نصعد بها إلى جو القمر وأجواء السيارات الشمسية من ورائه؟ وهل تقلنا الطائرة يوما ما إلى ما وراء شمسنا وسياراتنا في أجواز الفضاء؟
إن العلماء والمخترعين يخافون كلمة المستحيل بعد ما ثبت من إمكان الأمور الكثيرة التي جزموا باستحالتها ثم تحققت بعد ذلك بقليل من السنوات، ويلوح من جملة الآراء والظنون أن المتنبئين يفضلون التعجل في الجزم بالإمكان على التعجل في الجزم بالاستحالة، وتكاد كلمة «لا مستحيل» أن تعود إلى أفواه قادة العلم والاختراع بعد أن لهج بها قادة الحرب، والحكم على مذهب نابليون الكبير، فإن خيف اليوم شيء في هذه النبوءات، فإنما الخوف من التورط في الأمل، حذرا من كلمة «المستحيل» التي أخلفت الظنون غير مرة في بضع سنوات.
والأمل الغالب في هذه المرحلة من مراحل فن الطيران أن الصعود إلى الكواكب ممكن ولكنه لا يزال محفوفا بكثير من الصعوبات، وأن الصعوبات في هذه المرة من جانب الطائرين لا من جانب الآلات الطائرة، فليس من العسير إتقان الآلة التي تصعد إلى الأجواء العلوية بين كواكب السماء، ولكن العسير أن نضمن حياة الإنسان في جو غير جو الأرض وعلى جرم غير جرمها وبيئة من الأحوال الطبيعية غير بيئتها، وأن نزود البنية الإنسانية بالقوة التي تحتمل أعراض التغير الطارئ عليها، إذا تيسر للمخترعين أن يجهزوا الطائرة بما يعوضها عن ضرورات الحياة في الأرض إلى حين.
والمشكلة الحاضرة في أمر الطيران هي مشكلة طب الفضاء أو مشكلة «الطاقة الإنسانية» في البيئات المجهولة من الآفاق العلوية، ومنها ما يتعذر الاحتياط له ويدري أحد كيف يكون الاحتياط له، وهو مجهول.
فمشكلة الطائرة التي تحمل ركابها إلى الآفاق العليا لا تعد الآن من الصعوبات الأساسية أمام المخترعين، سواء سارت بالدفعات المتعددة كما تسير الصواريخ، أو سارت بالمحركات المستمرة كما تسير الطيارات المعهودة، أو سارت بالقوتين مجتمعتين واستخدمت في جميع الحالات أنواع الوقود ومنه الوقود المستمد من الطاقة الذرية، لأن النظريات العلمية التي تطبق في هذه الحالات جميعا معروفة مقررة، ووسائل تنفيذها قابلة للتحسين مع استمرار التجربة والمراجعة العلمية ، أما الصعوبات الصحية فليست بالهينة ولا بالمفهومة على جلائها، ومما يحصونه منها في الوقت الحاضر صعوبة الجو والجاذبية والأشعة الكونية، وأنواع الأشعة المختلفة، وقذائف الفضاء من الشهب، والنيازك، والمذنبات.
فالجو الأرضي ينتهي بعد مئات من الأميال فوق سطح الكرة الأرضية، فإذا خف هذا الضغط فمن الواجب أن يحتاط راكب الطيارة لتغيير الحالة إذا استطاع، وإلا تسربت السوائل التي في جسمه وتمددت الغازات التي في جسمه وانفجرت الأوعية والشرايين، وليس في السيارات الشمسية سيارة واحدة تشبه الأرض في أحوالها الجوية، فمنها ما ليس له جو على الإطلاق، ومنها ما له جو كثيف خانق لا يسهل التنفس فيه، ومنها ما يتجه إلى الشمس على الدوام بصفحة واحدة، مع اختلاف كبير في درجات الحرارة واختلاف أكبر منه في درجات الرطوبة حيث يوجد الماء، وهو معدوم في أكثر السيارات، ولا يسمع الكلام - بالبداهة - حيث ينقطع جو الهواء.
وصعوبة الجاذبية مرتبطة بحجم الكوكب الذي يهبط عليه الإنسان، فإذا كان حجم الكوكب كبيرا اشتدت الجاذبية، وازداد ثقل الجسم، وتعذر تحريك الأعضاء، وامتنعت كل حركة سهلة على الكرة الأرضية، وإذا صغر حجم الكوكب اختل التوازن في جسم المركب على حسب الجاذبية الأرضية ويزداد الاختلال عنفا حيث ينقطع جو الهواء.
وقد يبدو أن صعوبة الأشعة الكونية وأنواع الأشعة المختلفة أهون من صعوبة الجو والجاذبية، ولكن بعض العلماء يخشى أن تكون هذه أصعب الصعوبات في رحلة الفضاء وراء الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية؛ لأن هذا الغلاف عازل منيع يحمي الأحياء من تأثيرات تلك الأشعة وتأثيرات الشحنة الكهربائية أو المغناطيسية التي تكمن في بعضها. فإذا جاوزت الطائرة غلاف الأرض فإن جدرانها المعدنية لا تمنع ركابها أن يصابوا بأضرارها؛ لأنها تنفذ في الرصاص طبقة بعض طبقة، فلا يؤمن أثرها في الأنسجة الحية إذا نفذت إليها، مع كثرتها وتتابع أمواجها أو ذراتها في كل خطوة.
وربما احتيل على الأشعة بحيلة من حيل الوقاية المانعة إذا نجح العلماء في تحديد خصائصها واهتدوا إلى سبل الوقاية الصحية منها ، ولكن الخطر الذي لا يسهل اتقاؤه هو الخطر الذي لا يعرف موضعه ولا تعرف قوته ولا تعرف الساعة التي يطرأ فيها، ونعني به خطر الشهب والنيازك والمذنبات، فإنها تتفرق في أنحاء الفضاء وتندفع على غير انتظار وتصدم الطائرة تارة بجسم صغير، وتارة بجسم كبير، وقوتها تختلف على حسب الحالتين وعلى حسب المادة التي تتكون منها، وقد تكون أصلب من جدار الطائرة وأسرع من الطائرة وأشد اندفاعا وخطرا في حالة الاصطدام.
تلك بعض المصاعب التي يواجهها الباحثون في طب الفضاء، ولا يقال الآن: إنه أفلح في تحقيقها وحصر أضرارها، فأما التغلب عليها وتدبير علاجها فلا يدعيه أحد من ثقات هذا العلم، وهم في الوقت الحاضر جد قليلين.
نعم إن طب الفضاء قد استفاد معلومات كثيرة من تجارب الصواريخ التي تحمل الحيوانات إلى مسافة بعيدة من الجو، إلا أننا نذكر «أولا» أن الصواريخ لا تتجاوز نطاق الجاذبية الأرضية، ونذكر «ثانيا» أن جو الصاروخ شبيه من جميع الوجوه بالجو الذي نعيش فيه على سطح الأرض، ونذكر «ثالثا» أن الصاروخ يصعد ويهبط في وقت قصير جدا بالقياس إلى الرحلة بين الكواكب، ونذكر أخيرا أن الحيوانات لا تتأثر بالعوامل النفسية والفكرية كما يتأثر بها الإنسان.
ومما يبحث عنه علماء طب الفضاء حالة الجراثيم أو المكروبات في الآفاق العليا من جو الكرة الأرضية، فهل تعيش الجراثيم إذا وصلت إلى تلك الآفاق؟ وهل تفعل فعلها المعهود في الأجسام الحية والأجسام الميتة؟ لهذا قيل: إن علماء طب الفراغ كانوا يترقبون فرصة نادرة بالكشف على جثة الكلبة التي قيل: إنها صعدت إلى الجو على بعض الأقمار الصناعية؛ لأنهم ترقبوا أن يعرفوا منها كيف يكون سريان الفساد في جسم الحيوان بعد مفارقة الحياة على مسافة من سطح الكرة الأرضية، وأن يعرفوا كيف يدب الفساد من داخل الجسم ومن خارجه بعد توقف عمل الحياة فيه، وربما ظهر لهم أن وجود الإنسان فترة من الوقت في الآفاق العليا كاف للشفاء من بعض الأمراض، وأن هناك مناعة من المكروبات أو عاملا من عوامل المقاومة لها في طبقة من طبقات الجو الأرضي يصل إليها الإنسان أو يستطيع أن يصنع حوله جوا يحاكيها وهو مقيم في داره أو مستشفاه.
وعلى الجملة يقال الآن: إن طب الفضاء ماض في دور المراقبة والجمع والتسجيل، وإن المعلومات المتفرقة التي جمعها تنتظر المراجعة والمقابلة قبل أن ينتظم منها محصول كاف لإقامة القواعد التي تبنى عليها نتائج النظر والتفكير، ثم يأتي بعد ذلك ما يمكن أن يعمل وما يلزم أن يعمل، وليس كله من عمل الأطباء، بل منه ما يتم على أيدي المخترعين والصناع بتوجيه المختصين من علماء الطبيعة والأطباء، وقد يحتاج الأمر إلى كسوة مزودة بأجهزة للتنفس وأجهزة لموازنة فعل الجاذبية وفعل الضغط على اختلاف الأبعاد والطبقات، ولا بد مع هذا من تكوين جو الطيارة على النحو الذي يناسب جميع ركابها معا، ويناسب كل راكب منهم على انفراد؛ لأن كل واحد منهم يستقل بحركات لا يشاركه فيها زملاؤه في الطيارة، ولا يشاركونه فيها - من باب أولى - متى وصلوا إلى مكان يهبطون عليه.
فمسألة السفر بين الكواكب ليست إذن بالسهولة التي نتخيلها في الوقت الحاضر، وسواء جاءت الصعوبة من تركيب بنية الإنسان أو من تركيب الفضاء والأفلاك، فالمتفق عليه أنها صعوبة كثيرة العقبات وأن عقباتها لم تذلل، ولا يرى أنها قريبة التذليل ولو تقدم اختراع المكنات وأدوات الانتقال أضعاف ما انتهى إليه حتى الآن.
وقبل أن تستقر هذه المحاولات على نتيجة مقنعة فيما يمكن تذليله من هذه العقبات، يتساءل المطلعون والمتطلعون: ماذا يرجى من وراء تذليلها؟ وماذا يجد السائح السماوي في الكواكب العليا إذا وصل إليها؟ أثمة حياة؟ أثمة أحياء عاقلة على نجم من تلك النجوم؟ أثمة عالم آخر؟ أثمة مخلوقات سماوية؟
والظاهر من هذه الأسئلة أنها لا تسلم من إيحاء اللفظ ولعب الخيال، واسترسال الذهن مع تداعي الخواطر والمشابهات.
فالذين يسألون عن «العالم الآخر» تثب أذهانهم من هذه الكلمة إلى «العالم الآخر» الذي يترقبه المؤمنون في حياة بعد هذه الحياة، ويخيل إليهم أنه في آخر الكون لأنه بعيد من الأرض في آفاق تشبه «الآخرة» في أعلى السماوات، فما يدريهم أن آخر الكون لا يكون في هذه الأرض أو لا يكون على مقربة منها؟ ومن أين يكون الابتداء وإلى أين يصير الانتهاء في هذا الفضاء، وكله فضاء؟
والذين يتكلمون عن الكواكب كأنها السماء يستخدمون العبارات التي استخدمها الأقدمون يوم كانوا يحسبون أن الأرض في قرار الكون، وكل ما طلع من نجم شارق فهو فوقها في مكان يعلو عليها.
ولكننا إذا استخلصنا الألفاظ من هذه الإيحاءات، فالحياة التي نسائل عنها في الكواكب الأخرى قد تكون دون الحياة في الأرض كما تكون أعلى وأكمل منها في تركيبها، وقد تكون الأرض سماء عليا بالنسبة إليها ومكانا قصيا على مدى شاسع منها لم يفصل بين الأرض وبينها، وقد تكون الأرض أصلح منها للحياة، منفردة بشروطها التي تلائمها.
وليس بالقليل بين المفكرين وعلماء الطبيعة من يرى هذا الرأي الأخير، ويعتقد أن شروط الحياة لم تتوافر في سيارة من سيارات المنظومة الشمسية، كما توافرت في سيارتنا التي نعيش عليها، فإذا تجاوزوا المنظومة الشمسية إلى ما وراءها، فغاية ما يعلمونه عنها أن وجود المنظومات التي تشابهها في آفاق الكون الواسعة مستحيل، ولكنه كذلك غير لازم لزوم اليقين.
ومن المفكرين الذين يرجحون انفراد الأرض بشروط الحياة العلامة كريسي موريسون الذي أجملنا رأيه عن حكمة الحياة في الكلام على الإيمان، ويوافقه على هذا الرأي نخبة من المفكرين وعلماء الطبيعة متدينون وغير متدينين، ونكتفي بسرد أمثلة من الخصائص التي تلائم ظهور الحياة ولم يثبت توافرها على كوكب آخر، فهي كما لخصناها في كتاب عقائد المفكرين عن روبرت كلارك: «وجود الماء الغزير، وانحلال الملح الصالح فيه دون الأملاح السامة، ووجود النبات الذي يمثل الطعام للأحياء على اليابسة، ووجود الكربون وأكسيده الثاني على حالة لا يمحوها الجو المحيط بالكوكب، وقيام هذا الجو على حالة من الكثافة والانجذاب إلى الكوكب بحيث لا يكظم ما تحته ولا يرسله شعاعا في الفضاء، وليس يتحقق ذلك إذا كان الكوكب عظما كالمشترى وزحل، فإن الكربون في هذه الحالة يوجد على شكل غاز الميثان
Methane
فلا يصلح مصدرا للكربون الذي يلائم المادة الحية، وليس يتحقق كذلك إذا كان الكوكب صغيرا كعطارد والقمر، فإن ثاني أكسيد الكربون لا يوجد في هذه الحالة، وقد ينعدم الجو على الإطلاق.»
1
وينبغي أن تبدأ الملاءمة للحياة من الأدوار الأولى حيث تتكون الخلية التي تدخل في بنية الأحياء العليا، أو كما جاء في كتاب سيرة الأرض لمؤلفة جورج جامو
Jamow
إذ يقول: «من النقط الهامة التي ينبغي أن تدخل في الحساب عند كل بحث في طبيعة الحياة والنبات أن الخلية الأولى تتألف مما يسمى بالمحلول الغروي
Colloidal Solution
أي من مواد عضوية في الماء، وهذه المحلولات الغروية - عضوية أو غير عضوية - مستحلب دقيق جدا من ذريرات مشحونة بالكهرباء تتماسك على بعد بفعل تلك الشحنة وتبقى في الماء طويلا؛ لأن الماء الصرف موصل رديء، فإذا أخذنا محلولا غرويا من الذهب - مثلا - وأضفنا إليه بعض الملح حتى تزيد قابلية الماء للتوصيل فقدت الذريرات شحنتها، وأشرعت إلى التلاصق والانضمام. ويمكننا أن نحدث هذا التلاصق أيضا بضم محلولين كل منهما له شحنة مضادة لشحنة الآخر، أما المحلول الغروي من المواد العضوية، فمن خاصته أن خلايا الكربون المركب على ألفة كيماوية مع الماء، وإن نتيجة قيامه في الماء على الأبعاد المطلوبة تحول دون فقدان الشحنة الكهربية.»
2
والاستدراك المعقول الذي يرد على الذهن كلما قيل: إن الكرة الأرضية انفردت بالحياة أن هذه الكرة بين النجوم والكواكب أقل من ذرة رمل في صحاراها الشاسعة، فكيف تنفرد وحدها بالشروط التي هيأتها لظهور الحياة فيها؟ ألا يجوز أن تتكرر هذه الشروط في نجم من ملايين النجوم التي نراها بالعين بآلات الرصد أو لا نراها على الإطلاق؟ ألا يجوز أن توجد الحياة بغير شروطها الأرضية؟ ألا يجوز أن تكون للحياة صور لا تتصورها في كوكبنا الصغير، ولا تتوقف على الأحوال التي نتخيلها لكل حياة؟
بلى، ذلك جائز. ولا يمتنع في العقل أن تتقبل الحياة تركيبا آخر غير تركيبها الذي عهدناه في كوكبنا الصغير، وقد قيل كثيرا: إن عنصر السليكون يمكن أن يحل محل الكربون في الكائنات الحية، وأن عملية الفلورة
Fluorination
قد تعمل على الأكسدة في توليد الطاقة،
3
وهو رأي لم يجمع عليه المختصون، ولا يزال منهم من يستبعد تكون الحيوان الكبير من هذا التركيب، ولكن هذا الفرض يفتح لنا بابا واسعا من أبواب التأمل في شروط نشأة الحياة، فليس المهم أن تتوافر الشروط المادية التي تتقبل تركيب الأجسام الحية؛ لأن عنصر السليكون موجود على الأرض كما يوجد عنصر الكربون، ولم يحدث قط أن عنصر السليكون تولدت منه الطاقة الحية بعملية الفلورة ولو في الحيوانات الصغيرة أو الخلايا البدائية، وإذا كان تشابه العناصر من حيث قبول الحياة لا يؤدي إلى تكرار ظهورها في الكوكب الواحد، فليس من الضروري عقلا أن يؤدي تشابه الشروط المادية في الكواكب الكثيرة إلى تكرار ظهور الحياة على صورة أخرى.
ومع هذا يبقى الباب مفتوحا للظن، ولما هو أكبر من الظن العارض إذا عززته مسوغات العلم، وقال به أناس من المتخصصين للتحليل الكيمي، وتركيب الضوء ورصد الأجواء بالخبرة المستفادة من ذلك التحليل والتركيب، ومن أصحاب التخصص في هذه الدراسات أناس يحتملون وجود الأحياء في أجسام من العناصر المادية، ولا يستبعدون وجودها في غير هذه الأجسام، وآخر ما انتهى إلينا من هذه الآراء خبر علمي لم نطلع على تفاصيله يقول كاتبه: «إن الآراء التي كانت من قبل وقفا على ملحقات الصحف أيام الآحاد قد أبداها في الأسبوع الماضي الدكتور ملفين كلفن
Melvin Calvin
العالم الكيمي المشهور من جامعة كليفورنيا المختص بأرصاد تركيب الضوء، ويؤيد الدكتور كلفن قوله بالمنطق الهادئ تدعمه ثروة وافرة من المعلومات تجمعت من تجارب المعامل الكيمية ومنها معمله، ويقدر أستاذ جامعة هارفارد الدكتور هارلو شابلي
Harlow Shapley
أن في الكون المعروف نحو مائة مليون سيار شبيه بالكرة الأرضية في أحواله لا يقل عمرها عن خمسة بلايين سنة، وعليها جو من الأكسجين يتخلله الكربون وتصل بينه وبين أحد النجوم التي تصدر منها الطاقة مسافة شبيهة، ويبتدئ كلفن من حيث انتهى شابلي فيقول: إن هناك - فيما عدا السيارات الكربونية - نظما أخرى قائمة على العناصر الأخرى كالسليكون والنيتروجين، وقد تقوم على غير هذه العناصر المادية
Anti-matter ، فإذا اعتبرنا سيارات الكربون، فظهور الإنسان على الأرض لم يستغرق غير وقت قصير بالقياس إلى أعمار تلك السيارات التي تقدر بخمسة بلايين من السنين؛ لأنه يبلغ زهاء مليون سنة، ومن الواضح إذن أننا يحق لنا أن نقدر ظهور الخلايا الحية، وما قبل الخلايا الحية في تلك السيارات، كما يحق لنا أن نقدر ظهور الحياة عليها فيما بعد الطور الإنساني، فإذا ذكرنا أن كيانات شتى تعمل على ملايين من السيارات رأينا أن الحياة ظاهرة كونية نافذة، وأن حياة الإنسان إحدى عواملها النافذة.»
