Qanat Suways
إنجلترا وقناة السويس: ١٨٥٤–١٩٥١م
Genres
ولما تمت موافقة الحكومة البريطانية على شراء الأسهم، كان لا بد من النظر بسرعة في كيفية تدبير المبلغ اللازم للشراء، فالبرلمان الإنجليزي لم يكن منعقدا، ولا يمكن تدبير المبلغ بغير موافقته، ولا يمكن عقده بسرعة للنظر في هذه المسألة، ولكن الموضوع لم يكن يقبل الانتظار، وإلا ضاعت الصفقة من إنجلترا؛ ولذا تحول ذهن ديزريلي إلى أصدقائه من آل روثتشيلد الماليين المعروفين في إنجلترا، وكان ديزريلي متأكدا من تعاون هذا المصرف معه في سياسته المصرية، ولكنه لم تكن هناك سابقة لمثل هذا العمل الخطير، فماذا يحدث لو رفض البرلمان الإنجليزي حين يجتمع اعتماد ذلك المبلغ، ولكن ديزريلي أخذ المسئولية على نفسه، ومن ناحية ثابتة كان لبيت رثتشيلد ثقة لا تنتهي بديزريلي والحكومة البريطانية التي ضمنت هذا القرض.
وافق إذن بيت رثتشيلد على إقراض الحكومة الإنجليزية مبلغ أربعة ملايين من الجنيهات بفائدة مخفضة، وتم لديزريلي نهائيا إجراء صفقته، وبذلك أصبحت الحكومة البريطانية تملك خمسي الأسهم وأكبر مساهم في قناة السويس.
ولقد أحس زعيم المحافظين بإنجلترا بعظم الصفقة التي قام بها، فلقد كانت نجاحا لا نظير له، وكتب في 24 نوفمبر للملكة فكتوريا يقول بأنها قد نالت الصفقة، وأن الفرنسيين قد غلبوا على أمرهم بعد أن بذلوا جهودهم ... ولقد سلك بيت روثتشيلد مسلكا بديعا، فقدم المال اللازم بفائدة قليلة ... ولقد قدم دي لسبس في آخر لحظة عرضا مغريا للخديو، ولو نجح لأصبحت القناة ملكا لفرنسا ولأغلقتها أمام إنجلترا.
وفرحت الملكة فكتوريا فرحا عظيما بإنجاز هذا العمل، وجاءتها التهاني من دول أوروبا باستثناء روسيا التي أرادت أن تجامل فرنسا، واعتبر ليوبولد ملك البلجيك هذا العمل كأعظم حادث في السياسة الحديثة، ولقد قابل الرأي العام الإنجليزي هذه الصفقة بحماس كبير، وطرب المعارضون للحكومة من الأحرار لهذه الصفقة، إذ سرهم أن تنال بريطانيا هذا النصيب المهم من أسهم شركة قناة السويس، ولم يهتم الرأي العام البريطاني كثيرا بانتقاد جلادستون زعيم المعارضين للحكومة لهذه الصفقة، فرأيه في هذه المسألة كان شخصيا لا يمثل حزب الأحرار، ودافعه الأول كان الغيرة من ديزريلي والحسد له؛ ولذا فانتقاده لم ينظر إليه.
لقد خطب نورثكوت في البرلمان الإنجليزي قائلا - ما ملخصه: إن شراء هذه الأسهم كما نعتقد في مصلحة إنجلترا ومصلحة مصر، ومصلحة الشركة التي أصبحنا شركاءها، وإنا لنشعر بالود نحو هذه الشركة العظيمة ونحو مؤسسها ومتبنيها، ولدينا الرغبة في المساهمة في هذا المشروع الخطير، وإني أعتقد أن إنجلترا ارتكبت خطأ كبيرا في عدم الاعتقاد بقيمة المشروع في أول الأمر، وأؤمل أننا لسنا متأخرين كثيرا في المساهمة في هذا المشروع الآن بعد أن نضج وأثمر ... وسيقدر لهذا المشروع أن يكون ملك البشرية جميعا على مدى الدهر، وإنه من دواعي الاغتباط الكبير أن نرى أن إنجلترا قامت بمهمتها في تأمين مستقبل ذلك المشروع العظيم.
وأبدى لورد هارتنجتن - وهو من زعماء الأحرار - رأيه بأن على إنجلترا أن تغتبط اليوم إذ «انتقلت إليها حقوق سيادة الخديو على القناة»! هكذا فهم بعض الساسة الإنجليز صفقة شراء أسهم الخديو في القناة، وكانت نتيجة لهذه الصفقة أن اضطرت شركة القناة إلى قبول ثلاثة أعضاء إنجليز في مجلس إدارتها.
وكان لهذه الصفقة دوي كبير في كل أرجاء أوروبا، وكانت دليلا ساطعا على أن إنجلترا غادرت نهائيا السياسة السلبية التي استنها مستر جلادستون في وزارته الأولى، وأنها أصبحت الآن تتبع سياسة خارجية نشيطة، وبدأ ديزريلي سياسة الإمبريالزم «التسلط الاستعماري» التي ستبلغ أوجها في نهاية ذلك القرن «التاسع عشر» باحتلال مصر والتصميم على البقاء فيها وتقسيم أفريقيا والإشراف على مناطق كبيرة في آسيا.
وجدت الملكة فكتوريا في هذه الصفقة ضربة موجهة ضد بسمرك المستشار الألماني الذي سبق أن أعلن أن إنجلترا لم تعد قوة سياسية كبيرة يخشى خطرها، والواقع أن المستشار الألماني بسمرك سر كثيرا لهذه الصفقة؛ ففيها - من ناحية - إذلال جديد لعدوته فرنسا وهزيمة لسياستها، وفيها - من ناحية ثانية - تمهيد لتدخل الإنجليز في مصر، ومن ذلك الحين أخذ ينصح الحكومة الإنجليزية بضرورة أخذ مصر، فهو يعتقد أنه إذا فعل الإنجليز ذلك ، فلن يغفر لهم الفرنسيون أبدا.
ولقد نظرت الحكومة الفرنسية إلى هذه الحركة من جانب الحكومة الإنجليزية كخطوة أولى تمهيدية لاحتلال الإنجليز لمصر، أو على الأقل للتدخل في أمورها المالية، ورأت أن هذا العمل ليس إلا استغلالا لسوء حالة مصر المالية، فالمبلغ الذي دفعته إنجلترا كان أقل من ثمن السوق وليس فيه إنصاف لمصر.
قوت هذه الصفقة من مركز ديزريلي في الحكومة الإنجليزية ومن مركز المحافظين في إنجلترا، ومن مركز إنجلترا في أوروبا والعالم، كما زادت من نفوذ إنجلترا في مصر، حرمت هذه الصفقة مصر من كل فائدة من قناة السويس، فأصبح المصريون يرون أن هذه القناة التي تسير في أرض مصر، وقسمت بين أجزاء مصر، وقامت على تسخير العمال والفلاحين المصريين وإهدار حقوقهم ودمائهم، وحرمان الزراعة منهم مدة طويلة، لم تجن مصر منها فائدة تذكر، بل أصبحت كارثة على حياتها ومستقبلها طيلة خمسة وسبعين عاما، لقد جعلت القناة لمصر مركزا استراتيجيا خاصا في الشرق الأدنى زاد اهتمام الأمم الإمبريالية الاستعمارية به إلى حد أن ضحت هذه الدول بمصالح مصر ونموها واستقلالها ومستقبلها في سبيل الإشراف عليه والتحكم فيه.
Unknown page