وتعال ندخل هذا النزل الإنكليزي الاسم، ونجلس في البستان المشرف على دجلة، تحت شجرة النبق الكبيرة، المعلقة فيها أنوار الكهرباء، هذه المائدة قريبة من الساحة المسحورة، وبعيدة من جوقة الطبالين والزمارين، فاجلس ها هنا تسمع قليلا وتر كثيرا.
ولا تسل عن أبناء الليل هؤلاء المعجبين بهذه الشقراء النمساوية، أو بتلك السمراء الفرنسية، أو بالشقيقتين الصغيرتين، اللتين يطويان البطن والساق طيات عجيبات، تحملق لها العيون، وتتضاعف الشجون.
إن هؤلاء الراقصات يدعين بال «أرتستات» وبينهن وبين الفن بيد دونها بيد. أما المعجبون بهن فإن فيهم البغدادي ذا السدارة، وذا العمة، وذا العقال، ومعهم الرفيقات والحبيبات، العابثات بالقلوب والجيوب، وفيهم الإنكليزي والفرنسي والألماني والإيطالي، وهم في النهار من أصحاب الأشغال، وفي الليل من أبناء الوسكي والصودا أو الأبسنت والفرموت.
وما هذا الشيء الذي تعرضه لنا الراقصات العاريات، في طيات واهتزازات، تحت النبقات، واها لهن! فقد كانت الليلة من ليالي كانون، وكانت الريح تنفخ في نواعم ذلك العري، فتزيد المسكينة في الهزيز لتبعث الحرارة في جسمها، وكنا نرى البرد، على تلك الرجرجات واللزلزات، يقرص الناعم منهن؛ فيفضح نور الكهرباء القشعريرة فيه.
ما هذا الرقص بشيء من الفن الذي يصفق له المتفرج الأوروبي استحسانا في بلاده، ولكن الأوروبي الهاجر المحروم يتعزى بنظرة فيها إحياء الذكرى، وهو لا يتوقع ممن هي هاجرة محرومة مثله، أن تكون من ربات الفن والشهرة في بلادها، فتجيء بغداد نشرا لنعم عبقريتها، ولا هي تنتظر الإعجاب من مواطنيها. أما من أبناء البلاد فلا ترضى بغير العبادة. كيف لا وهي ربة الفن الفذ - الفريد - القائم بالرجرجة والتجريد!
مسكينات تلك الحمامات اللواتي يتهززن ويترجرجن تحت النبقات! مسكينات تلك الواهمات أن الفن كل الفن في هذه الرجرجات والتلزلزات! وهذا لعمري ما يحسبه البغداديون فنا جديدا، وما هو غير الفن الرجرج، بل هو مثل ذلك القبيح من الغناء القديم - وأقبح منه.
على أن في شارع المستنصر، بالقرب من الجسر، غير هذا العري الفضاح، وذلك الصوت الصياح. إن هناك بضعة نزل إنكليزية الاسم، وإنكليزية النزعة تخيم عليها السكينة والطمأنينة، تنعم في الليل لأصحاب الذوق الرفيع، والستر المنيع، فتجرد فيها الصياحة من صياحها، والرجراجة من ترجرجها، فتجري الأمور على هدإ تطمئن له القيادة العامة والخاصة في عالم اللذات.
سقيا لزمن كانت الدور في هذا الشارع من أجمل ما ببغداد وأشرفها مبنى ومعنى! إنما بعد الحرب العظمى تحول بعضها إلى نزل، وبعضها إلى مخازن ومكاتب للتجارة والمال، بيد أنه لا يزال بين الاثنين أثر لذلك الماضي الشريف، يتمثل هنا وهناك في حوش - بيت - عامر بالفضل والكرم. تنبئك البوابة المفتوحة، إذا ما وقفت فيها تشرف على الصحن اللألاء بالآجر الأبيض والأحمر، وبالقيشاني الساكن الحواشي، الصافي الجو، تنبئك بما كان من لطيف العيش الهادئ الأمين على ضفة دجلة في الزمن الغابر.
أما بعد الحرب فقد أسمى الإنكليز هذا الشارع شارع النهر، وفرشته أمانة العاصمة بالأسفلت، ثم غيرت اسمه، فصار شارع المستنصر، وما غيرت كثيرا مما آلت إليه الحال في ظلال هذه المدينة الغربية الشرقية، التي تقوم فيها المناقضات جنبا إلى جنب.
وهاك قرب النزل الكبير، ذي الاسم الشهير، دكاكين صغيرة حقيرة لقوم وصفوا بالوداعة، وعرفوا بحسن الصناعة، وامتازوا بالمحافظة على ماضيهم القديم، وأصلهم الكريم. فهم في دكاكينهم الزرية، وفي كل منها النار والمنفخ والسندان، مثال القناعة والنزاهة والنشاط، تراهم على الدوام يدأبون، ومن الصناعة الواحدة لا يخرجون. إن هؤلاء الصبة - الصابئة - وصناعتهم الواحدة الفضية، وبراعتهم فيها، والوداعة في سلوكهم والاستقامة في تجارتهم، إنهم في كل ذلك لأشرف مظهر من مظاهر الحياة في شارع المستنصر، ولمن أجمل ما رأيت من أقوام بغداد.
Unknown page