4
نعم، هذا رأي سائغ مشروع، يحق لنا أن نراه، ولكن يحق لنا معه أن نشعر بأننا نبتعد ونقترب من مواطن الحياة الكونية في وقت واحد، لأننا نستغرب أن توجد الحياة في سيارات هذا الفضاء وتنقطع الصلة بين أبنائها، فلا يحاول بعضهم أن يدل على مكانه ولا يفلح في الكشف عن مكان غيره، فهل تراهم يجهلون مواطن إخوانهم وشركائهم في هذا الوجود الذي ينفردون فيه بالوعي والشعور على ما بينهم من تباعد الآفاق؟ أو هم يعلمون ولا يملكون وسائل التفاهم والاتصال؟
يحق لنا كلما نظرنا إلى تلك الآفاق نظرة الأستاذ كلفن ومن يرون رأيه أن نقدر وجود الأحياء في طائفة من سياراتها قبل وجودهم على سيارتنا الأرضية، ولم لا؟ لم يمتنع وجود الحياة في زمان قبل زمانها المحدود على هذه الكرة؟ لم توجد الحياة حيثما وجدت في زمان واحد، ولا يكون بعضها قد وجد قبل عمرها الأرضي بمئات الأعمار المحسوبة بملايين السنين؟ ولم لا تكون لها قدرة على الاتصال بنا أكبر من قدرتنا نحن على الاتصال بها إذا كانت قد سبقتنا إلى الوعي والمعرفة، وأدركت من العلم ما لم ندركه في زماننا؟ وإذا كانت ندا لنا في عمرها فما بال هذه الحياة لا تنشأ حيث نشأت إلا في آونة واحدة مع اختلاف المنشأ في السيارات والكواكب والنجوم وهي وراء حدود الإحصاء؟
كلما أنعمنا النظر في أمر هذه الحياة الكونية رأينا أنها تبتعد وتقترب، وأنها تنجلي من هنا لتغمض من هناك، فمن الشطط في الأمل أن نتخيل أن البقية الباقية من القرن العشرين حسبنا من أمد لإعداد معدات السفر إلى مواطنينا الكونيين قبل أن نعرفهم ويعرفونا، وقبل أن نتقارب فيما بيننا بلغة التفاهم والمراسلة، إن كانت هناك لغة كونية لجميع الأحياء، وأدنى من ذلك إلى الأمل المشروع أن نختم القرن العشرين، وقد وصلنا إلى الخبر اليقين عن مواطن الحياة في هذا العالم، وعن شروط الحياة أو الحيوانات المتعددة بين أرجائه الفساح، بل نكاد نستبعد هذا الأمل ونطمح مع ذلك إلى أمل كبير؛ لأنه يزيدنا علما بحياتنا على وجه الأرض، ودراية بالمادة وما تحتويه من أجسام الأحياء.
فمن الآمال التي نكاد نلمسها أن تترقى أدوات الرصد حسا ومعنى في بقية القرن العشرين فنهتدي بها إلى أسرار الضياء والإشعاع، وعلاقة الذرات المبثوثة في الفضاء بظواهر الكهرباء والمغناطيسية وحقيقة الجاذبية الأرضية وغير الأرضية، ومن الجائز جدا أن ننفذ على هدى تلك الأرصاد إلى ذلك الينبوع الجامع لظواهر الطاقة والقوة، وأن نحول بعضها إلى بعض بوسائل الصناعة في غير كلفة مجهدة تربى على فوائدها وثمراتها. وإن اليوم الذي نستطيع فيه أن نحول الجاذبية إلى مغناطيسية وكهرباء ليضع أيدينا على ينبوع من القوة لا ينفد ولا تعرف له نهاية، وقد تغنينا هذه القوة عن استخراج الطاقة من الفحم أو الحجارة أو النفط أو تيارات الماء أو كوامن الذرات، فإن قوة الجذب بين الأرض والسماء شائعة في كل مكان، ولعلها هي مصدر الطاقة التي تتولد في الأرض وما عليها من العناصر المعروفة، ومما هو صالح لتوليدها من القوى الكامنة التي نجهلها الآن.
ولعل العلم بسر «الجاذبية» بين الأكوان يهيئ لنا الصلة التي تربطنا بعوالم الحياة المجهولة في سياراتها، فنرتبط بها على وعي وشعور كما نرتبط بها الآن بمادة الأجسام.
الفصل السابع
عالمنا
ومن الخير ألا تتعجل هذه الكرة الأرضية لقاء العوالم الأخرى قبل أن تتلاقى هي عالما واحدا، يقطنه نوع واحد: نوع إنساني واحد في شرعة الرأي والخلق ، لا في شرعة علماء الأجناس عند تقسيم فصائل الحيوان.
وهي اليوم عالم متضامن في حكم الواقع ما في ذلك مراء، ولكن كم بين العالم المتضامن في الخير والشر، وبين العالم المتعاون في الخير والشر من مسافة واختلاف؟
هنا مجال واسع لكثير من التشاؤم، ومجال أوسع منه لكثير من المتشائمين، ففي الدنيا مشكلات لا تحل ومخاوف لا تغلب، وعداوات لا تهدأ، وغوامض من شئون العيش وشئون الرأي لا تنكشف اليوم على جلاء، وعلى كل لسان يتحدث بهذه الشئون سؤال لا يسمع له جواب شاف: هل تقع الحرب المحذورة المرتقبة؟ وهل تبقى من بعدها بقية من نوع الإنسان أو بقية من الحضارة الإنسانية؟
ويلوح للناظرين إلى الغد أن السنين الأربعين التي بقيت من القرن العشرين أقصر من أن ترفع الستار عن غوامض هذه الشئون، وأنها في الحق لكذلك، فربما انتهت والعالم الإنساني يزداد تضامنا، وينتقل إلى التعاون الوثيق في علاقاته وقضاياه، وربما انتهت وهو مشتبك في نضال يقطع العرى بين أوصال هذا التضامن الواقع فلا يعدو إلى مجراه إلى بعد حين، إن قدر له أن يعود.
لا ندري على التحقيق أي هاتين العاقبتين كائن في أوائل القرن الحادي والعشرين، فهل ترانا لا ندري أي العوامل التي تعمل لكلتا العاقبتين أرجح وأقوى في أيامنا هذه، وأيها يرجى أن يزداد رجحانا وقوة على مدى الأيام؟
إذا كان هذا هو مدار السؤال فمن الإفراط في الشك والحذر أن نحجم عن الموازنة بين عوامل الأمل وعوامل القنوط؛ لأن هذه العوامل قابلة للموازنة والمقارنة، وظاهرة في طبيعتها التي تمضي مع التيار المأمول أو تدبر بذلك التيار وتصده إلى الوراء، ومن هذه الموازنة بين العوامل المقبلة والعوامل المدبرة لا يستطيع المتشائم أن يوقن بأنه على صواب، وقد يستطيع المتفائل أن يطمئن إلى مآل الصراع بين دواعي التضامن ودواعي التصدع والانحلال.
فمن المشكلات التي تروعنا اليوم مشكلات لم تكن لتظهر ولا لتنذر بالخطر الداهم لو لم يكن بين الأمم رباط من التضامن في المصالح والعلاقات، يضطرها إلى المبالاة بالقريب والبعيد من مشكلات الأقوياء والضعفاء.
مشكلة في أفريقيا الجنوبية، أو مشكلة في الشرق الأوسط، أو مشكلة في زاوية من زوايا القارة الآسيوية، وكلها تحدث اليوم فتبعث القلق والتربص والاستعداد في محافل الأمم بعد أيام.
وقديما كانت المشكلة في موقع من هذه المواقع تحدث وتنقضي ولا يعلم بها أحد، ولا ينبعث منها القلق إذا علم بها بعيد أو قريب.
فإذا أقمنا الموازنة بين عوامل التفاؤل وعوامل التشاؤم في هذه المشكلات حق لنا أن نتفاءل بها ولا نتشاءم منها؛ لأنها من علامات التضامن الواقع الذي يوحد بين الأخطار ويضطر الأمم إلى توحيد العزائم لدفع تلك الأخطار، واتقاء وقوعها قبل التفاقم والاستفحال.
إن كفة الخير في هذه المشكلات أرجح من كفة الشر، وإنها لتحسب من البشائر بتذليل المصاعب، ولا تحسب من العقبات التي لا تنقاد للتذليل.
على أن العالم الإنساني فيه كثير من المشكلات المنذرة بالخطر غير تلك المشكلات.
فيه مشكلات النزاع بين الأوطان، وفيه مشكلات النزاع بين المشرق والمغرب، وفيه مشكلات النزاع بين الميسورين والمحرومين، وكلها من المشكلات التي تتشعب بين الأمم وتتغلغل بين طوائف الأمة الواحدة، وتأبى للعالم في عصرنا هذا أن يتعاون ويتوحد، وقد تأبى عليه أحيانا أن يرغب في التعاون والاتحاد.
فأين هي عوامل الأمل وعوامل القنوط في مشتبك هذه الأخطار؟
لا ندري ما مصيرها؟ فهل ترانا لا ندري عند الموازنة بينها وبين عوامل التضامن العالمي أيها أقوى وأيها يمضي في اتجاه الزمن، وأيها يحسب من بقايا الأمس التي تسرع أو تبطئ إلى الزوال.
إن التضامن العالمي أقوى منها جميعا وأحدث منها في أسبابه على الأقل، وأدنى - من ثم - أن يكون له الغد المرجو، ولا يلحق ببقايا الأمس التي أخذت في الزوال.
إن مشكلة النزاع بين الأوطان لمن أخطر المشكلات على تضامن العالم فيما مضى وفي العهد الذي نحن فيه.
ولكنه خطر يتغير ويسرع في التغير، ويأتي التغير فيه من جانب الأقوياء الطامعين، ومن جانب الضعفاء المطموع فيهم، ومن جانب المحايدين الذين تقف بهم علاقات السياسة أحيانا في وسط الطريق لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فالدولة القوية التي كانت قبل مائة عام تطمع في وطن ضعيف لم يكن يمنعها مانع أن تنقض عليه، وأن تقهره وتضطره إلى الخضوع لحكمها ما دامت تريد البقاء فيه، ولم يكن من العسير عليها إذا تنافس الأقوياء من نظائرها أن تتفاهم على التقاسم وتبادل السكوت والإغضاء.
أما اليوم فالدولة القوية التي تطمع هذا الطمع تجد الموانع من داخلها، ومما حولها، ومن نظرائها، ومن الضعيف ومن يشبهه في حالته من غير الأقوياء.
يمنعها في داخلها فريق من أبنائها يزهد في العدوان على الوطن الضعيف؛ لأنه لا يستفيد منه، إن لم يزهد فيه إيمانا بالحق والإنصاف.
ويمنعها مما حولها ومن نظرائها أنهم يخسرون باحتكارها الحكم في غير وطنها ولا يتعوضون من هذه الخسارة شيئا تمنحهم اياه، وتملك أن تمنعه عنهم بمشيئتها، وكلما عظمت الدولة وعظمت ثروتها تشعبت مصالحها، واشتدت رغبتها في فتح الأبواب لها ولغيرها، لأنها تستطيع - ولو نافست ذلك الغير - أن تحقق مصالحها في البلد المفتوح بما لها من الوفر والقدرة على الصبر والاحتمال، وعلى تبادل المنافع بينها وبين مختلف الأمم والجهات، وربما كان من الأمم التي تحتاج إليها ذلك القوي الطامع في احتكار السيطرة على هذا الوطن أو ذا. •••
وتأتي قضايا الأوطان في الصف الأول بين قضايا الخطر على السلام العالمي والوحدة الإنسانية، ومنها قضايا الاستقلال في الأمم التي تحكمها أمم أجنبية، وقضايا النزاع بين الأوطان المتنافسة على النفوذ والمرافق المشتركة، وقضايا النزاع بين الدول القوية التي تختلف فيما بينها على سياسة المحكومين وعلى العلاقات الدولية في جملتها، وكلها من ينابيع الخطر التي لا تؤمن غائلتها على علاقات التضامن بين الأمم، ومن ثم على الأمل في اقتراب عهد الوحدة الإنسانية.
غير أن هذه القضايا أيضا من أسباب التمهيد التي لا محيد عنها لتحقيق الوحدة الإنسانية أو تحقيق التعاون بين أقوياء الأمم وضعفائها، وبين المتقدم منها والمتخلف في الحضارة وأحوال المعيشة، فقيام الأوطان المعترف بها خطوة لازمة قبل خطوة الوحدة العالمية، إذ كانت الوحدة لا تتأتى بين أوطان مغصوبة وأوطان غاصبة، وبين أمم مجردة من الحقوق وأمم تعتدي على تلك الحقوق ولا تعترف بها ولا بالاعتداء عليها، فمن الطبيعي إذا قامت للعالم أسرة واحدة أن تتألف هذه الأسرة من أعضاء تربط بينهم رعاية القرابة، والمشاركة في الحركة والكرامة، وليست قضايا الأوطان إلا المقدمة التي لا بد منها لتلك النتيجة التي تفضي إليها، وهي اليوم ينبوع من ينابيع النزاع والخطر، ولكنها في الغد ضمان من ضمانات السلام والتعاون والمشاركة في الأعباء العالمية، مثلها في ذلك مثل الحقوق الشخصية التي أصبحت في كل مجتمع من مجتمعات الحضارة ضمانا للنظام والشريعة في ذلك المجتمع، بعد أن كان النزاع بين الأشخاص حائلا دون قيام الوحدة في الجماعة على أساس القومية.
إن قضايا الأوطان هي أيضا من طلائع الوحدة العالمية التي تنطوي على البشارة حين تنطوي على النذير، وهي اليوم محل اعتراف في الرأي وإن لم تبلغ بعد مبلغ الاعتراف في الواقع، إذ كان تقرير المصير مبدأ مسلما في معاملات الدول ومحافلها المجتمعة، فلا ينكره أحد من المعارضين له في سياسته العملية، بل نرى من الحاكيمن الأجانب من يحتال عليه بتوحيد الوطن الحاكم والوطن المحكوم، واعتبار الرعايا شركاء للرعاة في الحقوق الوطنية ووظائف الدولة، وهي ظاهرة من ظواهر العصر لا تبخس قيمتها العملية فضلا عن قيمتها النظرية؛ لأن المضي في الدعوى المنكرة بإجماع الأمم أمر لا تطول المغالطة فيه.
وأخطر من قضايا الأوطان على الوحدة العالمية قضايا العناصر والسلالات؛ لأن الخلاف عليها لم ينحسم بعد في الرأي ولا في الواقع، ولا تزال ذريعة للدعوى باسم من الأسماء تتفاوت في الصراحة والاستقامة، وفي الرياء والالتواء.
على أننا إذا نظرنا إلى تاريخ دعوى العناصر والأجناس من ناحيتها النظرية لم نخطئ أن نلمس فيها جنوحا مطردا إلى التقارب، وابتعادا مطردا عن التشبث بالفواصل المزعومة بين عناصر البشر في الزمن القديم.
كان علم الأجناس البشرية يتجه في القرن التاسع عشر إلى توسيع المسافة بين أجناس البشر وإثبات الفوارق البعيدة بين كل جنس منها وسائر الأجناس الأخرى، وكان يخلط كثيرا بين فكرة الأمة وفكرة العنصر، وهما شيئان مختلفان لأن الأمة على الأرجح رابطة اجتماعية تاريخية، في حين أن العنصر رابطة من روابط الدم والسلالة العصبية، وقد تتفرق مواقعها فلا تجمعها بقعة واحدة، وكان للعوامل الدولية والسياسية حكمها في كل من الاتجاهين، فكان الاستعمار وحب التسلط هما الباعث الأكبر على توسيع الفوارق بين الأجناس، وعلى تفضيل جنس منها على سائرها، تسويغا للسيطرة والاستغلال وإقامة الحكم الأجنبي في البلاد المستعمرة، أو تسويغا للسيادة والانتفاع بالمرافق والجهود المسخرة.
كانت الدولة الجرمانية تبحث عن مستعمرات لها في الشرق الأقصى بعد أن تم تقسيم المستعمرات في أفريقيا وآسيا، فنادى الساسة فيها بالخطر الأصفر، وأرادوا به الخطر المتوقع من جانب اليابان والصين إذا انطلق «التنين الأصفر» - كما سموه - في طريق الحرية والتقدم، وترددت صيحة الخطر الأصفر في كل دولة تبعا لموقفها من البلاد الشرقية، سواء وقفت منها موقف الطامع في ضم البلاد أو موقف الطامع في الامتيازات التجارية والاقتصادية.
وشاعت بعد صيحة الخطر الأصفر دعوة التفرقة بين الآريين والساميين، واشتدت هذه الدعوة حين أصبحت كلمة الساميين في أوروبا مرادفة لكلمة اليهود، وأصبح اليهود هم المقصودين بعداوة السلالة السامية، واقترنت الدعوة الآرية بتقسيم الأوروبيين إلى شماليين وجنوبيين لادعاء أصحاب هذه الدعوة أن أبناء الشمال في القارة الأوروبية آريون خالصون، لم يختلطوا بالأجناس الأخرى التي يزعمون أنها دون أبناء الشمال في الذكاء والأخلاق، وتجدد الخلاف في أثناء ذلك على حقوق الزنوج - أو حقوق السود - بين أبناء البلاد التي يختلطون فيها بالأجناس البيضاء، فاعتمدوا - عدا هذه الحقوق - على الفوارق العنصرية، وبالغوا في توسيع هذه الفوارق وراء فوارق اللون والشكل، كأنها من الفوارق العميقة في التكوين لا تمحوها المساواة في الحقوق السياسية، ولا يجدي فيها توحيد التربية والتعليم.
كانت هذه العوامل الدولية أهم العوامل التي دعت إلى توسيع الفوارق بين الأجناس البشرية في القرن التاسع عشر، ولم تزل شائعة قوية إلى منتصف القرن العشرين.
