خبرت الجماهير في المدن الكبرى، وليس فيها أفظع من جماهير الصباح والمساء في نيويورك. إلا أني ما أحسست مرة هناك بمثل الهول المجسم في جماهير بغداد، تلك الجماهير الهادئة الواجمة الساحقة.
وكنت قد أضعت رفيقي، وأصبحت ولا أرى من نوري السعيد حتى سدارته. فوددت في تلك الساعة لو أن أحدا عرفني فآنسني ولو بابتسامة ... أين شهرتك الآن، أيها الفيلسوف؟ وأين عظمتك، أيها الرئيس؟ أنضغط ، ونخنق، ونسحق مثل سائر الناس، ولا أحد يصيح: المدد! ولا أحد يقول: مه!
سبحانك اللهم! فها هو ذا المدد أراه بعيني . إن اليد المرتفعة يد نوري، والسبحة سبحته، فقد دنا من المحجة، فرآه الشرطي، فأومأ إليه الرئيس أن افتح الباب. وما كاد ينفتح ذلك الباب حتى سد بالناس. فطفقوا يتدفقون كالسيل الجارف، فيهبطون من أعلى الدرج إلى أسفله، واثبين ومتدحرجين إلى أرض المعرض.
أخذت اللجة تخف أمامنا، وتزداد شدة وراءنا. فتقدمنا متعثرين متقاذفين. وكنت أحس وأنا في هذه الحالة بكوع يغرس في جنبي، وبآخر، لبدوي عمليق، يطوي عنقي. فصحت متأوها، فضاعت صيحتي بين صيحات أخرى عميقة، كأنها كانت تصعد من تحت الأرض. إنما هي في الحقيقة صاعدة من بين أرجل الهاجمين المغيرين.
أما أنا فما كدت أفرح بدنوي من بوابة الحديد، وأنسى كوع البدوي، حتى تراءى لي شبح الموت، فقد دفعت بعنف إلى البوابة، وضغطت هناك ضغطة القبر، فعلقت يدي بين قضيبين من قضبان الحديد، وسمعت صوتا في كتفي كصوت عظم يتكسر، فتأوهت وأننت، وخيل إلي أن سأقضي بقية حياتي بيد واحدة. ولكنه سبحانه وتعالى تداركني برحمته، فتفلت من قبضة الحديد، وهويت فوق الدرجات طائحا، فإذا أنا بين ذراعي رئيس الوزراء. وكان قد وقف هناك ينتظرني، فعانقته بكلتا يدي، وأنا أحمد الله على السلامة.
وعلى المحن التي فيها بعد السلامة العلم والشجاعة، فقد أصبحت، بعد نجاتي من تلك الغمرة ببغداد، فارسا مغوارا، لا تروعني الجماهير، ولا تتكأكأني الزحمات. فأخوض عبابها كأنها حوض ماء، في جنينة غناء. ليقبضني بيديه المتحجرتين ذلك العلج الواقف في باب القطار في النفق بنيويورك، وليقذف بي إلى داخل القطار، وليضغطني ويرصني فوق من ضغطوا ورصوا، وليقفل وراءنا باب الحديد، فيجيء كالمكبس على بالة القطن، ليفعل كل ذلك فلست أبالي. قد خضت عباب الجماهير العربية ببغداد، وأصبحت ذا مناعة بدوية.
وقد شاهدت وخبرت أباطيل الشهرة والسيادة، أباطيل العبقرية والعظمة، في مثل تلك الغمرات. فما رئيس الوزراء، وما الفيلسوف الخطيب، إذا لم يكن ذا إحساس بليد، ونشاط عنيد ، وأعصاب من حديد، فيكون في الغمرة جزءا منها، جزءا متحركا متحكما متقدما مستهترا؟!
وما كانت الكربة بعد الخطبة أقل من الكربة التي تقدمتها، إلا أنها من نوع آخر. ولكن بين الكربتين برهة سعيدة أحب أن أشرك القارئ بها. ولا حرج في الحديث، وإن كنت موضوعه؛ لأنه يتناول ما هو أكبر من حالة حائلة، وشخصية زائلة. كيف لا والحدث منقطع النظير في تاريخ العراق قديما وحديثا؟ كيف لا، والخطيب - دعني أروي ولو مرة واحدة خبرة خطبتي؟ - كان أول من وقف ذلك الموقف في قطر من الأقطار العربية. وحسبي أن أنوه بصوته العجيب. فما كان كزئير الأسد، ولا كقصف الرعد. بل كان منخفضا ناعما هادئا. وقد جاز مع ذلك الآفاق، وسمع حتى في بلاد الواق الواق.
عفوا، قارئي. لست محدثك بالألغاز، فقد ملأ الراديو الأرض على حداثة عهده، وأمسى ذكره مألوفا مبتذلا. بيد أن للتاريخ حقا يرعى. فإن استعمال الراديو للمرة الأولى في أقدم بلدان العالم - في أرض الرافدين - لجدير بالذكر والاعتبار.
قد نصبت الآلة للمرة الأولى ببغداد لسبع خلون من نيسان من السنة الثانية والثلاثين وتسعمائة وألف مسيحية، وكان الريحاني أول من وقف أمامها للخطابة. وكان الاثنان - الخطيب ومطية صوته - في أحسن حال، تمدهما السماء بروحها المكهربة الممغنطة. وكانت الأسلاك ممتدة من الجهاز إلى مكبرات موزعة في أرض المعرض، فخطب الخطيب في جمع أمامه يرى، وجموع في جواره لا ترى.
Unknown page