أما بعد الحرب العالمية الثانية فقد تغير اتجاه الدعوة لأسباب كثيرة، منها: يقظة الشعوب الشرقية، ورغبة الدول الكبرى في كسب مودتها. ومنها تنافس الدول الكبرى، وسعي كل منها في إبطال حجج الدول المنافسة لها، ومنها اجتهاد اليهود في تبرئة أنفسهم من النقائص والعيوب التي تخصهم بين الشعوب السامية، ومنها تقدم العلم واتساع نطاق البحث بين الأجناس المجهولة، وكثرة الأدلة على بطلان بعض الفوارق، واقتراب وجوه الشبه بين الناس من مختلف الألوان والأوطان.
فالباحثون اليوم في علم الأجناس لا ينفون وجود الفوارق بين جنس وجنس منها، ولا يقولون: إن النوع الإنساني كله جنس واحد لا تمييز فيه بين الصفات الجسدية والعقلية، ولكنهم يقللون من المبالغة في أصالة هذه الفوارق، ويقولون: إنه تتغير أحيانا بتغير المعيشة والبيئة، وإن الصفات المميزة لكل جنس منها قد تنتقل إلى الجنس الآخر بالتربية والقدوة، وتعود المعيشة والمعاملة في مثل أحواله وظروفه، وقد انتقل منها الكثير حتى الآن، إما لطول الاختلاط بين الأمم، وإما لكثرة التبدل والتطور في ظروف المعيشة، وإما لوقوع الاختلاف الطبيعي بين أفراد الأمة الواحدة والجنس الواحد كما يحدث في الأسرة الواحدة فضلا عن البلد والإقليم.
وما من صفة من صفات البنية والتركيب ثبت بعد البحث والمقارنة أنها خاصة مقصورة على جنس واحد لا يتصف بها جنس آخر إذا تعرض لظروفه وملابساته، فشكل الرأس بين الاستدارة والاستطالة كان معدودا من العلامات الفاصلة بين الأجناس، فظهر من بحوث العالم الأمريكي فرانز بواس
Franz Boas
أنها علامة تتغير بتغير البيئة، وأن الأطفال المهاجرين من بلاد أخرى تختلف أشكال جماجمهم ولا تشبه جماجم آبائهم كل الشبه مع تبدل الموطن والمعيشة، وأبناء السويد - كما هو معلوم - معدودون من خلاصة الأجناس الشمالية أو النوردية، ولكن العالمين ريتزيوس
Retzius
وفورست
Furst
سجلا نتيجة الكشف على خمسة وأربعين ألف شاب من المطلوبين للتجنيد فتبين لهما أن الصفات المخصصة للجنس الشمالي الخالص لا تجتمع لأكثر من خمسة آلاف منهم، وإن الذين تجتمع لهم هذه الصفات في إقليم من أقاليم الشمال على نحو أربعين في المائة، وقد أعيد إجراء هذه البحوث بعد ثلاثين سنة، وسجلت صفات سبعة وأربعين ألفا من المجندين فتبين أن واحدا وثمانين في المائة منهم كانوا رق العيون زرقة خفيفة، وأن ثمانية في المائة منهم لهم عيون مشوبة اللون، وأن خمسة في المائة منهم لهم عيون بنية، أما لون الشعر فقد كان في سبعة في المائة منهم كتانيا، وفي ثلاثة وستين في المائة بنيا خفيفا، وفي خمسة وعشرين في المائة بنيا مسودا، وفي ثلاثة في المائة أحمر أو أدنى إلى احمرار. وسجلت العلامة الكبرى - أو العلامة الأولى - من علامات الفوارق بين الأجناس، وهي شكل الجمجمة، فظهر أن أصحاب الجماجم المستطيلة لا يزيدون على ثلاثين في المائة، وأن ستة وخمسين في المائة منهم متوسطون بين الاستطالة والاستدارة، وأن أربعة عشر في المائة عراض الرءوس، وظهر أن لون الشعر ولون العين يقتربان، ولكن لا صلة لهذا اللون أو ذاك بطول القامة وتركيب الدماغ.
هذا غاية ما انتهى إليه صفاء المزايا العنصرية في بلاد السويد، وهي أقصى البلاد شمالا، وأبعدها عن الاختلاط بأمم الجنوب، وتسفر الإحصاءات عن نتيجة كهذه النتيجة في سكان البلاد الجرمانية، ففيها أصحاب العيون الزرق، والجماجم المستطيلة، والقامات الطوال، وفيها الملايين ممن يشبهون أهل الجنوب ويسمونهم بالسلالة الألبية، نسبة إلى جبال الألب، وفيها وسط بين هؤلاء وهؤلاء موزعين بين الأقاليم الشرقية والغربية وبين الشمال والجنوب.
1
وإذا تجاوزنا الصفات الجسدية إلى صفات العقل والخلق، فالواقع الذي لا جدال فيه أن الحضارات العالمية جميعا لم تنشأ في قطر من أقطار الشمال، وأن أعظم هذه الحضارات قد نشأ في الجنوب على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وبعضها قد نشأ في الشرق الأقصى بين الشعوب الصفراء أو في البلاد البابلية والفارسية والهندية، وهي متعددة العناصر والأجناس. وقد ظهر من اختلاف العادات والتقاليد أنها لا ترجع في أساسها إلى اختلاف أصيل في التكوين، وأن الناس قد يخجلون من بعض الأمور ولا يتفقون على تلك الأمور في كل أمة ولا في كل زمن، ولكن شعور الخجل موجود بينهم جميعا، وإن كان بعضهم يخجل من شيء وبعضهم يحسبه من المألوفات التي لا ضير فيها، فلا يمكن أن يقال من أجل هذا: إن هذه الأمة تعرف الأخلاق وتحترمها، وإن تلك الأمة تجهلها ولا تكثرت لها، فمثل هذا يحدث في اختلاف الأطعمة على حسب المواقع الجغرافية والمحاصيل الزراعية، فتعيش جماعة من الناس على لحوم الصيد والماشية، وتعيش جماعة أخرى على لحوم الأسماك، ويعيش غيرها على النبات، وقد يحرم أكل الحيوان، ويتناول غيرهم جميع هذه الأطعمة حسبما يتيسر منها لديهم، ولا يقال من أجل ذلك: إن هذه الأمة تعرف الجهاز الهضمي وتلك الأمة لا تعرفه، ولا يقال من أجله: إن تكوين المعدات والأجسام في أساسه مختلف لا يقبل التغير والتطور، وربما حدثت من تنوع مواد الغذاء قابليات جسدية محسوسة الأثر، بل ربما حدث لجماعة من الجماعات المتعددة أن تصاب بالمرض من أكله تسيغها جماعة أخرى وتنتفع بها، ثم يقف الأمر عند ذلك ولا يعدوه إلى التفرقة بين هذه الجماعات في أصول التركيب وفي أجهزة الجسم ووظائف الجوارح والأعضاء، وعلى الجملة يحق لنا بعد تجارب العلم الحديث في هذه السنين أن نردد قول شاعرنا أنهم جميعا أسرة واحدة «أبوهم آدم والأم حواء» مهما يكن تفسير العلم الحديث لمعنى تلك الأبوة وتلك الأمومة، وكل ما ثبت من الفروق - حتى الفروق الوراثية - يعود في وقت قريب أو بعيد إلى أسباب مكتسبة تتغير مع البيئة والزمن وطول الاختلاط بين الأمم والقبائل، فليس للسيادة صفات ثابتة في جنس دون جنس، ولا في أمة دون أمة، وقد سادت في القارة الأوروبية أمم من المغول والساميين، وساد أناس من السود بين أناس من البيض، ودارت الحضارة دواليك من شرق إلى غرب ومن جنوب إلى شمال، ومهما تتعدد أجناس الإنسان، فالنوع الإنساني واحد والخصائص الإنسانية عامة مشاعة غير محتكرة ولا مقصورة مدى الزمن على بقعة دون بقعة، ولا على سلالة دون سلالة.
ولا ننسى موطن العبرة في هذا الاتجاه الصالح الذي يتجه إليه علم الأجناس بعد الحرب العالمية الثانية، فإن العلم قد تطغى عليه السياسة حقبة تطول أو تقصر، ولكنه يتخلص من طغيانها ليجري في مجراه. •••
هذه آراء علمية من ولائد القرن العشرين، لم يكن يقابلها في القرن التاسع عشر غير دعوات إنسانية تتمثل في المناداة بتحرير الأرقاء أو إنصاف الشعوب المحكومة من جنس الحاكم المتسلط عليها أو من غير جنسه، ولم تكن منها دعوة تستند إلى البحث في خصائص الجنس أو تكوين السلالة أو شواهد العلم التي تقارب بين أبناء النوع الإنساني في الخصائص والتكوين، وقصاراها من الإنصاف - إنصاف العاطفة والمروءة - أنها كانت تنادي بأن العبيد أكرم من الحيوان، فلا يجوز أن يباعوا ويشتروا في الأسواق كما تباع الماشية العجماء، ولا يمنع هذا أن يكون المنادي بتفضيل الإنسان الأسود على الحيوان مناديا عن يقين وثقة برسالة الرجل الأبيض وأمانته المنوطة بجنسه دون سائر الأجناس البشرية، وهي أمانة السيادة على جميع تلك الأجناس.
أما البحث العلمي الذي يسفر عن التسوية في الأصول والفروع بين أبناء النوع الإنساني فهو - كما تقدم - من ولائد العشرين لم يسبق إليه فيما مضى من القرون، وهو إحدى علامات الزمن، ولو قيل: إنه بلغ ما بلغه في القرن العشرين لحداثة البحث في علم الإنسان وعلم الأجناس، فإن الاهتمام بهذا البحث هو نفسه علامة كبرى من علامات الزمن جاءت في أوانها على قدر مع سائر البحوث التي تجنح بالأمم طوعا أو كرها إلى التضامن والوحدة الإنسانية.
وكل علامة من علامات الزمن لها شأنها ولها دلالتها، ولكننا لا نغلو بها فنجعلها في قوة الحكم الملزم للناس بالطاعة والاتباع، فقد يؤمن الناس بالأخوة في الأسرة - فضلا عن الأخوة في النوع بأسره - ولا يؤمنون بالمساواة أو بالإنصاف، ولكن دلالة الزمن إذا اقترنت بنتائج الواقع كانت هي قوة الحكم الملزم للناس بالطاعة والاتباع، ومن نتائج الواقع في القرن العشرين أن يخفق دعاة العدوان باسم العصبية العنصرية، وأن يتعذر تسخير العصبيات للعصبيات بالقوة أو بالحلية، ولا نعرف في التاريخ قرنا تعذر فيه حكم الجنس للجنس المغاير له كما يتعذر هذا الحكم في القرن العشرين، وقد جربت دعوة الجنس الآري للغلبة على غير الآريين، وجربت دعوة الجنس الأصفر لسيادة أمة من الأمم على القارة الآسيوية على مبدأ «آسيا للآسيويين» فلم يجد أصحاب هذه التجارب من ثمراتها ما يغريهم بالمعاودة والتكرار، ولم يظهر لنا من قبل - ولا يظهر لنا الآن - أن اصطدام سلالة بسلالة خطر يجتاح العالم ويشطر بني الإنسان معسكرين أو عدة معسكرات.
كلا، بل يظهر لنا اليوم أن الخطر الذي ينذر باجتياح العالم ويوشك أن يشطره إلى معسكرين متناحرين، إنما هو خطر واسع يطوي الأجناس والطوائف في برنامج شامل يعده كل من الطرفين المتقابلين لتطبيقه على جميع الشعوب من جميع الأجناس والألوان.
كل على طريقته يبشر بالوحدة العالمية، وقد ينقسم أبناء الوطن الواحد والجنس الواحد فريقين متقابلين، يريد أحدهما أن يوحد العالم الإنساني على هذه الطريقة، ويريد مخالفوه ومناقضوه أن يحققوا هذه الوحدة على الطريقة الأخرى.
هنا أيضا يتراءى لنا أن تيار الوحدة العالمية هو الغالب على كل تيار يعترضه وينثني به عن مجراه، فلا تناقض في الوجهة، وإنما التناقض في الدفة التي تسير بالسفينة إليها.
ولا يرى حتى الآن أن المعسكرين «وهما - كما هو ظاهر - معسكر الديمقراطية ومعسكر الشيوعية» يتباعدان في التطبيق ويولي كلاهما إلى الطرف الأقصى من دعواه، بل يرى على خلاف ذلك أن المستقبل كفيل بالتقريب بين الديمقراطية والشيوعية في مسألة المسائل بين المذهبين وهي مسألة الطبقات؛ لأن معسكر الديمقراطية يقل التفاوت فيه بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء وتتوزع الثروات الكبيرة فيه بين أصحاب الحصص والسهوم، فلا يتمكن فيها أحد من حصر الثراء في يديه أو من الاستئثار بنفوذ المال، ونفوذ الحكم والجاه، ويقابل هذا في المعسكر الشيوعي أن الطبقات تتعدد ولا تتوحد، وأن العمال يتفاوتون كما تتفاوت الأعمال، وأن الاحتكار ينتقل من أيدي الأفراد والشركات إلى أيدي الدولة، ويوشك أن يثير عليها رعاياها ويضطرها إلى النزول عن كثير من السلطان المطلق الذي يمكنها منه احتكار المال والصناعة، وليس هنالك من تضارب أساسي بين أسلوب المعيشة الذي يؤدي إليه توزيع السلطة، وتوزع العمل، وتوزع الثروة على كلتا الطريقتين: طريقة الديمقراطية، وطريقة الشيوعية على وجهتها التي تتجه إليها. •••
وغير بعيد - مع الممهدات الكثيرة للتوفيق بين مذاهب الشرق والغرب - أن يقع المحظور قبل بلوغ الأمد المنظور، فإن الخطر لا يطرأ من تباين المذاهب أو البرامج في جميع الأحوال، بل كثيرا ما يطرأ من تنازع القائمين عليها والمتولين لتنفيذها؛ خوفا على أنظمة الحكم التي تسندهم أو عجزا عن التفاهم بينهم وبين أعدائهم في الداخل والخارج، أو صرفا لأنظار الشعوب عن أسباب القلق والشكاية، وما هي إلا خطوة تزل بها القدم فيستعصي على حكمة العالم كله أن يأمنوا عواقبها قبل فوات أوانها، وقد حدث ذلك في التاريخ القريب كما حدث في التاريخ البعيد، فوقعت الحروب لغير ضرورة عامة تستلزمها، ولم يكن من الحتم وقوعها لأسبابها العارضة، فما يحسب أحد من المؤرخين لحوادث الحربين العالميتين يعتقد أن حادثة سيراجيفو أو حادثة دانزج كانتا توجبان الحرب ضربة لازمة لولا سوء التقدير من الحاكمين وولاة الأمور، ومثل هذا قد يحدث غدا فتتبعه الحرب الثالثة، وتدفع بالعالم الإنساني إلى الهاوية التي لا نجاة له منها كما نجا من الحروب الغابرة، قبل اختراع القذائف النووية والصواريخ الموجهة، وما إليها من أسلحة الفناء والدمار.
ذلك كله غير مستحيل، إلا أننا حريون أن نذكر أن ضوابط السلم في العالم قد بلغت في عصرنا هذا ما لم تبلغه قط في عصور التاريخ القريبة أو البعيدة، وإننا في عصر لا تؤمن فيه غوائل الحروب على المنهزمين والمنتصرين، ولا يسهل فيه الهجوم على الحرب قبل استنفاد كل حيلة من حيل التوفيق أو حيل التأجيل والإمهال.
فالقوى بين المعسكرين متكافئة متوازنة مهما يكن من الفارق بينها، فهو فارق لا يغري بالطمع في الغلبة على ثقة من عوارض الحرب ونكساتها المجهولة.
وقد كانت شرور الحرب فيما مضى تنتهي بنهايتها، وتتلوها الغنيمة المضمونة لمن يفوز بالغلبة فيها، وليست الغنيمة اليوم مضمونة للظافر المتغلب، بل لعله يبوء من الغلبة بالخسارة والتعويض للأمم التي أصابتها الهزيمة الفادحة، وعلى قدر فداحة الهزيمة يكون سوء الحالة بين الشعوب التي تبتلى بجرائرها، ويكون العبء الثقيل على كواهل الظافرين المسئولين عن تلك الجرائر، الخائفين على أنفسهم من عقابيلها، وأولها انهدام القواعد التي يقوم عليها بناء المجتمع عندهم سواء منها ما قام على الديمقراطية أو على الشيوعية.
ومن ضوابط السلم في عصرنا أن الهجوم على الحرب عسير على ولاة الأمر في الأمم الدستورية، وغير يسير على ولاة الأمر في الأمم التي تخضع للحكم المطلق على صورة من صوره السافرة أو المقنعة. فليس في هذه الأمم أو تلك رئيس واحد يملك أن يعلن الحرب وأن يقض على زمامها وهو آمن على بقاء ذلك الزمام في يديه إلى النهاية، ولا بد من النظر إلى عامل جديد في هذا العصر لم يكن له شأن خطير في حروب الأزمنة الغابرة، ونعني به شأن المحايدين الذين يرجحون إحدى الكفتين بالتزام الحيدة أو بالسماح لأحد الفريقين بمعونة التموين وتيسير المواصلات، ونقل الأخبار والمعلومات، فلم يكن للمحايدين مثل هذا الشأن في حروب الأزمنة الغابرة، وليس من المستطاع في حرب عالمية إغفال شأنهم كبارا وصغارا في بقعة من بقاع الكرة الأرضية، وليس من اليسير إقناعهم ولا انتزاع معونتهم على الرغم منهم، فإذا تيسر لولاة الأمر في دولة كبيرة أن يقنعوا المعارضين لهم في بلادهم، فليس إقناع المعارضين لهم في خارج بلادهم بالأمر اليسير.
وقد نرى غدا أن وبال الأسلحة الجديدة هي صمام الأمان ومفتاح الأمل في اجتناب الحرب العالمية، فإن تعذر اجتناب الحرب فربما اتفق الرأي على اجتناب الأسلحة الجائحة من قذائف الذرة والصواريخ الموجهة وما إليها، ويصح القياس في هذا الأمل على أسلحة معروفة تمكن المقاتلون من اجتنابها وهي أفتك وأقرب إلى متناول الجميع من أسلحة الذرة والصواريخ، وتلك هي الأسلحة المكروبية.
فالأمم التي تقدر على صناعة أسلحة المكروبات والجراثيم أكثر من الأمم التي تخترع الأسلحة الذرية والصاروخية، ونفقات الأسلحة التي تنشر عدوى الطواعين والأوبئة أقل من نفقات شق الذرة وتوجيه الصاروخ، والكوارث التي تلحقها بالأعداء أشد من كوارث القذائف المرهوبة من كل سلاح جديد، وقد أصبحت صناعة الأسلحة المكروبية في طاقة عشرات من الأمم قبل إتقان الطيران، وقبل التمكن من إصابة المرمى البعيد بالمدفع والبندقية، فإن تلويث الأنهار والأمواه - بل تلويث الأجواء - في البلاد المعادية لم يكن عسيرا على أمة لديها معامل التحليل والتركيب، وإن لم تكن لديها مصانع التسليح، وفي وسع شرذمة من الجواسيس أن تندس في أطراف البلد المقصود فتنشر فيه الوباء وتعطل فيه كل وسيلة من وسائل القتال والاستعداد وكل وسيلة من وسائل التموين والعلاج، ولم يحدث حتى اليوم أن أحدا في مأزق من مآزق الهزيمة التي تهون كل شيء على اليائس المستميت قد أغراه اليأس باستخدام هذا السلاح، فلا نغلو في التفاؤل إذا علقنا الرجاء بحكمة الشعوب الإنسانية أن تتجنب خطر الذرة، كما تجنبت خطر الجراثيم.
والذرة المنشقة - بعد - ليست بالكلمة الأخيرة في علم المخترعين بأسرار الإشعاع وحركات الأثير، فقد يعلمون بعد حين ما يجهلونه الآن من حركات الأمواج الأثيرية دفعا وطردا، وسرعة وبطئا فلا يستعصي عليهم أن يقابلوا الموجات المندفعة من شق الذرة بموجات تصدرها وتلغيها، ولا يعسر عليهم أن يهيئوا منطقة من الجو لتعديل الموجات الشعاعية، وتوجيهها إلى الأعلى أو إلى الأسفل أو إلى الوجهة التي تتحول بها من الحركة الضارة إلى الحركة السليمة، وإنه لحلم من أحلام العلم لو تحقق لكان في مخترعات الصناعة عصمة من بوائقها الجائحة، ولم يوكل رجاء الناس كله إلى عصمة الضمائر والأخلاق.
وسيتحقق هذا الحلم في بقية هذا القرن العشرين أو يظل من أحلال العلم والإنسانية زمنا يعلمه الله، ولكن مسير العالم من التضامن إلى التعاون لا يتوقف عليه، فإذا اشتبكت علاقات التضامن غاية اشتباكها، فالتعاون بين الشعوب العالمية كائن لا محالة ضرورة واختيارا في حقبة من المستقبل القريب لا تطول بعد نهاية القرن العشرين.
الفصل الثامن
أفريقيا وآسيا
إن أربعين سنة مضت منذ الحرب العالمية الأولى قد صنعت الأعاجيب في قضايا القارتين الأفريقية والآسيوية، فماذا تصنع السنون الأربعون التي تمضي من الآن إلى نهاية القرن العشرين؟
لقد كانت القارتان سلعة تباع وتشرى، فأصبحتا بعد الحرب العالمية الثانية على الخصوص شريكتين في سياسة العالم، وإن لم تكونا موفورتي الأسهم في مشاركتها.
ولم يحدث هذا التحول في هوادة ومطاوعة، ولا كان حدوثه مفاجأة بغير مقدماته الطوال، وإنما فصل العالم في هذه القضية بعد أن فصل في قضاياه المتشعبة التي تتوقف عليها، وهي قضية تقرير المصير، وقضية اللون والعنصر، وقضية الاحتكار، وقضية العزلة السياسية، فكانت قضية القارتين هي مجموعة هذه القضايا في دور التفاهم والاتفاق.
ونظرة سريعة - بل نظرة مملوءة بالتدبير والروية - إلى حالة القارتين في مطلع القرن العشرين وحالتهما في منتصفه ترينا أن العالم غير واقف في هذه القضايا، وأن حلوله لها ليست كلها من قبيل الخداع والتمويه كما يحلو لبعض المتحذلقين أن يرددوا ويعيدوا ويبدئوا في الحكم على كل مرحلة كبيرة من مراحل الانتقال، وليست الغفلة في الظن والاتهام بأقل من الغفلة في الثقة والتصديق، بل ربما كان الاتهام الأعمى أضل وأضيع للفكر وللمصلحة من الثقة العمياء.
إن نظرة مملوءة بالتدبر والروية فيما حدث في القارتين منذ الحرب العالمية الأولى ترينا أن الخضوع للحكم الأجنبي كان هو القاعدة المطردة في القارتين قبيل منتصف القرن العشرين، وكان الشذوذ فيهما هو الحكم المستقل أو الحكومة الذاتية، ومن مسائل الحساب - لا من مسائل السياسة - أن نحصى الآن عدد الأمم الخاضعة للحكم الأجنبي، وعدد الأمم المستقلة بحكمها والمشتركة في حكومتها، فنعلم أن الأمر قد تحول من نقيض إلى نقيض، فأصبح الخضوع للأجنبي شذوذا، وأصبح الاستقلال على درجاته قاعدة يعترف بها المتنازعون عليه وغير المتنازعين.
ومن الحذلقة أن يقال: إنه استقلال لم يحققه العمل ولم يثبته الواقع، فإن الفرق فيه كالفرق بين الحدث الناشئ الذي لا يملك التصرف لقصوره وإنكار حق التصرف عليه، وبين الرجل الرشيد الذي يشق عليه أن يفعل ما يشاء وهو يملك أن يفعل ما يشاء عند مؤاتاة الفرص، وملاءمة الظروف، كلاهما قد يشبه صاحبه أمام الواقع الذي لا يقدر عليه، ولكن الفرق بين القاصر والرشيد فرق صحيح في الواقع لا يستهان به، ولا يزهد فيه .
إن الاستعمار القائم على السلام والاحتكار صفحة مطوية لا يقوى أحد في العصر الحاضر على نشرها، وإن العلاقة بين الأمم اليوم علاقة مشاركة يقع فيها الغبن كما يقع فيها الإنصاف ولكنها - كيفما كان الحال - علاقة غير علاقة السلعة التي تباع وتشرى وتحتكر أو تبذل في الأسواق.
وفيما عدا شعوبا قليلة سيأتي موعدها من تقرير المصير لا محالة، يستطيع من يحقق النظر أن يعلم أن حدود الاستقلال قائمة على أساس واحد في جميع القارات، وإنما حدوده القدرة التي تتفاوت كلما تفاوتت حظوظ الشعوب من الحضارة والصناعة والثروة والتربية السياسية، فليس في العالم أمة محكوم عليها بالخضوع الدائم؛ لأنها غير أهل للاستقلال، وليس في العالم كذلك أمة مستقلة تمام الاستقلال إذا كان معنى ذلك أنها تفعل ما تريد وتستبد بالرأي في كل ما تبتغيه، ولكنها تملك من الاستقلال بمقدار ما تملك من العلم والثروة والكفاية السياسية، وكذلك يستقل الآحاد الراشدون في حقوق التصرف والمعاملة فلا حجر عليه بحكم الشريعة، وإنما يصيبه الحجر أو يرتفع عنه إذا أصابه النقص في قدرته، أو عوفي من نقص القدرة بعمله وعمل سواه.
إن الأقوياء في عصرنا هذا يحتاجون إلى من هو أقوى منهم، ومن هو أقوى منهم لا يسمح لهم، ولا يقبل منهم أن يحتكروا الأسواق والميادين، ولا يرى ضرورة لاحتكار الأسواق والميادين لنفسه؛ لأنه قادر على المنافسة والمناظرة بغير احتكار، وهذا هو دستور العلاقات الدولية الجديد بعد دستور الاستعمار القائم على الاحتكار بقوة السلاح. فلا مناص مع هذا الدستور الجديد من علاقة المشاركة كيفما كان اختلاف الأنصباء فيها، وكيفما كانت قسمة الشريك من الغبن والخسارة أو من الربح والغنيمة.
طويت صفحة السلعة التي تباع وتشرى، ونشرت بعدها صفحة المشاركة بين الأكفاء وغير الأكفاء، وهي أشرف وأربح في جميع الأحوال من الصفحة المطوية، وهي - بعد حين - مرهونة بمصير التضامن العالمي إلى التعاون على اضطرار أو التعاون على اختيار.
وسيجري التعاون في مجراه الذي توحيه ضرورات الحوادث ودراية الخبراء، وقد يهدينا تاريخ القرية الصغيرة في ماضيها المعلوم إلى تاريخ العالم الواسع في مستقبله المجهول، فإن القرية قد تمثل لنا أطوار العالم في مستقبله، كما يمثل الجنين أطوار نوعه في ماضيه على قول النشوئيين.
والقرية قد فرغت من تنظيم المبادلات بين أصحاب المال وأصحاب الحاجة، فعالجتها في سوقها الصغير بعلاجاتها المختلفة وهي: العملة، أو المقايضة، أو الرهن، أو الضمان، أو الخدمة سدادا للدين، أو حساب الضائع والمفقود والإحسان، ثم لجأت أخيرا إلى علاج يجمع بين مصالح الباعة والمشترين، وهو جماعات التعاون التي يعتبر المشتركون فيها من البائعين ومن المشترين، ولا يحتاج العالم الواسع إلى ابتداع علاج جديد غير هذه العلاجات التي طال عليها القدم، ولكنه يحتاج إلى الأساليب التي تمكنه من تطبيقها في نطاقه الواسع، ويحاول الآن شتى المحاولات فيهتدي حينا، ويضل حينا، ولن يزال ردحا طويلا بين الهدى والضلال.
ومهما يكن من صواب الآراء التي توحي بتلك المحاولات، فالتجارب العملية حيلة ضرورية لا تغني عنها محاولة يختارها أصحاب هذه الآراء.
فهذه التجارب العملية هي التي تهدي كل أمة إلى اجتناب الجهود الضائعة في تقدير لوازمها والموازنة بين ما تحتاجه من العالم، وما يحتاجه العالم منها، واستمرار الإحساس بالنقص والتعويض من هنا تارة ومن هناك تارة أخرى، خليق أن يوقظ الغافل، ويرشد الضال، ويصحح المخطئ عن جهالة منه وعن لجاجة في الباطل.
وإذا كانت المحاولات من أهل الرأي لا تغني عن التجارب العملية، فالأمر الذي لا شك فيه كذلك أن التجارب العملية لا تغني وحدها عن محاولات أهل الرأي، وعن اختيار الحلول التي تتمشى مع حلول الضرورة فتعجل خطاها وتقوم اعوجاجها، وقد كان التساند بين ضرورات الواقع ومحاولات المدبرين والمتدبرين ديدنا طبيعيا يتكرر في كل حركة من حركات التاريخ الكبرى، ويصدق على أعمال الأفراد، كما يصدق على أعمال الجماعات.
فالهيئات الدولية - ولو لم تكن لها سلطة عامة - تستطيع أن تجمع الإحصاءات الدقيقة والبيانات الوافية، وأن تضع أمام المسئولين في كل أمة تقديرا نافعا يلاحظونه في استخراج محصولاتهم ومصنوعاتهم، فلا تضيع الجهود عبثا في زيادة صنف لا يطلب، أو نزارة صنف مطلوب.
والحواجز المصطنعة التي تقام بين المعسكرين المتقابلين لا تثبت طويلا أمام الضرورات الحقيقية التي يحسها الناس في أرجاء الكرة الأرضية، والأخطار الملفقة التي يخلقها الحاكمون لحماية أنفسهم تتطلب من الأمم فوق طاقتها، وتدفعها جميعا إلى أخطار حقيقية يعجز الحاكمون عن إخفائها.
وليست العقبات في طريق التعاون بين الأمم وليدة اليوم، ولا هي مما يزول غدا كل الزوال، ولكنها صحبت الإنسان في عمله لذات نفسه وعمله لأهله وقومه، ولا تزال تصحبه حيث كان، لا يصلحها ولا يخفف ضررها إلا ما يخفف كل ضرر اجتماعي من تطور الأخلاق، وتطور الضمانات التي تكف عدوان المعتدي، وتكفل للمصاب بالضرر أن يدفعه عنه بقوة العرف والقانون أو قوة الاتحاد بين المشتركين في المصاب الواحد، وعلى هذه الوتيرة زالت عقبات كثيرة بالأمس وتزول غدا عقبات كثيرة لا مناص من زوالها مع تبدل الأحوال.
ولنرجع إلى مثل القرية التي عالجت شئونها في مشكلات العملة والمقايضة والرهن والضمان وسائر ما هنالك من أشباه هذه المشكلات، فالتاجر الذي يملك في القرية مالا يقرضه لأناس من أهلها ويشارك به أناسا آخرين في الزرع والماشية، يكسب بهذا المال جاها يستغله في المشروع وغير المشروع من مآربه ولباناته، وقد يستغله في ابتزاز الحقوق وهتك الأعراض وإيذاء الأبرياء، ولكنه لا يجعل هذا العمل قاعدة يعلنها، ولا هو يعترف به إذا اتهمه به أحد ضحاياه، ويختلف نصيب التاجر من هذا الجاه باختلاف القرى واختلاف الآداب والعلاقات بين أهلها، فيستطيع في قرية ما يعجز عنه في غيرها، وقد يصبح الجاه ضريبة في عنقه يؤديها لمن يحترم جاهه ويقبل مكانته بين عشيرته، وقد يصبح ولا جاه له بينهم إذا عرفوا كيف يستغنون عن تجارته، وكيف يتبادلون البيع والشراء بينهم على سنة التعاون، وتكافؤ المنافع والصفقات، وإن هذه الأحوال العامة في القرية لهي من معدن الأحوال العامة في الدنيا العريضة بما رحبت، ولعلها هي هي بعد تكبير الأحجام وامتداد المسافات والأقوام، والأعوام. وقد كانت الدولة العظيمة قبل مائة سنة تسيطر - كتاجر القرية - على أسواق الدنيا وتكسب بعدتها وعتادها جاها يتيح لها أن تسخر شعوبها تسخير الأرقاء، وأن تستفيد من حاجاتهم إليها ما يستفيده التاجر من حاجات العملاء، فأصبحت الدولة العظيمة وهي اليوم عاجزة عما كانت تقدر عليه قبل مائة سنة، وقبل عشرين سنة، وتغيرت أمور كثيرة في الدنيا قبل أن يتم هذا التغيير؛ بعض هذه الأمور الكثيرة أن الدولة العظيمة أصبحت دولا عظاما تتنافس فيما بينها، وتحد كل منها من إرادة غيرها كما يحد غيرها من قدرتها، وبعض هذه الأمور الكثيرة أن القابضين على أزمة الدولة في داخلها تغيروا وتغيرت مصالحهم في حكم أنفسهم وحكم الشعوب التي دخلت في حوزتهم، وبعض هذه الأمور الكثيرة أن السيادة على الشعوب بالقوة والقسوة أصبحت من الصفقات الخاسرة التي تزيد كلفتها على غنيمتها، وبعض هذه الأمور الكثيرة أن المغلوبين عرفوا حقوقهم وعرفوا حاجة الغالبين إليهم، وعرفوا بينهم روابط من الشكاية المشتركة، والمقاومة المشتركة لم تكن معروفة لأسلافهم، وجملة هذه الأمور تجيز لنا أن نوازن بين عوامل التضامن العالمي، وعوامل الفرقة والشقاق، فلا نبالغ إذا قلنا: إن الأولى راجحة على الثانية؛ لأن عوامل التضامن مقبلة متقدمة وعوامل الفرقة والشقاق مدبرة مترددة تنكس على عقبيها.
1
كانت القارة الأفريقية تسمى بالقارة المظلمة؛ لأنها بقيت مجهولة على خريطة الكرة الأرضية يسكنها السود فيما عرف في أطرافها، ويحيط بها سواد من الظلام والخفاء.
وكانت تسمى أحيانا بالقارة المتنحية كأنها تركت ركب الإنسانية يسير في تاريخه الطويل، ولبثت في مكانها كما كانت في مجاهل ذلك التاريخ.
وليست هي اليوم بالقارة المظلمة؛ لأنها تكشفت عن دخائلها، وتسلطت عليها أنوار الاستطلاع في جوفها ومن حولها، فلم تبق منها زاوية مجهولة أو بقعة غير مطروقة.
وليست هي بالقارة المتنحية؛ لأنها أدركت ركب العالم في نهاية شوطه ويرجى أن تماشيه وتمده فيما يستقبله من مراحل حضارته.
وقد صدق من سماها في السنوات الأخيرة بقارة الغد؛ لأنها في الغد تبدأ مصيرها الذي تختاره بعد أن تفاهم العالم الإنساني على حق الشعوب جميعا في تقرير المصير.
وكل مصير لأفريقيا لا يكون مصيرا مرضيا للأفريقيين يخل بتضامن العالم، ويعوق سيره إلى التعاون والمؤاخاة، فلا تعاون بين الأمم في عالم يتخذ من أفريقيا مطية يسوقها إلى مصير غير مصيرها الذي ترضاه أو يتخذها ضيعة للمتغلبين المستغلين يبتزون ثمراتها، ولا يتركون لأبنائها من تلك الثمرات غير فضلة الأجير المغبون.
إن سكان أفريقيا ثلاث طوائف: أولها بطبيعة الحال أبناء أفريقيا الأصلاء الذين ولدوا فيها وولد فيها من قبلهم أسلافهم إلى أزمنة مجهولة، والطائفة الثانية هم المهاجرون من القارة الآسيوية وأكثرهم من العرب والهنود وأبناء الجزر الملاوية، والطائفة الثالثة أوروبيون مستعمرون، وليس للطائفة الثانية مشكلة عسيرة الحل؛ لأنها تبقى وتندمج في القارة أو تعود إلى أوطانها باختيارها. أما المشكلة التي لا تحل بالحسنى فهي مشكلة المستعمر الذي يبسط سيادته على أهلها بغير أمل في انتهاء هذه السيادة، إلا أن يظل الأفريقيون تابعين له مسخرين في خدمته أو يثوروا عليه فيطردوه، ومهما يبلغ من سلطانهم على القارة فهو أضعف من الغاية التي يطمحون إليها والنية التي يبيتونها، وهي نية الإصرار على استعباد مئات الملايين بغير أمل لهم في خلاص قريب أو بعيد، وتلك نية تعارضها الطبيعة كما يعارضها أولئك الملايين المصابون بها، وقد يتخاذل دونها سلطان المستعمرين يوما من الأيام، فلا تجتمع كلمتهم عليه في موقف الحسم حيث يحتاجون إليه، ولن تصبح أفريقيا وطنا للمستعمرين إلا بوسيلة واحدة، وهي أن يصبحوا أفريقيين كسائر الأفريقيين، وأن يجيء اليوم الذي يقفون فيه مناضلين عن أفريقيا كما فعل الأمريكي في نضاله مع البريطان والأسبان.
وسيخرج الأفريقي الأصيل من القرن العشرين بفائدة أكبر من فائدة تقرير المصير، إذا تعود في السنين الباقية منه أن يلتمس الدراية التي تجعله يدا عاملة في تعميم النفع بخيرات بلاده وينابيعها الغنية، إذ لا معنى لتقرير المصير بغير هذه الدراية التي يقعده عنها اليوم جهله وسقمه، وما ينوء به من بقايا الخرافات، وتقاليد السذاجة في النظم الاجتماعية. ومما يبعث الأمل في نهضة لالتماس هذه الدراية أن طلاب المصالح العالمية من أمم الحضارة محتاجون إلى تعليمه ، والانتفاع بمعونته، وهم يجدون أن التعاون معه على فهم ورضى أيسر من تسخيره على الرغم منه، أو الاستغناء عنه في تدبير مرافق بلاده.
يقول الخبير الاقتصادي كلارانس راندال: «إن المارد النائم يستيقظ، وإن قلب أفريقيا في الشرق والغرب وفي الشمال والجنوب يخفق بآمال جديدة ومطامح جديدة، وإن الأفريقيين مستعدون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وأن يقرروا مصيرهم بأيديهم. إن الروح الاستقلالية التي كانت سائدة بيننا في عام 1776 أصبحت الآن منتشرة في هذه البلاد الشاسعة حيث تكونت من البراري أمم جديدة لها نفس التصميم والجرأة اللذين امتاز بهما الرواد الأوائل من أسلافنا، وأفريقيا التي كانت قارة عريقة في القدم يوم ولد متوشالح قررت اليوم أن تندفع قدما إلى حضارة القرن العشرين، وهي في ميزان القوى موفورة الثراء في الموارد الطبيعية التي سيحتاج إليها العالم الصناعي ذات يوم، ولاتحاد أفريقية الجنوبية مستوى عال من الرخاء القائم على أساس من مناجم الذهب والماس والأورانيوم، ولاتحاد روديسيا ونياسالاند أعظم مستودعات النحاس والكروم في العالم، واكتشفت أنجولا النفط في أراضيها، وفي الكونغو البلجيكية معدن الكوبالت والأورانيوم وصناعة الماس، وتستعد أفريقيا الاستوائية الفرنسية لإقامة مشروع ضخم لخامة المنجنيز، وفي نياجرا الصفيح والكوبلت، في ليبيريا وأفريقية الغربية الفرنسية خام الحديد، وفي غانة تكثر أشجار الموجنة حتى لتصنع منها سلال المشروبات الخفيفة، وتستعمل أخشابها في الشئون العادية، وإن أعظم موارد القوى الكامنة على كل حال لهي القوة الرائعة التي لا حدود لها؛ قوة توليد الكهرباء من مساقط الماء.
ففي العصور الجيولوجية عندما تكونت القارة الأفريقية ألفي منحدر هائل من المحيط الأطلسي إلى داخل القارة مواز لسواحلها الغربية، وعلى هذا المنحدر الذي يشمل معظم الجانب الأدنى من أفريقيا تنساق الأنهار الكبرى إلى الجريان فوق شلالات قبل أن تنصب في المحيط الأطلسي، ولقد كانت هذه الشلالات حواجز منيعة في وجه السفن البحرية، فتأخر اكتشاف ما وراءها، ولكن هذه الشلالات والمساقط تعتبر الآن بالنظر إلى أفريقيا التي أفضت بأسرارها للطائرات عشرات من أمثال شلال نياجرا، وهي تنتظر الترويض والاستغلال، وهناك مستودعان كبيران لتوليد الكهرباء من مساقط المياه في طريقهما إلى الظهور الآن، فنهر زامبيزي يقوم عليه خزان كاريبي الذي شارك البنك الدولي في تمويله وسيمد المناجم والمصانع في روديسيا بالقوى المحركة الوافرة، ولسوف يكون للكاميرون الفرنسي قريبا خزان في إقليم إيديا على نهر ساجانا، وهناك مشروع خزان انجا على نهر الكونغو في الكونغو البلجيكية، وهو مشروع يبلغ من الضخامة أن تساوي القوى المولدة منه بعد تمامه خمس القوى التي تتولد في الولايات المتحدة، وعدا هذا وضعت الطبيعة إلى جانب كل منطقة لتوليد الكهرباء على وجه التقريب مستودعات منجمية لا مثيل لها من البوكسيت الذي يكفي لتزويد العالم كله بمعدن الألمنيوم عدة أجيال، وقد حدث تطور لا بأس به في وسائل المواصلات، فإن خطوط الطيران التي تستخدم الطائرات الحديثة وتقدم أحسن الخدمات تعبر سماء القارة ذهابا وجيئة في كثير من الاتجاهات، ويقتحم شريط السكة الحديدية طريقها إلى داخل القارة، وأصبح في مقدور سيارة نقل أن تبدأ رحلتها في الشاطئ الشرقي عند موزنبيق وتمضي إلى الساحل الغربي فوق طرق ممهدة يتصل بعضها ببعض خلال روديسيا وأنجولا، وأنشئت في كل مكان على كلا الشاطئين موانئ جديدة، وتزداد الأجور زيادة مطردة لا سيما على طول الشاطئ وفي مناطق المناجم كما تزداد الواردات من البضائع والسلع المستنفدة.»
وهذه الموارد التي ذكرها الخبير المطلع لا تستوعب جميع الموارد المعروفة، ولا جميع الموارد التي يمكن أن تعرف من قبيلها، وهي كلها موارد موجودة مهيأة للتثمير والاستغلال بأدوات المصانع العصرية، ولكنها غير الموارد المدخرة للتثمير والاستغلال من ينابيع غير معهودة، ولا مطروقة في الصناعة العصرية، ونريد بها موارد الثروة التي يمكن أن تستخرج من إصلاح الصحارى الكبرى واستخدام أجوائها وشواطئها لخلق المناخ الملائم والتربة الغنية بثمراتها الزراعية والصناعية، فهذه إذن قارة مستوفية لعتادها على أهبة لمجاراة أغنى القارات وأرقاها في تزويد العالم بمطالبه وضروراته، لا تعوزها كيما تتم أهبتها إلا أن يملك أهلها عدتهم من الحرية والدراية، فهل يمر الزمن دون أن يقترب ذلك اليوم الذي يستوفى لها عتادها من حرية أهلها ودرايتهم، كما استوفت عتادها من موارد الصناعة والزراعة؟ وهل ترجع إلى أمسها المظلم أو تتقدم إلى مستقبلها ومستقبل العالم معها؟ قبل أن ينتهي القرن العشرون ستعلم الدنيا المتطلعة مدى الخطوات التي تتقدم بها قارة الغد إلى مصيرها، وسترى أن تذليل مصاعب التقدم أهون جدا من الصعوبة التي تواجه العقل حين يتخيلها ناكصة على عقبيها مدبرة إلى ما كانت عليه يوم كانت كهفا مغلقا أو فرقة متنحية عن مكانها من صفوف الأمم في ركب الحضارة، ونحسب - على هذا - أن وصف القارة الأفريقية «بالتنحي» عن الركب ظلم لا تقره دعوى النشوئيين إذ يتتبعون أول خطوة خطاها البشر من حظيرة الحيوان الأعجم فيرجعون بها إلى مجاهل أفريقيا في أقدم عهودها، فإذا صدق ظنهم لقد كانت هذه القارة أول من سبق الصفوف، وكانت حركتها أعظم من أن يقاس بها مسير الحضارة من مبدئها إلى منتهاها اليوم في عصر الذرة والطائرة الفلكية، ولقد تكون لها في الغد خطوة جديدة تضارع في نسبة الزمن خطواتها الأولى.
أما القارة الآسيوية، فهي كالبرزخ بين أفريقيا وسائر القارات، كانت تقرن بأفريقيا فتشملان مقاما يطلق عليه الشرق على سبيل التجوز أو من باب التسمية السياسية التي لا تتقيد بالحدود الجغرافية، لأن هذا الشرق كان يخضع لحكم
2
الأجنبي تارة، وللامتيازات الأجنبية تارة أخرى، فكان نحو خمسمائة مليون من الهنود والأندونسيين، وأبناء الجنوب الشرقي في آسيا يخضعون لحكومات أوروبية، وكان نحو خمسمائة مليون آخرين في الصين وما حولها يخضعون لامتيازات دولية تمتزج فيها سيطرة السياسة بسيطرة الاقتصاد، ولكن آسيا اليوم لها شأن أفريقيا في علاقة الشرق بالدول الكبرى، وتكاد أن تكون قد فرغت من قضية الحرية والسيادة بينها وبين حكامها من صميم أبنائها، فارتبطت هذه القضايا المعقدة بأشتات من قضايا النظم الاجتماعية، ومسائل المعيشة، وحقوق الرعايا المحكومين وسلطات الرعاة الحاكمين، وهذه هي القضايا التي تجعلها برزخا بين الأمس والغد، كما جعلتها بزرخا بين أفريقيا وسائر القارات، فهي من ناحية تنظر إلى الغد لتعالج مشكلات المعيشة والحكم على أضواء العلم الحديث والحضارة الصناعية، وهي من غير هذه الناحية تنظر إلى ماضيها الذي أخرج للعالم في جميع القارات عقائده وأديانه وقدم له شرائع بوذا وكنفشيوس، كما قدم له شرائع موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، فما من سؤال عن آسيا أهم من السؤال عما تعتقده وبماذا تدين، ويعاد هذا السؤال اليوم على مفترق الطريق ليسمع العالم جوابا جديدا نحو الإيمان أو نحو الإنكار، وإلى الحياة الروحية السماوية، أو إلى الحياة المادية الحيوانية، وأمل بني الإنسان أن تكون لآسيا - قارة الأمس - بقية من ميراث الروح تمدهم به في بحثهم عن نور الهداية، فماذا تملك آسيا من نورها الخالد في عصر النور الذي تتطلع إليه، كما يتطلع العالم في جميع قاراته؟ ماذا تملك من نورها بعد أن أصبح النور في لغة العلم والدين رمزا لمعاني الحس ومعاني التجريد والتنزيه؟
إن أربعين قرنا مضت لا تنتهي إلى غير شيء في هذه السنين الأربعين التي بقيت من القرن العشرين.
الفصل التاسع
المجتمع
من أضر الآفات بنظام الاجتماع أن تكون الطبقة الوسطى في الأمة محرومة من وسائلها لإبلاغ صوتها وإثبات حقها، وتقرير مشيئتها.
فهذه الطبقة التي تؤدي للمجتمع معظم أعماله المتوسطة بين اقتناء الثروة والقيام بالصناعات اليدوية، لا تملك المال والجاه كما يملكها العلية، ولا تملك سلاح الإضراب والعمل المشترك كما يملكه أصحاب الأجور، ولو ملكت معها بعض ما ينبغي لها من المشاركة في الرأي والنفوذ لاستحال قيام الحكم المطلق بسند من أصحاب المال والجاه أو بسند من أصحاب الأجور والصناعات اليدوية.
إن المجتمع المثالي هو المجتمع الذي تستطيع كل طبقة فيه أن تأخذ بنصيبها وتذود عن حقها بوسائلها، ومثل هذا المجتمع لم يوجد بعد على تمامه، ولكنه يوجد شيئا فشيئا كلما اتسع نطاق الصناعة الكبرى وتعددت مرافق المعاملات الاقتصادية، وحالة الطبقة الوسطى هي أصدق المقاييس التي تقاس بها درجة المجتمع من الارتقاء والانتظام والعدل والحرية، فلا سبيل إلى استبداد فئة بغيرها في مجتمع تتكافأ طبقاته وتتوازن في القدرة والوسيلة، وإنما ينجم الاستبداد حين تتغلب فئة على سائر الفئات، وتعجز الفئات المغلوبة عن مقاومتها ، ورد عاديتها بسلاح من أسلحة المصلحة والكفاية.
فأصحاب الثروة قلة تعوض قلة العدد بوفرة الجاه والنفوذ، وأصحاب الأعمال اليدوية كثرة تعوض الثروة بالقدرة على الاتحاد والاشتراك في المطالبة، وكلتاهما تستطيع أن تتحكم في المجتمع الذي تقف فيه طبقته الوسطى مشلولة الحركة محرومة من وسائل جمع الكلمة والإعراب عنها، ولكنهما لا تستطيعان منفردتين أن تتحكما في أمة تتوسطها طبقة غير قليلة العدد، ولا محرومة من وسائل الاتحاد، كالطبقة الوسطى التي تظهر بين الفريقين كلما اتسع مجال الصناعة، وتعددت الأعمال الفنية، وضروب التصرف في التجارة والزراعة، وجملة المرافق الاقتصادية.
ومن بوادر الأمل في المستقبل أن المجتمع الحديث يتمشى إلى هذه الغاية المثالية، وأن «الآلة» تعود فتظهر في التاريخ أداة من أدوات النجاة كلما استحكمت مشكلات الاجتماع، وتفاقمت من جرائها زعازع الفتنة والبغضاء.
فالثروة في المجتمعات الصناعية لا تكفي وحدها للقبض على زمام النفوذ؛ لأنها تحتاج أبدا إلى خبراء الصناعة والإدارة والاقتصاد، وليس في وسع صاحب الثروة أن يتخذ من المصنع الكبير سلاحا يملي به مشيئته على قومه؛ لأنه - وهو يملك المال - يضطر إلى معونة المهندس والمدير وخبير الاقتصاد، ومتعهد الترويج والإعلان، وربما جهل من شئون ثروته ما يعلمه هؤلاء ويقدرون على التصرف فيه.
وهذه الثروة التي كانت تنحصر في يد واحدة أو أيد قليلة يستدعي نظام المعاملة في مجتمعات الصناعة الكبرى أن تتفرق بين الشركاء والمساهمين على حسب الحصص والسهوم، فيحسب رأس المال بالملايين ويحسب مالكوه بالمئات والألوف، ويصعب تقسيم المالكين في هذه الحالة إلى طبقات وفئات يقف بعضها من بعض موقف المغالبة والصراع، ويسري مع نظام المساهمة نظام التعاون بين البائعين والشراة على سنة المشاركة والتضامن في الكسب والخسارة، وقلما تتباعد المسافة بين الطبقات حيث تحسب الثروة بالحصص والسهوم بين المتعاونين والشركاء.
وقد كان العمل اليدوي خلوا من الفطنة والخبرة الفنية في مصانع القرن التاسع عشر، وكان العمال اليدويون هم الكثرة الغالبة بين إجراء الصناعة يزيد عددهم على عشرة أمثال الحذاق من الخبراء ومساعديهم الفنيين ، فتطورت الصناعة ولا تزال تتطور حتى اختلفت النسبة بينهم أبعد اختلاف، وأصبح العمل اليدوي أقل الأعمال في المصانع الكبرى، وما يصاحبها من المصانع الصغرى وأجهزة الصناعة في البيوت والمكاتب وأندية الفن، ومعاهد التجارة وحقوق الزراعة، وتلاحقت الدرجات من أعلى وظائف الهندسة والفن إلى أدناها، فاشتملت على طبقات مشتبكة الأطراف يصعب التمييز بينها والفصل بين مصالحها عند تمييز الطبقات على النحو القديم.
وكل تطور ينمو بالمجتمع نحو التقارب في الطبقات والتشابك في المصالح والحقوق فهو خطوة ثابتة تنمو به نحو الاستقرار والحرية، فلا يتأتى في مثل هذا المجتمع أن تسطو فئة منه على الفئات الأخرى، ولا هي بحاجة إلى ذلك تلح عليها فتحرضها على السطو والثورة، إذ كان معظم أسباب السخط والتمرد إنما ينجم من الهوة الفاصلة بين فئة وفئة أو من الظلم الواضح في تقسيم الأقدار والأرزاق، وما من داع إلى الطغيان والاستبداد بالأمر في مجتمع تقل الفواصل وتكثر الروابط ويرجع فيه تفاوت الأقدار والأرزاق إلى الدراية بالعمل النافع للجميع، ولا يرجع إلى التقاليد المبرمة والحواجز المفروضة بغير فارق معقول.
فالتعاون بين الطبقات هو التطور الملازم للصناعة الكبرى، ولا استقرار قبل بلوغ ذلك الطور الذي يستعصي فيه على طبقة من الطبقات أن تستبد بغيرها، ولا مفر من الاستبداد في مجتمع تتغلب فيه إحدى الفئات، وتجور على سواها.
أما ثورة المحرومين فليست من لوازم الصناعة الكبرى، وليست هي بالطور الأخير المحتوم الذي تنتهي إليه هذه الصناعة، وإنما تحدث هذه الثورة في عهد الصناعة قبل اتساعها واستقرارها، كما حدثت قبل عصور الصناعة في التواريخ الغابرة، ولا بد أن تحدث مع الظلم والتفاوت كلما تهيأت لها بواعثها ومشجعاتها، ومنها - بل في مقدمتها على الدوام - أن تضعف هيبة الحكم القائم، وأن يتيسر للمحرومين أن يتألبوا في مكان واحد، إما في حالة كحالة الجند المنهزمين، وإما في حالة كحالة العمال والزراع المحشودين في جوار واحد بين المناجم والحقول.
حدثت أشباه هذه الثورات بعد زوال الدولة القديمة في مصر قبل أربعة آلاف سنة، فشوهدت فيها جميع أعراض الثورات التي يربطها بعضهم بصناعة القرن العشرين، ويحسبها الطور الأخير من أطوار تاريخ الإنسان إلى نهاية الزمان، فجاء في محفوظات البردي التي تخلفت لنا من عهود الأسرات المالكة بعد السادسة أن العامة شكوا في الدين وأضربوا عن الشعائر والقرابين، وأن أحدهم كان يقال له: تقرب إلى الإله المعبود فيقول: لو عرفت مكانه لحملت إليه قربانه، وأن أواصر الأسرة قد انحلت، فاستباح الأخ قتل أخيه، واجترأ الولد على حرمات أمه وأبيه، وأن الزواج بطلت قداسته واستبيحت أعراض المصونات من كرائم البيوتات، وأن التي كانت تنظر وجهها في الماء أصبحت تقتني المرآة والحلية المنتقاة، وأن أصحاب السمت والوقار خلعوا سمتهم ووقارهم وتزلفوا إلى الخدم وشذاذ الآفاق، وأن الضياع هجرت والقصور دمرت، واستولى من استطاع على ما استطاع كما سولت له المآرب والأطماع، وحدث هذا كله بعد حقبة جارت فيها علية القوم على سفلتهم، وانحصرت فيها الثروة بين أمرائهم وسرواتهم، وتوالت فيها الغارات والقلاقل من خارج البلاد وداخلها، وسيق فيها الألوف من الزراع والعمال حشدا بعد حشد لبناء الأهرام وتشييد الهياكل والتنقل من سخرة إلى سخرة في خدمة الرؤساء وولاة الأمر بغير أجر، بل بغير قوت في كثير من الأحيان غير الخبز القفار.
وحدثت حركة الأرقاء في إسبرطة قبل الميلاد بأربعة قرون، وهم الأرقاء المعروفون باسم الهيلوت
Helots
أو باسم الضواحيين نسبة إلى الضاحية
وكلهم من الفلاحين زراع الأرض بالحصة والمقاسمة في الثمرات، وقد تجمعوا بالألوف على مقربة من المدينة وهزموا قادة إسبرطة، وألجئوا هذه المدينة الحربية الصارمة إلى طلب النجدة من جيرانها، فلم تقدر على صد الأرقاء الثائرين إلا بعد حوالي عشر سنوات.
وحدثت حركة الأرقاء في الدولة الرومانية بقيادة سبارتاكوس (سنة 72ق.م) الرقيق الذي تعلم المصارعة وتمكن من جمع زملائه في الرق، فحشد منهم قرابة سبعين ألفا ودوخ الجيوش الرومانية بحملاته القوية، حتى استنفد جهود الدولة وكلفها أن ترصد له أكبر قوادها من طراز كراسوس
Crassus
وبومبي
فلم يخمدوا ثورته إلا بعد عناء شديد.
وحدثت حركة الأرقاء في العصر الإسلامي بعد منتصف القرن الثالث للهجرة «وبعد منتصف القرن التاسع للميلاد» حين ثار زنج البصرة بقيادة علي بن محمد بن عبد الرحيم، وما برحت ثورتهم تحتدم وتخبو من أيام الخليفة المهدي بن الواثق إلى أيام الخليفة المعتمد بن المتوكل، وتمكن هؤلاء الزنج من التجمع؛ لأنهم كانوا يعملون في الموانئ وسكنى الشواطئ كما كانوا يعملون في الزراعة ونقل البضاعة، ولم يكن هؤلاء الأرقاء ولا أرقاء «سبارتاكوس» أو أرقاء الهيلوت والضواحيين عمالا مسخرين في صناعة كبرى أو صغرى، بل كانوا فلاحين أو حفارين في المناجم أو حمالين على الشواطئ جمعتهم أماكن عملهم ووحدت الشكاية، ووحدت المصلحة بينهم، فخرجوا في تلك الحركات الاجتماعية قبل عصر الصناعة الكبرى بأكثر من عشرين قرنا في الزمن القديم ونحو عشرة قرون في زمن الإسلام.
وعملت في كل حركة من هذه الحركات الاجتماعية عواملها المشتركة التي لا بد منها في جميع العهود، وهي عوامل الدعاية والقيادة والهزيمة أو سقوط الهيبة وظهور العجز عن تدبير الأمور من قبل الهيئة الحاكمة.
ولا نعلم على التحقيق كيف كانت دعاية الثورة المصرية بعد عهد الأهرامات، ولكن تفرق الدعاة والأسر في الوجه القبلي على الخصوص، مع شيوع الشكوى بين الفلاحين قد يدل على دخيلة الدعوة التي جذبت كل فريق من الثائرين إلى زعيم من زعماء الأسر وطلاب العروش.
أما ثورة الهيلوت فالمعروف عنها كثير، ومن هذا الذي عرف عنها أنها رزقت القيادة الحسنة على يدي أرستومين
Aristomene
وأرستديمس
Aristodemus
وجاءتها دسائس الفتنة الخارجية من جانب الفرس مسخرين لها أناسا من الطامحين إلى الملك على رأسهم القائد بوزانيوس
وأناسا من رؤساء العصابات كانوا على خطر دائم من فتك الشرطة الخفية المختصة بتعقب الأرقاء البارزين بين صفوف أبناء جلدتهم، وكانت لهم خفية خاصة تترصدهم يسمونها الكربتية
Krypteia
وتشبه الخفية القيصرية قبل الثورة الشيوعية في نظام التجسس، وحبائل الإيقاع والاستطلاع.
والمعروف عن ثورة الأرقاء على روما أكثر من المعروف عن ثورة الأرقاء على إسبرطة، قياسا على اشتهار الأنظمة الرومانية واشتباكها بالأمم المحيطة بها، فلا ينظر المؤرخ في تفصيلات الحوادث التي انتهت بنشوب ثورة سبارتاكوس إلا وجد فيها جميع العوامل التي تخلف هذه الثورات من الأزمات السياسية والاقتصادية إلى هزائم الحروب، وسقوط الهيبة إلى تحريض الدعاية، وإمكان حشد الثائرين في صعيد واحد.
تعاقبت الغارات على روما من برابرة الشمال في القرن الأول قبل الميلاد، وانقسم ولاء الجيوش الرومانية بين المشرق والمغرب، وتضعضعت الحكومات القنصلية أو الشبيهة بالجمهورية ومهدت الطريق لقيام سلطان الاستبداد، وظهور الحاكمين بأمرهم من القادة وزعماء العشائر، وخابت آمال المصلحين في برامج الإصلاح، ومنها تقييد الملكية الزراعية، ورسم الخطط الواسعة لتوزيع الأرض والثروة بين الملاك الكبار والصغار بالتدريج.
وكان الأخوان طيبريوس وجايوس جراشي
Gracchi
قد استنفدا الحيل في إقناع العلية وأعضاء مجلس الشيوخ بإعادة توزيع الأرض العامة لزيادة عدد الملاك الصغار، واستصدر أولهما من مجلس الشيوخ قرارا بالحد الأقصى للأرض الزراعية العامة، فجعله ثلثمائة فدان (سنة 133ق.م) ثم جاء أخوه فأراد أن يتوسع في تعميم الحقوق السياسية وأنشأ طائفة من المشترعين دون طائفة الشيوخ وكل إليها الحق في محاسبة الولاة السابقين ومن إليهم من رجال الدولة، وكانت هذه المنازعات على الحقوق السياسية والحقوق المدنية بداءة الانقسام بين طوائف العلية من سادة المجتمع الروماني القديم، واتفق هذا في الوقت الذي تتابعت فيه غارات البرابرة الشماليين على تخوم الدولة، فكان عجز الحاميات العسكرية عن صد المغيرين حجة مقنعة سوغت للقائد جايوس ماريوس أن ينظم الجيش بقيادته ويستغل سمعته في الحروب الأفريقية للاستئثار بالسلطة في حروب الدفاع عن تخوم الشمال، وجر هذا الاستئثار إلى انقسام الدولة بين جيش الوطن بقيادته، وجيش الولايات المتحدة بقيادة كرنيلوس سولا، ووقعت بين الفريقين معارك عنيفة لم تنحسم قبل انقضاء سنوات في القلاقل والفتن والأزمات، خرج منها «سولا» منتصرا على ماريوس حوالي سنة احدى وثمانين قبل الميلاد فدانت له الدولة بالطاعة حوالي سنتين، ولم تنقض شهور على موت سولا (سنة 78ق.م) حتى تجددت المساعي الحثيثة التي تتجه من كل جانب إلى هدم النظم الجمهورية، وإقامة السلطان المطلق بزعامة هذا أو ذاك من القادة المتنافسين، وفي هذه الفترة نشبت ثورة سبارتاكوس، فوجدت لها أشياعا من أشتات الأسرى الذين جاءت بهم حروب الرومان في تراقية - وطن سبارتاكوس - وبلاد الغال وسائر أرجاء الدولة الواسعة، وكان منهم أناس لحقوا بالجيش وتدربوا فيه على الأعمال الحربية، وأناس آخرون من رعاة الجنوب في إيطاليا ممن كانوا يحملون السلاح لحماية قطعانهم
Latifundia
ويشتبكون في حروب كحروب العصابات كلما ضعف سلطان الحكومة القائمة، فانقاد - لسبارتاكوس - جيش كبير من المقاتلة والمصارعين بعضهم من الأرقاء، وبعضهم من الشذاذ النافرين، وتمكن من الانتصار على جيش الدولة بقليل من العناء (73ق.م) ثم هزم الجيوش التي جردت لقتاله بقيادة القناصل والولاة في بلاد الغال، واستشرى خطبه حتى كاد أن يحكم البلاد الإيطالية فيما وراء العاصمة، ولم تقدر عليه الحكومة بجيوشها التي تخلفت من أيام النزاع، وانقسام الولاء بين القادة، حتى تصدى للأمر رجل من رجال «سولا» الكفاة هو القائد كراسوس، فجند لقتاله جيشا جديدا تولى تدريبه وتنظيمه على يديه، ودارت الدائرة على سبارتاكوس في معركة أبوليا
Apulia (71ق.م) وقد كاد أن يفلت بفلول جيشه على أسطول من السفن الصغيرة عند مسينا. ثم تبين أن الثائرين لم يكونوا جميعا من الأرقاء المملوكين لسادة معروفين، وأحصي منهم نحو ستة آلاف لم يعرف لهم سادة يملكونهم، ولم تكن لأكثرهم سابقة في الرق، وإنما كانوا مع طائفة من الفلول الهاربين ثوارا على الظلم والخلل، وطلابا للحرية والحقوق الإنسانية.
والمعروف عن ثورة صاحب الزنج في الدولة العباسية أكثر مما عرف عن ثورة الأرقاء في الدولة الرومانية؛ لأنها حدثت في عهد تاريخي وافر المراجع والمآخذ قريب بالنسبة إلينا في أحواله وأوقاته، ومصادر دعوته ودعواه، وقد كانت الدعوة والدعوى معا كأوهن ما تكون الدعوات والدعاوى من السخف والتضليل، ولكنهما فعلتا فعلهما المعهود مع ضعف الدولة واحتشاد الثوار في مكان واحد وسهولة انتحال الحجة التي يستند إليها الثائر على الدولة القائمة في أعنف أوقات النزاع بين العباسيين أصحاب السلطان، والعلويين أصحاب الحق في عقيدة الأكثرين من أبناء الإقليم وما جاوره من الإقليم، ورواية أخبار هذه الثورة من وجهة نظر غربية أدنى إلى التناسق مع أخبار الثورات من قبيلها في تاريخ اليونان والرومان، ولهذا نرويها هنا كما لخصها «سير وليان موير»
Muir
في كتابه عن تاريخ اضمحلال الخلافة إذ يقول من أخبار سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة (869م) ما يلي:
إن فتنة الزنج أشاعت الذعر والفتك من حولها خمس عشرة سنة، وكان زعيمها فارسيا انتحل النسب إلى علي بن أبي طالب، فكان يدعو أول الأمر بهذه الصفة إلى بعض الآداب الروحية، ثم ما عتم أن كشف عن خبيئته فإذا هو متمرد منتفض يسري عليه لقب الخبيث، وكان يحوم في شبه الجزيرة العربية قبل ذلك على غير طائل، ثم رفع راية العصيان، ونادى بالحرية لجميع المستعبدين ووعدهم بما لا حد له من الأسلاب والغنائم إذا التفوا برايته، واتخذ له شعارا آية من القرآن كتبها على الراية تبطل الرق وتلغيه
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن
وفسر الآية بأن الله اشترى الرءوس والأموال فلا يملكها أحد، ولم يكن بالمستغرب من العبيد، الذين علمهم أن يهينوا سادتهم أن يهرعوا إليه بالألوف، ومعهم أهل البادية من طلاب الأسلاب والغنائم. أما اسم الزنج، فمعناه الأثيوبيون من أوشاب القارة الأفريقية، ومن هنا نسبت إليهم الفتنة، فسميت بفتنة الزنج، وكانت سنة خمس وخمسين ومائتين بداءة عصاينهم ومجاهرتهم بالقتال، وتلتها سنتان انتشروا فيهما بين جوانب وادي النهرين وشواطئ قزوين إلى الأهواز، فبسطوا أيديهم من ثم على هذه الأنهر، وشجعهم النجاح فأغاروا في سنة سبع وخمسين ومائتين (871م) على البصرة واقتحموها، وأعملوا في الآهلين كل منكر وفظيعة، ثم نادوا بالأمان غدرا، فقتلوا كل من اغتر بأمنهم من جمهرة السكان المخدوعين، وهدموا المسجد الكبير، وأشعلوا النيران في المدينة كلها، وقد راع الخليفة مقتربهم من عاصمة الخلافة، فأنفذ الموفق على رأس الجيش لقتالهم، فنشط للقتال نشاطا قويا، ولكنه لم يظفر بهم إلا قليلا في المعارك الأولى لاضطراره إلى وقف القتال حينا بعد حين واشتغاله بدرء المخاطر في مواقع أخرى من الدولة، ولقي موسى وغيره من القادة مثل هذا الفشل سنة بعد سنة ثابر الزنج خلالها على الغارة مع ما كانوا يمنون به من الهزيمة في بعض المعارك، وجعلوا يغيرون على العراق وخوزستان والبحرين عصابات متفرقة أو جموعا مصفوفة، فنهبوا الأهواز واتخذوا «واسط» معسكرا يشنون منه حروب التخريب والتقتيل، وانقضت على البلاد تسع عشرة سنة من الشقاء والفزع، ثم فرغ لهم الموفق بعد الخلاص من الأعداء الخارجيين، فوحد الجيوش تحت قيادته وقيادة ابنه المعتضد، ودارت الدائرة من ذلك الحين على جموع الأرقاء، فطردوا أولا من خوزستان، ودفعوا إلى الجانب السفلي من النهر حيث استعصموا بالمواقع الحصينة واحتموا بالأقنية والجداول المحيطة بها، ولا تزال أخبار المعارك التي تلت ذلك نحو خمس سنوات محفوظة تروى بتفصيلاتها المسهبة المملة، وأجلى العدو من مواقع كثيرة، ولكنه لبث بعد جلائه عن تلك المواقع ثلاث سنوات مستعصما ببعض الحصون لانقطاع الحصار فترات متوالية من جراء إصابة الموفق بجراح أقعدته عن العمل السريع، وأخذ الثوار يتسللون زرافات زرافات إلى الموفق، فيتقبل منهم التوبة برفق وسماحة، وبلغ من رفقه وسماحته أنه أعلن العفو عن المسيء الأكبر، فأعرض عنه هذا بصلف وقحة، ثم سقطت القلعة وعاد كثير من النساء السبايا إلى ديارهن، ووقع الخبيث في الأسر، وهو يمعن في الهرب، فقتل وحمل رأسه حيث رفع على مشهد من الجموع المتخوفة؛ فخروا سجودا يشكرون الله على النجاة من شره.
وتلخيص موير هذا لفتنة الزنج يصدر عن نظرة تاريخية على الحيدة بين الداعية والدولة التي يثور عليها، فلا يمتزج بالغضب الديني الذي يشعر به المؤرخ المسلم وهو يتكلم عن فتنة من فتن المروق والإباحة والافتراء على الحضرة النبوية، وهي - في رواية موير - على نسق تام مع الثورات التي من قبيلها، وإن تفاوتت أبعد التفاوت في الأزمنة والأمكنة وأجناس الثوار ومطالبهم وعقائدهم التي يأخذون بها أو ينتقضون عليها.
فكلها ثورات حصلت لأنها أمكنت، وكلها ثورات أمكنت؛ لأنها ثورات أناس من أصحاب الشكايات الاجتماعية أو المنتفعين بالقلاقل والفوضى حيث كانت، تجمعوا في صعيد واحد واستضعفوا السلطان لما مني به من الهزيمة والعجز، فاستخفوا بأمر الخروج عليه، ولا يلزم من ثوراتهم هذه أن يكونوا من الفلاحين أو الصناع أو العاطلين، ولا أن تتقدم ثوراتهم أو تتأخر حسب الأطوار التي يرتبها المفسرون الماديون للتاريخ.
1 •••
وقد تكررت في أوائل عصر الصناعة الكبرى ظواهر اجتماعية من قبيل ما سلف، فتكررت فيها الثورات التي تفرقت في أنحاء الزمن ولم يختص بها عهد من العهود، ولوحظ في كل ظاهرة منها تكررت حديثا أنها تأتي في أول أطوار الصناعة الكبرى، كأنها مفاجأة غير مألوفة تعتري المجتمعات التي لم تتهيأ لتوسيع مجال الصناعة والتوفيق بينها وبين مرافقها ومصادر ثروتها، فهي عرض من أعراض المفاجأة، وليست نتيجة خاصة مدخرة للصناعة الكبرى في آخر أطوارها، ولا هي من الطوارئ المعلقة وراء حجاب الزمن إلى أن يحين حينها وتدور بها أدوارها.
أما الثابت من مراقبة الحوادث بعد تمكن الصناعة الكبرى التي استوفت أطوارها، فهو الاستقرار الذي تقل فيه المفاجآت، ويقل فيه انتظارها وتوقعها؛ لأن زيادة الثروة من اتساع مجال الصناعة الكبرى تصاحبه كثرة المالكين، وكثرة أنواع الأعمال، وكثرة الروابط التي تقضي بالتضامن بين أعضاء المجتمع الواحد في المنافع والأضرار.
وسوف يتسع مجال الصناعة فوق اتساعه في هذه السنوات الوسطى من القرن العشرين، وقد يقصر المدى قبل نهايته دون استقامة هذا المجال في أرجاء العالم، ولكن الأوضاع التي يبلغها التطور قبل نهايته كافية لتصحيح الآراء عن علاقة التطور الصناعي بنهاية الطبقات، جديرة بتعليم الناس أن العاقبة للتعاون بين طبقات المجتمع الواحد، وأن الاستقرار والحرية مفقودان حيث تسطو فئة من المجتمع على سائر فئاته، رهينان بتعدد الطبقات، وتعدد الكفايات، وتعدد أنواع الأعمال، ومن هذا التعدد يخلق الترياق الواقي من الأثرة والطغيان، فإنهما خرق لنظام الحياة العامة، لا يستطاع ولا يحتاج إليه حيث تتقارب الأقدار والحقوق، وتتداخل المصالح والعلاقات.
الفصل العاشر
الأسرة والمرأة
بدأت قضية المرأة على حق يشوبه الغلط، ولم يكن لها بد من البدء على الحق المشوب بالغلط وإلا تأخرت ، أو جمدت، فلم تبدأ على وجه من الوجوه.
بدأت في معمعة المطالبة بالحقوق : رعايا يطلبون حقوقهم من ملوكهم، وعبيد يطلبون حقوقهم من سادتهم، وأجراء يطلبون حقوقهم من أصحاب الأموال، وشعوب مغلوبة تطلب حقوقها من شعوب غالبة، بل أبناء يطلبون حقوقهم من الآباء، وعباد يطلبون حقوقهم من المعبود.
فلما جاء دور المرأة في هذه المعمعة كانت مطالبتها بحقوقها خصومة جديدة في معترك الخصومات الكثيرة، خصومة مع الرجل أو خصومة بين الجنسين، وهذا هو موضع الغلط في قضيتها التي بدأت على حق لا ينكره، ولا يجدي نكرانه بعد الانتباه إليه، وكثيرا ما يبتدئ الانتباه إليه من الرجال قبل النساء.
فمن الحق أن المرأة كانت مظلومة مسخرة قبل عصور المعرفة والحرية، ولكن الغلط في وضع قضيتها أن يكون هذا الظلم خصومة بينها وبين الرجل، أو خصومة بين الجنسين، فإن الجنسين معا كانا ضحية لعدو واحد لم يعرفاه إلا على مهل وبعد ضلال بعيد عنه، وعن منافذ الخلاص منه.
كان الرجل ضحية جهله يوم كانت المرأة ضحية جهلها وجهله.
وكان الرجل مظلوما يوم كانت المرأة مظلومة، وكانت مسئولة مثله عن هذا الظلم - أو غير مسئولة - فهما على الحالين مستويان.
وكان كل ما تشكوه المرأة من مساوئ الاجتماع يشكوه الرجل مع اختلاف في الدرجة، واختلاف في القدرة على الشكاية، وربما صمتت الشكاية باختيار متفق عليه بين الرجال والنساء، وقد يقف الرجال والنساء معا في حظيرة الاتهام أمام ضحية أخرى لا هي بالخصم، ولا هي بالطرف المعقول في موقف من مواقف الخصومة، وتلك هي ضجة الطفولة المظلومة من البنين والبنات، قبل أن يصبحوا مع الزمن رجالا ونساء وآباء وأمهات.
فما من شك في ظلم الطفولة يوم كان الرجال مظلومين والنساء مظلومات، وما من شك كذلك في مصاب الجميع بجرائر هذا الظلم؛ مصاب الظالمين، والمظلومين.
كم ظلمت الأم في العصور الغابرة من وليد تحبه ووليدة تحبها؟ وكم ضاع هذا الظلم بين تبعة لا تعرف وتبعة تعرف على جهل وضلالة؟
ومن المسؤول عن الجهل والضلالة؟ قل على حد سواء: إنهم البنون والبنات، كما تقول: إنهم الآباء والأمهات، أو تقول: إنهم الرجال والنساء.
فإذا قيل: إن قضية «تحرير المرأة» قضية حق في نشأتها، فذلك صدق لا جدال فيه، ولكنها توضع موضع الغلط حين يقال: إنها قضية خصومة بينها وبين الرجل، وإن الفصل فيها إنما هو انتصار طالب على مطلوب، أو صلح بين ضدين يكسب أحدهما بمقدار ما يخسر غريمه في هذه المقاضاة.
إنما توضع قضية المرأة في موضعها الصحيح يوم يقضى فيها على أنها علاقة بين شريكين يتوزع بينهما العمل على حسب اختلاف الوظيفة والاستعداد، وكلاهما خاسر مغبون إذا أخل بحق شريكه ونازعه في عمله وكفايته، وكلاهما رابح إذا عرف أين يعطي، وأين يأخذ من قسمة الخلق بين الجنسين.
ليس في الطبيعة ظاهرة محسوسة يتجلى فيها توزيع العمل، وتتمثل فيها هذه الشركة كما نراها في المقابلة بين وظائف الجنسين، فكل مخلوق إنساني إنما هو شاهد في تكوينه على هذه الوظائف المتقابلة في تركيب بنية الذكر وبينة الأنثى، ومن ضحالة الفهم أن يسبق إلى الظن أن هذا التقابل في تركيب الجنسين ينتهي عند أعضاء الجسد، ولا يستدعي معه تقابلا في استعداد العاطفة والفكر والبديهة الخفية التي نحسها أحيانا، وتحتجب عن الحس أحيانا أخرى، لعلها أعمق وأقوى مما ندركه نحن - رجالا ونساء - من هذه المحسوسات.
والمسألة - بعد - ينبغي أن تخرج من أفق التنازع على الحقوق والكفايات إلى أفقها الذي تدور فيه إلى مستقرها، كيفما كان القرار.
ومن الغلو في الأمل أن نترقب حلها في البقية الباقية من القرن العشرين، ولكننا نتحدث عن أمل قريب - إن لم لكن أملا محققا فيما نراه اليوم - إذا رجونا أن توضع قضية المرأة موضعها الصحيح بعد جيل أو جيلين، فينقضي الدور الذي بدأ بالخصومة بين المرأة والرجل، ويتبعه دور يعملان فيه عمل الشريكين اللذين يتقاسمان الواجب كما يتقاسمان الحق، ويحذران الخسارة؛ لأنها خسارة في الحصتين. •••
ولا شك أن حالة الأسرة أدل من حالة الطبقة على نصيب المجتمع من السلامة والاستقامة؛ إذ كنا نطلع من حالة الطبقة على أوضاع اجتماعية واقتصادية قلما نتخطاها إلى ما وراءها إلا على سبيل الاستطراد ، في حين أننا نستلهم من حالة الأسرة حكمة الطبيعة في تقسيم الجنسين ونهتدي منها إلى أخلاق الفرد والجماعة، ونستشف منها بداهة النوع في احتياله للمحافظة على بقائه ونموه، ولا يفوتنا حين نطلع على تكوين الأسرة أن نلم بأحوال المجتمع في علاقاته الاقتصادية والسياسية.
ونحن نستلهم حكمة الطبيعة فنعلم أن المجتمع يبتعد من السلامة والاستقامة كلما ابتعد بالمرأة عن الأسرة، ونحى بينها وبين وظيفة الأمومة وتربية الجيل المقبل، وتدبير البيت لتسكن إليه وتسكن إليه الأسرة موئلا للعطف والراحة من تكاليف السعي والمعيشة.
وليس مدار البحث هنا أن نعلم مدى الحقوق السياسية التي تنالها المرأة في أمتها، ولا عدد الوظائف التي تشغلها والدراسات العلمية التي تتلقاها ومراكز الأعمال العامة التي تتولاها؛ فإننا لا نواجه خطرا مقبلا إذا استغنت المرأة عن هذه الأعمال، ولا يئود المجتمع أن يولي الرجل كل ما تتخلى عنه المرأة يوم تكتفي بوظيفة الأم، وسياسة الأسرة في الحياة البيتية.
ولكننا نواجه الخطر المحقق إذا تخلت المرأة عن حياة الأسرة ولوازمها، ونبتعد عن حكمة الطبيعة، فنفهم أن المرأة والرجل كليهما يعملان في مجتمع بعيد من السلامة والاستقامة، وينبغي أن نتوخى في الإصلاح الاجتماعي رد المجتمع إليهما، وتثبيط الدوافع التي تحفز الناس - نساء ورجالا - إلى الشطط عن سواء الطبع في توزيع الأعمال بين الجنسين.
ومن اللجاجة أن تنقلب هذه المسألة الحيوية إلى منازعة على كفاءة الجنسين في شئون العلم والعمل، فالأمر الذي لا منازعة فيه أن المرأة خلقت للأمومة، وصلحت لتربية عواطف الأسرة، فلا يحسن بالمجتمع أن يضطرها إلى التخلي عن مكانها في الأسرة، وأن يلجئها إلى التضحية بالبيت سعيا إلى الرزق، أو اشتغالا بأعمال يغني فيها الرجل عنها.
وليس لنا أن نتجاهل الحقيقة الواقعة، وننسى أن المرأة تضطر في الحضارة الحديثة اضطرارا إلى هجر البيت والتضحية بلوازم الأسرة في سبيل لوازم المعيشة، إلا أن الحذر من تجاهل هذه الحقيقة لا يوجب علينا أن نغتبط بها ونقيم قواعد المستقبل عليها، وإنما نعترف بها لنعطيها حقها من معاذيرها واعتباراتها، ونسعى إلى إصلاحها وتثبيط الدوافع التي تضطر النساء والرجال إليها.
وقديما اضطر الفقراء - وغير الفقراء - إلى تسخير القاصرين، وإهمال تعليمهم في سن الطفولة الباكرة فيما يشق عليهم ويضر بأجسامهم وعقولهم؛ إيثارا للانتفاع بأجورهم على احتمال نفقتهم، فلم نجعل هذه الضرورة قاعدة تقام عليها تربيتهم وتفريج الضائقة عن ذويهم، واعترافنا بهذه الحقيقة لنصلحها ونغني المضطرين إلى تسخير أبنائهم عن هذه السخرة الشائنة، فاستغنى عنها الكثيرون منهم وأنفوا منها بضمائرهم وقلوبهم بعد أن تعودوا مع الزمن أن يتجنبوها خوفا من العقوبة وطاعة للشريعة.
ولا يبدو الآن أن الضرورات التي تصرف المرأة عن حياة الأسرة يمكن أن تعالج بهذه السهولة في الجيل الذي نحن فيه، وأكبر الظن أنها تستعصي على العلاج في الجيل المقبل أو الذي يليه، ولكننا نأمل فلا نغلو في الأمل أن يتكفل القرن العشرون قبل انتهائه بوضع هذه القضية الجلى في موضعها الأمين، فيختتم صفحة الخلاف عليها كأنها خصومة بين الرجل والمرأة، ويتركها للأجيال المقبلة شركة يتعاون فيها الجنسان كما يتعاون الزميلان.
الفصل الحادي عشر
الفن والعلم
ولعلنا نختم هذه الظنون والنبوءات بخبر من أخبار المستقبل لا حاجة به إلى ظن ولا نبوءة، وقد يكون أوثق من أخبار الماضي الذي تتضارب فيه الرواية.
إن القرن العشرين سوف يصفي قبل نهايته حساب البدع الفنية التي نشأت فيه، وهذا هو الخبر الذي لا يحتاج إلى الظن والنبوءة، إذ تحمل البدعة في طياتها نبوءة مصيرها، وتأتي البدعة ثم تمضي كما تأتي أزياء الثياب والحلى زيا بعد زي، ثم تمضي باختيار من يبدعونها ويولعون بها، ولولا هذا التقلب السريع لما فكر أحد في ابتداعها.
وقد كانت ذخيرة القرن العشرين من بدع الفنون أوفر وأعجب من ذخيرة سلفه القرن التاسع عشر، ومن ذخائر أسلافه في العصور الحديثة التي أولع فيها الناس بالجديد، ثم ازدادت سرعتهم في تغييره والتبرم به إلى أن بلغت شأوها الأخير في هذه السنوات الأخيرة.
ويرجع الإقبال على البدع في القرن العشرين إلى جميع أسبابه التي تغري به، وتحرض عليه؛ إلى الجرأة على التقاليد المرعية ، وإلى شيوع الطرافات العلمية التي يتداولها الفنانون، وجمهرة المتحدثين بالعلوم والفنون، وإلى اتساع ميادين النشر من طباعة وإذاعة وصور متحركة ومسارح عرض وتمثيل.
والجرأة على التقاليد المرعية قديمة منذ عصر النهضة وعصر الاستنارة، وما تلاهما من عصور الثورات العلمية والسياسية، إلا أن الجرأة على التقاليد كانت تصدر فيما مضى من جانب واحد باسم المجددين الثائرين على المحافظين، أو باسم اليسار المنتقض على اليمين، فلما تقدم القرن العشرون جاءت الغارة على التقاليد شعواء ذات اليسار وذات اليمين، فأنصار الدعوة الاجتماعية من الماديين يحطمون التقاليد الماضية لأنهم يهدمون كل بناء قام في الماضي على قواعد الطبقات من غير طبقة الأجراء، وأنصار الدعوة الفردية ينكرون طغيان الجماعة على حرية الفرد فيعارضون الدعوات الاجتماعية التي تلغي الفرد من أجل الجماعة، ولكنهم - على مذهب بعض الوجوديين - يبيحون للفرد أن يستقل برأيه وهواه، ويثبت وجوده بالخروج على العرف، واقتحام الطريق الذي يروقه على غير اكتراث بالأصول والعادات في مسائل الذوق على الخصوص ومنها الفنون.
أما شيوع الطرافات العلمية فهو فيما نعنيه هنا شيء غير شيوع المباحث العلمية التي يمحصها العلماء ويمتحنونها على أصول التجربة والتطبيق الأمين، فهذه المباحث العلمية تفيد الفن والفنان وتؤدي إلى قيام المدارس الفنية التي تثبت في تاريخ العلم والثقافة، ولا تظهر ثم تغيب كما تغيب البدع والأزياء.
إن الطرافات العلمية شيء غير هذه المباحث والدراسات، فإنها لا تعدو القشور التي تستهوي النظر العاجل، ويتخطفها المتندرون في الأندية لما فيها من غرابة تجري في نسق واحد مع غرابة الأقاصيص والبدوات، ومنها ما يحسن فهمه ويساء تطبيقه لسوء التمييز بين موضوع العلم وموضوع الفن، وبين مسائل التفكير ومسائل الشعور والخيال، وأشهر هذه التطبيقات الخاطئة في بدع الفنون دعوة المدرسة الطبيعية في القرن التاسع عشر
Naturalism
وهي من أصح المدارس الأدبية في نظرتها، وأسرعها إلى الخطأ في تطبيقاتها لسوء التمييز بين أساليب العلم وأساليب الآداب.
كان مبعث هذه الدعوة أن أصحابها أرادوا أن يميزوا أنفسهم على غيرهم من الكتاب والشعراء بالتزام الأمانة العلمية في وصف أحوال الناس والتعبير عن عواطفهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وقالوا: إن الكاتب ينبغي أن يتجرد من أهوائه وآرائه عند الكتابة كما يفعل العالم عند دراسة الظواهر الطبيعية، وأن تعبيره عن الحقائق الاجتماعية والنفسية ينبغي أن يصاغ في قالب كقالب التعبير العلمي أو قالب المسائل الرياضية.
ومن الحسن ولا شك أن يلتزم الكاتب أمانة العلم إذا كان المقصود بهذه الأمانة أن يتجنب الزخرف الكاذب والأباطيل الخرافية، ولكنه لا يكون أمينا بمعنى الأمانة العلمية ولا الفنية إذا عبر عن نفسه تعبيرا آليا يتجرد من الملامح الشخصية؛ لأن الفن كله قائم على وجهة نظر الفنان وملكاته الشخصية التي لا تتشابه بين كاتب وكاتب، ولا بين شاعر وشاعر، ولا بين مصور ومصور، ولا تأتي مقرراتها متشابهة أبدا كما تتشابه مقررات العلماء، ولهذا كانت الصورة اليدوية مفضلة على الصورة الشمسية بالغة ما بلغت هذه من الصدق والإتقان، ولو كان المقصود بالأمانة العلمية مطابقة الصورة لأصولها المحسوسة لكانت الصورة الشمسية أرفع شأنا من كل صورة تبدعها ريشة الفنان الصناع، ولكن الأمانة العلمية في الفنون شيء غير الأمانة الآلية؛ لأن العلم يقول لنا: إن الآلة غير الإنسان، فلا يجوز لنا أن ننتظر - باسم العلم - تصويرا إنسانا يشبه صناعة الآلات، ولا تتحقق أمانة العلم وأمانة الفن معا بغير هذا الاختلاف، بل يصدق هذا على الفرق بين الصورة الشمسية الممتازة والصورة الشمسية المجردة من المزية، فإننا إذا أعجبتنا صورة شمسية بارعة لمسنا على الأثر براعة المصور الذي التقطها في اختيار الموقع، واختيار الوجهة، واختيار الألوان والظلال، واختيار اللمحات البادية على الوجوه، وعلى صفحات الأشياء.
ومن الواجب أن نفهم معنى الأمانة العلمية حين نطبقها على بدائع الفنون، فهي لا توصف بوصف الأمانة إلا إذا حسبت حسابا للفارق بين عمل الآلة وعمل الإنسان.
ويهون سوء التطبيق في الدعوة إلى المدرسة الطبيعية إذا قيس إلى التطبيقات السيئة التي ابتليت بها دراسات علم النفس بين الحربين العالميتين، فتسربت إلى الفنون والآداب من كلمات الوعي الباطن ومركبات النقص والعقد النفسية وما شابهها من مصطلحات فقدت معناها لكثرة استعمالها في غير مواضعها، وخلقت من أفانين الأوهام ما لم تخلقه خرافة من الخرافات التي ماتت قبل أن تبلغ القرن العشرين.
وقد نسي دعاة البدع التي نبتت من كلمة الوعي الباطن أن هذا الوعي الباطن لم يخترعه فرويد، ولم يزعم أن الفنانين من قبله جهلوه وأهملوه، بل قرر غير مرة أنه يعتمد في تفسيره على أعمال أولئك الفنانين وأقوالهم من كتاب وشعراء ومصورين، وما من أحد ذي بصر ينظر إلى صورة من صور الأقدمين ومن تلاهم في عصر النهضة وتلاميذهم المبرزين من أبناء العصور الحديثة إلا أدرك لأول وهلة أنهم أحسوا الوعي الباطن من وراء الظواهر، وعرضوه لنا على قسمات الوجه وحركات الأعضاء، ودلوا على قدرتهم بهذا العرض الذي يرينا الخفايا كما يرينا الظواهر بلمسة من لمسات الريشة وخفقة من خفقات النور واللون، وتركوه لنا نفسره كما يفسر كل سر من أسرار النفس البشرية قد ينطوي عن صاحبه كما ينطوي عن الناظرين إليه، ولذلك كان وعيا باطنا ينقله الفنان القدير على غموضه أو جلائه نقل الأمانة الملهمة والإدراك الخفي والحس المشترك بين الوضوح والغموض.
وينسى هواة الطرائف العلمية أن علماء النفس لم يكشفوا الوعي الباطن ليلغوا به الوعي الظاهر ويبطلوا به عمل الحواس؛ لأن معرفتنا بعقولنا الخفية لا تمنعنا أن ننظر بأعيننا، ونسمع بآذاننا، بل تساعدنا على محو الضلالة والتثبيت من حقائق المنظور والمسموع.
والمصورون ممن يدعون تصوير الوعي الباطن ينسون أنهم تعلموا فن الرسم والشكل، ولم يتعلموا الكهانة والتنجيم، ولو كان فنهم كله قائما على تخمين الظنون على العقل الباطن لتساوى المصورون وغير المصورين، وتساوى كذلك الشعراء وغير الشعراء، والفنانون وغير الفنانين فيما يتعاطونه من الوصف والتعبير، إذ كان التخمين عملا نستطيعه جميعا ولا يتقاضانا غير الحدس والاسترسال مع الخيالات، ولا يصح أن يستأثر فيه صاحب وعي بما يتوهمه دون أصحاب الوعي من الناظرين والفنانين، فقد يتفق عشرات الألوف في البصر والسمع، ولا يتفق اثنان في الخفايا الباطنة ولو كانا أخوين أو عشرين مدى الحياة، وما دام الوعي الباطن مختلطا مرتبكا غير مشهود ولا مفهوم، فليس في الدنيا من يعجز عن محاكاة الاختلاط، والارتباك على نحو من الأنحاء.
ومن فكاهات هذه الدعوات أن المنتحلين لها يتخطفون أطرافها على عجل، ثم ينقطعون عنها ولا يعرفون ما طرأ عليها في مباحث أصحابها الأولين وروادها المبتكرين، فقد عدل فرويد في أيامه الأخيرة عن مغالاته بدعوى الوعي الباطن أو العقل الباطن، ورأى أن العبارة في تركيبها متناقضة لا تستقيم في التفكير.
فليس بالعقل شيء لا نعقله ولا بد من تعبير أصح من هذا التعبير للدلالة على الفوارق بين طبقات السريرة الإنسانية من أعماقها المستورة إلى ظواهرها المكشوفة، ولهذا أهمل فرويد مصطلحات الوعي الباطن واللاوعي وما إليها في أخريات أيامه واستبدل بها ال «ايد
Id » أو الطوية، وال «إيجو
Ego » أو الذات، وال «سوبر إيجو
Super-Ego » أو الذات العليا، ولم يفصل بين دوافع هذه القوى الثلاث إلا في حالات المرض والاختلال أو حالات الارتباك التي تعتري الأصحاب في حالات الكرب والشدة فلا يستقر لهم قرار إلى أن تزول.
وقد تراجعت مصطلحات فرويد الأولى إلى الصفوف التالية في مباحثه الأخيرة، ولما تزل تشغل الصفوف الأولى في أعمال الفنانين الذين تلقفوها بالسماع ولم يفهموا منها أولا وآخرا غير ما فهمه ثراثرة الأسمار. •••
ومن المألوف أن تعزى كثرة الخوض في النفسانيات بين الحربين العالميتين إلى قلق الأفكار وتوتر الأعصاب في هذه الفترة، من جراء الأزمات والشكوك التي تنتاب أبناء العصر فترهقهم وتلجئهم إلى التنفيس عن صدورهم بهذه الأحاديث، كما تلجئ العلماء والمفكرين إلى البحث في أعراضها ووسائل علاجها، ويشبه أن يكون هذا هو الواقع في تعليل كثرة الخوض في العوارض النفسية، لولا ما نعهده من أخطائنا المتكررة عند المقارنة بين الحاضر والماضي في مسائل الشعور والعاطفة، فما حضر أشد عندنا مما غبر في مسائل الحر والبرد، ومسائل السرور والألم، ومسائل العافية والمرض، ولا يبعد أن تكون أزمات القرن التاسع عشر أشد وقعا على أبنائه من أزمات المحدثين بين الحربين العالميتين؛ لأنه لم يخل من قلاقله، وشكوكه، وثوراته، وحروبه، ومفاجآته، وصدمات الخيبة لأصحاب الآمال العامة والخاصة من أبنائه، فإذا كانت أحاديث العقد النفسية لم تتردد في فنون القرن التاسع عسر، كما ترددت في فنون القرن العشرين، فليس من المحتم أن يرجع ذلك إلى ندرة الأزمات النفسية فيما مضى وكثرتها فيما حضر، بل يجوز أن كثرة الحديث عنها إنما ظهرت مع ظهور العلوم النفسية تبعا لتقدم العلوم في جملتها، وأنها وجدت متسعا من ميادين النشر، وحرية التصريح بالآراء في الزمن الأخير لم تجده في أول عهدها بالظهور قبل بضعة أجيال.
وقد مضى الآن على ابتداء اللهج بالعلل النفسية أكثر من جيل كامل وضحت فيه مصادر هذا اللهج الطارئ من أعمال الفنانين وأعمال أدعياء الفنون، فلم يعسر على نقادهم أن يميزوا بين سمينهم وغثهم، وبين الجد والهزل في أعمالهم وأقوالهم، فهم بين طائفتين تتميزان جدا بعد هذا السنين التي عرضت لنا من ثمراتهم ما يكفي لمعرفتهم؛ طائفة جادة في شعورها وتعبيرها تصور لنا دخائل النفوس وعللها كما يصورها الفنان الملهم في كل آونة، وطائفة مصطنعة متكلفة تعرض لنا فنا مصطنعا متكلفا هو نفسه عرض من أعراض الأمراض النفسية، والفرق بين الطائفتين هو الفرق بين المعبر عن المرض وبين المصاب بالمرض الذي نفهم مرضه من حالته ولا نفهمه من مبتكراته وأقاويله، ولا يشق على نقاد الفن أن يدلونا على الآية التي تميز كلا من الطائفتين تمييزا يدفع اللبس والاشتباه، فكل نتاج فني يلغي القواعد وينطلق مع الفوضى فهو ظاهرة مرضية وبدعة موقوتة لا تدوم إلا ريثما تنسخها بدعة من قبيلها، وكل نتاج فني يقوم على قاعدة مفهومة فهو تعبير صحيح، وإن جاءت هذه القاعدة على نسق جديد يخالف ما اطردت عليه فنون الأقدمين، ولا بد من التفرقة بين القواعد والقيود في الأعمال الفنية على اختلافها، فإن القواعد هي قوام الفن الذي لا ينفصل عنه، ولا يمكن أن يخلو منه بحال، وما عرف الناس لعبة من لعب الكبار والصغار - فضلا عن الفنون العليا - يمكن أن تلعب بغير قاعدة مرعية عند الطرفين ويجوز للاعب أن يتحرك فيها بغير ضابط معلوم ولا خطة مقررة، فلا قوام للفن بغير القاعدة، ولكنه قد يقوم على أحسنه مع زوال القيود التي يحده بها العرف، ويتناولها التغيير والتبديل في كل جيل.
ولم يمض على ظهور البدع الفنية - بدع الفوضى والإباحة - بضع سنوات بعد الفترة بين الحربين حتى أمكن التمييز بينها وبين الفنون المعبرة بوحي الإلهام والبداهة الصادقة.
فمن البدع الزائلة كل دعوة تنم عن المرض النفساني، كما تنم عليه أعراضه وأماراته، ومن الفنون الصادقة كل فن يعبر عن المرض وهو غير مريض، وينفس عنه وليس هو بضحية من ضحاياه، ولكل منها علاقة بالدراسات النفسية غير علاقة الآخر بها، فإن البدع لا تستفيد من الدراسات النفسية ولا تتعلم شيئا منها، ومثلها في علاقتها بحقائق علم النفس مثل المريض في علاقته بالطب الذي لا يعرفه، وعلى خلاف ذلك يكون الفن الصادق في علاقته بالدراسات النفسية، فإنه يستفيد من العلم بها، ويصحح بها أخطاء الحس والرأي والشعور، ويعتمدها في نقد أعمال الأقدمين وتوجيه أعمال المحدثين. •••
منذ أواخر القرن الماضي بدأت مشاركة العلم في نقد تاريخ الفنون، ولا سيما فنون: التصوير، والنحت، والمخطوطات الكتابية، فتمكن علماء التاريخ والكيمياء من تحقيق أوقات التحف الفنية، وتصحيح نسبتها إلى أصحابها وعهودها، إما بالمقابلة التاريخية بين الأساليب والتوقيعات وأنواع الورق والمداد، أو بالفحص الكيمي عن التفاعل بين الأصباغ والأنسجة، وبين عوارض الجو والتربة، وكانت لهذه المساهمة العلمية قيمتها النفسية في التحقيق والتمحيص من الوجهة التاريخية التي تنتهي عند تصحيح النسبة إلى هذا الفنان أو ذاك وتبيين الفرق بين أساليب عصر وعصر، وأنماط مدرسة ومدرسة. ولكن النقد العلمي لم يتمكن من المشاركة في التمييز بين الفن السليم، والفن السقيم، وبين أسباب الدقة في الأداء، وأسباب الخطأ والانحراف فيه، إلا بعد التقدم الحثيث في علم البصريات، وما يرتبط به من طب العيون والأعصاب، فإن علماء البصريات وأطباء العيون قد أمكنهم أن يميزوا بين الخصائص التي كانت تحسب في عداد المدارس والأساليب الفنية، وبين الخصائص التي تنشأ من أمراض البصر ويضطر إليها الفنان لخلل في تركيب عينه يحجب عنه بعض الألوان، أو يعرضه لطول البصر أو قصره، أو للزيغ عن النظر المستقيم إلى ما يواجهه من أمامه، ففي هذه الحالات يبالغ الفنان في توكيد لون من الألوان، وتخفيف ما عداه، وتتراءى صورة أقرب إلى استطالة أو أقرب إلى الاستدارة، وفيها بعض الميل من جانب، وبعض الإقحام من جانب آخر، على حسب الاختلاف بين تركيب عينيه، وبين تركيب العيون عند صاحب النظر السليم، وكان النقاد الأسبقون ينظرون في هذه الخصائص فيحسبونها من بدع الاختيار والابتكار، ومن فوارق الأساليب المقصودة والمدارس التي يدور البحث فيها على تعدد الآراء والأذواق، وما هي إلا نظرة فاحصة من عالم البصريات حتى ينجلي له أن الأمر لا يرجع إلى اختلاف الآراء والمذاهب، ولا إلى الرغبة والاختيار، وأن مرجعه كله إلى عيب في البصر يمثل الأشياء لصاحبه على صورة غير سوية ويوقعه في ذلك الخطأ الذي لا حيلة له فيه، وقد يظهر من المقابلة بين صور الفنان الواحد أن بعضها ينم على انبساط الحدقة، وبعضها ينم على بصر سليم، فيتبين من النقد التاريخي أنه يحاكي أسلوب غيره في الصور المثالية أو الصور المقدسة؛ لأن ذلك الأسلوب قد أصبح في زمانه بمثابة الزي المصطلح عليه لتمثيل «الشخوص» المحوطة بهالة من القداسة والرعاية المثالية، ولكنه يثوب إلى بصره فيعتمد عليه فيما يرسمه من المناظر اليومية والشخوص التي لا يحيطها بتلك الهالة من القداسة والتبجيل، وهذه وسيلة من وسائل التمييز بين الأنماط والأساليب، وبين أسباب الاختيار فيها والاضطرار لم تكن معروفة قبل ارتقاء علم البصريات وأدوات الفحص عن وقع المسافات والمرئيات في النظر المنحرف والنظر السليم.
ويؤخذ من بحث لطبيب جراح من أطباء العيون أن نسبة الحسر في طلاب التصوير أكبر من النسبة العامة بين غير المصورين: «ففي إحصاء للتلاميذ والأساتذة في مدرسة الفنون الجميلة بباريس عند أوائل القرن العشرين ظهر أن المصابين بالحسر أكثر من ستين من مائة وثمانية وعشرين، وأن نسبة طول البصر في المدرسة كلها سبعة وعشرون في المائة ، على حين أن نسبتهم في عموم الناس ثلاثة أمثال المصابين بالانحسار.»
قال الطبيب: «ومما يدعو إلى الدهشة كثرة المصابين بالحسر بين أساتذة المدرسة التأثرية أو الإحساسية
Impressionists
فمن المرجح أن مونيه
Monet
كان محسورا، ولكن الحسر محقق عند سيزان
Cezanne
وديجاس
Degas
ومفهوم على وجه يكاد أن يكون أكيدا عند رينوار
Renoir
الذي يحكي فولار
Vollard
أنه كان في الرابعة والستين يقرب الأشياء من بصره ليثبت منها، وهي السن التي لا يستطيع غير المحسورين أن يتثبتوا فيها من رؤية قريبة بغير نظارة محدبة. وقد كان بيسارو
محسورا أيضا مع اضطراب في القرنية أصيب به في طفولته من أثر القروح، وكذلك كان ديران
Derain
وبراك
Braque
وماتيس
Matisse
ودوفي
Dufy
ودع عنك الآخرين ممن لا يبلغون مبلغ هؤلاء في الشهرة من أمثال ماتيجكو البولوني
Matejko
الذي حفظت نظارته في متحف كراكاو
Cracow .»
1
مثل هذا النقد العلمي - وإن شئنا فلنسمه بالكشف الطبي - يرد أخطاء الفنون إلى عللها الأصلية، ويلم شعث الأفكار المهدرة في مناقشات لا طائل لها بين النقاد حول أمور يحسبونها مذاهب مقصودة وهي من ضرورات النقص والخلل التي لا حيلة للفنان فيها، ومنهم من يستنبط من الهباء فلسفة خاوية عن معنى تفضيل هذا اللون، وإهمال ذلك اللون في لوحات بعض المصورين، وقد يبحثون أسرار التشبيهات في قصائد الشعراء على هذه الوتيرة فيذهبون بها إلى ما وراء الطبيعة وينحلونها من المقاصد والتأويلات ما لم يخطر لناظميها على بال، فإذا اشترك النقد العلمي والنقد الفني في تعليل تلك التشبيهات فأول ما يجنى من ذلك أن تصان أوقات الناس وأذواقهم من التخبط على غير جدوى في تيه من الأوهام والأضاليل، إذ تنكشف علل الأخطاء الفنية والأدبية فيتقبلها من وافقته على علاتها، أو يرفضها ويتنبه لأسباب رفضها فينظر في مداواتها بما يصلحها ويشفيها.
والعلوم النفسية لم تتقرر بعد في تحقيق العلة والعلاج كما تقررت علوم البصريات ومباحث الكيمياء والطبيعة، ولا نخالها ستبلغ في يوم من الأيام هذا المبلغ من اليقين والوضوح، ولكنها - على ما هو عليه الآن - كفيلة بالتمييز بين البدع السقيمة والمذاهب الجدية في مدارس الفن والأدب، فكل ما انطلاق بغير قاعدة، واختلاط بغير بنية، وإساءة للفهم في تفسير المبادئ العلمية - فهو من العلة والسقم - وكل ما يقام على قاعدة مفهومة - ولو أقيم على قاعدة مهدومة من قبل - فهو مذهب من مذاهب التحديد يضيف إلى ثروة الفن والأدب، ويصلح للبقاء إلى حين.
وستغنم الإنسانية كثيرا من هذا الفيصل الصادق بين أعراض السقم في الآداب والفنون، وما ينشأ فيها من المذاهب المطبوعة والمدارس الجدية، فما من شيء أضر بالأذواق والعقول من أن تساق إليهم أعراض المرض، كأنها فتح من فتوح التقدم يتهافتون عليه، ويروضون أذواقهم وعقولهم على محاكاته، وشر ما يبتلى به مريض النفس والذوق أن يغتبط بدائه ويتمادى في تمكينه، وهو - لولا ذلك - خليق أن يأسف له، ويبحث عن دوائه، ونحن منذ اليوم نحس أن غواية البدع السقيمة تنهزم سنة بعد سنة أمام حقائق العلم ودراسات الطبائع والأخلاق، فإذا انتهت كشوف القرن العشرين في هذا الباب بالتمييز بين فوضى الفن وقواعده، فأنعم به من ختام لا تنقضي حسناته ومزاياه.
الفصل الثاني عشر
خاتمة في سطور
إذا أخذنا بالمقدمات التي رتبها الثقات في إحصاءاتهم وآرائهم - وهي جديرة أن يؤخذ بها - فنحن أمام نتيجة منتظرة نلمحها من وراء السنين عند نهاية القرن العشرين وبعد القرن العشرين، ولا نقول إننا أمام أمل مشروع وحسب، فإن الأمر هنا إلى الحساب أقرب منه إلى الرجاء.
وزبدة هذه النتيجة في سطور: إن موارد العالم كافية لسكانه، وإن التكافؤ بين عدد السكان، ومقادير المؤن والأزواد مستطاع بفضل التقدم في العلم والصناعة وأحوال الاجتماع، تعترضه عقبات قابلة للتذليل إلا أن تكون عقبة الحرب العالمية التي يخشى أن تعاجل العالم قبل استيفاء مطالبه من التقدم والكفاية، فلا يؤمن أن تطيح بجميع ما وعاه من حضاراته الماضية، ومن حضاراته الصناعية القائمة أو المرجوة، ولا عصمة للإنسان من تلك الحرب المحظورة إلا أنها - كما يعلم - أخطر الأحوال التي يخشاها، وأنها الهول الذي لا يخشى بعده هول، ولا يبقى بعده من يخشى.
فإذا انتفع بهذه العصمة فالعالم ماض في طريق الصلاح والأمان: تتعاون أممه وأجناسه، ويبطل النزاع بين الطبقات في الأمة الواحدة، وتئول «الشخصية الإنسانية» مع تعاون الأمم والطبقات إلى حياة منزهة من سموم العداء وضغائن المنافسة، متفتحة لأشواق النفس الرفيعة وأمثلتها العليا، فيمضي النوع الإنساني في جملته إلى غاية كماله، ويبلغ الإنسان الفرد ما في وسعه أن يبلغه باجتهاده وتيسير بيئته، مالكا لزمام فكره وعاطفته بنجوة من طغيان الجماعة عليه.
وإذا انتقلنا من هذه النتيجة المرتقبة إلى الأمل المشروع، فمن الأمل المشروع أو من التفاؤل الحسن أن نؤمن بمصير الإنسانية إلى إيمان بالحق يعززه العلم، ويلتقي فيه عالم المادة بعالم الغيب فلا يتنازعان، ولا ينشطر بينهما الضمير الإنساني شطرين، يورثانه مرض النفس، ويبتليانه في قرارة وجدانه بفصام دخيل، يخيل إليه أن الإيمان، وهو نقيض الإيمان.
ونترخص في الأمل، دون أن نجاوز به آفاق الأمل المشروع، فنقول: إننا خلقاء ألا نيأس من الأزمات التالية بعدما شهدناه من عواقب الأزمات الماضية، وقد سمحت لنا حربان عالميتان أن نقول مرة: «إن الصراع الأكبر الذي نشهده اليوم سينتهي أيضا إلى عاقبة فيها بعض الاطمئنان أو كل الاطمئنان؛ لأنها تناقض القوة العمياء؛ قوة الحديد والنار، وتشايع القوة البصيرة، قوة العدل والحرية.»
وسمحت لنا أن نقول قبل ذلك: «أينما وجدت نفس تحسن أن تدرك فثم حقائق تدركها، ولن تظمأ حاجة من حاجات النفس ومواردها - من تلك الحقائق - باقية، اللهم إلا تلك الحاجة المحكوم عليها بالظمأ الأبدي، والتي تموت إن رويت: وهي الحاجة إلى الكمال، وبها تتم الحاجات جميعا ومن قبلها يجذبنا زمام الغيب القدير، وهذه ينابيع الإنسان التي يعول عليها، كلما أضاع أملا أخرجت له أملا جديدا، وكأنها خزانة الجدة العجوز تتربص بالأبناء المسرفين حتى يقنطوا ويضيقوا ذرعا، فتفرج أزماتهم، وتسري عنهم وتزودهم بالنصائح الموفقة لهم، وهذه الجدة العجوز لا تبض لك بأمل وعندك أمل خلافه، ولا تفتح لك بابها وأمامك باب سواه، وتقنعك كل مرة بأنك تحرز الأمل الأخير، فلا تكاد تصدقها حتى يتبين لك أنها خزانة لا تنفد، وكنز ذو أوان، يفتأ يتجدد ولا يتبدد.»
1
ولقد كان إنسان الأمس كفئا لأزماته، ولا يئوده الغد أن يلقى عظائمه بما هو أعظم منها، أفقا بعد أفق، وقمة فوق قمة، ومصيرا وراء مصير.
عباس محمود العقاد
Unknown page